ثورة أنطاكية على ثيودوسيوس الأول
ثورة أنطاكية على ثيودوسيوس الأول عام 387 بسبب فرضه ضرائب جديدة.
في سنة 387 أراد ثيودوسيوس أن يحتفل لمضي السنة الرابعة وابتداء السنة الخامسة لتمليك إبنه اركاديوس معه ولكي يزيد هذا العيد بهجةً واحتفاءً ضمّ إليه حفلات بلوغه السنة العاشرة من ملكه وكان من عادتهم أن يكرموا في هذا المعرض الجنود بمال فاضطر توادوسيوس أن يفرض على المملكة ضريبة غير عادية للقيام بالنفقات اللازمة لهذه الحفلات وللحرب التي كان يرى أن لا مناص لها ولما بلغت أوامره إلى أنطاكية لم يفرغ وإليها من تلاوة منشوره إلا هاج الحاضرون وماجوا وهتفوا أن هذا العبء لا يحتمل وأنه لو باعتهم الحكومة وما ملكت يداهم لم يكونوا كفؤاً لوفاء هذه الضريبة وانتشروا في المدينة يصيحون يا للخراب يا للداهية الدهماء وانضم إليهم من كان في مدينتهم من الأجانب والأرقاء والأشقياء وأخذوا يطوفون في المدينة ويحطمون تماثيل الملك التي كانت كثيرة فيها وتماثيل الملكة وأبنائها وشدوا عتق بعض التماثيل بحبال وكانوا يجرونها في الأزقة وكسروا بعضها ودفنوا إلى الأحداث ليصنعوا بها كذلك ثم استفاق هؤلاء الجهلة من سورة حنقهم فارتاعوا وهرب بعضهم واختبأ غيرهم وكفى الجنود في تشتيت شعل الباقين تصويب بعض الأسهم إليهم وأدرك الأهلون عاقبة صنيعهم الوخيمة فارتعدت فرائصهم ووجسوا لما سيحل بهم من العقاب وعزم أكثرهم على مهاجرة وطنهم وأخذ الأغنياء يدفنون أموالهم أو ينقلونها بعيداً وفي الصباح غصت الشوارع بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ هاربين من وجه رجال الحكومة ولا هربهم من الحريق وانتشروا في الجبال والغابات والمغاور وصرف الوالي قصارى جدّه في توقيف رجال الندوة عن الفرار من المدينة وفي الغد جلس القضاة على كراسيهم في المحكمة وأخذوا يحكمون بالعذاب والسجن على كل من قبض الجنود عليه ولو لم تكن له جريمة إلا تقاعده عن منع هذه الثورة وكثر العويل وولولة النساء وانطراحهن على أقدام الجنود ليمكنوهن من معاينة أولادهن أو معاونتهن لهم ولما سدل الليل ستره فتح باب المحكمة وخرج كثيرون من وجوه انطاكية مكبلين بالقيود مثخنين بجراحهم يحدق بهم صفان من الجنود يستاقونهم إلى محل تنفيذ قضاء الموت عليهم وتتبعهم نساؤهم وبناتهم وأمهاتهم حاسرات نائحات وقد غُمي على كثيرات منهن عند أبسال أهلهنّ وحملن إلى بيوتهن فوجدت مقفلة بأمر الحكومة وقد ضبط كل ما كان لأزواجهنّ من مال أو عقار أو متاع واستمرت المحاكمة خمسة أيام على هذا النمط.
وكان أهل أنطاكية في ذلك العصر منصبين على الترف والخلاعة وكان القديس يوحنا فم الذهب يعظ منذ سنتين على منابرها وهو كاهن وكان أهلها نحواً من مائتي ألف نفس أكثر من نصفهم نصارى ولم تكن فصاحته العسجدية تجذب لسماع كلامه إلا قليلين إذ كان الكثيرون منهم يؤثرون أن يشهدوا الملاعب والمراقص وترويح النفس بالجنائن على سماع كلام الله وأما بعد حلول هذه المصائب فأصبحت أنطاكية كلها كأنها دير تغص معابدها الفسيحة بالزائرين وتزدحم فيها الأقدام واستمر يوحنا منذ يوم الجمعة 26 شباط يوم حصول الثورة إلى يوم الخميس التالي صامتاً لا يقول شيئاًَ وكانت الحكومة قد جزت أخص المجرمين وعاد إلى المدينة من أقصاهم روعهم عنها فألقى فم الذهب حينئذٍ في مدة الصوم عشرين خطبة تزري بخطب فصحاء أثينا ورومة وكان يقيم بها سامعيه بين رجاء العفو من الملك واحتقار الموت ويصرف أفكارهم عن خيرات هذه الأرض إلى الرجاء بنيل نعيم ملكوت السماء.
