اليمين واليسار في السياسة
اليمين واليسار السياسيان
تقسيم للتيارات السياسية في المجتمع يشير ضمنه مصطلح ( اليمين ) إلى القوى المحافظة التي ترفض تغيير النظام السياسي والاجتماعي وتعمل على المحافظة على الأوضاع السائدة , بينما يشير مصطلح (اليسار) إلى القوى التي تنادي بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي . وبين قوى اليمين واليسار تقع قوى الوسط التي تنادي بالإصلاحات التدريجية للنظام السياسي والاجتماعي . بدأ اول استخدام لهذه المصطلحات الثلاثة في أعقاب قيام الثورة الفرنسية في 1789م .واكتسب كل منها معناه الاصطلاحي من المواقع التي جلس فيها ممثلو القوى الاجتماعية والسياسية داخل الجمعية الوطنية ( البرلمان ) التي تشكلت بعد الثورة . فقد جلس المحافظون الذين كانوا يمثلون النبلاء ورجال الدين على يمين منصة المجلس فتم تسميتهم باليمينين . فيما جلس المنادون بتغيير النظام الملكي وإدخال إصلاحات جذرية على النظام على يسار المجلس فسموا باليساريين . شكلت الحرية الفردية مطلبا أساسيا ضمن مطالب اليسار أثناء الثورة الفرنسية، حيث شغلت حيزا أساسيا في مشروعه الهادف إلى بناء مجتمع فرداني يكون من ضمن أولوياته تكريس المبادرة الفردية كمبدأ أساسي لتنظيم المدينة. وبذلك واجه كافة المؤسسات الأخلاقية والدينية والإجتماعية القائمة على السلطة الأبوية والنظام التراتبي، والتي تعمل على ترسيخ قيم الخضوع، والتبعية، وارتهان إرادة الأفراد واستلابها في مواجهة المؤسسات العتيقة. أما اليمين فقد رأى "في الحرية بأنها ضد النظام الطبيعي للأشياء، وتحط من القيم الأخلاقية، وتعمل على بث الكبرياء، فاليمين كان يعارض مفهوم الحرية ويطرح كبديل لها السلطة والنبلاء وقيم الخضوع، ويحث على ضرورة التضحية بالطموحات الفردية لصالح المصلحة العامة والقيم الجماعية". وبعد أن أصبح اليسار يضع ضمن أولوياته مسألة العدالة الإجتماعية، والتوزيع المنصف لثروات المجتمع. ويحاول انطلاقا من أطره النظرية وأدواته السياسية تقليص التفاوت الصارخ في العلاقات الإجتماعية، نجد اليمين أخذ يركز على مفهوم الفرد المجرد ومفهوم الذات الفردية، حيث أصبحت مرجعياته السياسية ترى أن الحرية الفردية هي المبدأ والغاية من الوجود الإنساني، لأن الفرد المجرد هو صاحب الإختيار والمبادرة، وبكونه أصبح مهددا بالتدخلات العنيفة للدولة من خلال اكتساحها لكافة المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وإرسائها لنظام من المؤسسات يعمل على الحد من هذه الحرية ويعيق المبادرة الفردية. وبذلك أصبحت البرامج السياسية لليمين ترفض تدخل الدولة في النسيج الإقتصادي، وتناهض سياسات التأميم، وتطالب بضرورة عودة الدولة إلى وظائفها التقليدية، وأن تفسح المجالات التي تحتكرها أمام المبادرة الحرة الخلاقة والمبدعة، القائمة على ميكانيزمات وآليات السوق. وبذلك أصبح الدفاع عن الحرية الفردية أداة للتميز عن اليسار السياسي، الذي ينظر إليه عادة بكونه شمولي وتجسيدا واقعيا لليعقوبية وفلسفتها المساواتية الإطلاقية، التي تضحي بالفرد لصالح مقولة المصلحة العامة.
من هنا يتضح أن ثنائية اليمين واليسار ليست لها دلالات محددة أو مضامين قارة، بل أن حمولتها تبقى مفتوحة على كافة الصراعات التي يستبطنها المجتمع، لأن الرهانات الأساسية لكل من اليمين واليسار تتغير حسب الشروط التاريخية. ففي القرن التاسع عشر شكلت الحرية الفردية حجر الأساس في التصورات السياسية لليسار. "أما اليوم فإن العكس هو ما يحدث كما ترمز لذلك كلمة الإشتراكية نفسها".
وبعد تراجع الرهانات الأساسية التي شكلت المبدأ الأساسي الذي يميز بين اليمين واليسار، مثل العلمانية الجمهورية، التأميمات، اقتصاد السوق. ظهرت انشغالات جديدة تهيمن على الحقل السياسي، مثل تحرير الممارسات الجنسية، تحريم أو استعادة العمل بعقوبة الإعدام، حيث أن غالبية ناخبي اليمين السياسي يرغبون في استعادة العمل بهذه العقوبة. ولاشك أن هذا الموقف يتفاعل مع بعض الأفكار والتمثلات التي يحفل بها الفكر اليميني حول الطبيعة الإنسانية. فالإنسان اليميني يشكك في إمكانية إعادة إدماج المجرمين، ويؤمن بوجود حدود فاصلة بين الفرد المجرم - والسوي.
عرفت مفاهيم اليمين واليسار والوسط نجاحا كبيرا، حيث اكتسحت الكون، وأصبحت مقولات حقيقية للحقل السياسي، حيث أن هذه الثنائية لم تتوقف عن الإثراء، وأظهرت قوتها الدلالية من خلال امتدادها في الزمن وانفتاحها على كافة المتغيرات السياسية والمجتمعية. وعلى الرغم من أن العوامل والأسباب التي كانت وراء ظهور هذه الثنائية قد تراجعت، إلا أن هذه الأخيرة لازالت تعرف نجاحا استثنائيا. فأغلب استطلاعات الرأي داخل المجتمع الفرنسي تثبت أن أغلب المواطنين يفكرون في السياسة انطلاقا من هذه الثنائية . ومع ذلك فإن التمايز يمين / يسار لازال يثير الكثير من الإحتجاجات في الأوساط العلمية والسياسية، حيث أن هناك الكثير من الإشكالات النظرية والمعرفية التي تثار فيما يخص هذه الثنائية. وبتلخيص التقسيم بين اليمين واليسار، يمثل الأول الفكر الرأسمالي المؤيد للسوق الحرة دون تدخل الدولة، والثاني يمثل الفكر الاشتراكي أو الاقتصاد الموجه.. الأول مع تكافؤ الفرص والثاني مع عدالة توزيع الثروة.. الأول محافظ باعتبار أن طبيعة الإنسان والمجتمع ثابتة، بينما الثاني متحرر باعتبار أن هذه الطبيعة متغيرة.