المـوت في الهـواء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المـوت في الهـواء
د.إيهاب عبدالرحيم محمد
يكتظ الهواء الذي نتنفسه بالفيروسات،والبكتريا،والفطريات،وغيرها من الكائنات المجهرية. ويمكن لتلك الكائنات أن تعبر المحيط على ظهر نسمة هواء،ويمكن لبعضها أن يسبب تلفا في المحاصيل الزراعية،وتسبب غيرها الأمراض والوفاة ـ بينما يمكن استخدام البعض الآخر كأسلحة خفية فتاكة لا نعلم عنها شيئا حتى الآن .
*الهواء...التلوث في رئتيك:
يعود تاريخ المصانع التي تنشر في الهواء ذلك الدخان الأسود البغيض إلى عقد الخمسينيات،ويبدو الهواء الذي نتنفسه الآن أكثر نقاء عن تلك الحقبةالأمر هو أنه،ببساطة،يحتوي على مزيج من مجموعة من السموم. لكن واقع القاتلةالصناعة هي المصدر الأساسي للتلوث في السابق،احتلت. وفي حين كانت السيارات تلك المنزلة في عصرنا الحالي.
وتشير دراسة أجريت حديثا في كلية طب مستشفى سانت جورج في لندن،إلى أن واحدة من بين كل 50 نوبة قلبية تتم معالجتها في مستشفيات لندن،يمكن إرجاع سببها إلى الملوثات المنبعثة من عوادم السيارات. وبالنسبة لعموم بريطانيا،يمثل ذلك 6,000 نوبة قلبية سنويا.
ولذلك،فلم يكن من المفاجئ أن تكشف دراسة صادرة عن وزارة الصحة البريطانية،عن أن تلوث الهواء في بريطانيا قد بلغ من السوء درجة يتسبب معها في حدوث 24,000-12,000 حالة للوفاة المبكرة سنويا،بالإضافة إلى 24,000-14,000 حالة للدخول إلى المستشفى. وبناء على ذلك،نجد أن المملكة المتحدة تحتفظ حاليا بأعلى معدلات الإصابة بالربو وواحدا (Asthma) في أوروبا،حيث يصيب واحدا من كل 25 بالغ،من بين كل سبعة أطفال وفي حين أن تلوث الهواء لا يمثل سببا مباشرا للإصابة الداء الرئوي المزمن،لكنه يتسبب في استثارة حدوث نوبات الربو في المصابين به.
يحتوي العادم المنبعث من أغلب السيارات على خمسة سموم رئيسية،وهي;
- أول أكسيد الكربون (Carbon monoxide): وهو غاز عديم اللون والرائحة يمكنه تعطيل قدرة كريات الدم الحمراء على حمل الأكسجين إلى الدماغ ـ وهو ينتج عن الاحتراق غير الكامل للوقود،ويمثل نسبة مهمة من عادم السيارات. ويتسم هذا الغاز بخطورته على وجه الخصوص بالنسبة لمرضى القلب،وكذلك الأجنة والأطفال حديثي الولادة.
- أكاسيد النتروجين (Nitrogen oxides): وهي تنتج عن عوادم السيارات،
- وثاني أكسيد الكبريت (Sulphur dioxide); وينتج عن محركات الديزل ومحطات توليد الطاقة. ويسبب الإثنان تلفا لا يستهان به; وللتدليل على هذا الخطر،تخيل أنك وسط اختناق مروري عند هطول المطر،ففي هذه الحالة سيتحد الغازان مع الرطوبة لتكوين قطرات من حمض النيتريك(Nitric acid) وحمض الكبريتيك (Sulphuric acid)،والتي ستسقط بعد ذلك على رؤوس المارة. ومن المعروف تأثير ذلك المطر الحمضي(Acid rain) على الأشجار والحياة البرية،لكن الأكاسيد الحمضية تهيج الرئات البشرية أيضا،كما أنه حتى المستويات المنخفضة منها تضر بصحة المصابين بالربو.
- ويمثل الأوزون(Ozone) بدوره واحدا من الملوثات القوية،فهو يسبب السعال وآلام الصدر ـ والتي تصيب حتى أفضلنا صحة. ويتكون الأوزون السطحي (والذي لا يجب الخلط بينه وبين طبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي والتي تقل كثافتها تدريجيا) نتيجة لتفاعل كيميائي بين أكاسيد النتروجين والهيدروكربونات غير المحروقة،والموجودة في البترول،وذلك في وجود ضوء الشمس. وتزيد النسبة في المملكة المتحدة حاليا على نسب الأمان الأوروبية.
*التضحية بالسيارة... من أجل صحة أفضل!
خلال السنوات الأخيرة،تركز الاهتمام على نوع خامس من الملوثات،وهو ما يعرف باسم PMكما 10،وقد استمدت تلك الجزيئات اسمها من حقيقة أن قطرها يبلغ نحو 10 ميكرومتر،أنها صغيرة بالحجم الكافي لتتسلل إلى الرئتين وتبقى هناك. وقد ربط الباحثون بين ارتفاع نسب تلك الجزيئات وبين ارتفاع عدد حالات الدخول إلى غرف الطوارئ بالمستشفيات نتيجة للمشكلات التنفسية،بالإضافة إلى ارتباطها بارتفاع كبير في عدد حالات الوفيات المبكرة.
وإذا كنت في صحة جيدة،فسيكون أسوا ما تعانيه نتيجة لنوبة من تلوث الهواء الذي تستنشقه،هو ظهور أعراض مثل زيادة إفراز الدموع وجريان الأنف. ولكن إذا كنت تعاني من أقل استعداد للإصابة بأمراض القلب والرئتين،فقد تكون العواقب أكثر وخامة.
ويمثل تحسين تقنيات صناعة السيارات والوقود حلا قصير المدى. ولكن إذا كنا نرغب حقا في تنقية الهواء الذي نتنفسه،فلابد أن نصبح أقل اعتمادا على السيارة. وذلك ستكون له فوائد أخرى ــ فالخمول الجسدي نتيجة لاعتمادنا على السيارة في جميع تحركاتنا له ثمن فادح يتمثل في ارتفاع معدلات الإصابة بالداء السكري (Diabetes mellitus)،وتخلخل العظم (Osteoporosis)،والأمراض القلبية الوعائية،وذلك حسب تقارير المجلة الطبية البريطانية (BMJ).