وكان رجال الحكومة قد أرسلوا سعاة إلى الملك ثيودوسيوس الأول ينبئونه بما كان في أنطاكية وأحب أهلوها أن يوفدوا إليه من يشفع بهم فلجأوا إلى افلابيانوس بطريركهم وكان هرماً معززاً عند الملك فلم تقعده شيخوخته ولا احتضار أخته الوحيدة العزيزة لديه ولا مساق السفر الطويل عن تلبية دعوتهم فمضى مسرعاً إلى قسطنطينية وكان السعاة قد سبقوه إليها فاستشاط الملك غيظاً لإخبارهم وأمر لأول وهلة بدك المدينة كلها ودفن أهلها تحت أنقاضها ثم خمدت جذوة حدته وأمر أن يتوجه هلبيكوس القائد وقيصاريوس أحد وزرائه ليفحصوا عن المجرمين ويجزوهم بما ينطبق على العدل وأمرهم أن يقفلوا المشاهد والمنتديات والحمامات العامة وأن يجردوا المدينة من امتيازاتها ويلغوا تسميتها عاصمة أو قصبة حتى تكون أسوة إحدى القرى وأن تصير اللاذقية عاصمة سورية فالتقى المفوضان بالقديس افلابيانوس في الطريق فزاداه غماً على غمه إذ أنبآه بما أمرهما الملك وبلغ مفوضا الملك إلى أنطاكية في 29 آذار سنة 387 وغصت الطرق بمن خرجوا للقياهما ومن محامد ثيودوسيوس انتخابهما من أفاضل وزرائه وأكثرهم نزاهة ودراية وأشخصا في اليوم التالي جميع رجال ندوة المدينة وأباحا كلاً منهم أن يدافع عن نفسه ولم يكونا يتمالكان من ذرف الدموع عند بكاء المدعى عليهم أو ذويهم ولكن دون أن تحجف شفقتهما بما يقتضيه العدل وأقاما المحكوم عليهم عند المغيب ضمن سور مخفورين وكان أكثرهم من الوجهاء والأغنياء وفي اليوم الثالث أخرجاهم باكراً لإعلان الحكم وتنفيذه عليهم فتولت الكآبة سكان أنطاكية وعظم العويل واشتد النحب وتسارع الناس من كل صوب ورأى المفوضان أنه يحدق بهما جم غفير صفر الوجوه هزلى الأجسام سود الملابس وكان هؤلاء الحبسى في ضواحي أنطاكية قد تألبوا حول المفوضين ومدوا أعناقهم قائلين اقتلونا نحن بدلاً من هؤلاء أو أرسلونا إلى الملك فنحن موقنون أنه مسيحي ورع فينعطف إلى إجابة تضرعنا إليه ولا نسمح لكم أن تلطخوا أيديكم بدم إخوانكم أو نموت معهم فجد المفوضان في أن يتملصا منهم قائلين ليس في مقدورنا العفو عن هؤلاء ولا مخالفة أمر الملك وإلا فنكون نحن مؤاخذين كشعب أنطاكية وسارا في طريقهما فالتقاهما شيخ قصير القامة متشح بخلقان رثة فأمرهما أن ينزلا عن جواديهما فاستغربا جسارة هذا الشيخ وأرادا دفعه فقيل لهما أنه مكدونيوس الشهير في المشرق حينئذٍ بنسكه وفضائله فترجل المفوضان وسألاه أن يغفر لهما ويعذرهما بتنفيذ أمر مولاهما فقال لهما قولا للعاهل أنت لست ملكاً فقط بل أنت لسان أيضاً وتملك على من يساوونك طبعاً والطبع البشري خلق على صورة الله ومثاله فلا تقتل صورة الله ومن أتلف المصنوع أسخط الصانع فالملك وأنتما ساخطون لإهانة وقعت على تمثال من نحاس أو ليس التمثال الحي المتنفس العاقل أعظم من تمثال من نحاس فييسر لنا أن نقدم للملك مكان التمثال عشرين تمثالاً ولكن إذا أعدم واحداً استحال عليه أن يحي شعرة واحدة من رأسه فكان لكلامه وقع شديد في قلب المفوضين ووعداه أن يبلغا الملك ما قال وبلغ المفوضان أبواب المحكمة حيث اقتادوا المجرمين فاعترضهما الكهنة والأساقفة الذين كانوا في أنطاكية يومئذٍ وأوقفوهما معلنين لهما أن لابد لهما من أحد أمرين إما أن يدخلا المحكمة على جثتهم إما أن يعدا بالعفو عن المقبوض عليهم وأصروا على منعهما من الدخول فحار المفوضان في أمرهما أيسخطان الملك بمخالفة أوامره أم يبديان القسوة على هذا الحشد ولاسيما الأساقفة والكهنة والرهبان وأشارا إلى الجمع بأنهما يجيبان سؤالهم فهتف الجمهور هتاف السرور والشكر وانطرح كثيرون على المفوضين يقبلون أيديهما وأرجلهما ودخل الشعب والكهنة إلى المحكمة ولم يتمكن الخفراء من صدهم وتعاظم صراخهم إلى القضاة أن يرفعوا الأمر إلى الملك فاغرورقت أعين المفوضين والقضاة بالدموع وعزموا أن يؤجلوا تنفيذ الحكم إلى صدور أمر آخر من جانب الملك توادوسيوس واتفق المفوضان أن يبقى هلبيكوس في أنطاكية ويمضي قيصاريوس إلى قسطنطينية فيوقف الملك على جلية ما كان ورفع الكهنة والنساك عريضة للملك واستمر المجرمون في سجن دون تضييق عليهم.
