تكيف قانوني
التكييف القانوني la qualification juridique هو الإجراء الأولي الذي يقوم به القاضي لتحديد الوصف الصحيح للتصرف القانوني أو للواقعة القانونية موضوع النزاع، وذلك تمهيداً لتحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق.
وفي بعض الأحيان يتوقف تحديد المحكمة المختص للنظر في النزاع على التكييف القانوني السليم للوقائع موضوع هذا النزاع. ويترتب على ذلك أنه يتوجب على القاضي أن يكون متبحراً في دراسة أحكام القانون الذي يطبق في دولته وفهمها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أهمية التكييف القانوني في القانون الداخلي
يتمتع التكييف القانوني في القانون الداخلي بأهمية كبيرة، سواءً كان ذلك في نطاق القانون المدني، أم القانون التجاري، أم القانون الجزائي، أو القانون الإداري.
1ـ في القانون المدني: التكييف في نطاق القانون المدني هو إجراء أولي ضروري يترتب عليه تحديد القواعد القانونية التي تطبق على النزاع. فإذا سبب أحد الأشخاص ضرراً لشخص آخر، وطالب المضرور بالتعويض، يتوقف تحديد القواعد القانونية التي يُحكم بموجبها بالتعويض على تحديد طبيعة العلاقة التي تربط المضرور بمرتكب الضرر. فإذا كانت هذه العلاقة ذات طبيعة تعاقدية، تطبق في هذه الحال أحكام المسؤولية التعاقدية؛ وإذا كان سبب الضرر فعل ضار، تطبق أحكام المسؤولية التقصيرية.
ويمتاز التكييف بأهمية خاصة في نطاق العقد، حيث تختلف القواعد القانونية التي تطبق على العقد تبعاً لماهيته. فالقواعد التي تطبق على عقد البيع تختلف عن تلك التي تطبق على عقد الإيجار، أو على الهبة. ولا يتقيد القاضي بالوصف الذي يطلقه المتعاقدان على العقد، وإنما عليه أن يعطيه الوصف القانوني السليم دون أن يغير من وقائع الدعوى.[1]
وقد يحاول المتعاقدان، في بعض الأحيان، التحايل على أحكام القانون، وذلك بإضفاء صفة على العقد لا تتفق مع موضوعه، فيتوجب هنا على القاضي أن يرد للعقد وصفه القانوني السليم. ومثال ذلك الصورية، كما لو أطلق المتعاقدان على الهبة وصف البيع، وذلك للتهرب من دفع الضرائب المرتفعة التي تفرض على الهبة.
2ـ في القانون التجاري: تظهر أهمية التكييف القانوني في نطاق القانون التجاري، بصورة خاصة، بالنسبة للإثبات، حيث تختلف قواعد الإثبات تبعاً لاختلاف صفة الالتزام التعاقدي موضوع النزاع. فإذا كان الالتزام التعاقدي صفة تجارية، فإنه يخضع لقواعد إثبات مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي تطبق على الالتزام التعاقدي المدني. حيث يجوز الإثبات بالشهادة، من حيث المبدأ، في الالتزامات التجارية التعاقدية مهما كانت قيمتها.
3ـ في القانون الجزائي: التكييف في القانون الجزائي هو إعطاء الفعل المكون للجريمة وصفه القانوني الصحيح، ومن ثم تحديد طبيعته القانونية وفقاً لنص القانون، وبيان ما إذا كان يشكل جناية أو جنحة أو مخالفة.
ويطبق في نطاق القانون الجزائي، بالنسبة للتكييف، مبدأ جوهري عام مفاده أن الجهة القضائية المحال عليها الدعوى لا تتقيد بالوصف القانوني الذي أضفته على الفعل الجهة التي أحالت الدعوى عليها، وإنما تتقيد فقط بالأفعال المحالة عليها. واستناداً إلى ذلك لا يتقيد قاضي التحقيق بالوصف الذي أعطته النيابة العامة للفعل المحال عليه، وإنما يتوجب عليه قانوناً أن يتقصى الأسباب المشددة، والأعذار المحلة والمخففة، وذلك كي يعطي للفعل وصفه القانوني السليم.
وكذلك الأمر بالنسبة لمحكمة الموضوع التي تتقيد بالأفعال المحالة عليها فقط، ولا تتقيد بالوصف القانوني الذي وصفت به هذه الأفعال في ادعاء النيابة العامة، أو في شكوى المدعي الشخصي، أو في قرار قاضي التحقيق، أو في قرار قاضي الإحالة.
4ـ في القانون الإداري: تبدو أهمية التكييف القانوني في نطاق القانون الإداري، بشكل خاص، بالنسبة للعقود الإدارية. حيث يخضع العقد الإداري لنظام قانوني يختلف عن النظام الذي يخضع له العقد العادي الذي تطبق عليه قواعد القانون الخاص، وتخضع المنازعات المتعلقة به إلى القضاء العادي؛ في حين أن العقد الإداري تطبق عليه قواعد القانون العام، ويفصل في المنازعات المتعلقة به القضاء الإداري (مجلس الدولة) والقاضي الذي ينظر النزاع هو الذي يكيفه فيضفي عليه صفة العقد الإداري أو العقد العادي. ولا يتقيد القضاء المختص بالوصف الذي أعطاه المتعاقدان للعقد، وإنما يستطيع أن يعطي العقد التكييف القانوني السليم شريطة ألا يعدّل في الوقائع الداخلة في موضوع النزاع.
أهمية التكييف القانوني في القانون الدولي الخاص
ينظم القانون الدولي الخاص علاقات الأفراد ذات الطابع الدولي، أي العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي. ويهدف التكييف القانوني في نطاقه إلى تحديد الوصف السليم للعلاقة القانونية وذلك من أجل معرفة المجموعة القانونية التي ترتبط بها العلاقة في سبيل تحديد قاعدة الإسناد التي تبين القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقة.
وتبدو أهمية التكييف القانوني في القانون الدولي الخاص بالنسبة لتحديد القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية، من ناحية. ومن ناحية ثانية بالنسبة لتحديد القانون الذي يطبق على عملية التكييف ذاتها.
1ـ أهمية التكييف بالنسبة لتحديد القانون الواجب التطبيق: يختلف التكييف في القانون الداخلي عن التكييف في القانون الدولي الخاص من حيث إن التكييف في القانون الداخلي يهدف إلى تحديد القاعدة القانونية التي تطبق في النزاع المعروض على القاضي لإيجاد حل نهائي له، في حين أن التكييف في القانون الدولي الخاص يهدف إلى ربط النزاع بإحدى مجموعات الإسناد، وذلك لتحديد قاعدة الإسناد واجبة التطبيق، والتي تبين القانون الواجب التطبيق على النزاع. وبمعنى آخر، إن التكييف في القانون الدولي الخاص لا يهدف إلى تحديد الأحكام القانونية التي تطبق على النزاع لحله بصورة نهائية، وإنما يهدف إلى بيان قاعدة الإسناد الصحيحة التي تدل القاضي على القانون الواجب التطبيق. فلو تشاجر زوج فرنسي الجنسية وزوجته إيطالية الجنسية في سوريا، ما هو القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقة القانونية؟ يتوقف تحديد هذا القانون على تكييف العلاقة القانونية موضوع النزاع. وهنا يتنازع تكييفان حول هذه المشاجرة: فإما أن تعد أثراً من آثار الزواج، وإما أن تعدّ فعلاً ضاراً. وبناءً على التكييف القانوني السليم تتحدد قاعدة الإسناد التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق. فإذا عُدّت المشاجرة أثراً من آثار الزواج، يجب على القاضي تطبيق قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج (بموجب أحكام المادة 14/1 من القانون المدني السوري). أما إذا تم تكييف المشاجرة على أنها تشكل فعلاً ضاراً، فيجب إخضاعها لقانون الدولة التي وقعت فيها المشاجرة (تطبيقاً لأحكام المادة 22/1 من القانون المدني السوري).
ويعود سبب الأهمية التي يتمتع بها التكييف القانوني في القانون الدولي الخاص إلى تنوع قواعد الإسناد من دولة إلى أخرى، من جهة. ومن جهة ثانية، إلى اختلاف المسائل القانونية، موضوع التكييف، في تشريعات هذه الدول. وهذا ما يؤدي إلى نوع آخر من التنازع وهو تنازع التكييفات conflits des qualifications. والمثال على ذلك مسألة الزواج، حيث تفرض بعض التشريعات الأجنبية على مواطنيها الشكل الديني للزواج، وبعضها الآخر يفرض الشكل المدني. وتحديد القانون الواجب التطبيق يتوقف هنا على التكييف الذي يعطيه القاضي لمسألة الشكل الديني للزواج، هل تُعدّ هذه المسألة من الشروط الموضوعية للزواج، ومن ثم تخضع لقانون كل من الزوجين (وفقاً لأحكام المادة 13 من القانون السوري)؟، أم تُعدّ شرطاً شكلياً يحكمه قانون البلد الذي أُبرم فيه عقد الزواج (بموجب أحكام المادة 21 من القانون المدني السوري)؟
2ـ القانون الواجب التطبيق على التكييف: يُعدّ التكييف القانوني في القانون الدولي الخاص الإجراء الأولي الذي لابد منه لتحديد القانون الذي يطبق على العلاقة القانونية موضوع النزاع. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا يتعلق بتحديد القانون الذي يتم وفقاً لأحكامه إجراء التكييف القانوني. اختلف الفقهاء حول هذه المسألة، وانعكس ذلك على معظم تشريعات الدول.
الاتجاهات الفقهية
يُميَّز بين ثلاثة اتجاهات رئيسة، وهي:
1ـ تطبيق قانون الدولة التي ينتمي إليها القاضي على التكييف: يُعد الفقيه الألماني كاهن Kahn أول من نادى بتطبيق هذه القاعدة، ولكن الفضل يعود إلى الفقيه الفرنسي بارتان Bartin في وضع نظرية متكاملة بشأن هذه القاعدة. فالأصل في رأي بارتان، هو إخضاع التكييف لقانون الدولة التي ينتمي إليها القاضي الذي ينظر في النزاع، وسوّغ ذلك استناداً إلى فكرة سيادة الدولة، إذ إن تنازع القوانين من حيث المكان في رأيه ما هو إلا تنازع بين السيادات. وبناءً على ذلك يتوجب على القاضي أن يجري التكييف وفقاً لأحكام قانون بلاده. وقد أورد بارتان على هذه القاعدة تحفظاً ثم استثناءً.
بالنسبة للتحفظ فمؤداه أن قانون القاضي يطبق فقط على التكييف الأولي الذي يترتب عليه تحديد القانون الواجب التطبيق، أما فيما يخص التكييفات الثانوية التي تظهر بعد ذلك فتبقى خاضعة للقانون الواجب التطبيق.
أما الاستثناء فيتعلق بتكييف المال فيما إذا كان عقاراً أم منقولاً، وقال بارتان إن هذا التكييف يخضع لقانون موقع المال، أي قانون الدولة التي يوجد فيها المال موضوع النزاع.
ويأخذ الفقه الحديث، في غالبيته، بهذه القاعدة، ولكنه رفض تسويغها على أساس فكرة السيادة، وإنما أورد لها مسوغات أخرى.
2ـ تطبيق القانون الذي يحكم النزاع: يذهب اتجاه آخر في الفقه، وعلى رأسه الفقيه الفرنسي ديسبانيه Despagnet إلى تطبيق القانون الذي يحكم النزاع على مسألة التكييف القانوني. وقد برز ديسبانيه إخضاع التكييف للقانوني الذي يطبق على النزاع على أساس أنه جزء من القانون الواجب التطبيق، ومن ثم فلا يمكن فصله عنه وإلا لأدى ذلك الفصل إلى تطبيق القانون الأجنبي في غير الحالات التي أراد المشرع الأجنبي تطبيقه فيها.
3ـ تطبيق القانون المقارن: ينادي اتجاه ثالث في الفقه، يتزعمه الفقيه الفرنسي رابل Rabel، بإخضاع التكييف للقانون المقارن. ومفاد ذلك عدم التقيد بقانون دولة معينة لإجراء التكييف، وإنما يجب أن يتم التكييف وفقاً لمبادئ عالمية موحدة ومستخلصة من دراسة مقارنة للنظم القانونية في مختلف الدول. ويبدو هذا الاتجاه مثالياً أكثر مما هو واقعي.
4ـ القانون الذي يحكم التكييف في التشريع السوري وبعض التشريعات العربية: أخذ المشرع السوري صراحة بالاتجاه الفقهي الأول الذي يخضع التكييف لقانون الدولة التي ينتمي إليها القاضي. وهذا ما يستفاد من نص المادة 11 من القانون المدني ومفاده: «القانون السوري هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين، لمعرفة القانون الواجب تطبيقه من بينها».
والمقصود بعبارة «القانون السوري» في هذه المادة هو مجموعة القواعد التي تتعلق بالأشخاص أو بالأموال أياً كان مصدرها. وقد أثارت هذه المادة بعض الصعوبات في مجال التطبيق، وخاصة فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية. فمن المعروف أن التشريعات المنظمة للأحوال الشخصية تتعدد في سوريا بتعدد الطوائف المعترف بها. فهناك إلى جانب قانون الأحوال الشخصية، توجد شرائع خاصة لغير المسلمين من مسيحيين ويهود. وقد اعتنقت غالبية التشريعات العربية هذه القاعدة أيضاً. فقد نصت المادة 10 من القانون المدني المصري على تطبيق القانون المصري على تكييف العلاقات حين يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين لتحديد القانون الواجب التطبيق من بينها.
وقد أخذ بهذا الحل المشرع التونسي أيضاً في المادة 27 من مجلة القانون الدولي الخاص، والمشرع الجزائري في المادة9 من القانون المدني، والمشرع الأردني في المادة 11 من القانون المدني، والمشرع الليبي في المادة 10 من القانون المدني، والمشرع العراقي في المادة 17/1 من القانون المدني. على العكس من ذلك فقد سكت المشرع اللبناني ولم ينص على القانون الواجب التطبيق على التكييف، الأمر الذي أدى إلى اختلاف الفقهاء حول هذه المسألة. فقد ذهب بعضهم إلى إخضاع التكييف للقانون الذي يحكم النزاع، وحجته في ذلك أنه يتعذر الأخذ بالقاعدة التي تخضع التكييف لقانون القاضي في نظام طائفي حيث تتعدد فيه القوانين التي تنظم الأحوال الشخصية الواجبة التطبيق، كما هي الحال في لبنان.
وقال آخرون، وهم الغالبية، بإخضاع التكييف لقانون الدولة التي ينتمي إليها القاضي. وهذا ما أخذ به القضاء اللبناني أيضاً.
- ^ فواز صالح. "التكييف القانوني". الموسوعة العربية.