* ضياء الشمس: الأشعة فوق البنفسجية الضارة:
قد تكون الشمس مصدرا مهما للحياة على كوكبنا الأرضي،لكنها تبقى مصدرا خطيرا للأشعة فوق البنفسجية البائية (Ultraviolet B; UVB) . ومن حسن الحظ بالنسبة لنا،تمتص أغلب تلك الأشعة الضارة خلال طبقة الأوزون بالغلاف الجوي. وعلى أية حال،فمنذ عقد الثمانينيات،أدى استخدامنا للمركبات الكيميائية المعروفة بالكلوروفلوروكربونات (Chlorofluorocarbons ; CFCs)،إلى انخفاض عمق وكثافة طبقة الأوزون الواقية تلك.
وتستخدم المركبات CFCs على نطاق واسع في الضبوب(Aerosols) ،والتغليف،وفي صناعة الثلاجات،كما حصلت على شهرة واسعة نتيجة لثبات تركيبها الكيميائي وخلوها الظاهري من السمية. لكننا نعرف الآن مدى خطورتها: فهي لا تتحلل عند وصولها إلى الغلاف الجوي المحيط بالأرض،بل إنها تصعد حتى طبقات الجو العليا،حيث تتسبب في تدمير جزيئات الأوزون. ومنذ منتصف الثمانينات،عندما بدأت عمليات القياس المتقدمة،اكتشف العلماء وجود ثقب هائل،ينفتح في طبقة الأوزون فوق القطب الجنوبي (Antarctic) في كل ربيع - كما اكتشف وجود ثقوب أخرى أقل حجما في أماكن متفرقة من العالم،مما يسمح بوصول المزيد من الأشعة UVB الضارة إلى سطح الأرض.
وقد انصب معظم الخوف من تأثير تلك الأشعة على صحة الإنسان،على قلق الإصابة بسرطان الجلد; فالأشعة فوق البنفسجة البائية تعد من المسرطنات (Carcinogens) القوية،ولذلك فليس من المستغرب أن نجد حاليا ما يشبه الوباء من الإصابة بجميع أنواع سرطان الجلد في أغلب بلدان العالم. وفي أستراليا،على سبيل المثال،يتوقع أن يصاب شخصين من بين كل ثلاثة أشخاص بأحد أنواع سرطان الجلد خلال حياته. وخلال الفترة ما بين عامي 1979و1993،ارتفعت معدلات الإصابة بالورم الميلانيني غير الخبيث(Non-malignant melanoma)،وهو أكثر سرطانات الجلد شيوعا،بنسبة 10% في البلدان الواقعة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. وعلى اعتبار أن انخفاضا قدره 1% في الأوزون بالغلاف الجوي يقدر أنه يؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة بهذا السرطان بنسبة 2%،يمكننا أن نتوقع حدوث زيادة قدرها 25% بحلول العام 2025،على اعتبار المعدلات الحالية لاستنفاد الأوزون.
ومما يثير قدرا أكبر من القلق،ارتفاع معدلات الإصابة بنوع آخر أقل شيوعا من سرطان الجلد - وهو الورم الميلانيني الخبيث (Malignant melanoma)،وهو ما يمثل حاليا أكبر أسباب الوفيات الناجمة عن السرطان في البالغين الأستراليين الذين تقل أعمارهم عن الخامسة والأربعين.
وعلى أية حال،يمكن للأشعة UVB أن تتسبب أيضا في الإصابة بالعمى نتيجة للإصابة بالساد(Cataract) - وهي إعتام عدسة العين. ويؤدي الفقدان المحتمل لنسبة 1% من أوزون الغلاف الجوي إلى حدوث 150,000 حالة جديدة للساد في جميع أنحاء العالم. وهناك أيضا أدلة مؤكدة على أن الأشعة UVB تدمر الجهاز المناعي للجسم،مما يزيد من احتمالية الإصابة بالأمراض المُعدية بما فيها التدرن،والملاريا (Malaria)،والجذام (Leprosy).
وبالإضافة إلى ذلك،تتسبب تلك الأشعة أيضا في تنشيط فيروس العوز المناعي البشري (HIV)،بالإضافة إلى القلق المصاحب لمخاوف حدوث طفرات في الجراثيم المسالمة،وتحولها إلى أنماط أكثر شراسة وأقدر على مهاجمة الجسم البشري ومن ثم إصابته بأمراض غير معروفة لنا حتى الآن. وعلى ذلك،يبدو أن نفاد الأوزون ينطوي على خطر كامن لإحداث جوائح جديدة من الأمراض المعدية.
وقد يتيح الاتفاق على حظر استخدام المركبات CFCs فرصة ليقوم ثقب طبقة الأوزون بإصلاح نفسه بنفسه. وعلى أية حال،فإذا ازدادت الأمور سوءا عما هي عليه حاليا،فقد تجد نفسك في غضون عشر سنوات مضطرا لارتداء ملابس واقية من الشمس طيلة أيام السنة ـ حتى ولو كانت السماء ملبدة بالغيوم.
*التدرن...عود على بدء:
في أواخر عام 1991،وفي مستشفى لينكولن بمدينة نيويورك،بدأت تظهر حوادث غامضة لوفاة عدد من المرضى،وبالتحديد من نزلاء العنبر8C بتلك المستشفى. كان جميع المرضى من المصابين بالإيدز (مرض نقص المناعة المكتسب AIDS)،لكنهم بدأوا يعانون من حمى وسعال شديد. ولم تُجد المضادات الحيوية التي صرفت لهم بناء على أوامر الأطباء نفعا في تخفيف تلك الأعراض. وفي خلال أسابيع قليلة،كانت أجسام أولئك المرضى قد تآكلت تماما من الداخل; فقد ظهرت ثقوب في الرئة،كما بدت العضلات وكأنما تبخرت تماما. وعندما باتت النهاية وشيكة،أصبح تنفس أولئك المرضى من الصعوبة بمكان،حيث كان الدم يمر بصعوبة خلال رئاتهم المتحللة. وفي غضون أيام،انتقل المرض من غرفة لغرفة،ومن قاعة لأخرى،بطريقة تدل على أنه نتيجة لميكروب منقول بالهواء (Airborne). أصيب الأطباء وبقية العاملين في العنبر 8C بالهلع لدرجة أنهم اجتمعوا في غرفة خلفية بالمستشفى للبكاء والدعاء،وذلك قبل أن يعودوا لممارسة أعمالهم.
تم تشخيص المرض في نهاية الأمر،وتم إطلاق اسم "الذرية و" (Strain W) عليه،وهو نوع جديد من التدرن المقاوم للأدوية. كان العلم يظن في ذلك الوقت أنه تم القضاء على ذلك المرض البغيض والمنقول بالهواء،لكن التقارير تشير أن التدرن (Tuberculosis; TB) يمثل حاليا وباء عالميا واسع الانتشار،وقد أدى لوفاة نحو ثلاثة ملايين إنسان سنويا خلال السنوات القليلة الماضية. ويتزايد ظهور الأنماط العالية القدرة على العدوى،والمقاومة للأدوية التقليدية المضادة للتدرن.
كانت محصلة المعركة في مستشفى لينكولن مروعة; فقد توفي70 مريض،بينما أصيب بالمرض 90 آخرون (من بينهم طبيب) قبل أن تتم السيطرة على تلك الجائحة. ولم يكن حادث مستشفى لينكولن سوى حلقة من حلقات سلسلة متواصلة من الإشارات المؤكدة التي تخبرنا بأن الهواء المحيط بنا مفعم بالحياة ـ تلك الحياة التي لا نعرف عنها الكثير،والتي كثيرا ما تنظر إلينا ـ كبشر ـ كفرائس تستحق القنص.
*البيولوجيا الهوائية...ذلك العلم المنسي؟
يمكن أن تحتوي الياردة المكعبة الواحدة من الهواء على مئات الآلاف من البكتريا،والفيروسات،والأبواغ الفطرية (Fungal spores)،وحبوب الطلع (10 Pollen grains)،والحزازات (Lichens)،والطحالب (Algae)،والحيوانات الأولية (Protozoa). وتؤدي عطسة واحدة قوية إلى إطلاق أكثر من ملايين ميكروب في الهواء; ومن ثم ليست هناك غرابة في أن تنتشر عبر الهواء أمراض مثل التدرن،والإنفلونزا،والحماق (Chickenpox). لكن كثيرا من الناس قد تصدمهم معرفة أننا لا نعلم سوى القليل عن عادات الانتقال عبر الهواء للميكروبات المسببة لهذه الأمراض المألوفة،في حين أننا لا نعلم سوى أقل القليل عن الميكروبات المسببة للطواعين الأكثر ندرة والأشد فتكاوكأن. المخاطر المتمثلة في الميكروبات الطبيعية غير كافية،فلا تزال الأسلحة المنقولة بالهواء في تزايد مطرد،كما تعترف وزارة الدفاع الأمريكية أنها غير مستعدة بالقدر الكافي لصد أي هجوم شامل من هذا النوع. ويحاول علماء البيولوجيا الهوائية (Aerobiologists)،وهم الذين يقومون بدراسة الحياة في الجو،اللحاق بالركب المتسارع للأسلحة البيولوجية المنقولة بالهواء.
ويواجه علماء البيولوجيا الهوائية بمشكلة رئيسية: فعلى عكس الميكروبات الموجودة في الدم،والطعام،والماء،فلا تزال الميكروبات المسببة للأمراض المنقولة بالهواء بعيدة عن قدراتنا على اكتشافها. ويعترف العلماء أننا مخطئون كثيرا في تقديرنا لحجم الميكروبات الموجودة في الهواء،فلا نستطيع سوى اكتشاف 30-10 منها،في حين أننا لا نعلم شيئا عن كثير منها.
وفي العقود الأخيرة،تزايدت الأعباء الملقاة على عاتق علم البيولوجيا الهوائية (Aerobiology)،بوفه علما مشوقا،لكنه علم بائد في الوقت نفسه. وفي حقيقة الأمر أنه يمثل حجر الزاوية بالنسبة لعلم الميكروبيولوجيا (علم الأحياء الدقيقة Microbiology). فمنذ ما يزيد على قرن كامل،وبالتحديد في ستينات القرن الماضي،أثبت العالم الفرنسي لويس باستير (Pasteur) أن الطعام يصيبه التعفن بسبب أن "الجسيمات المتعضية" (Organized corpuscles) الموجودة دوما في الهواء،يمكنها سريعا تكوين مستعمرات ميكروبية على أية مادة عضوية غير مغلفة بإحكام.
وقد أثبتت عقود من التجارب خلال منتصف القرن العشرين،أن أمراضا مثل التدرن،وشلل الأطفال(Polio) ،والحصبة (Measles)،والطاعون الرئوي (Pneumonic plague)،والدفتريا (الخانوق Diphtheria)،والإنفلونزا،تنتقل عبر الهواء من مريض (عائل) لآخر. ولكن الأدوية واللقاحات كانت تنجح في جميع المرات في كبح جماح انتشار تلك الأمراض،مما أدى إلى انسحاب علم البيولوجيا الهوائية إلى زوايا النسيان،باعتباره علما مهجورا; فإذا كان بوسعك القضاء على الميكروبات بمجرد وصولها إلى الجسم البشري،فلماذا تشغل بالك بدراسة طريقة دخولها إلى الجسم؟!!
وقد احتفظ علماء الإيكولوجيا (Ecologists) باهتمامهم بالحياة في الهواء،برغم أن الأطباء كانوا يرون أنه بوسعهم إغفال ذلك بدون حدوث أية أضرار.
وما بين عقدي الثلاثينات والستينات من القرن العشرين،اكتشفت الأجهزة العلمية المثبتة في الطائرات والبالونات الهوائية جيوشا جرارة من الميكروبات التي تسبح في الهواء على بعد أميال من الأرض. وقد وجدت البكتريا في عينة تم الحصول عليها بواسطة صاروخ روسي من الهواء على بعد 40 ميلا من الأرض. وفي عمود من الهواء مساحته ميل مربع واحد ويوجد على ارتفاع 14,000 قدم،قدّر الباحثون وجود25 مليون حشرة. كما وجدت أبواغ الفطريات فوق المحيطين الباسيفيكي والأطلنطي،في أماكن تبعد كثيرا جدا عن تلك التي بدأت رحلتها عندها.
