تقلبات اقتصادية
تقلبات اقتصادية هي تغيرات سريعة ومتناوبة في المتغيرات الاقتصادية تدور حول اتجاه محور مستقر في المدة الطويلة أو المتوسطة، وتمثل إحدى معالم النظام الاقتصادي الذي يعتمد على قوانين السوق والمنافسة، تنعكس بظواهر متعددة على عناصر النشاط الاقتصادي، وتحدث خللاً في توازن واستقرار إحداها، أو تطال جميع قوى وعناصر هذا النشاط بحيث تصبح شاملة، تؤدي إلى تدني معدلات النمو الاقتصادي، وإلى تراجع التنمية. وغالباً ما تفضي هذه التقلبات الجزئية والشاملة إلى أزمة اقتصادية، مما يدفع الحكومات إلى اللجوء إلى وسائل مواجهتها ومعالجتها، سواءً بالاقتراض، أو فرض الضرائب، أو ضغط الإنفاق، أو كبح التضخم، من أجل إعادة التوازن وتنشيط الاقتصاد. هذه التغيرات والتقلبات في قوى السوق، تترافق دوماً بنتائج اجتماعية واقتصادية بالغة الأهمية، تنعكس في حالات البطالة والفقر، وتدني مستويات المعيشة عند قطاعات اجتماعية واسعة، وتوجه رؤوس الأموال والاستثمارات نحو مجالات نشاط اقتصادي جغرافي أو نوعي.
إن العناصر الأساسية في وضع التوازن المستقر، تعتمد على عناصر الإنتاج (العرض)، والاستهلاك (الطلب). وتوازن قوة العمل التي تتعلق (بالتشغيل والبطالة) ويدخل النقد وسيطاً في عملية التبادل بين العرض والطلب، ويشكل عنصراً رابعاً.
واستقرار هذه العناصر وفق معدلات وسطية، يحفظ للسوق توازنها. وتؤدي التقلبات التي تطرأ على هذه العناصر الأساسية، إلى تغيرات وظواهر خلل في توازن السوق الاقتصادية واستقرارها، تفضي إلى تقلبات دورية وظواهر اقتصادية جزئية وكلية، تتخذ شكل أزمة عامة، وتظهر في صورة ركود أو كساد أو حالات تضخم وبطالة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مظاهر التقلبات الاقتصادية
1ـ تقلبات السوق: تظهر التقلبات التي تطرأ على السوق، في حدوث خلل في توازن العرض مع الطلب،كأن يفيض الإنتاج، فيزداد عرض السلع على طلبها، مما يؤدي إلى كساد البضاعة، وتدني ربح المنتجين، نتيجة قلة الطلب، ويرتبط كل هذا بثبات الكتلة النقدية المتداولة، وانخفاض الأسعار.
والحالة الأخرى لهذا الاختلال، هي قلة العرض عن الطلب، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع، وتحقيق زيادة في أرباح المنتجين، وتدني قيمة النقد وقدرته الشرائية. مما يدفع بالمنتجين إلى زيادة الإنتاج ورفع مستوى التشغيل وزيادة الأجور.
2ـ تقلبات الأسعار: تنظم التقلبات المؤقتة في أسعار السوق، عملية العرض والطلب ففي الوقت، الذي يتوازن فيه العرض مع الطلب تكون أسعار البضاعة في السوق مطابقة لقيمتها الحقيقية، أي مطابقة للسعر الطبيعي الذي تتأرجح حوله أسعارها في السوق. وتقلبات أسعار السوق التي تتجاوز أحياناً القيمة أو السعر الطبيعي، أو تقل عنها أحياناً أخرى، تتعلق بتقلبات العرض والطلب.
3ـ تقلبات النقد: ينجم عن تقلبات قيمة النقد، تغيرات في أسعار السلع، هبوطاً أو صعوداً حسب الحال. إذ عندما يتجاوز حجم الكتلة النقدية مجموع قيم السلع المتداولة في السوق ترتفع أسعار السلع، وتنخفض من ثم قيمة النقود ذاتها والعكس صحيح أيضاً، فالأسعار ترتفع وتهبط دورياً تبعاً للقيمة الإجمالية للإنتاج وحجم الكتلة النقدية في التداول.
4ـ تقلبات أسعار الصرف: كان من جراء ضعف استقرار معدلات صرف العملات، بعد إلغاء المعيار الذهبي ، وتغير معدلات الصرف وأسعار القطع تبعاً لوضع الميزان التجاري، وتعرُض هذه المعدلات إلى تغيرات مستمرة وعدم استقرار، واستحالة العودة إلى معيار الذهب، أن اتفقت الدول الصناعية الرأسمالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على إحداث صندوق النقد الدولي، الذي يتولى العمل على الحفاظ على سعر تعادل ثابت للعملات. فمن خلال الاحتفاظ بكتلة من الاحتياطي من الذهب والعملات الصعبة التي يغذيه بها المساهمون، وتدفع كل دولة مساهمة، حصتها متناسبة مع أهميتها الاقتصادية، وتملك الولايات المتحدة نسبة تقترب من 40% من احتياطي الصندوق، يقوم الصندوق بتقديم القروض للدول التي تعاني من عجز في ميزان مدفوعاتها لمساعدتها في المحافظة على سعر صرف عملتها مقابل العملات الأجنبية.
وهكذا فالتقلبات التي تحدث على العملات الهامة، ولاسيما الدولار باعتباره مقياساً لتعادل العملات الأخرى، تؤثر تأثيراً واضحاً في استقرار أسعار العملات العالمية، وغالباً ما تحدث هذه التقلبات، نتيجة أزمات أو أوضاع اقتصادية، تخص الولايات المتحدة وسياستها الاقتصادية، كما في عجز الميزان التجاري الأمريكي الناجم عن زيادة الواردات، وقلة الصادرات، وعجز ميزان المدفوعات. وأصبحت مسألة استقرار أسعار الصرف والتقلبات التي تحدث على أسعار العملات مسألة اقتصادية غاية في الأهمية.
5ـ تقلبات معدلات الحسم (الفوائد): إن تقلبات معدلات الحسم والفوائد المصرفية، هي أحد مظاهر التقلبات الاقتصادية التي تفضي إلى اختلال عميق في توازن قوى السوق الاقتصادية، غالباً ما تفضي إلى أزمة شاملة.
6ـ تقلبات البورصة (الأسهم والسندات): يلجأ المستثمرون في معظم البلدان، إلى توظيف مدخراتهم، في سندات اقتراض تصدرها الحكومة (سندات الخزينة)، لتغطية جانب من عجزها المالي، أو بشراء أسهم في الشركات التجارية والصناعية والخدمية، وتشكل المضاربات المالية بين المستثمرين والمساهمين، الوسيلة الرئيسية في عمل البورصة، التي تقوم على المغامرات الطائشة أحياناً، أو المخططة أحياناً أخرى لإحداث انهيار كامل في سوق الأسهم والسندات. ومن ثم خلق أزمة شاملة، تنعكس على استقرار قيمة العملات الوطنية، وانخفاض قيمتها، وأسعار صرفها، وإفلاس عدد من الشركات بسبب هبوط قيمة أسهمها، ونشوء أوضاع اقتصادية واجتماعية يعمها الفقر والبطالة، وإفلاس طبقات اجتماعية بكاملها نتيجة انهيار قدرتها الشرائية، بسبب انخفاض قيمة دخلها الحقيقي، أمام قيمة البضائع التي تحافظ على ثبات أسعارها.وقد أدت انهيارات أسعار البورصة، والتقلبات الناشئة عنها إلى أزمات مالية شاملة.
لا تعبر التقلبات الاقتصادية في البورصة دائماً عن الوضع الحقيقي للاقتصاد في البلد، أو الأوضاع المالية لقيمة الأسهم والسندات. ولخضوعها لمبدأ المضاربات، لا تعكس بما تحققه من أرباح وخسائر للمساهمين، حقيقة الوضع المالي لقيمة هذه الأسهم، بل تخضع في أحيان كثيرة إلى تقلبات خارجة عن نطاق السوق الفعلية، وغالباً ما تتسم بعدم الاستقرار، وتستند إلى توقعات مراقبي السوق، أو إلى أحداث ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، مما يؤدي إلى تقلبات اقتصادية عميقة تصل إلى حد الانهيار الشامل و تعكس أزمة عالمية شاملة، حتى ولو استقرت في منطقة إقليمية واحدة، لترابط الاستثمارات والاحتكارات في السوق الدولية، وتضامن العملات واستنادها بدرجة أو أخرى إلى الدولار.