ومضى قيصاريوس مسرعاً إلى قسطنطينية لا يصحبه إلا خادمان فبلغ إليها بعد سبعة أيام ودخل على الملك ورفع إليه عرض ما كان من أسباب الثورة وعقاب بعض الجانين وما كان معهما فذرفت دموع الملك واستولى الحنان على قلبه ولم يكن افلابيانوس قابل الملك بعد إما لظنه أن الملك ما برح محتدماً إما لأن الملك لم يسمح له بمقابلته ومضى إلى القصر بعد بلوغ قيصاريوس وأذن له الملك بالامتثال أمامه فوقف بعيداً مطرقاً الطرف باكياً كأنه حامل على نفسه جرائم مواطنيه فاغترب الملك إليه متلطفاً وأخذ يذكره بما صنعه إلى أهل انطاكية ويختتم كل عبارة من كلامه بقوله أهذا ما استحققت بسببه الإهانة من أهل أنطاكية وافلابيانوس لا يتكلم إلا بذرفان دموعه وتنفس الصعداء ولما فرغ الملك من كلامه قال ما ملخصه "مولاي لا نجهل ما لك من الإنعطاف إلى موطننا وما يزيدنا حزناً أن نكون أسأنا إلى من أحسن إلينا وغمطنا نعمته فأخرب أحرق اقتل إفعل ما شئت بنا فتكون جزيتنا بأقل مما نستحق لأن الشر الذي أتيناه أشنع من ألف موت ولو دمر البرابرة بلدنا لكان مصابنا أخف من إسخاطنا إياك لأن جودك يجدد وطننا ويرد علينا ما خسرنا وقد أسخطنا أحلم مولى وأحن أب فأي ملجأ بقي لنا وخجلنا عظيم حتى لا نجسر أن ننظر إلى نور الشمس... قد أقلب بعض الجهلة تمثالك فييسر لك أن تقيم تماثيل أثمن منه في قلوب رعيتك وقلوب كل من عاش على الأرض من البشر فإن كل من عرف حلمك عجب بك وأحبك. رشق بعضهم تمثال قسطنطين بالحجارة فأغراه بعض ذويه بالانتقام منهم قائلين قد شجوا رأسك فوضع يده على رأسه وقال مبتسماً لا تخافوا فلا خدش في رأسي فنسي الناس انتصارات هذا الملك وما برحت هذه الكلمة تتناقلها أفواه الناس وهي راسخة في قلوبهم وما لي أذكرك بمثل الآخرين فأنت قلت في أمرك الذي عفوت به في عيد الفصح عن المجرمين وخليت سبيل المسجونين إنك تتمنى لو كان لك سلطان على إقامة الموتى فتبعثهم فالآن يسهل عليك صنع هذه الآية فما أنطاكية اليوم إلا مدفن وما أهلها إلا جثث فيها فقد ماتوا قبل أن ينزل بهم العقاب الذي استحقوه فكلمة واحدة من فيك تحييهم.