وقد بدأت دراسة الإيكولوجيا تستعيد أهميتها مؤخرا،فقد بات واضحا أن الكائنات الحية تتبع دورات روتينية للهجرة،والتزاوج،والبحث عن عوائل جدد. وعلى ذلك،ففي غضون أسابيع قليلة،تنتج نباتات الرجيد(Ragweed) مليارات من حبوب الطلع،ومن ثم فهي تطلقها في الريح وإلى أنوف المصابين بالحساسية! ويمثل المنثور(Wallflower) وهو نبات ينمو في الأصقاع القطبية،مثالا فريدا على هندسة النقل الجوي; فقد تطورت لهذا النبات رؤوس للبذور تخترق الطبقة السطحية للجليد في فصل الشتاء; وعلى هذا الارتفاع البسيط،يمكن للبذور أن تنتقل بفعل الرياح فوق الطبقة المتكسرة للجليد على مسافة أميال عديدة،حتى أنها قد تصل إلى الجزر المتناثرة عبر البحر المتجمد.
وفي حين تخصص أغلب تلك الرحلات للتكاثر وللعثور على أرض جديدة لإقامة المستعمرات،يوجه جزء كبير منها،ولسوء الحظ،لإصابة الكائنات الحية الأرضية بالعدوى. ومثلها مثل أسراب خفية من الجراد،يمكن للفطريات أن ترتحل من المكسيك إلى كندا مثلا،مخلفة وراءها ملايين من الهكتارات من المحاصيل التالفة من القمح والذرة. ولم يبدأ الباحثون سوى مؤخرا في اقتفاء أثر تلك الأبواغ الفطرية في رحلتها المدمرة تلك. وخلال فترات النهار،يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وما يسببه من العواصف إلى حمل مئات الآلاف من تلك الأبواغ في كل ياردة مكعبة،رافعة لها إلى ارتفاع 10,000 قدم. وعند هذا الارتفاع الشاهق،يمكن للتيارات الهوائية حملها لمسافات تصل إلى مئات الأميال وبسرعات تبلغ 40 ميلا في الساعة،حتى تؤدي الأمطار أو غيرها من العوامل الجوية إلى حمل تلك الأبواغ إلى الأرض مرة ثانية.
وقد كان علماء البيولوجيا الهوائية محظوظين عند دراستهم لحبوب الطلع وأبواغ الفطريات،ويرجع ذلك جزئيا إلى أن حجمها وصلابتها كبيرين بدرجة كافية لإبقائها على قيد الحياة بعد عمليات التجميع على شاشة محمولة جويا (Airplane-mounted screen)،و إحضارها إلى المختبر،ثم إحصاء عددها تحت المجهر. لكن اكتشاف الميكروبات في رحاب الجو يعد أمرا أكثر صعوبة بكثير ـ فالبكتريا أصغر بنحو 300-100 مرة من الفطريات; بينما الفيروسات أصغر بمائة مرة من البكتريا ذاتها.
وبفضل عمليات التقليب والمزج المستمرة للهواء في طبقات الجو العليا،يمكن لأعداد هائلة من الميكروبات أن تحتل مساحة ضيقة من الجو لمدة ثانية واحدة،قبل أن تنتشر في كل اتجاه،وفي خلال تلك الفترة،تظل غير مكتشفة من قبلنا. ولذلك،فبدلا من محاولة اكتشاف الميكروبات بصورة مباشرة،حاول علماء البيولوجيا الهوائية حتى وقت قريب شفط كميات كبيرة من الهواء عن طريق مضخات الخلاء(Vacuum) ،ثم ضخها إلى مستنبتات(Growth media) معينة،ثم انتظار حدوث نمو بكتيري ما. ولكن هذه الطريقة تعد طريقة متخلفة في أفضل صورها; فالميكروبات قد تكون مصابة بوهن شديد من جراء رحلتها الطويلة بحيث تفقد القدرة على التكاثر. أما تلك التي تتمكن من النمو بالصورة المعتادة،فقد تحتاج لأيام أو لأسابيع حتى يصل عددها إلى القدر الكافي لاكتشافه بالطرق المتوافرة لدينا حاليا. وهناك الكثير من الكائنات المجهرية التي ترفض ببساطة أن تنمو ما لم يتوفر لديها طعامها المفضل ـ ورقة من شجر التفاحأو ،رئة إنسان على سبيل المثال!
ونتيجة لجميع هذه العوامل،تتباين تقديرات العلماء كثيرا فيما يتعلق بأعداد البكتريا والفيروسات; فحسب تقديرات وكالة حماية البيئة الأمريكية،يقدر الباحثون أن كل متر مكعب من الهواء فوق مزرعة في ولاية أوريجون على سبيل المثال900 ،يحتوي على إلى 600,000 بكتريا،وذلك حسب الموقع وحسب الوقت من اليوم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
*الفيروسات...ذلك العالم المجهول:
تمثل الفيروسات أكبر أوجه الغموض في عالم الكائنات الدقيقة،فعلى عكس البكتريا،والتي ـ لكي تبقى على قيد الحياة ـ تقنع ببساطة بالتهام المواد المغذية من صحن الزرع،يتوجب على الفيروسات أن تصيب الخلايا الحية بالعدوى قبل أن تتمكن من التكاثر. ونادرا ما أمكن اكتشاف الفيروسات حية في الهواء،باستثناء التجارب المختبرية التي تم فيها توفير ظروف خاصة لمعيشة تلك الفيروسات. لكن المؤكد هو أن الفيروسات موجودة حولنا في كل مكان،تنشر الإصابة بالزكام أثناء قيامها بوظائفها التي لا نعلم عنها شيئا بعد.
وقد بدأ علماء الإيكولوجيا مؤخرا في الحصول على صيد أفضل،بفضل التقنية الثورية المعروفة باسم تضخيم سلسلة البوليمراز (Polymerase Chain Reaction Amplification; PCR)،أو اختصارا PCR،والتي تشتمل نمطيا على استخدام مسبار جيني (Genetic probe) يلتصق بقصاصات من الدنا(DNA) ،ويقوم بنسخها مرات عديدة حتى يصل عددها إلى القدر الذي يمكن اكتشافه بسهولة. وقد قام العلماء في جامعة ولاية نيويورك في سيراكيوز بجمع جزيئات السحب والضباب من جبال أديرونداك (Adirondack)،ومن الجزر القاحلة القريبة من شواطئ ولاية مين(Maine) ،واستخدموا التقنية PCR لاكتشاف فيروس يصيب النباتات ـ و فيروس الطماطم الطوبامي الفسيفسائي (Tomato mosaic Tobamovirus). وقام العلماء بعد ذلك بحقن أشجار البيسية الحمراء(Red spruce) بهذا الفيروس،لإثبات بقائه على قيد الحياة. وتعد المحاصيل الحقلية والأشجار الخشبية هدفا للفيروس الطوبامي،لكن الفريق البحثي عثر على هذا الفيروس في أماكن بعيدة تماما عن أيهما،مما يثبت أن الفيروسات قادرة على الانتقال بمفردها،دون عائل حي،لأميال عديدة.
وبالرغم من ذلك،فالاحتمالات تشير إلى أن الفيروسات المألوفة لنا،لن تعثر علينا على قمم الجبال والمرتفعات،بل في المنزل أو العمل. فأغلب البشر ـ وهم العوائل المفضلة لتلك الفيروسات ـ يقضون من 90-80% من حياتهم داخل حدود المنازل ومواقع العمل،وهم يستنشقون الهواء ويلفظونه،مكونين مستعمرات متنامية من الجراثيم التي تنتشر سريعا عند وصولها إلى الفضاء الخارجي. ويؤدي العطس والسعال إلى إفراز تلك الميكروبات داخل قطيرات مخاطية،لا يزيد حجم أغلبها عن 1000/4 من البوصة ـ وهو حجم يكفي لسقوطها بسهولة على الأرض أو على أي سطح آخر في خلال ثوان معدودة. وإذا اتفق أن انتهت هذه الفيروسات في أنفك،ففي الغالب سيتم ترشيحها بواسطة الشعيرات الموجودة عند مدخل الأنف. لكن بعض القطيرات تجف وتنكمش متحولة إلى "أنوية القطيرات" (Droplet nuclei)ـ والتي يبلغ حجمها 1000/2 من البوصة،وتحمل كل منها عددا قليلا من البكتريا،أو المئات من الفيروسات. وتتسم هذه المستعمرات بكونها معدة جيدا للعثور على عائل لتصيبه بالعدوى: فبوسعها الطفو في الهواء لساعات أو لأيام; وتساعد الجراثيم المتكدسة بعضها البعض في الحصول على درجة الحرارة والرطوبة الملائمين لحياة كل منها. وهي صغيرة الحجم لدرجة تمكنها من التسلل عبر المجاري الأنفية،لكنها كبيرة الحجم بالقدر الكافي لكي تمر بواسطة تيارات الهواء في المسلك التنفسي بفعل اضطرابات الضغط،أو الجاذبية،أو الإمهاء المفاجئ (Rehydration)،بحيث تستقر في الحلق أو الرئتين.
وتمثل المتفطرة الدرنية (Mycobacterium tuberculosis) المثال النمطي للجراثيم المنقولة بالجو. فيمكنها أن تطفو حية لمدة ساعات،وهي بمنأى عن التجفاف(Dehydration) والأشعة فوق البنفسجية الضارة بفعل الغلاف الشمعي المحيط بها. وبرغم أن هذه البكتريا قد درست باستفاضة في البشر،فلم يتم عزلها على الإطلاق من الهواء خارج المختبرات. ومن المعتقد أن أغلب الضحايا ينتجون عددا قليلا نسبيا من القطيرات المعدية،كما أن المتفطرة تتكاثر ببطء شديد في المستنبتات ـ تستغرق 6-3 أسابيع لكي تظهر نفسها ـ لدرجة أن الجراثيم الأخرى المنقولة بالجو،والتي قد يتفق وجودها في نفس العينة المستزرعة،قد تنمو بسرعة لدرجة أن مزارعها تغطي على وجود المتفطرات. وعلى هذا الأساس،فإن معلوماتنا عن سلوك تلك الجراثيم في الجو،تأتي في مجملها عن طريق الاستدلالات (Inferences) ،مثل تلك التي حصلنا عليها من التجارب التي أجريت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين،حيث تم ضخ الهواء الموجود في عنابر مرضى التدرن إلى غرف تحتوي على عدد من الخنازير الغينية (Guinea pigs)،بالإضافة إلى دراسة معدلات العدوى في البشر الذين تعرضوا لحاملين معروفين للمرض. ومن الوجهة النظرية،فيكفي وجود بكتريا واحدة من المتفطرات لإصابة المريض بالتدرن،لكننا لا نعرف مدى صحة ذلك على وجه الدقة. ويقوم الباحثون حاليا بإعداد مسبار يعتمد التقنية PCR،وذلك لاكتشاف التدرن في الهواء بصورة مباشرة،مثلما فعل العلماء مع فيروس الطماطم السابق الذكر. ويشجعهم على ذلك نتائج أبحاث الباحثين في مستشفى جامعة كاليفورنيا في سان دييجو،والذين نجحوا في اكتشاف فيروس الحماق (Chickenpox) في هواء المستشفى. ومن ناحية أخرى،هناك بعض المشاهدات غير المشجعة أيضا،فقد اكتشف الباحثون أنه بعد خروج المريض من المستشفى بيوم كامل،كان بالإمكان اكتشاف الدنا الفيروسي في هواء الغرفة ـ وحتى 50 قدما في ردهة المستشفى. ومن المثير للاستغراب أيضا اكتشاف العلماء للدنا الفيروسي المحمول بالجو ـ من النوع الذي يصيب البالغين،والمسمى بالهربس المنطقي (Shingles)،في غرف الأطفال المرضى بالمستشفى. وعلى عكس النمط الذي يصيب الأطفال،يصيب الهربس المنطقي ضحاياه بنفطات(Blisters) مؤلمة بالجلد،لكنه لا ينشر القطيرات المعدية عن طريق السعال. وتقترح تلك النتائج إنه حتى الجلد المتقشر يعد منصة ملائمة لانطلاق الفيروسات المعدية في الهواء.
وتتكرر أوبئة الحماق،والعداوى المعدية (Gastric)،والتدرن،عبر عنابر المرضى في المستشفيات،فيما يبدو عن طريق الهواء،مما يشير إلى أن المؤسسات العلاجية تلك تلعب دورا ضئيلا في القضاء على هذه الجراثيم. وتشير التحقيقات التي أجريت بعد جائحة التدرن في مستشفى لينكولن،إلى أنه حتى في الغرف التي كانت مزودة بمضخات لتهوية غرف المرضى،كان الهواء يضخ في الاتجاه الخاطئ،مما سمح للبكتريا بالتسرب أسفل الأبواب،والتسكع في ردهات المستشفى،بل واستيطان غرف الممرضات! وبالرغم من ذلك،فلم يكن الوضع الظاهري في مستشفى لينكولن سيئا،فبوسعك أن تسمع أزيز المراوح طوال الوقت،كما يتم تغيير الهواء في جميع الغرف بمعدل 12-6 مرة كل ساعة. كما يوجد خارج كل غرفة مريض مقياس للضغط بحجم قبضة اليد. ويقوم المهندسون بفحصه بصورة دورية،عن طريق فتح الباب ونثر ذرات من الطباشير للتأكد من أنها لا ترتد ثانية إلى خارج الغرفة. أما داخل الغرفة،فهناك نفق فضي اللون للتهوية يمتد إلى السقف حيث يطلق فيضا من الأشعة فوق البنفسجية(Ultraviolet) التي تدر البكتريا التي قد تمر من خلاله. أما إذا رغب مريض في الانتقال من غرفته للتوجه إلى المختبر أو قسم الأشعة السينية على سبيل المثال،فعليه ارتداء قناع جراحي لمنع الجراثيم من الانتشار. وباستثناء هذه "الرحلات" القصيرة،لم يكن مسموحا للمرضى بمغادرة غرفهم مالم تثبت التحليلات خلوهم من المرض،بل إن مسؤولي قسم التدرن بالمستشفى كانوا يلجأون إلى استصدار أحكام قضائية لمنع المرضى من مغادرة المستشفى في حالة رغبة هؤلاء المغادرة خلافا لنصائح الأطباء.
*الفيلقية...ضريبة الرفاهية؟
لسوء الحظ،فلم تفشل التكنولوجيا في القضاء على الجراثيم المنقولة بالجو فحسب،بل إنها نجحت دون قصد في نشوء أنواع جديدة من تلك الجراثيم مثل بكتريا الفيلقية (Legionella) فعلى مدى قرون عديدة،تركت تلك الجراثيم التي تعيش عادة في البرك والبحيرات،الجنس البشري آمنا من غوائلها; وحتى إذا شربت ماء ملوثا بجراثيم الفيلقية،فلن تشعر بالمرض في الغالب. ولكننا اخترعنا بعد ذلك أجهزة تكييف الهواء العملاقة التي تغذي المباني الضخمة وناطحات السحاب،والتي تستخدم مستودعات كبيرة من الماء لتلطيف الهواء،وقد أثبتت تلك المستودعات ملاءمتها لمعيشة تلك الجراثيم. وتقوم فوهات عملاقة بتمرير الهواء فوق الماء،وتحمل قطيرات من ذلك الماء على طول مساراتها في أرجاء المبنى الضخم،وفي بعض المباني،توضع تلك المستودعات فوق أسطح المباني،ومن ثم يتم نثر تلك القطيرات مباشرة إلى الشوارع المحيطة بالمبنى. وعلى ذلك،فقد أمكن فجأة للبشر أن "يتنفسوا" البكتريا الموجودة في الهواء ــ وعلى ذلك،فقد أمكن فجأة للبشر أن "يتنفسوا" البكتريا الموجودة في الهواء ــ ويمكن لهذا الشكل من الفيلقية أن يسبب نوعا مميتا من الالتهاب الرئوي(Pneumonia) يعرف باسم مرض الفيالقة (Legionnaires' disease).
وقد اكتشف علماء الوبائيات مؤخرا أن أجهزة تكييف الهواء ليست الطريقة الوحيدة لنقل البكتريا المسببة لمرض الفيالقة،فهذه البكتريا تنتقل عن طريق الرذاذ المتناثر من أقسام الخضروات في محال السوبر ماركت،والدوامات الموجودة في أحواض السباحة،ونوافير الزينة،والدش (Shower) المستخدم في الفنادق. وقد أظهرت دراسة حديثة أيضا أن عيادات أطباء الأسنان تعد مرتعا خصبا لجراثيم الفيلقية،حيث تنمو البكتريا داخل خطوط التبريد التي تعمل بالماء لتخفيف درجة حرارة المثاقب(Drills) التي يستخدمها أطباء الأسنان،ومن ثم تنطلق أثناء عملية حشو الأسنان التالفة.
ومن بين الألغاز المحيطة بجراثيم الفيلقية،نجد تباين الأعراض الناجمة عن الإصابة بها ـ فبعض الناس لا يصابون سوى بنوع خفيف من الزكام يسمى حمى بونتياك (Pontiac fever)،بينما يسقط البعض الآخر صرعى بفعل المرض. ويمكن اكتشاف جزء من سبب تلك المعضلة في الأميبا(Amoeba) ـ وهي كائنات حية وحيدة الخلية تعيش في التربة وفي المياه ـ بما فيها مياه أنظمة التبريد السابقة الذكر،كما أنها توجد أحيانا طافية في الهواء. وفي كثير من الأحيان،تلتهم الأميبا جراثيم الفيلقية وغيرها من البكتريا،غير أن بعض الباحثين يرى أن البكتريا تقوم أحيانا بالاغتذاء على الأميبا من الداخل وتتكاثر داخلها،بحيث تنتهي الأميبا التعسة بحمل عدد قد يصل إلى 1800 بكتريا،وعليه إذا كان حظ المرء تعسا بدوره،فسيتنشق واحدة من تلك الأميبات المحملة بالبكتريا!
* فيروس إيبولا...الرعب القادم من أفريقيا:
مما يثير الرعب في نفوس الكثيرين حاليا،وجود احتمال لكون فيروس إيبولا (Ebola virus) ــ المغمور سابقا وسيئ الذكر حاليا ــ ينتقل بدوره عن طريق الهواء الذي نتنفسه. ويمثل ذلك الفيروس واحدا من أشد الفيروسات فتكا بالحياة على وجه الأرض،وهو ينتشر أساسا عن طريق سوائل الجسم،مما قلل من انتشار أوبئته الفتاكة في أفريقيالكن عامي 1989 و1990 شهدا جائحتين لفيروس إيبولا يظن الباحثون أن . الانتقال فيهما كان عن طريق الهواء من قرود مصابة بالفيروس ومحجوزة في محطة للحجر الصحي في مدينة ريستون بولاية فرجينيا الأمريكية. وقد اشتهرت هذه الحادثة بفضل الكتاب الذي حقق أفضل المبيعات في عام 1994،والمعنون "المنطقة الساخنة"(The Hot Zone )تحولت إلى مادة للفيلم الذي أنتج عام 1995 بعنوان (Outbreak). وفي ،كما حين كان الجزء الأكبر من الحملة الإعلامية المصاحبة لهذا الحدث مفتعلا،أخذ بعض العلماء احتمال انتقال ذلك الفيروس المخيف عن طريق الهواء مأخذ الجد. وفي أحد التحقيقات التي أجريت بعد جوائح فيروس إيبولا الأفريقية مؤخرا،وجد الباحثون الذين يعملون لحساب معهد أبحاث الأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي،أن هناك عدداً مما أسموه "الوفيات" (Clusters of deaths) ــ حيث لا يكون هناك أي اتصال معروف بين عناقيد الضحايا ــ مما يشير بقوة إلى احتمال وجود طريقة لانتقال الفيروس عبر الهواء عن طريق الرذاذ.
وفي الوقت نفسه،أضافت الأبحاث المتعمقة التي أجريت على القرود مزيدا من الأدلة على الخطر المحتمل لانتقال فيروس إيبولا عن طريق الهواء. فعندما أصيبت قرود "ريستون" بفيروس إيبولا،ظهرت عليها أعراض نمط غير مألوف من الالتهاب الرئوي لا يصاحب عادة بالنـزف،وهو العلامة المميزة للمرض. وقد قام الباحثون بحقن الدم المحتوي على الفيروس في أجسام قرود أخرى صحيحة،فأصيبت تلك الأخرى بالالتهاب الرئوي بدورها. المحتمل،بناء على هذا الدليل،أن هناك ذرية (Strain) نادرة من فيروس إيبولا المسبب للالتهاب الرئوي،والتي تفضل الانتقال عن طريق الهواء. وبالإضافة إلى ذلك،فقد نشرت مؤخرا تجربة أجريت في السابق وأهملت لفترة طويلة،قام فيها الباحثون بقتل القرود بوضعها في غرف زجاجية محكمة ثم نثروا عليها رذاذا محملا بكمية ضئيلة من الفيروس. ويشير ذلك إلى أنه سواء كانت طبيعة ذلك الفيروس تفضل الانتقال عن طريق الهواء أم لا،فمن الممكن استخدامه كسلاح فتاك.
وليس هذا مجرد رجم بالغيب،فحسب مصادر الاستخبارات العسكرية،فهناك "جهة ما" ــ لم تكشف تلك المصادر عن اسمها بطبيعة الحال ــ تقوم بالفعل بإجراء التجارب على فيروس إيبولا كاحد أسلحة الحرب البيولوجية. ولا يمثل ذلك سوى حلقة في سلسلة الاهتمام الحديث لبعض الدول بامتلاك أسلحة جرثومية. وتشتمل قائمة تلك الدول الشتبه بامتلاكها ــ أو محاولتها لامتلاك ــ الأسلحة البيولوجية; العراق،والصين،وإيران،وتايوان،وليبيا،وبعض دول الاتحاد السوفيتي السابق،والعديد من الجماعات الإرهابية.
* الجمرة الخبيثة... سلاح للإرهاب:
برغم أن الغالبية العظمى من الأسلحة البيولوجية مصممة للانتشار عن طريق الهواء،لكن طريقة نشره قد تكون بسيطة للغاية; ففي مدينة كبيرة مثل نيويورك،على سبيل المثال،قد يكفي وضع اسطوانة صغيرة محتوية على رذاذ بكتريا الجمرة الخبيثة (Anthrax) مثلا في مؤخرة سيارة للأجرة تجوب شوارع المدينة من أولها لآخرها متهادية في سيرها،لكي تكون النتيجة مروعة.
وتمثل الجمرة الخبيثة،في واقع الأمر،تهديدا خطيرا للبشرية; إذ أنها تبقى على قيد الحياة لفترة طويلة في الهواء،كما أنه من الممكن استزراع كميات كبيرة منها بسهولة. ويمثل هذا التهديد خطرا مهما بالنسبة لوزارة الدفاع الأمريكية لدرجة أنها طرحت مشروعا لتطعيم 2,4 ملايين شخص من العاملين فيها ضد المرض ـ وهو أول مشروع للتطعيم ضد الحرب الجرثومية تتم مناقشته.
* جراثيم ومسببات أخرى للمرض:
من بين الأمراض الجرثومية الأخرى "المثيرة للقلق"،نجد الكوليرا (Cholera) ،والتهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي (Venezuelan equine encephalitis) ـ وهو فيروس ينتقل بواسطة البعوض ويمكن أن يصيب ضحاياه بالشلل أو الوفاة. وتشير الدراسات التي أجريت على الحيوانات إلى أن الأمراض ذات التأثيرات المشابهة لمرض فيروس إيبولا ــ مثل حمى الوادي المتصدع (Rift valley fever)،وحمى لاسا (Lassa fever)،والحمى النزفية البوليفية (Bolivian hemorrhagic fever)،وفيروس ماربورج (Marburg virus)،وحمى الكونغو ـ القرم النزفية (Congo-Crimean hemorrhagic fever) ـ قد تصبح معدية إذا تحولت إلى رذاذ. ويقوم الباحثون العسكريون حاليا بإجراء التجارب على ثلاثة فقط من تلك الأمراض،كما أن تلك اللقاحات ستكون محدودة الفائدة في الغالب. وقد اكتشف الجيش الأمريكي مؤخرا أن اللقاح الذي تم تطويره ضد حمى الوادي المتصدع ـ والتي تنتقل عادة عن طريق البعوض،يصبح عديم الفائدة إذا تم استنشاق الفيروس عن طريق الهواء،وعليه فقد تم إعداد لقاح جديد،ينتظر موافقة إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية (FDA) على السماح باستعماله على البشر.
* حرب الخليج ومخاطر الحرب البيولوجية:
يرى المؤرخون العسكريون أن حرب الخليج جعلت الأنظمة العسكرية تدرك مدى عدم استعدادها لاكتشاف الهجوم بالأسلحة البيولوجية والتصدي لها بصورة مناسبة. ففي ذلك الوقت،كان العراقيون يمتلكون آلاف الجالونات من العوامل الجرثومية المسببة للمرض،بما فيها الجمرة الخبيثة،والطاعون الرئوي(Pneumonic plague) ،والمطثية الحاطمة (Clostridium perfringens) والتي تؤدي للإصابة بالغرغرينا (Gangrene) ــ كما أن مفتشي الأمم المتحدة يعتقدون أن النظام العراقي لا يزال يمتلك كميات من تلك الأسلحة الجرثومية الفتاكة حتى الآن. والمثير للدهشة هو أن الجيش الجرار الذي شارك في عملية عاصفة الصحراء ن لم يكن مجهزا سوى بمعدات بدائية لاكتشاف الأسلحة البيولوجية والجرثومية،وحسب اعتراف أحد القادة الأمريكيين; لم يكن الجيش الأمريكي وقتئذ يمتلك نظاما متطورا للحصول على عينات من الهواء على ارتفاع منخفض.
وحسبما يتذكر المؤرخون العسكريون،لم يستخدم الجيش العراقي الأسلحة الجرثومية; ولكن إذا استخدمت تجربة ذلك الجيش في استخدام الأسلحة الكيماوية،فقد كان جنود التحالف معرضين لخطر جسيم خلال حرب الخليج. وبعد سنوات من الإنكار والتعتيم،اعترف البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) بأن بعض المحاربين القدماء الذين شاركوا في حرب الخليج (1991)،والذين يعانون من مشكلات عصبية وهضمية شديدة،قد يكونوا تعرضوا لغازات السارين(Sarin) وغاز الخردل (Mustard gas) خلال الغارات الجوية على القوات العراقية; وقد يصل عدد الجنود الذين يحتمل تعرضهم لهذه الغازات السامة خلال تفجير مستودعات النظام العراقي للأسلحة الكيماوية إلى نحو 20 ألف جندي.
وقد خصص البنتاجون مبالغ طائلة ـ تصل إلى 66 مليون دولار سنويا ـ للأبحاث في مجال الحرب البيولوجية الجوية،وقد تمخضت تلك الأبحاث عن عدد من الخطوط الدفاعية المبتكرة،أولها نظام للاكتشاف المبكر يتكون من جهاز يزن 1,100 رطلا،ويتم تثبيته في طائرة هليكوبتر من طراز (Blackhawk)،ويقوم بنشر شعاع من الأشعة تحت الحمراء (Infrared) لمسافة تصل إلى 20 ميلا،ويقوم بتحليل الفوتونات التي ترتد عن الأجسام الجرثومية المحمولة في الجو. وعلى اعتبار أن السحب الصناعية تبدو مختلفة عن تلك الطبيعية،لذلك فقد طور الباحثون حواسيب قادرة على اكتشاف السحب غير الطبيعية يزود بها نظام الاكتشاف هذا،كما يعكف الباحثون على تطوير نظام آخر قصير المدى لتعزيز قدرة هذا النظام،وهو عبارة عن أشعة ليزرية فوق بنفسجية (Ultraviolet laser) يقوم بتحليل السحب التي تبعد حتى مسافة ميلين،مما يجعل الجزيئات البيولوجية تبدو مضيئة. وسيمكن النظام الجديد الباحثين،نظريا،من اكتشاف جراثيم الطاعون مثلا من بين جزيئات سحابة غريبة مكونة من الدخان والتراب.
في مدينة أبردين الاسكتلندية،يتم تطوير نظام الاكتشاف البيولوجي المتكامل (Biological Integrated Detection System; BIDS) ـ وهو مخبأ عسكري غير منفذ للهواء وغير مزود بفتحات أو نوافذ تبلغ مساحته ثمانية في عشرة أقدام،يتم تحميله على سيارات خاصة،كما يكتظ بشاشات الحاسوب وغيرها من الأجهزة. ويزود الجهاز بمضخة تشفط الهواء من الخارج بصورة مستمرة وتغذي به آلة تقوم بقياس حجم الجزيئات. وإذا تغير حجم الجزيئات فجأة،تنطلق صافرة إنذار; وعندئذ يقوم المشغلان الموجودان داخل المخبأ بارتداء الأقنعة الواقية،ثم تشغيل مضخة خلائية قوية تقوم سريعا بتقطير آلاف الجالونات من الهواء الخارجي إلى أنابيب اختبار سائلة صغيرة. وعندئذ،يقوم أحد المشغلان بتناول عدد من أنابيب الاختبار تلك،ويستخدم أشعة الليزر لاكتشاف وجود ثلاثي فسفات الأدينوزين(ATP) ـ وهي الجزيئات التي تمد بالطاقة جميع صور الحياة. وفي الوقت نفسه،يقوم المشغل الآخر بإضافة صبغة خاصة لعدد من الأنابيب الأخرى،بحيث يضيء أي دنا (DNA) قد يوجد بداخلها ومن ثم يقوم بعد الخلايا المضيئة بإمرارها عبر ليزر فوق بنفسجي. وبعد ذلك،يضع المشغل العينات على قضبان مشبعة بالأضداد (Antibodies) أو غيرها من المركبات،ثم يتم إدخالها إلى جهاز للتحليل يكتشف وجود التفاعلات الدالة على وجود أنواع معينة من البكتريا; تشمل الطاعون الرئوي،والتولارمية (Tularemia)،والجمرة الخبيثة.
كان الجيل الأول من الأجهزة (BIDS)يتم تشغيله يدويا،وكان يعتمد أجهزة عادية يمكن أن توجد في مختبرات المستشفيات أو الجامعات المدنية. ولاكتشاف البكتريا،كان الجهاز يستغرق 30-25 دقيقة،وهو وقت طويل جدا وغير مقبول في حالة تعرض البلد لهجوم من هذا النوع. لذلك يعكف الجيش حاليا على تطوير الجيل الثاني من تلك الأجهزة،والتي يتوقع أن تحتاج من 20-15 دقيقة لاكتشاف وجود البكتريا،كما أن المدى المتوقع للتحذيرات الكاذبة للجهاز الجديد لا يزيد على 5%،وقد بدأت التجارب العملية على هذا النظام بالفعل. كما يقوم العلماء أيضا بتطوير نظام متنقل لاكتشاف الفيروسات،يعتمد تقنية امتصاص تلك الجزيئات الفيروسية عبر مرشح دهني (Lipid filter)،ثم تمرير شعاع من الليزر عبرها يحدد قراءة بعدد الفيروسات في خلال دقائق معدودة.
ويتفق العلماء على أن هذه الأجهزة ستمثل بالنسبة لنا تطورا مهما،سواء في عنابر التدرن بالمستشفيات أو في جبهات القتال. لكن الكائنات التي تعيش في الهواء تتسم بتنوعها الشديد،كما أنها تتغير باستمرار. ولازلنا غير قادرين حتى على توقع الاتجاه الذي ستهب منه الريح،فالميكروبيولوجيا الهوائية علم متغير ما أن تحل إحدى مشكلاته حتى تظهر لك أخرى أكثر تعقيدا!