7ـ تقلبات ميزان المدفوعات: أصبح ميزان المدفوعات، مقياساً لصحة اقتصاد أي بلد خارجياً، وحالة تطوره ونموه داخلياً، وهو يعكس بصورة افتراضية، توازناً تقليدياً في المبادلات التجارية، ويرسم توازن العلاقات الخارجية لدولة ما، أو لمنطقة نقدية أو عدمه. ويتألف ميزان المدفوعات الجارية من العناصر الآتية:
أـ الميزان التجاري: يرسم حركة السلع المستوردة والمصدرة، ويشير تركيبه الداخلي إلى الصفة الصناعية، أو المتخلفة صناعياً للدولة، حسب نوعية البضائع المصدرة والمستوردة.
ب ـ ميزان الخدمات والمبادلات غير المنظورة مثل: (النقل، السياحة، الخدمة الحكومية).
ج ـ ميزان إيرادات الاستثمار الدائن والمدين.
د ـ ميزان عمليات رأس المال ويشمل:
ـ رؤوس الأموال المستثمرة لأجل طويل: وهو موجب للدول المقترضة وسالب للدولة المقرضة.
ـ رؤوس الأموال المستثمرة لأمد قصير: مثل تشجيع عمليات التسليف لأمد عن طريق تخفيض معدلات الحسم.
ـ ميزان التحويلات وحيدة الجانب ويشمل المعونات وتحويلات المهاجرين من الخارج وإليه.
تعد مشكلة إيجاد التوازن في ميزان المدفوعات، مستعصية بالنسبة للبلدان التي تعاني من هذا العجز، وليس أمامها سوى خيارين. أحدهما: تقليص الطلب الداخلي، واتباع سياسة الانكماش. وثانيهما: تقليص الاستيراد وتشجيع التصدير والتوفير في الإنفاق الحكومي في الخارج.
إن عوامل التأثير وآلية التقلبات الاقتصادية المؤثرة في ميزان المدفوعات، تعود بشكل جوهري إلى توازن التصدير مع الاستيراد، ونمو الاستثمارات ورؤوس الأموال، وكذلك استقرار وثبات أسعار العملات. فالخلل الناجم عن زيادة الاستيراد على التصدير يعكس خللاً في الميزان التجاري ، فينعكس على ميزان المدفوعات بالعجز.
تفسير التقلبات الاقتصادية
ينطلق الفكر الاقتصادي التقليدي، من نموذج للتوازن المستقر عند مستوى التشغيل الشامل، الذي يستبعد البطالة الإجبارية أصلاً. وهذه تحدث إما بسبب تقلبات واختلالات جزئية على قوى السوق، وإما قيود مفروضة عليه، وإزالتها كفيلة بإعادة التوازن. فالأصل أن التوازن في الاقتصاد يتحقق عند مستوى التشغيل الشامل، على إمكان حدوث تقلبات اقتصادية، تمثل حالة طارئة، لن تلبث قوى السوق أن تعيدها من جديد إلى وضع التوازن.
واجهت نظام السوق الرأسمالية عبر تاريخها، سواء منها الاقتصاد ما قبل الصناعي أو بعده، تقلبات اقتصادية دورية أفضت إلى أزمات عصفت بالمجتمعات، وأدت إلى نتائج مأساوية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وكان أشدها أزمة 1929-1933 في الولايات المتحدة، التي نجم عنها انهيار سوق الأوراق المالية، وتفشي البطالة وإشهار إفلاس عدد من الشركات، وتدمير عدد من المصارف. مما جعل فرضية التوازن الشامل تقف عاجزة أمام هذه الظواهر الاقتصادية والتقلبات الشاملة التي عصفت بالاقتصاد العالمي. ولكن الاقتصادي كينز دفع بهذه النظرية إلى الأمام حين اعتبر أن التقلبات الاقتصادية أمر ممكن، كما أنها تساعد على إعطاء وسائل لعلاج هذا الاختلال، ورأى أن التوازن يمكن أن يستقر عند مستويات متعددة من التشغيل، وأنه قد يستقر دون العمالة الكاملة.
وقد عالج كينز هذه التقلبات والاختلالات خلال الدورة الاقتصادية القصيرة، التي افترض فيها ثبات عوامل أساسية وهي:
ـ ثبات السكان.
ـ ثبات حجم رأس المال.
ـ ثبات الفن الإنتاجي.
دون أن يتناول الاستثمار كأحد المتغيرات الأساسية، ونظر إليه بوصفه جزءاً من الإنفاق والطلب الكلي. من غير أن يضيفه إلى الطاقة الإنتاجية. أو يعتبره عنصراً مغيراً لحجم رأس المال والفن الإنتاجي.
وبتطبيق المنطق التقليدي على سوق العمالة، فإن التعادل بين طلب وعرض العمل يتحقق في ظل أسلوب تغيرات الأسعار. عن طريق تغيرات الأجور. أما عند كينز فالتوازن يتحقق في ظل أسلوب جمود الأسعار (الأجور) عن طريق زيادة أو نقص العمالة (البطالة). إذ إن البطالة عنده حالة طبيعية للاقتصاد وليست استثناءً.
التقلبات الدورية
لاحظ الاقتصاديون من خلال تطورات نظام اقتصاد السوق أن النشاط الاقتصادي تنتابه تقلبات دورية يمر خلالها بثلاث مراحل متعاقبة:
الأولى: مرحلة الازدهار: وفيها يكون الطلب مساوياً للعرض، وتصل مراكز الإنتاج إلى أقصى طاقتها ويزداد الطلب، وتكون البطالة في حدها الأدنى، أي إن السوق يحقق أعلى معدل تشغيل.
الثانية: مرحلة التقلبات: يحدث خلالها تغيرات وخلل في أحد أو جميع مظاهر النشاط الاقتصادي تؤدي إلى اضطراب سوق العرض والطلب والإنتاج، وتقلبات نقدية وعدم استقرار أسعار الصرف، وارتفاع أسعار وهي ما عبر عنها ماركس بأنها التناقضات التي تؤدي إلى مرحلة الكساد والركود، وتوقف النمو الاقتصادي.
الثالثة: مرحلة الركود: وفيها ينخفض الإنتاج وتتدنى الأجور وتقل نفقات الاستهلاك والاستثمار وتهبط الأسعار وترتفع البطالة وتتدنى الأجور ويحدث الكساد في تصريف البضائع.
ثم لن تلبث الدورة أن تعود من جديد إلى الانتعاش. وهذه التقلبات الاقتصادية التي سماها جوغلار في عام 1862 بالدورات الاقتصادية تعني دراسة تكرار العودة الدورية للأزمات. وهناك دورات قصيرة شهدت منها هذه الدول نحو 13 دورة بين عامي 1820-1930 وتراوحت مدة الدورة بين 6-11سنة. والوسطي 8 سنوات. ومنها دورات قصيرة جداً، وهي ما أطلق عليها كيتشن دورات جوغلار استغرقت الواحدة منها 40 شهراً.
الاتجاهات المعاصرة للاقتصاد
إذا كانت فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية ، قد واجهت مشكلة البطالة ونقص الطلب الفعلي، فقد عرف العالم بعد الحرب المشكلة ذاتها، بشكل معكوس. وهي زيادة الطلب الفعلي وزيادة الموجة التضخمية، ولم يصلح التضخم لعلاج البطالة وفقاً لقوانين كينز، وما لبثت أن ظهرت أعراض جديدة في الحالة الاقتصادية، فالبطالة لم تعد المقابل والظاهرة المضادة للتضخم، بل عرف الاقتصاد الدولي ظاهرة اجتماع البطالة مع التضخم في الوقت ذاته. وهو ما عرف بالركود التضخمي.[1]