أنظر مولاء غير مأمور أن الغرض ليس هذه المدينة وحدها بل مجدك وفخر الدين المسيحي أيضاً فقد عرف اليهود والوثنيون والبرابرة ما كان وهم ينتظرون أن يروا ما تصنع فإن ظهر لهم حلمك وعفوك قال بعضهم لبعض ما أشد قوة الدين المسيحي إذ يجعل الملك القدير المطاع الأمر أحلم وأحكم من إنسان يصر عليه الإنتقام لنفسه وما أعظم إله النصارى إذ يصير بعض الناس ملائكة ويرفعهم إلى ما فوق الطبع البشري لا تصغّ مولاي إلى من يقولون إن الصفح لهؤلاء يزيد غيرهم جسارة فإنما هذا يصدق على ما إذا صفحت عن عجز وها هم أموات لجزعهم ويتوقعون العذاب الأليم في كل ساعة ولو قطعت رؤوسهم لكان عذابهم أخف ولا أزيدك علماً بأن بعضهم افترستهم الضواري وهم تائهون في الغابات وبعضهم قضوا أياماً وليالي ترتعد فرائصهم في المغاور وهم رجال وأحداث ونساء شريفات مخدرات وقد أذاق عمالك كثيرين منهم مر العذاب ليس أيسر للملك من التنكيل بعبيده المجرمين وأما صفح الملوك عن الإهانات وهم قادرون على العقاب فمن أندر الفضائل وأعظمها فدونك الآن فرصة تبدي فيها مثالاً يقتدي به الأجيال المقبلة وتشترك مذ اليوم بكل ما ينشأ عن ذلك من أعمال الإنسانية والحلم المشرفة وكم يكون لك من الفخار إذا قبل فيما بعد أن مدينة كبرى أسخطت ملكها فارتاع سكانها ولم يجسر ولاتها ولا قضاتها ولا شعبها أن يفوهوا ببنت شفة إلا شيخاً موسوماً بكهنوت الله امتثل أمام الملك واستعطف حنانه ورأفته فكفاه للعفو عن أهلها انتصابه أمامه وإلقاؤه على مسمعه خطبة بسيطة. فلم يوفدني قومي إليك إلا لتيقنهم بأنك تجلُ كهنة الله وإن حقيرين مثلي على أنني ما أتيتك من قبل الشعب وحده بل من قبل الله رب الملائكة والناس لأقول لضميرك النقي الورع الشفيق إذا تركت للناس زلاتهم ترك لك أبوك السماوي زلاتك فإن كان لك زلة ترغب في أن تكفر عنها فكلمة واحدة من فيك كافية لمحوها من أسفار الله. غيري من الوفود يأتيك بذهب وفضة وتقادم وأما أنا فلا أقدم لك إلا سنتنا المقدسة محرضاً إياك أن تقتدي بمخلصنا الذي لا ينكف عن أن يتحفنا بنعمه وخيراته ولو أثمنا إليه كل يوم فلا تخيب آمالي ولا تجعلني أخلف وعودي لشعبك وكن موقناً أنك إذا عفوت عن مدينتنا عدت إليها شاكراً مطرياً إحسانك وإن لم تعفُ عنها فلا أريّن أرضها واتبرأ منها ما دمت حياً."
ولم يكن الملك يستطيع أن يخفي ما كان لهذا الكلام من الوقع الشديد في قلبه ولم يفرغ الأسقف منه إلا وذرفت عينا الملك بالدموع وقال أي عجب في أن تغفر للناس ونحن بشر مثلهم ومخلص العالم نزل إلى الأرض وصار عبداً لأجلنا ونحن إليه آثمون وصلبه من غمرهم بإحسانه وهو يصلي إلى أبيه من أجلهم والتفت إلى افلابيانوس قائلاً عد يا ابني مسرعاً إلى شعبك وأمن أنطاكية فقد عفوت عنها وعن كل من أهلها وسأله الأسقف أن يرسل إليها ابنه اركاديوس فأجابه: تضرع إلى الله ليخلصني من الحرب التي تهددنا فتراني بنفسي هناك دون بطء فعاد افلابيانوس مسرعاَ وأرسل سعاةً يجدون السير ليبلغوا أمر الملك إلى هلبيكوس ولاحاجة إلى بيان ما كان لهذه البشرى في أنطاكية من السرور والبهجة والإحتفاء ولا ما كان لافلابيانوس عند قدومه من حفلات الملتقى والإكرام وقد أناله الله التعزية بأن رأى أخته حية بعد أن تركها محتضرة وبأن يحتفل بعيد الفصح بين شعبه وكان إذا سأله أحد عما كان له مع الملك أجاب أنه لم يصنع شيئاً وإن الله صنع كل شيء بتخميده غضب الملك وعطف قلبه إلى الشفقة على رعيته كما شهد فم الذهب في خطبته 21 وأقام أهل أنطاكية تمثالين تكرمة لهلبيكوس وقيصاريوس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .