الفكرة الجمهورية (كتاب)

الفكرة الجمهورية سنقوم باستعراض كتاب معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية الذي كتبه الإخوان الجمهوريون تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه في العام1975 وهو كتاب يطرح افكار الجمهوريين وتطور فكرتهم ولا يمانع الجمهوريين في نشره على الانترنت واعادة نسخه وطبعه وتوزيعه اذا تمت مراعاة صحة النقل وعدم الحذف المخل بالمعنى. لقد قمنا بحذف بعض اجزاء الكتاب لضرورة تقديرية مما أوجب علينا ذكر ذلك.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المذهبية الاسلامية منذ البدء

ان المتصفح لتاريخ الجمهوريين ، يتضح له بجلاء ، انهم ظلوا ، منذ عهد الاستعمار ، وفي مختلف عهود الحكم الوطني ، ذوي رؤية واضحة ، وأصحاب مذهبية ثابتة ، تدور حولها حركتهم ، وتنبثق منها مواقفهم .. وتلك هي المذهبية الاسلامية التي قوامها الحرية الفردية المطلقة ، والعدالة الاجتماعية الشاملة .. لقد كانت الحركة الوطنية ، التي انبجست من مؤتمر الخريجين العام ، في الأربعينات ، تعوزها المذهبية ، وتنقصها الأصالة ، والثقة بنفسها ، وبشعبها ، الأمر الذي جعلها تلوي رأسها تحت جناح الطائفية ابتغاء السند الشعبي ، المتمثل في أتباع الطائفية ، فاحتضنت طائفة الختمية الأحزاب الاتحادية واحتضنت طائفة الأنصار حزب الأمة وكان هؤلاء ، وأولئك ، يسخرون من انتجاع الجمهوريين منتجع المذهبية ، ودعوة الشعب مباشرة ليلتف حولها ، من غير استعانة بالزعماء الطائفيين الذين كانوا يقتسمون ولاء الشعب بينهم .. وكان يبدو للجميع أن طريق الجمهوريين هذا ، طريق طويل طويل ، فالجميع يتعجلون كسب السند الشعبي بأقرب الطرق ، وهو طريق كسب تأييد زعيم احدى الطائفتين الذي تكفي اشارته فقط ليسارع أنصاره بتأييد الحزب المعين .. هذا أقرب الطرق لاستقطاب الشعب ، ولكنه ذو ثمن باهظ لا يقبله الا ميت ضمير ، أو قصير نظر .. ذلك بأن احتواء الطائفية للحركة الوطنية أعطاها سلاح النفوذ السياسي إضافة الى سلاح العقيدة الدينية ، مما مكنها من رقاب الشعب ومن مقدراته ، فاستطاعت أن تجمد وعيه ، و أن تستغله وتساوم به ، في ميادين السياسة .. وكان رجال الأحزاب خاضعين للطائفية ، وكانت حصيلة البلاد ، بعد قرابة العشرين عاما من الاستقلال ، ألوانا من التخبط في حكم البلاد ، وتخلفا مزريا في حياة الشعب مما يحمل وزره كل من ساهم في تمكين الطائفية لتلج الميدان السياسي ، وتعزل الشعب عن قضيته ..


النذير العريان

في ذلك الوقت البعيد ، ومنذ فجر الحركة الوطنية ، فطن الجمهوريون الى طريق الهلكة الذي تنحدر فيه الحركة الوطنية على أيدي رجال المؤتمر والأحزاب ، فأطلقوا صيحة الحق داوية ، وقدّموا النذير العريان مبتدرين الدعوة ، والعمل لعزل الطائفية عن الحركة الوطنية ، ومؤكدين التوجه الى الشعب مباشرة ، لاستنهاضه حتى يمسك قضيته في يده ، فيكافح ، ويتحمل مسئولية تحرير نفسه ، فاذا تم له التحرر من الأستعمار ، وهو لابد تام ، كانت الحرية عزيزة لديه ، لايفّرط فيها أبدا ، ولايدع المجال لعابث ليعبث بها وقد تقدم الجمهوريون الصفوف في صدق ، وشجاعة ، وواجهوا الاستعمار ، فضربوا المثل الحي للثائر الذي لايضعف ، ولايهادن ولايساوم .. ومع أن الجمهوريين كانوا قلة ، قياسا بالأحزاب الأخرى ، الأمة ، و الأشقاء ، وغيرهم الا أن مواقفهم الصامدة ، الشجاعة ، في مواجهة المستعمر ، كانت تثير الاعجاب ، وتلهب الحماس الوطني عند الشعب وقد دخل الأستاذ محمود محمد طه السجن ، كأول سجين سياسي ، في الحركة الوطنية في الأربعينات ، لرفضه التوقيع على تعّهد يمنعه نشاطه السياسي .. وفي داخل السجن كان الأستاذ يعصي ، ويخالف أوامر السجن ، نكاية بالمستعمر ، وتقليلا من شأنه ، وتصغيرا له . فكان يودع الزنزانة ، لأيام ، عقوبة على هذا العصيان ، وهذه المخالفات .. فتشيع أخباره خارج السجن ، فيتلقفها الشعب ، فتحرك فيه كوامن الوطنية والغيرة . لقد ضرب الجمهوريون -على قلة عددهم – مثلا فريدا في قوة المواجهة ، والشجاعة ، فكانوا يخطبون في المساجد ، وفي المقاهي ، وفي الأندية .. ويقومون بتوزيع المنشورات التي تهاجم المستعمر ، على الشعب ، وحتى على المسئولين من الحكام الأنجليز. ومن الوهلة الأولى اتجه الجمهوريون أيضا الى المذهبية ، فرشحوا الاسلام الواعي ، وكانوا يعيبون على الأحزاب تفريطها في المذهيبة ، وكانوا يحذّرون بأن عاقبة غياب المذهبية هي التخبّط بعد الاستقلال ، والسير في التيه ((فقد يخرج الانجليز غدا ، ثم لانجد أنفسنا أحرارا ، ولا مستقلين ، وانما متخبطين في فوضى مالها من قرار )) هكذا كانوا يقولون .. ذلك بأن الاستقلال ليس هو ((استبدال الانجليز بانجليز في أسلاخ سوداني)) ولقد وقع ماكان يخشاه الجمهوريون .. فجاءت تجارب الحكم ، نحوا من عشرين عاما ، كلها سير عشوائي متأرجح ، تارة الى اليمين ، وتارة الى اليسار .. والآن !! وبعد هذه التجارب المريرة ، والضياع الفادح الذي تحملّه الشعب من عرقه ، وشقائه ، وعلى حساب مستقبله – الآن !! وبعد هذا كله ، حصحص الحق ، وتبين أن الطريق الطويل هو الذي سلكه المتعجّلون الذين لامذهب لهم ، ولاأصاله – أولئك المثقفون الذين ارتضوا أن يسلمّوا زمامهم للطائفية وتأكد أن الطريق القريب ، حقا ، الموصّل الى حرية الشعب ، ورفاهيته ، هو طريق المذهيبة المستبصرة ، المحركة للشعب ، المجندة له ، ليخوض معركة حريته ، ومستقبله .. وذلك ماكانت الرؤية حياله واضحة ، تمام الوضوح ، لدي الجمهوريين فلم يلتفتوا عنه أبدا ، ولم يتقهقر خطوهم فيه .. ((انهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا ))

الميزان

لقد اتخذ الجمهوريون ميزان ((لا اله الا الله)) مقياسا يقيسون به كل ما يعرض لهم من المواقف ، ويقوّمون به التراث البشري ، من فلسفات ، ومذاهب ، فاستطاعوا ، بفضل الله ، ثم بفضل هذا الميزان الدقيق ، أن يقفوا دائما ، الموقف الوسط ، موقف الكتله الثالثة التي تطرح الطالح ، وتبقي على الصالح .. فهي من جانب قد أقرت الدراسة الاشتراكية ، واستبعدت ماشابها من التطبيق الديكتاتوري ، والاعتقاد الالحادي ، الذي شوهتها به الماركسية .. ومن جانب آخر أخذت هيكل الديمقراطية الغربية وتركت جانبا الاقتصاد الرأسمالي المزيف للديمقراطية .. وبذلك تأسست ركائز الكتلة الثالثة العالمية التي تقف موقف الحياد الايجابي بين الكتلتين : الشيوعية ، والرأسمالية ، ذلك بأنها تسد النقص في كليهما فينشأ عن ذلك النظام الديمقراطي الاشتراكي الذي يتطلع اليه الانسان المعاصر ، وتتطلع اليه الانسانية ليتوحد به العالم فكريا ، كما توحد مكانيا ، فيحل السلام ، والعدل ، والرخاء ، بين أفراده وأممه .. ولقد عجزت الماركسيه كما عجزت الرأسمالية الغربية عن أن تحقق هذا الحلم ، وما ينبغي لها أن تقدر على هذا التحقيق .. على هدي هذا الفهم كان نقد الجمهوريون لدعوة ماسمي بالحياد الايجابي ، والكتلة الثالثة ، التي تزّعمها نهرو وتيتو وجمال عبد الناصر .. فهي خديعة للشعوب ، وانصرافية عن الاتجاه الجاد .. ذلك بأن الحياد بين الكتلتين الشرقية والغربية ، يستحيل تحقيقه بغير مذهبية تعصم عن الانحياز ، وتصفّي في نهاية الأمر الكتلتين التقليديتين ، وماكان دعاة الحياد أولئك يملكون هذه المذهبية .

العالمية بدل العنصرية

لقد قيم الجمهوريون دعوة القومية العربية كدعوة عنصرية ، تضلل العرب ، وتصرفهم عن أصالتهم ، وتراثهم ، وتضعهم لقمة سائغة في ساحة الصراع الدولي .. وقدّموا الاسلام ، والاقليمية بديلا عن القومية العربية ، فان الاسلام بفكره الواعي ، يمثل الروح ، والاقليمية ، باطرادها ، تمثل الهيكل لنظام الحكم العالمي المرتقب ، الذي تكون في قاعدته حكومات الاقطار ، والحكومات الاقليمية ، وفي قمته الحكومة العالمية التي تمثل هيئة الأمم المتحدة الحاضرة نواتها .. إن الجمهوريين لم يدعوا للاسلام تعصبا ، وتقليدا ، وانما كانت دعوتهم اليه عن فهم واقتناع بأحقيته ، وجدارته وقدرته على اقناع العقل المعاصر ، وذلك هو ما اصطلح الجمهوريون على تسميته بالمرحلة العلمية من الاسلام ، في حين كانت المرحلة الماضية منه هي مرحلة العقيدة .. الدراسة والتطبيق ومن هنا كان اتجاه الجمهوريين لتطبيق الاسلام في أنفسهم ، ودراسته ، وتبيين فضله للناس ، بالكلمة المقروءة ، والكلمة المسموعة ، طيلة ثلاثين عاما حفلت بالحوار العلمي ، والصراع الفكري الموضوعي ، مما يشرّف الفكر الاسلامي خاصة ، والفكر الانساني عامة .. لقد أخرج الجمهوريون مايربو على الثمانين كتابا ، بينها أمهات كتبهم ، نحو خمسة ، وقد طبعت منها مئات الالآف ، وأخرجوا أيضا عشرات المنشورات ، ومئات المقالات ، في شتى الموضوعات ، والمناسبات ، وألقوا مئات المحاضرات والندوات وهذا هو نهج المذهبية ، ومرتكز العلمية التي تعلّم الناس ، وتأخذهم بعقولهم قبل أن تسوقهم بعواطفهم ولقد أتى هذا النهج أكله وأثمر ثمره الناضج المتمثل في دائرة الجمهوريين المتسعة باستمرار ، ولفت انتباه الشعب الى هذا الطريق المغاير لطريق الطائفية الحزبية التي تسوق الناس بالاشارة ، وتدفعهم بالارهاب لتحقيق مطامعها ومراميها ان الفكر الجمهوري فكر أصيل ذو جذور عميقة في أرض هذا البلد الطيب ، مستشرف هام السماء..


دور الحركة الوطنية في نيل الاستقلال

اننا ونحن نسجل هذه الشذرات من تاريخ الجمهوريين ، نلاحظ أن الحركة الوطنية قد ووجهت من الجمهوريين بالنقد القوي ، بل العنيف أحيانا ، لما رأوا من تراخيها في مواجهة الانجليز ، وانعزالها عن الشعب ، مما أوجد فراغا في ميدان الفكر بصفة عامة ، وفراغا في ميدان الحماس بصفة خاصة ، فكان لابد للجمهوريين من أن يملأوا ، في ذلك الوقت ، فراغ الحماس ، ويستنهضوا الحركة الوطنية لتتجاوب معهم .. ومن هذا المنطلق كان مايصدر منهم من كلمات يتسم بالصلابة والمواجهة الحاسمة ولكن لم يغب عن بالنا ، نحن الجمهوريين ، وماينبغي أن يغيب عن بال أحد ، أن رجال الحركة الوطنية الآخرين قد أدوا دورا مقدرا في سبيل جلاء الاستعمار ، وفي اتمام السودنة ، وإقامة أول حكومة سودانية بعد الاستقلال .. فان الدور الذي قام به رجال مثل السيد علي الميرغني ، والسيد عبدالرحمن المهدي ، وأعوانهما من السياسيين ، دور كبير .. ان صلات فريق منهم ، وهم الاتحاديون ، بمصر ، وصلات الفريق الآخر ، وهم الاستقلاليون ، ببريطانيا ، قد أذكت روح المنافسة بين دولتي الحكم الثنائي ، وساعدت كثيرا على الاتفاق الذي تم في القاهرة ، عام 1953 ، اذا اتفقت كلمة الاحزاب السودانية ، اتحادية ، واستقلالية ، على قبول اقامة الحكم الذاتي واجراء الاستفتاء على مصير السودان : استقلالا أم اتحادا مع مصر .. وقبلت ، من ثم ، حكومتا مصر وبريطانيا مااتفق عليه السودانيون .. ولما قامت الحكومة الانتقالية استطاع السودانيون أن يختصروا الأمر ، فلم يحتاجوا الى اجراء الاستفتاء الشعبي على مصير السودان وانما اتفقت الاطراف المختلفة ، وأعلنوا الاستقلال من داخل البرلمان ، في أول يناير 1956م .. هذه هي فضيلة الحركة الوطنية .. ولكن الجمهوريين كانوا يرشحونها للاضطلاع بدور أعظم مما قامت به .. كانوا يريدونها أن تتجه الى الشعب فترشّده وتفك اساره من قبضة النفوذ الطائفي الذي لايزال يعاني منه حتى اليوم .. وكان الجمهوريون يريدون اختصار التجارب وقطع الطريق أمام محاولات الحكم الفاشلة .. ولكن وقد وقع ماكان يحذره الجمهوريون فلاضير ، فان التجارب تعجم عود الشعب وتورثه الحكمة ، وتهديه الى الصواب .. وبعد ، هذه انطباعات عجلى عن هذا الفكر ، جاءت حصيلة لطواف عابر ، عبر سنوات ثلاثين ، ستجد ، كما قلنا ، من التقويم والتشريف مايضعها موضعها اللائق بها ، ويبرزها مفصّلة كاملة .. فذلك حق علينا لهذا الجيل وماسياتي من أجيال .. ولقد اضطررنا الى جعلها في جزئين ، وسنخرج الجزء الثاني قريبا ان شاء الله .. وهذا السفر ، بجزئيه ، لم نرد به ، في وقتنا الضيق هذا ، الا تكريم ذكري الثلاثين عاما وماتحمله من اشارة ، وماتنطوي عليه من معنى يستلفت النظر ويدعو للتأمل ..

نشأة الحركة الوطنية

في عام 1938م نشأ مؤتمر الخريجين العام ليمثل مرحلة جديدة في تاريخ السودان الحديث ، فقد ولد المؤتمر والمثقفون السودانيون يفتقدون الجهاز الذي يجسد شخصيتهم ويوحّد جهودهم ويوجهها ، نحو خدمة وطنهم ومواطنيهم.. واتخذ المؤتمر ((القومية السودانية)) شعارا له ، وبدأ عمله بمجالات الخدمة الاجتماعية وعلى رأسها التعليم الذي كان المنطلق الوطني الذي تبلور حتى أسفر عنه الوجه السياسي بعد أربع سنوات ، في عام 1942م ، بعد نشوب الحرب العالمية الثانية ، واشتراك السودان ((بقوة دفاع السودان)) فيها الى جانب الحلفاء الذين أعلنوا أنهم اذا كسبوا الحرب فسوف يكافئون أبناء مستعمراتهم باعطائهم حق تقرير المصير .. فاستلهم مؤتمر الخريجين هذا الوعد فأخذ يكاتب حكومة السودان بهذا الشأن ، واستمر تبادل المذكرات بينهما عدة سنوات ، تعّرض خلالها المؤتمر للانقسامات التي استفحلت حتى نجمت عنها الاحزاب المختلفة .. الأحزاب الاتحادية أولا ، وحزب الأمة ثانيا .. ولقد دفع الاحتراب على كراسي المؤتمر بالفريقين الى طلب السند لدى الطائفية ، فكان هذا ايذانا بانكفاء المؤتمر وأحزابه ، وأسوأ من ذلك ، ان خلاقات رجال المؤتمر لم تنبني على تمايز منهجي ، أو تباين فكري ، وانما كان اصطراعهم ، وجفوتهم لبعض ، بقصد الفوز بقيادة المؤتمر .. وحتى الاختلاف على مصير السودان : أهو اتحاد مع مصر ، أم استقلال عنها؟ قد نشأ لأن احدى الطائفتين هواها مع مصر والأخرى هواها مع انجلترا .. فكان الأشقاء ومن معهم ينادون بالاتحاد ، وحزب الأمة ينادي بالاستقلال والتحالف مع بريطانيا .. والشعب بعيد من الصورة ، نصّب الخريجون من أنفسهم ومن الطائفية أوصياء عليه .. فكانت المذكرات تتبادل بين المؤتمر والحكومة ، والشعب لايدري عنها شيئا ، ولايتفاعل معها من ثم .. وهي التي يسعى بها المؤتمر وأحزابه لتقرير المصير : ((تارة باتحاد مع مصر تحت تاج الفاروق)) ((وتارة باتحاد مع مصر ، وتحالف مع بريطانيا )) .. وهذا نموذج من مذكرات المؤتمر: هذه أول مذكرة اشتلمت على مطلب سياسي تقدم بها المؤتمر نقتطف منها الآتي:

((حضرة صاحب المعالي حاكم السودان العام ياصاحب المعاليي تشرف مؤتمر الخريجين العام بأن يرفع لمعاليكم بصفتكم ممثلين لحكومتي صاحبي الجلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا العظمي والملك فاروق الأول ملك مصر المذكرة التالية التى تعبر عن مطلب الشعب السوداني في الوقت الحاضر)) ولخصت المذكرة مطلب السودان في هذا: ((اصدار تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الانجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشـرة)).


كانت المذكرة بتاريخ 3 / 4 / 1942 بتوقيع ابراهيم أحمد رئيس مؤتمر الخريجين العام .. وهذه مذكرة أخرى تخاطب دولتي الحكم الثنائي بواسطة حكومة السودان ، جاء فيها:

((ياصاحبي الدولة : لما كان السودانيون هم أصحاب الشأن الأول في تقرير مصيرهم فاننا لنتقدم الآن بهذه المطالب راجين وملحين في الطلب أن تصدر على الفور الحكومتان البريطانية والمصرية تصريحا يتضمن الموافقة على رغباتنا هذه والاسراع في العمل على وضعها موضع التنفيذ فباسم العدل وباسم الرخاء الذي قاتلت من أجله الديمقراطية يطلب مؤتمر الخريجين العام بالسودان : ((قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري)) والله وحده ولى التوفيق . المخلص اسماعيل الأزهري رئيس مؤتمر الخريجين العام 23/8/1945م))


فأما مخاطبة الشعب ، وتنويره بطريق حريته ، وكرامته ، وتحديد مقصده الصريح في الحرية ، والاستقلال ، واقامة مجتمع العدالة ، فذلك مالم يشغل أخلاد أقطاب المؤتمر .. وأما استنهاض الشعب ليمسك قضيته ، فيكافح من أجل حريته ، ويضحي في سبيلها ، فلم يترك الصراع على كراسي المؤتمر وكسب السند الشعبي متسعا للتفكير فيه ، وتكدير صفو البال به .. فركب القوم المركب السهل مركب السند الجاهز ، سند الطائفية ..


مولد الفكرة الجمهورية

في هذا المناخ ولدت الفكرة الجمهورية يحملها عصبة من الشباب المثقف .. أبى صفاؤها الديني ، وحسها الوطني ، ووعيها السياسي ، أن تخوض مع الخائضين .. فولّت وجهها شطر الله ، ويممت نحو الشعب .. فدعت للجمهورية .. فماكان من القوم الا أن سخروا منها ، وقالوا: ان شعبنا شعب متخلف ، لايصلح معه النظام الجمهوري .. ودعوا الى المذهبية ، وصمموا على الاعتماد على الشعب ، ووطنوا النفس على عزل الطائفية عن الحركة الوطنية .. ولكن المثقفين ، من رجال المؤتمر والاحزاب ، قالوا ان هذه مثالية ، سيطول علينا الأمد حتى تتحقق ولذلك سارعوا بالانضواء تحت لواء الطائفية ، تتخذهم واجهة ، ويتخذونها سندا ولندع السفر الأول للجمهوريين ، الذي صدر بتاريخ 26 اكتوبر 1946 يلقي بعض الضوء على تلك الفترة التى نشأت فيها الفكرة الجمهورية :- ((أما بعد ، فعندما قيّض الله للبلاد فكرة المؤتمر استجابت لها والتفت حولها فدرج المؤتمر مرعيا مرموقا ، وانخرط الخريجون بزمامه في حماس باد ، وأمل عريض .. فدعا الى اصلاحات جمة ، فأصاب كثيرا من النجاح ، ووفق بوجه خاص ، في يوم التعليم .. فقد جمع الأموال وافتتح المدارس ، في شتى أنحاء القطر ، أو ان أردت الدقة ، انه ساعد العاملين من ابناء مدن القطر على انشاء المدارس الوسطى التي أرادوها ، وقد كان كلما أنشأ مدرسة ، أو ساعد على انشاء مدرسة ، تخلّى عنها لمصلحة المعارف ، تسيرها وفق مناهجها ، وأولاها ظهره ، وتطلّع الى غيرها .. فقد جعل وكده انشاء المدارس ولاشيء بعد ذلك – ثم ان المؤتمر كان له رأي ونشاط في الميدان الأقتصادي ، وفي اصلاح القرية ، واصلاح الفرد ، ومحاربة الأمية ، وتحسين الصحة العامة ، الى آخر ما الي ذلك مماجعل المؤتمر مرجوا – ثم ولدت الحركة السياسية في المؤتمر وذلك يوم بعث بمذكرة للحكومة يطالب فيها الى جانب حقوق أخرى بحق تقرير المصير ، وقد أحاط المؤتمر هذه المذكرة بتكتم رصين عاشت فيه حتى اللجان الفرعية في ظلام دامس ، ثم أخذ يتداول مع الحكومة الردود بهذا الشأن بدون أن يعني بأن يقول للجان الفرعية ، بله الشعب ، كيف يريد أن يكون هذا المصير الذي يطلب أن يمنح حق تقريره ، ثم انقضت فترة ومشت في المؤتمر روح شعبت أتباعه شيعا على أساس الصداقات وتجانس الميول باديء الرأي ، ثم اتخذ كل فريق اسما سياسيا وجلس يبحث مبادئه ودساتيره فمنهم من يريد للبلاد اندماجا مع مصر ومنهم من يريد لها معها اتحادا ، ومنهم من يريد لها شيئا لاهو بهذا ولاهو بذاك ، وانما هو يختلف عنها اختلافا هو على أقل تقدير في أخلاد أصحابه كاف ليجعل لهم لونا يميزهم عن هؤلاء وأولئك . أنبتت هذه الأحزاب وتعددت واختلفت فيمايوجب الاختلاف وفيما لايوجب الاختلاف ، ولكنها كلها متفقة على الاحتراب على كراسي المؤتمر ، وعلى الاستمرار في حرب المذكرات هذه مع الحكومة . وان الحال لكذلك واذا بالخبر يتناقل بقرب مولد حزب جديد ، ثم ولد حزب الأمة بالغا مكتملا ، وجاء بمباديء يغاير المعروف منها مباديء الأحزاب الأخرى مغايرة تامة ويكتنف المجهول منها غموض يثير الريب .. والمؤتمر في دورته هذه بيد الأشقاء ، وهم قد كان مبدؤهم الاندماج أول أمرهم ، ولكنهم عندما قدّموا مذكرتهم للحكومة – حسب العادة المتبعة - ظهر أنهم اعتدلوا وجنحوا الى الأتحاد ، ولكن الحكومة ردت عليهم ردا لايسر صديقا . فعكفوا عليه يتدارسونه حسب العادة أيضا .. ولكن هذه مساعي التوفيق تسعى بين الأحزاب لتتحد وتقدم مذكرة جديدة للحكومة ، فكانت مساومات ، وكانت ترضيات ، بين من يريدون الانجليز ، وبين من يريدون المصريين ، وظهرت الوثيقة – هكذا أسموها هذه المرة – الوثيقة التي تنص على حكومة ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا. هذه صورة سريعة جدا مقتضبة جدا لنشاط المؤتمر في السياسة وفي الاصلاح ، ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم على هدى سياسة تعليمية موضوعة ، منظور فيها الى حاجة البلاد كلها في المستقبل القريب والبعيد ؟ ولماذا لم يعن المؤتمر بمناهج الدراسة كما عني بانشاء المدارس ؟ وله أن يسأل لماذا عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر اتجهت الى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات ، ولم تتجه الى الشعب تجمعه وتنيره وتثيره لقضيته ؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولا ثم جاءت مبادؤها أخيرا ؟؟ ولماذا جاءت هذه المباديء حين جاءت مختلفة في الوسائل ، مختلفة في الغايات ؟؟ ولماذا يحدث تحوّر وتطوّر في مباديء بعض هذه الأحزاب بكل هذه السرعة ؟ ثم لماذا تقبل هذه الأحزاب المساومة في مبادئها مساومة جعلت أمرا كالوثيقة عملا محتملا . وقد وقع واستبشر به بعض الناس ؟ نعم ، لسائل أن يسأل عن منشأ كل هذا – والجواب قريب ، هو انعدام الذهن الحر المفكر تفكيرا دقيقا في كل هذه الأمور . فلو كان المؤتمر موجها توجيها فاهما لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ موبق لايدانيه الا ترك العناية بالتعليم نفسه ، ولأيقن أن سياسة ((سر كما تشاء)) هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سوء العواقب في مستقبل هذه البلاد .. فان نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح الا في خلق البطالة ، وتنفير النشيء من الأرياف ، وتحقير العمل الشاق في نفوسهم ، وانعدام الذهن المفكر تفكيرا حرا دقيقا ، هو الذي طوّع للمؤتمر ، يوم ولدت فيه الحركة السياسية – وهي قد ولدت ميتة- أن يعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية ، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج ويعلن بها الزبائن بعد وصولها ، حتى تكون مفاجأة ودهشة .. ولو ان جميع الأحزاب القائمة الآن استطاعت أن تفكر تفكيرا دقيقا لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية ، التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضربا من العبث المزري )) هكذا يصور السفر الأول في عبارات مختصرة ، مبينة ، حالة الحركة الوطنية عند نشأتها ، ويشير بنظر ثاقب ، دقيق ، الى عدم نضجها ، وخطورة اتجاهها ، مما أثبتته السنوات التي عايشناها بعد نيلنا للاستقلال ، من فشل في الحكم ، واستمرار لصور الصراع على السلطة ، وتمكين الطائفية من رقاب الشعب ، واستغلالها للسياسيين ، وللحكومات ، لتضليل الشعب وتحريكه بالاشارة في الأنتخابات ، وفي اقامة الحكومات وفي اسقاطها ..


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اتجاه الجمهوريين العام

في ذلك الوقت وفجر الحركة الوطنية يرسل خطوط ضوئه الأولى وضع سفر الجمهوريين الأول هذا ، يدنا على الخطوط العريضة لاتجاههم فلنتابع الأستماع اليه ، اذا يقول : ((نحن اليوم بسبيل حركة وطنية ، تسير بالبلاد ، في شحوب أصيل حياة العالم هذه المدبرة ، الى فجر حياة جديد على هدى من الدين الاسلامي وبرشد من الفحولة العربية ، وبسبب من التكوين الشرقي ، ولسنا ندعو ، أول ماندعو ، الى شيء أكثر ، ولا أقل من اعمال الفكر الحر في مانأتي ، وماندع من أمورنا – الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ويسأل عن قيمة كل شيء ، وفي قيمة كل شيء ، فليس شيء بمفلت عن البحث ، وليس شيء بمفلت من التشكيك فلايظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر ، ولايظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر ، ولايظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر .. ان الحزب الجمهوري لايسعى الى الاستقلال كغاية في ذاته ، وانما يطلبه لأنه وسيلة الى الحرية ، وهي التي ستكفل للفرد الجو الحر الذي يساعده على اظهار المواهب الكمينة في صدره ورأسه . ويؤمن الحزب الجمهوري ايمانا لاحد له بالسودان ، ويعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف الى ذخر الأنسانية ألوانا شهية من غذاء الروح وغذاء الفكر ، اذا آمن به أبناؤه فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة ، ومقوماته ، لاهطاع نحوالغرب ، ونحو المدنية الغربية في غير روية ولاتفكير .))


وحدة الفكر

فالدعوة الاسلامية الجديدة التي تقوم ، أول ماتقوم ، على الفكر الحر ، والتي يتعلق بها أمل الأنسانية للخلاص من افلاس الحضارة الغربية قد جاءت قوية ، مفجرة لطاقة الفكر ، مذكية لحرارة الوجدان ،منذ اليوم الأول لميلاد الفكرة الجمهورية .. لم يجد فيها جديد ، اللهم الا زيادة تفصيل ، ودقة تبيين .. وانه لمما يدعم هذا التقرير ، الذي نقرره ، ان تقويم الجمهوريين للحضارة الغربية الذي برز في كتبهم الأخيرة ، هو هو ، رأيهم ، وتقويمهم لهذه الحضارة ، منذ نشأتهم فقد جاء في السفر الأول الذي صدر في أكتوبر 1946م ، هذا القول: (( ورأي هذا الحزب في المدنية الغربية هو أنها محاولة انسانية نحو الكمال ، وهي ، ككل عمل انساني خطير ، مزاج بين الهدى والضلال ، وهي لهذا جمة الخير ، جمة الشر .. وشرها أكبر من خيرها وهي كذلك بوجه خاص على الشرقي الذي يصرفه بهرجها ، وبريقها ، وزيفها عن مجال الخير فيها ، ومظان الرشد منها .. ويرى هذا الحزب أننا ماينبغي أن نتقي هذه المدنية بكل سبيل كما يريد المتزمتون من أبناء الشرق ، ولاينبغي أن نروّج لها بكل سبيل ونعتنقها كما يريد بعض المفتونين المتطرفين من أبناء الشرق .. وانما ينبغي أن نتدبرها وأن ندرسها وأن نتمثل الصالح منها . وهذه المدنية تضل وتخطيء من حيث تنعدم فيها معايير القيم ، وتنحط فيها اعتبارات الأفكار المجردة ، فليس شيء لديها يبلغ فتيلا ، اذا لم يكن ذا نفع مادي يخضع لنظام العدد والرصد فهي مدنية مادية ، صناعية آلية ، وقد أعلنت افلاسها وعجزها عن اسعاد الأنسان لأنها كفرت بالله وبالانسان . ويعتقد الحزب الجمهوري ان الشرق عامة والسودان خاصة يمكنهما أن يضيفا عنصرا الى المدنية الغربية هي في أمس الحاجة اليه ، وذلك هو العنصر الروحي)) .. أليس هو ، يكاد يكون بحروفه ، نفس ماورد في رسالة الصلاة الصادر عام 1966م ، اذا يقول : ((على ان الاسلام لايمكن أن يتحقق بغير مدنية جديدة أو قل روح مدنية جديدة ينفخ في هيكل المدنية الغربية الآلية الحاضرة فيوجهها وجهة جديدة ويعطيها قيما جديدة)) ((ان المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين : وجه حسن مشرق الحسن ، ووجه دميم . فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية ، حيث أخذت تطّوع القوى المادية لاخصاب الحياة البشرية ، وتستخدم الآلة لعون الانسان . وأما وجهها الدميم فهو عجزها عن السعي الرشيد الى تحقيق السلام)) وجاء عن المدنية الغربية في كتاب الرسالة الثانية من الاسلام الصادر عام 1967م مايلي : ((وهذه المدنية الغربية الآلية الحاضرة فقد بلغت نهاية تطورها ، وقد فشلت فشلا نهائيا وظاهرا في أن تنظم حياة المجتمع البشري المعاصر)) ((وسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة في تنظيم المجتمع الحاضر هو أنها بلغت نهاية تطورها المادي الصرف في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل تحولات المجتمع البشري المعاصر ، وأصبحت تفتقر الى عنصر جديد تشفع به عنصرها القديم وتلقحه به وتزيد بذلك من طاقتها على التطور ومن مقدرتها على مواكبة وتوجيه حيوية المجتمع الحديث .))


المرأة

ومن المسائل التي نفذت اليها دقة البصر والبصيرة ، في ذلك الوقت البعيد ، مسألة المرأة ، فقد كانت نظرة الجمهوريين لها متجهة اتجاها سليما ، يؤكد وحدة الفكرة لديهم ، اذ كان واضحا عندهم ضرورة مراعاة المواهب المختلفة عند التعليم المهني المعائشي، وعند التوظيف ، فكانوا يقولون أنه ليس من مصلحة الفرد ولا مصلحة الجماعة ، مثلا ، أن نخلق الموسيقار ممن يكون استعداده الطبيعي ان يكون طبيبا ، ولا أن نضع المرأة في مكان الرجل ، ولا الرجل في مكان المرأة .. ولقد جاءت الفقرات التالية من السفر الأول معبرة عن هذا الاتجاه : ((وأما عن تعليم المرأة عندنا فيرى الحزب أن سيره على هدى الغرب فاشل فشلا ذريعا ، فهم قد حاولوا أن يسيروا بها في مراحل الرجل فلم يفلحوا الا في جعلها شيئا لاهو بالرجل ولاهو بالمرأة ، واذا كان التعليم هو كما أسلفنا تنمية المواهب الطبيعية والحفز على استعمالها بطريقة تكفل للفرد السعادة وتعود على الجماعة التي يعيش فيها بأبر الخدمات ، كان من المحقق أن تعلم المرأة تعليما هو بسبيل من هذا ، تعليما يسلكها في ميدانها الخاص ، لا في ميدان الرجل . هذا من ناحية التعليم في التوفر على أسباب المعاش ، وأما التعليم الديني فهو يخاطب المرأة كما يخاطب الرجل ويطلب من كليهما حسن السيرة ، وقوة الحق ..))

ثنائية التعليم

واليوم ، وفي عام 1975م ، لايزال الناس يناقشون مشاكل التعليم ويبحثون عن اصلاح المناهج ، ولانزال نعاني من عدم توجيه التعليم بالصورة التي توائم بين المتعلم وبيئته ، وتحفزه لحب العمل ، وتبث فيه روح الخلق والأتقان . ولقد مررنا ، فيما سبق لنا من نقل ، على اشارة الجمهوريين لعيوب التعليم منذ ذلك الوقت ، وأخذهم على المؤتمر سيره على نهج الاستعمار في التعليم ، بل ان الجمهوريين قد بادروا باثارة موضوع ثنائية التعليم ، وضرورة ازالته ، وهي الثنائية التي لم تزل بقاياها تنفث ضررها على البلاد ، ويتمثل ذلك في وجود جهاز ((الشئون الدينية)) و ((جامعة أمدرمان الاسلامية )) لقد جاءت الاشارة الى ثنائية التعليم ، في السفر الأول هكذا : ((ومايرى الحزب الجمهوري أن يكون هناك تعليم ديني وتعليم مدني كل في منطقة منعزلة عن الأخرى ، ولايرى أن يكون للرجل أخلاق في المصلّى ، وأخرى غيرها في الحانوت ، أو الشارع ، وانما يرى أن يتعلم الناس أمور دينهم وأمور معائشهم ثم يضطربون في ميدان الحياة بأجسام خفيفة وأرواح قوية وقلوب ترجو لله وقارا ..)) لقد تحددت الغاية واتضح الطريق فانطلق الجمهوريون وهم الفئة القليلة نحو هدفهم لايلوون على شيء ولايصدهم عن وجهتهم صاد ، من رغبة أو رهبة .. وكان لوقع أقدامهم دوي ، ولصوتهم قوة بعثت موات النفوس ، وزلزلت الأرض تحت المستعمرين.

الجمهوريون يلقون بكلهم في المعركة

لقد شهدنا آنفا كيف بدأ النشاط السياسي من خلال المؤتمر وأحزابه حبيسا بين جدران مكاتب المؤتمر ودواوين الحكومة ، لم يزد على تبادل المذكرات بين الجانبين ، فكانت خطوات زعماء المؤتمر مكبلة بتوجس وحذر شديدين .. وكان الميدان السياسي يعاني فراغ الفكرة ، وفراغ الحماس .. فرأى الجمهوريون أن يملأوا أولا فراغ الحماس ، وان لم يغب عنهم أمر الفكرة ، فاندفعوا في مواجهة صميمة يوزعون المنشورات الموقعة باسمهم ، ويلقون الخطب السياسية على الشعب في أماكن وجوده .. في الميادين العامة ، في المقاهي ، وحيث وجدوه يبصرونه بقضيته ويثيرون حماسه ضد الأستعمار ، فانزعج الأنجليز لهذا الأقدام وهذه الصلابة ، في مواجهتهم فهبوا لكبت الجمهوريين واسكات صوتهم ، ولكن الجمهوريين صمدوا ، وأروا الانجليز أنهم لايهابون سجنهم وارهابهم ، بل رفضوا أن ينصاعوا لأمرهم بوقف النشاط السياسي ، وفضلوا السجن في سبيل ذلك .. فلقد اعتقل الأستاذ محمود وكان في معتقله أكثر مواجهة للأنجليز مما اضطرهم لاطلاق سراحه قبل تمام مدة الحكم المقررة ، فقد خرج من السجن بعد خمسين يوما بلاقيد ولاشرط ..

صورة خطابي استدعاء البوليس للتحقيق مع الأستاذ محمود

نثبت فيما يلي صورة الخطابين الموجهين للأستاذ محمود : الأول من البوليس للتحقيق معه في شأن نشاطه السياسي ، والثاني من قاضي الجنايات للمثول أمام المحكمة لمواجهة الأتهام بالنشاط السياسي وتوقيع تعهد بالكف عن ممارسته النشاط ضد الحكومة :


CID/36.H Criminal Investigation Department P.O.Box 288 Khartoum, 24 March, 1946 Mahmoud Mohed Taha, Merchant, Omdurman,

Dear sir, You are hereby required to attend at the C.I.D office at 9 a.m on 25/3/46 to answer questions respecting some circulars purporting to have been issued by the Republicans. Please acknowledge receipt of the letter

Yours Faithfully, (G.E.S Price) Superintendent, C.I.D.


Summons on information of a probable Breach of the peace. (see sections 81 and 84) To Mahmud Mohed Taha, Contractor, Omdurman. Whereas it has been made to appear to me by credible information that you have issued a pamphlet which is deemed to be likely to excite feelings of disaffection to the government and to lead to a breach of the peace or to disturb the public tranquility: You are hereby summoned to attend in person at the Police Magistrate’s Court on the 2nd day of June, 1946 at 08:45 a.m to execute a bond for £s 50 and also to give security by bond of one surety in the sum of £s 50 that you will keep the peace and refrain from illegal acts likely to disturb the public tranquility for the period of two years or to show cause why you should not execute such bond and give such security. Dated this 29th of May, 1946 W.C. McDowell Police Magistrate, Khartoum


ترجمة الخطابين

(( مكتب التحريات الجنائية 36هـ/م.ت.ج ص.ب 288 الخرطوم في 24 مارس 1946م

محمود محمد طه تاجر أم درمان

السيد المحترم بموجب هذا مطلوب حضورك بمكتب التحريات الجنائية الساعة 9 صباحا يوم 25/3/46 للاجابة على اسئلة تتعلق بمنشورات يعتقد انها صدرت عن الجمهوريين … أرجو التكرم بالتوقيع باستلام هذا الخطاب.

المخلص ج.أ.س برايس ملاحظ، مكتب التحريات الجنائية

"ورقة تكليف بالحضور للأدلاء بمعلومات تتعلق باحتمال الاخلال بالسلام" "انظر المادتين 81 و 84" الى محمود محمد طه، مقاول، أم درمان. بما انه قد تبين لي بمعلومات موثوق بها انك قد اصدرت منشورا يعتقد انه من المحتمل أن يثير الشعور بالكراهية ضد الحكومة ويؤدي الى الاخلال بالسلام، أو الى ازعاج الطمأنينة العامة. فأنت بموجب هذا، مطلوب حضورك شخصيا للمثول أمام محكمة الجنابات في اليوم الثاني من يونيو 1946 الساعة 8:45 صباحا لتوقع على كفالة مالية قيمتها خمسون جنيها، وأيضا لتوقع على كفالة بواسطة ضامن واحد بمبلغ خمسين جنيها على أن تحفظ السلام وتمتنع لمدة سنتين عن القيام بالاعمال غير المشروعة والتي من المحتمل أن تخل بالطمأنينة العامة، أو تبين السبب الذي يمنعك عن التوقيع على هذه الكفالة وهذا الضمان..

بتاريخ اليوم التاسع والعشرين من مايو 1946 و.س ماكدوال قاضي جنايات، الخرطوم ((

  • يلاحظ في خطابي البوليس وقاضي الجنايات تعمّد الانجليز تجاهل مخاطبة الاستاذ محمود بوصفه رئيسا لحزب .. فقد خاطبوه في الخطاب الأول بأنه "تاجر" وفي الخطاب الثاني بأنه "مقاول" !! ولكن أي تجارة هذه، وأي مقاولة، تلك التي تقض مضاجع الاستعمار، حتى يحاول أن يكمم الافواه ويغيّب الاحرار بين جدران الزنزانات!؟


انباء مواجهة الجمهوريين تشغل صفحات الصحف

وقد شغلت انباء مواجهة الجمهوريين للانجليز صفحات الصحف في تلك الايام. وهذه نماذج لما كانت تنشره من انباء :- ((الرأي العام – 3/6/1946 مثل الاستاذ محمود محمد طه المهندس امس امام قاضي الجنايات المستر مكدوال متهما من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الاخلال بالأمن العام، وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيها لمدة عام لايشتغل خلالها بالسياسة ولا يوزع منشورات. ويودع السجن لمدة سنة اذا رفض ذلك.. ولكن الاستاذ محمود رفض التوقيع، مفضلا السجن، وقد اقتيد لتوه الى سجن كوبر.)) … هكذا اراد دهاء الانجليز!! لا أن يسكت صوت الوطنيين وحسب، وانما ان يذلهم ليطأطئوا رؤوسهم الى الابد، وذلك بأن يوقعوا وثيقة تخاذلهم وتنازلهم عن مبدأ النضال، ولكن الجمهوريين لم يفت عليهم ذلك، ولم يهنوا أمامه.. فاختارو السجن على أن يتعهدوا بالاستكانة في وجه المستعمر ..


داخل السجن

وفي داخل السجن لم يصمت الاستاذ محمود ولم يخضع لما يهين كرامة الانسان.. والبيان الرسمي التالي يعطي صورة عن مواقفة داخل السجن: (( الرأي العام – 26/6/1946" بيان رسمي من مكتب السكرتير الاداري عن رئيس الحزب الجمهوري: (ظهرت بيانات في الصحف المحلية حديثا بخصوص محمود محمد طه الذي هو الآن تحت الحراسة بالخرطوم بحري نتيجة لرفضه أن يمضي كفالة المحافظة على الأمن.. وهذه البيانات قد احتوت على معلومات غير دقيقة، والحقائق كالآتي: لمدة يومين رفض محمود محمد طه أن يشتغل، وهذا يخالف قوانين السجن فلم يعمل له أي شيء في اليوم الاول، أما في المرة الثانية فقد حكم عليه بالبقاء ثلاثة أيام "بالزنزانة" و "الاكل الناشف" ولو أنه رفض أيضا أن يقف عند الكلام مع ضابط السجن فان العقوبة التي نالها الان لم تعط له نتيجة المخالفة لنظام السجن، وبهذه المناسبة يجب أن يعلم أن كل المساجين مهما كانت جنسياتهم يجب أن يقفوا الى ضابط السجن انجليزيا كان أو سودانيا ..))


الاستعمار يرغم على اطلاق سراح الاستاذ محمود محمد طه

لقد كانت مواجهة الجمهوريين داخل السجن وخارجه مقلقة للاستعمار ومحطمة لكبريائه فاضطر الى اطلاق سراح الاستاذ بلا قيد ولا شرط قبل أن يكمل مدة الحكم بسجنه سنة، وذلك بعد مضي خمسين يوما من سجنه، فكان لهذا الموقف صدى طيب في أوساط الشعب على اختلاف اتجاهاته، فانهالت برقيات الاعجاب والتهنئة من المواطنين وفيما يلي نعرض نماذج منها :-

  • سكرتير الحزب الجمهوري – أم درمان

كان سجن الرئيس درسا وطنيا قيما لشباب الجيل في الايمان والروح وقد سررنا لخروجه لا شفقة عليه ولكن ليواصل الجهاد الوطني حسن بابكر – القضارف 24/7/1946.

  • محمود محمد طه – الحزب الجمهوري أم درمان

تأكل النار الصدأ واللمما وبها يسمو كريم الذهب ويرى الحر العذاب المؤلما لذة في الحق يا للعجب ياسجينا قدره قد عظما وسما حتى جثا في السحب أحمد محمد عثمان – عطبرة 29/7/1946

  • الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري – أم درمان

أعضاء جبهة المؤتمر الوطنية بالابيض يرون في خروجك من السجن آية واضحة للايمان بالوطنية الصادقة ويعدّون جهادكم رمزا للكرامة السودانية، فبقلوب مفعمة بالغبطة يشاركون اخوانهم الجمهوريين السرور بعودتكم لميدان الجهاد . السكرتارية 24/7/1946


أمين صديق ، البوستة الخرطوم للرئيس دخلته رجلا وغادرته بطلا وضربته مثلا علي عبد الرحمن – الابيض 23/7/1946

  • سكرتير الحزب الجمهوري – الخرطوم

ان جميع اعضاء الجبهة الوطنية بسنجة مستبشرون بالافراج عن رئيس حزبكم العظيم وهم جميعا يبتهلون الى الله أن يسدد خطاكم ويتمنون للرئيس العافية وحسن الجهاد. سكرتير عام الجبهة الوطنية – سنجة 2/8/1946

عرفنا فيك المثل الاعلى منذ عهد الطلب، فسرّنا أن يعرف القاصي والداني هذا القلب الكبير صديق الشيخ – كوستى 30/7/1946

  • محمود محمد طه – أم درمان

أوفيت كرامة السودان وابائه حقهما – فلتعش رمزا صادقا للوطنية الخالصة ، لك تقديرنا واعجابنا . اتحاد طلبة كردفان – الابيض 23/7/1946

  • محمود محمد طه – أم درمان

لقد سجلت بعزمك القوي وايمانك الصادق فخرا للأجيال فلتعش مرفوع الرأس – لك منى التهاني؟ الطيب حسن/عطبرة 24/7/1946

وهكذا كان رد الفعل وسط المواطنين، اذكاء لروح الوطنية، واحياء للشعور بالعزة والكرامة، بعد طول موات



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشاط الجمهوريين يتصاعـد

ونشرت جريدة الرأي العام في نفس الأسبوع الذي سجن فيه الاستاذ الخبر التالي: ((القى الاستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري خطابا عاما أمس الاول عن الجنوب في الخرطوم بحري في جمهور كبير أمام السينما الوطنية، وأعاد القاءه مرة أخرى في نفس الليلة في مكان آخر في الخرطوم بحري، وقد استدعاه البوليس هذا الصباح وحقق معه فاعترف بكل ما حصل وزاد بأن هذا جزء من خطط كبيرة ينفذها الحزب الجمهوري )). كان هذا هو شأن الجمهوريين في العمل السياسي حين كانت الاحزاب قد شيعت وفدا جمع شتاتها لمراقبة المفاوضات الانجليزية المصرية التي عقدت بالقاهرة .. فكان رجال الوفد ينزلون بأفخم الفنادق ويعقدون المؤتمرات الصحفية ويقيمون الحفلات الفاخرة .


مطالب الوفد السوداني بالقاهرة

ففي جريدة الرأي العام بتاريخ الاربعاء 28/3/1946 نشر خبر جاء فيه أن الوفد السوداني عقد مؤتمرا صحفيا أعلن فيه : (( أن مطالب السودانيين تتلخص في : (1) اقامة حكومة سودانية ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وقد ترك تحديد نوع هذا الاتحاد معلقا لم يبت فيه (2) مصر والسودان سيقرران معا طبيعة هذا الاتحاد . (3) عقد محالفه مع بريطانيا العظمى على ضوء هذا الأتحاد المصري السوداني ))


طلبة الكلية والطائفية

وفي الوقت الذي كان الجمهوريون فيه ينددون بانسياق زعماء الاحزاب والمؤتمر وراء الطائفية ، نجد حتى طلبة الكلية مظنة الثورة ، والتحرر ، والنزوع الى التطرف في نبذ القديم .. نجدهم دون المستوى المطلوب ، فهم أيضا قد انخدعوا بالطائفية .. فهذا وفد من اتحادهم يتصل بزعماء الطائفية فيما تحدثنا جريدة الرأي العام بتاريخ 10/4/1946م:

((اتحاد الطلبة في دار السيدين جاءنا البيان الآتي من سكرتارية اتحاد طلبة كلية غردون : بمناسبة الحوادث الوطنية الأخيرة وسفر وفد السودان الى مصر زار جماعة من اتحاد طلبة كلية غردون السيدين الجليلين في داريهما فوجدوا زيادة على الترحاب والمقابلة الحسنة روحا وطنية فياضة وتلقوا من السيدين العظيمين نصائح ثمينة وآراء قيمة تنير السبيل السوي للخدمة الصادقة في سبيل الوطن .. حيا الله السيدين الجليلين وأبقاهما ذخرا لهذه البلاد .))


هذه هي الروح التي كانت تلف المثقفين ، وهذا هو مدى وعيهم .. لقد تصدى الجمهوريون لمواجهة الاستعمار لما رأوا فتور الهمم ووجل القلوب ، حين كان رجال الأحزاب يجعلون بأسهم بينهم ، ويستغرقهم صراعهم على زعامة الشعب ، حتى ساروا في ركاب الطائفية ، ومن ورائها دولتي الحكم الثنائي .. وكما رأينا ، من مذكرات المؤتمر ، ومن بيانات الوفد السوداني بمصر ، فان الصراع غدا ، في الحقيقة ، من أجل الانجليز والمصريين ، وليس من أجل استقلال السودان ، ولاحرية السودان ، وان لم يشعر بذلك هؤلاء المتصارعون .. فانبرى الجمهوريون ينبهون لخطورة الانقسام في الحركة الوطنية على ذلك النحو المزري .. وهذا واحد من بياناتهم التي صدرت في ذاك الحين ، بتاريخ 18/2/1946م :

[[(( هذا نذير من النذر الأولى ياجماعة الأشقاء وياجماعة الأمة – أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية – أيها القادحون قادحات الاحن بين أبناء الأمة – أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة ، أيها المرددون النغمة المشئومة – نغمة الطائفية البغيضة – انكم لتوقرون أمتكم وقرا يؤودها .. ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تلتمسون الحرية بالانتماء الى المصريين فتتمسكون بأسباب رمام ، وأنتم تلتمسون الملك بالبقاء تحت الانجليز فتتهيأون لدور الهر الذي يحكي بانتفاخه صولة الضرغام .. أنتم تريدون ابقاء المصريين ، وأنتم تريدون ابقاء الانجليز ، فاذا اجتمعت كلمتكم فانما تجتمع على ابقاء المصريين والانجليز معا .. ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لاتقوون على مواقف الرجال الأشداء ، وأنتم تتمسحون بأعتاب الانجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صورا شوهاء .. أنتم تريدون السلامة ، وأنتم تريدون الملك .. أنتم تضيعون البلاد لمّا تجبنون وأنتم تضيعون البلاد لمّا تطمعون .. أنتم تستغلون سيدا لايعرف ماتريدون ، وأنتم يستغلكم سيد يعرف مايريد ، والبلاد بينكم أنتم ، وأنتم ، على شفا مهواة ومهانة .. فليلطف الله ببلاد لايخدم نهضتها الا صغار الموظفين ، أو كبار الموظفين ، وليتدارك الله دينا باسمه يحيا أناس في برد العيش ، وقرار النعمة ، ورخاء الدعة ، وباسمه هم لأبنائه يكيدون .. ياهؤلاء ، وهؤلاء : ان الله لواحد ، وان الدين لواحد ، وان الوطن لواحد ، ففيم تنقسمون على هذا النحو المزري . ياهؤلاء ، وهؤلاء : كونوا ليوثا غضابا ، أو فكونوا قردة خاسئين ، وارحموا شباب هذا الوادي المسكين ، فقد أوسعتموه غثاثة وحقارة وهوانا .. ياهؤلاء ، وهؤلاء – لأنتم أشأم على هذه البلاد من كل شؤم وشؤم .. أيها السادرون من هؤلاء وهؤلاء ، لاتحسبن الكيد لهذه الأمة مأمون العواقب ، كلا !! فلتشهدن يوما تجف لبهتة سؤاله أسلات الألسن ، يوما يرجف كل قلب ، ويرعد كل فريصة .. أما بعد : فهذا نذير بين يدى صاخة ، تمزق مسامع من أصمّه الطمع ))]]


الأبعاد السياسية والإجتماعية لمسألة الخفاض الفرعوني

في أوائل عام 1946م وقد انتظمت البلاد حماسة الوطنية وتكثف النشاط السياسي .. في هذا الوقت الذي تهيأت فيه دولتا الحكم الثنائي مصر وبريطانيا لعقد مفاوضات صدقي – استانسجيت بشأن مصر والسودان ، وفي الوقت الذي علا فيه صوت السودانيين بالمطالبة بالاستقلال ، في تلك الساعة ، سن الانجليز قانون الخفاض الفرعوني ، وتشددوا في تطبيقه .. ولماكانت عادة الخفاض الفرعوني عادة متأصلة في المجتمع السوداني ، وهي مرتبطة في الأذهان أشد الأرتباط بالعرض والشرف ، كان المنتظر بداهة ، لدى الأنجليز ، أن يقاوم السوداينون هذا القانون بأشد من مقاومتهم للأستعمار نفسه ، وذلك للحساسية المرتبطة بهذا القانون .. وعندما يقع رد الفعل بهذه الصورة ، يسهل عليهم أن يصوروا للعالم بأن الشعب السوداني شعب متخلف ، همجي ، وهو ، من ثم ، لم يتأهل بعد للأستقلال – هذا ما أراده الانجليز فعلا ، من وراء سن قانون الخفاض الفرعوني الذي لم يدفعهم اليه حرصهم على المرأة السودانية ، وعطفهم على السودانيين .. فانخدع بذلك كثير من المثقفين ولم يفطن لهذه الخدعة ، وهذه الأهانة التي تلحق بالمرأة السودانية ، وبالرجل السوداني من تطبيق هذا لقانون ، الا الجمهوريون فهبوا الى محاربته من هذا المنطلق ، فحسبهم بعض المثقفين ، جهلا ، مدافعين عن عادة الخفاض الفرعوني الذميمة .. ومادروا انما الأمر دفاع عن كرامة أمة ، أراد أن يهدرها الاستعمار بهذا القانون ..


استثمار المناسبة

لقد صمم الجمهوريون على استغلال مناسبة اصدار هذا القانون بتوعية الشعب بكيد الانجليز ، وتصعيد الشعور بالكراهية نحوهم .. صونا لكرامة المرأة السودانية أولا ، وخدمة لقضية الحرية ثانيا .. وقد أصدروا بيانا في أول الأمر ، وأعقبوه بالخطابة ، في المسجد ، وفي الشارع .. وقد كان تحليلهم للقانون ، وتوقعاتهم لما سيترتب عليه ، كلها صحيحه أثبتها الواقع بعد ذلك .. وهاكم مقتطفات من بيانهم الأول : ((لانريد بكتابنا هذا ، أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني ، ولانريد أن نتعرّض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السوان ، والضرورة التي أبقته بين ظهرانيهم الي يومنا هذا – ولكننا نريد أن نتعرض لمعاملات خاصة ، وأساليب خاصة ، وسنن خاصة سنتها حكومة السودان ، أوقل ، ابتدعتها ابتداعا وأرادتنا أن ننزل على حكم ابتداعها ارغاما )) ((من الآيات الدالّة على سوء القصد ، في هذه الأساليب ، اثارة مسألة الخفاض الفرعوني في هذا الظرف .. وأساليب الدعاية التي طرقتها له ، والطرق التي ارتأتها مناسبة لابطاله ، والقضاء عليه ، ولقد جاءت هذه الآيات دليلا واضحا على التضليل المقرون بسبق الاصرار ))


قانون عجيب

لاشك في أن مجرد التفكير في الالتجاء الى القانون ، للقضاء على عادة مستأصلة في النفوس تأصل الخفاض الفرعوني دليل قاطع على أن حكومة السودان اما أن يكون قد رسخ في ذهنها أننا شعب تستطيع القوة وحدها أن تثنيه عن كل مبدأ ، أو عقيدة ، أو أن تكون قد أرادت أن تقول للعالم الخارجي أن السودانيين قوم متعنتون ، وأن تعنتهم الذي ألجأنا للقانون لاستئصال عادة الخفاض الفرعوني الهمجية ، هو نفس التعنّت الذي وقف في سبيلنا ، وشل أيدينا عن استعمال الأراضي الواسعة الخصبة في الجنوب والأستفادة من مياه الدندر ، والرهد ، والأتبرا ، والتوسع في التعليم .. هذا من ناحية الالتجاء للقانون .. وأما القانون في ذاته فهو قانون أريد به اذلال النفوس واهدار الكرامة والترويض على النقائص والمهانة .. ((قل لي بربك !! أي رجل يرضى بأن يشتهر بالتجسس على عرض جاره ؟؟ وأي كريم يرضى أن يكون سببا في ارسال بنات جاره ، أو صديقه ، أو عشيره للطبيب للكشف عليهن؟؟ عجبا لكم ياواضعي القانون - أمن العدل ، والقانون أن تستذلونا باسم القانون ؟؟ أومن الرأفة بالفتاة أن تلقوا بكاسيها في أعماق السجون ؟؟ ))


مواجهة عملية

كان هذا البيان قد خرج ساعة صدور قانون منع الخفاض في ديسمبر 1945م .. وفي سبتمبر 1946م ظهرت أول آثار القانون التي توقعها بيان الجمهوريين ، فقد اقتيدت الى السجن سيدة سودانية ، في رفاعة ، لأنها خفضت ابنتها ، مخالفة للقانون .. ولقد أهدت تلك الحادثة مواجهة عملية للقانون من الجمهوريين .. فقد ألقى الأستاذ محمود خطبة بمسجد رفاعة جاء فيها : - ((ليس هذا وقت العبادة في الخلاوي ، والزوايا ، أيها الناس ، وانما هو وقت الجهاد .. فمن قصّر عن الجهاد ، وهو قادر عليه ، ألبسه الله ثوب الذل ، وغضب عليه ، ولعنه . أيها الناس : من رأى منكم المظلوم فلم ينصفه ، فلن ينصفه الله من عدو . ومن رأى منكم الذليل فلم ينصره ، فلن ينصره الله على عدو . ألا ان منظر الظلم شنيع ، ألا ان منظر الظلم فظيع .. فمن رأى مظلوما لاينتصف من ظالمه ، ومن رأى ذليلا لاينتصر على مذلّه ، فلم تتحرك فيه نخوة الاسلام ، وشهامة الاسلام الى النصرة ، والمدافعة ، فليس له من الايمان ولاقلامة ظفر .)) واستجاب الناس لهذه الخطبة ، وتحركوا من توهم ضد الاستعمار وقانونه المجحف .. ونترك تصوير الأحداث لجريدة الرأي العام التي تابعت تطوراتها :


(( الرأي العام 21/9/46 - نشرنا قبل أيام ، أن السلطات في رفاعة حكمت على امرأة بالسجن تحت قانون منع الخفاض ، لأنها خفضت بنتا ، وأن الجمهور قابل هذا العمل بروح الاستياء العميق واضطرت السلطات الى اطلاق سراح المرأة بضمانة .. وجاءنا اليوم تلغرافيا ، بتوقيع أهالي رفاعة ، أن السلطات عادت فسجنت المرأة ، وعندما علم الجمهور بالأمر خرج من الجامع ، واقتحم السجن ، وأطلقوا سراح المرأة ، ومكث أفراده الذين ملأوا السجن بدلا عنها .. فأمر المفتش بسجن الضامنين ، ولكن الجمهور رفض ذلك أيضا ، وفي منتصف ليلة البارحة اقتحم البوليس منزل المرأة ، وأخذها الى جهة غير معلومة .. فقامت رفاعة بأسرها قاصدة الحصاحيصا ، ومنعت السلطات المعدية من العبور ، وأضربت المدارس ، وأغلق السوق ، وقامت مظاهرة عمومية ، ويحتشد الجمهور الآن بالشاطيء ، وفي كل مكان)) تعليق :- رغم منع السلطات عبور المعدية فان الجمهور عبر بقوارب الصيد ..

((الرأي العام الأثنين 23/9/46 - وقفنا بالقارئ أمس الأول عند تجمع سكان رفاعة على شاطئ النهر ، ومنع المعدية من العبور .. وقد عبر بعد ذلك فريق من المتظاهرين الى الحصاحيصا ، ومن هناك انضم اليهم خلق كثير من الناس .. فتوجه الجمع الى المركز في مظاهرات واسعة ، وبدأوا في قذف المركز بالطوب وغير ذلك ، فتحطم كثير من الأبواب ، والنوافذ ، واصطدم المتظاهرون بالبوليس الذي عمل جاهدا لتفريق المتظاهرين .. وعلى أثر ذلك ، أمر سعادة مدير الجزيرة بالنيابة باطلاق سراح المرأة السجينة ، فأخذها جمع من الناس وتوجه بها الى منزلها برفاعة))

(( الرأي العام 25/9/46 - تمّ اعتقال بعض الناس من رفاعة ، والحصاحيصا ، منهم الأستاذ محمود محمد طه ، وشقيقه مختار محمد طه ، فوضعوا في سجون رفاعة ، والحصاحيصا ، ومدني .))

((الرأي العام 25/9/46 - اجتمع أعضاء الحزب الجمهوري مساء أمس ، وساروا في موكب اخترق شارع الملك بالخرطوم .. وقد خطب منصور عبد الحميد في احدى المقاهي التي صادفتهم في الطريق ، فاعتقله البوليس للتحقيق - وكان الغرض من الموكب ، والخطبة ، الأحتجاج على اعتقال رئيسه ، والتنديد بقانون الخفاض. ))

((الرأي العام 27/9/1946 - اعتقل بوليس الخرطوم بحري مساء أمس ذا النون جباره ، وعبد المنعم عبد الماجد عندما ألقيا خطابين أمام السينما الوطنية بالخرطوم بحري .. نددا فيهما بالمجلس الاستشاري ، وقانون الخفاض ، وكبت حرية الرأي والخطابة ))

(( الرأي العام 1/10/1946م بيان رسمي عن الحزب الجمهوري تريد الحكومة أن تؤكد أن الأشخاص الذين قبض عليهم ، في رفاعة ، ثم في الخرطوم ، والخرطوم بحري ، لم يقبض عليهم لآرائهم عن القانون الذي يمنع الخفاض الفرعوني .. فكل شخص له الحق في أن يكون له رأيا خاصا ، وأن يعرب عنه ، بالطريقة المشروعة .. فالاشخاص الذين في رفاعة قبض عليهم لاثارة الشغب ، والذين في الخرطوم والخرطوم بحري ، قبض عليهم لالقاء خطب مثيرة ، علانية ، يحتمل أن تعكر صفاء الهدوء العام ، وأن تثير اخلالا بالأمن .))


اطلاق الرصاص على الجمهور الثائر

وفي بيان رسمي آخر عن اعتقال الأستاذ برفاعة ، وثورة الجمهور ، وتحركه لاطلاق سراحه ، واطلاق البوليس الرصاص عليهم جاء مايلي :

  • ((الرأي العام 7/10/1946 : جاءت قوة كبيرة من البوليس من مدني ، برئاسة مفتش المركز وفي نفس الوقت عسكر خارج رفاعة البلوك الرابع من فرقة الهجانة بقيادة الصاغ أحمد عبد الله حامد الذي دخل الى رفاعة برفقة ضابط سياسي ، وقابل المفتش ، وقمندان البوليس ، ورجع الى مقر فرقته .. واعتقل الأستاذ محمود محمد طه ، وأحضر الى المركز .. وأثر ذلك تحرك جمهور كبير نحو المركز ، وفي الحال نقل الأستاذ محمود الى معسكر البلوك الرابع ، خارج المدينة .. وتحركت فصيلة من البلوك الرابع لتعزيز قوة بوليس مركز رفاعة .. وكان اطلاق الرصاص بأمر مفتش المركز ، عندما رفض الجمهور اطاعة أوامر البوليس المتكررة بأن يتوقفوا عن تقدمهم صوب المركز ، وقد أطلق البوليس دفعة فوق رؤوس الجمهور وهم على بعد 40 ياردة تقريبا من المركز ، ولما لم يقفوا ، أطلقت دفعة أخرى على الأرض أمام أقدامهم ، في وقت كانت فيه مقدمة الجمهور على بعد 25 ياردة من المركز ، ولم يصب غير أربعة أشخاص ، أثنان منهم باصابات بسيطة جدا ، وأما الرابع ، فقد كسرت ساقة كسرا سيئا))


اشتراط مناقشة القانون

• (( الرأي العام 10/10/1946 - علمنا أن الأستاذ محمود محمد طه رفض أن يقبل محاميا للدفاع عنه ، وأنه أعلن بأنه لن يدلي بأية أقوال للتحقيق الا على أساس مناقشة قانون منع الخفاض .))


==محاكمات أحداث رفاعة--

  • (( الرأي العام 21/10/1946 - صدرت أحكام بالسجن بمدد تتراوح بين شهر وسنة على كل من : عباس المكي ، عوض القريض ، أحمد الأمين ، محمد الياس ، الزبير جاد الرب ، عبد العال حسن ، أحمد عثمان ، حمد النيل هاشم ، علي مالك ، محمد الحاج على ، بابكر وقيع الله ، عبد الله حامد الشيخ ، حسن أحمودي ، منصور رجب ، عبدون عجيب - وحكم على "صبي" بالجلد .))


محكمة كبرى بمدني

• (( الرأي العام 17/10/1946 – حكمت محكمة كبرى بودمدني برئاسة القاضي أبورنات ، بسنتين سجنا على الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري ، بتهمة اثارة الشغب في رفاعة .. كما حكم عليه بوضعه تحت المراقبة لمدة سنة أخرى بعد اتمام مدة سجنه .))


محاكمة الجمهوريين بالخرطوم بحري تحت المادة 105

• (( الرأي العام 19/10/1946 – أصدرت محكمة الجنايات حكمها على بعض أعضاء الحزب الجمهوري المتهمين تحت المادة 105 وكانت الأحكام كالآتي : عثمان عمر العتباني 3 شهور سجنا ، سعد صالح عبد القادر ، شهر سجنا ، ذا النون جباره شهر سجنا وكانت المحكمة برئاسة استانلي بيكر ، وعضوية محمد أفندي محمود الشايقي مفتش الخرطوم بحري ، والعمدة عمر كويس .))


صوم الأستاذ

لقد كانت أيام الأستاذ بالسجن عامرة بالصيام ، صيام النهار وصيام المواصلة ، ولقد ظنه الناس اضرابا عن الطعام ، على مألوف العادة لدى السجناء السياسيين أحيانا ، وماهو بذاك وقد تواترت الأخبار عنه في الصحف ، واهتم به الناس ، وأشفقوا ولقد كان هذا الصوم من مذكيات روح السخط على الاستعمار .. وقد جاء هذا الخطاب مصححا للأعتقاد الخاطيء عن صوم الأستاذ :- • (( الرأي العام 5/10/1946 حضرة رئيس تحرير الرأي العام .. بالاشارة الى الخبر المنشور في صحيفتكم عن اضراب رئيس الحزب الجمهوري عن الطعام ، أعرفكم أن الأستاذ كان صائما في اليوم الذي أعتقل فيه ، وليس مضربا ، وأنه قد أفطر ليلا .. وقد قابلت ضابط السجن – بوصفي خالا للمعتقل – في يوم وصوله ، وسمح لي بتقديم الطعام اليه في كل يوم .. ومن هذا يتضح أن الأستاذ لم يكن مضربا عن الطعام كما نشر .. وختاما تقبلوا سلامنا . التوم محمد حمزه ))


اغلاق الأندية احتجاجا

• (( الرأي العام 24/10/1946 - بهذا اليوم ، أتم الأستاذ محمود محمد طه ، رئيس الحزب الجمهوري السجين ، ستة أيام من صيامه .. وقد أغلقت أمس أندية الخريجين في مدني ، والأندية الرياضية ، احتجاجا على سوء معاملته .. وتتوالى برقيات الحزب الجمهوري ، والمواطنين على السلطات بالاحتجاج .))


كيف تعاملون رئيس حزب بأسوأ من معاملة اللصوص ؟؟

• (( الرأي العام 24/10/1946 من كلمة بعنوان "خواطر" ((وشاءت الحكومة أن تضع الأستاذ محمود محمد طه ، رئيس الحزب الجمهوري ، في الدرجة الثالثة بالسجن ، حيث يلقى المعاملة التي يعامل بها حثالة المجرمين من أحقر طبقات المجتمع .. وكان أن صام الأستاذ محمود ، وأضرب عن تناول الطعام ، والشراب ، منذ أربعة أيام ، احتجاجا على هذه المعاملة القاسية)) .. ((هذا التصرف الغريب من قبل حكومة السودان ، لايقابل من كل السودانيين الا بالاستنكار ، فليس من الأنصاف في شيء ، أن يوضع شخص مثل الأستاذ محمود له مكانته الملحوظة في المجتمع في الدرجة الثالثة بالسجن ، وينال هذه المعاملة القاسية ..))


الشعب السوداني شعب عملاق

لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل ، شجاع ، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة ، والشرف ولاينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته ، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا ، في مستواه ، فان المعجزات تجري على يديه ، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده .. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار ، فيما بعد ، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام ))


جازت خدعة قانون الخفاض على بعض المثقفين!!

لقد انخدع بعض المثقفين بقانون الخفاض الفرعوني ، ولم يطالعهم وجهه الآخر .. ولما تزل هذه الخدعة تجوز على كثير من الناس ، بل انها قد جازت على بعضهم بأثر رجعي !! ومن هؤلاء الدكتور سعيد محمد أحمد المهدي ، عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم ، سابقا فقد عبرعن تقويمه لهذا الأمر في مقال له بجريدة الصحافة بتاريخ 30/11/1968 ، وهو يعلق على مهزلة محكمة الردّة .. حيث قال : (( وأذكر أنه قبل عشرين عاما ، بالتمام والكمال ، وأنا طالب في مدرسة رفاعة الأميرية الوسطى بالسنة الأولى ، ان الناس كانوا يتحدثون عن ثورة محمود محمد طه التي سجن من جرائها . ذلك أنه قاد الجماهير الغاضبة من رفاعة الى مركز الحصاحيصا )) .. ويمضي الدكتور سعيد فيقول : (( وهذه الثورة رغم أنها رجعية ، لأنها تؤيد الخفاض الفرعوني الا انها كانت ثورة عارمة ضد الاستعمار .)) هذا ماقاله الدكتور سعيد بعد عشرين عاما من أحداث رفاعة .. ولئن عذرنا عامة المثقفين لالتباس الأمر عليهم ، ولنقص المعلومات التي لديهم عن هذه الواقعة ، فلن نعذر الخاصة من هؤلاء ، بل من يكون منهم على رأس مؤسسة من أكبر المؤسسات القانونية .. ذلك بأنه لايقوم نقص المعلومات ، التي يمكن الحصول عليها ، وتمحيصها ، عذرا أمام هؤلاء في أن يتناولوا واقعة تاريخية ، مثل واقعة قانون الخفاض الفرعوني ، تناولا مجردا من الملابسات المحيطة بها ، فيأتي ، من ثم ، حكمهم عليها ساذجا وسطحيا .. أليس من المؤسف أن يأتي رجل مثقف ثقافة قانونية ، بعد عشرين عاما ، من مناهضة قانون الخفاض الفرعوني ، فيقول أنها ((تؤيد الخفاض الفرعوني)) ولذلك ((فهي ثورة رجعية)) .. ان الثورة كانت ضد ((القانون)) وليست دفاعا عن الخفاض .. ليست ضد القانون في ذاته ، ولكن للملابسات التي تكتنفه .. أرجو أن لايكون ابناؤنا من طلبة الحقوق بجامعة الخرطوم ، يدرسون ، عن هذه السابقة القانونية ، على طريقة الدكتور سعيد !!


المثقفون يتجاوبون مع الجمهوريين

لقد حركت بيانات الجمهوريين وأحداث رفاعة والخرطوم المثقفين سلبيتهم وأخذوا يستشعرون سوء هذا القانون الذي نبه اليه الجمهوريون من أول وهلة . واتخذت استجابة المثقفين شكل التعليق في الصحف .. وفيما يلي نبذه من افتتاحية جريدة الرأي العام وهي تعلق على الأحداث ، وكانت السلطات قد نقضت بواسطة المحكمة حكم السجن على امرأة رفاعة ، لانقاذ مايمكن انقاذه من هيبتها وتهدئة للخواطر الثائرة ، وقد جاء هذا النقض في الوقت الذي كانت فيه امرأة رفاعة خارج السجن في منزلها برفاعة حيث كانت السلطات قد اضطرت تحت ضغط الجماهير الثائرة لاطلاق سراحها .. ((أصبح واجبا لزاما علينا أن ننبه الحكومة ، على ضوء ماحدث أخيرا ، في أول تجربة لتطبيق هذا القانون ، الى الخطر الذي ينجم من التسرع في تطبيقه ، والى النكبه الأجتماعية الخطيرة التي ستتعرض لها المرأة السودانية عند تطبيق هذا القانون عليها .. ففي الحادث الأخير بدأ واضحا أن الطريق التي اتبعت في اعتقال هذه المرأة كانت مثيرة ، ولاتتفق مطلقا مع كرامة الحكم وهيبة القضاء ، فانتزاع المرأة من بيتها ، في غسق الليل ، وبازار النوم ، وتهريبها الى الحصاحيصا ، لامعنى له غير اثارة الخواطر أكثر ولايجدر بالحكومة أن تلجأ الى أساليب هي أشبه بأساليب الاختطاف التي يلجأ اليها رجال العصابات)) .. ((وليست هذه الطريقة التي اتبعت هي موضع الخطر في هذا القانون ، ولكن هناك خطرا جسيما ، ولابد من التنبيه عليه ، ذلك أن المرأة السودانية الشريفة ، الحرة ، لم تتعرض ، حتى الآن ، الى محنة السجن ، بحكم حياتها الاجتماعية ، التي تنأى بها عن مواطن الجريمة ))

((وقانون الخفاض ، بوضعه الحالي ، سيخلق عقابا لجريمة سوف تتعرض لها بالتأكيد كرائم النساء السودانيات اللواتي لايرين ان الخفاض جريمة ، بحكم مايسيطر على عقولهن من سلطان العادات الموروثة ، والتقاليد المتبعة ومعني هذا ، أنه من المحتمل جدا أن يتعرض لسطوة القانون هذا النوع من النساء السودانيات المحصنات .. ويقينا أن القاء هؤلاء في السجن ، بغض النظر عما يثيره في نفوس رجالهن ، وذويهن ، فانه من ناحية النظرة الاجتماعية المحضة ، يقضي على سمعتهن ، وكرامتهن قضاء مبرما .. وما أحسب أن امرأة محصنة توضع في سجن ، من هذه السجون السيئة الوضع ، والرقابة ، تخرج منه وهي محتفظة بسمعتها ، ولن يتقبلها المجتمع السوداني بعدها تقبلا حسنا ، اذن فالعقاب بالسجن ، لمثل هذا النوع من النساء ، لايعد اصلاحا وتهذيبا لنفوسهن ، ولايردع غيرهن ، وهذا هو الغرض من سجن المجرم ، انما يعد افسادا لخلقهن ، وقضاء مبرما على سعادتهن في المجتمع .))

هذا ماقالته الرأي العام عام 1946 .. وفي وقتنا الحاضر يعدّ الأستاذ التجاني عامر ، من المثقفين الذين كان واضحا لديهم البعد الذي نظر به الجمهوريون لمسألة قانون الخفاض ، فالاستاذ التجاني عاصر فجر الحركة الوطنية وهو بذلك شاهد عيان للأحداث ، والمواقف التي نحن بصددها . فلنستمع لتعليقه في جريدة الصحافة ، بتاريخ 16/4/75 وهو يتحدث عن تاريخ الأحزاب السودانية : (( الحزب الجمهوري .. قد يكون هذا الحزب من أقدم الأحزاب السياسية ، بحساب الزمن ، وهو أول حزب صغير يعمل خارج نطاق النفوذ الطائفي باصرار ، بل بمناجزة وصدام واسمه يدل على المنهج الذي انتهجه لمصير السودان … مؤسس الحزب الجمهوري هو الأستاذ محمود محمد طه الذي كان من أبرز الوجوه الوطنية في مستهل حركة النضال )) (( وقد تعرض محمود للسجن الطويل في خصومات ايجابية مع الانجليز منها حادث "الطهارة الفرعونية" في رفاعة ، وهو حدث اجتماعي رفعه محمود الى مستوى المساس بالدين والوطن )) ..


عادة الخفاض لماّ تبطل

وبعد ، فان عادة الخفاض الفرعوني لاتزال تمارس رغم وجود القانون ، ورغم سوء هذه العادة البالغ ، وذلك لسببين أولا : لم تتفق التوعية الكافية للشعب عن قبح هذه العادة ومضارها .. ثانيا : مثل هذه العادة الحساسة المتأصلة ، في مجتمع مثل مجتمعنا ، لايقتلعها القانون وحده ، وماينبغي له أن يقتلعها .. وانما الذي يقتلعها نهائيا هو التربية والتوعية الشعبية..


توقف الى حين

لقد كان حادث رفاعة منعطفا في تاريخ الفكرة الجمهورية ، ولقد تجمد نشاط الجمهوريين ، أو كاد ، بعد سجن الأستاذ لمدة عامين أعقبهما عامان آخران ، فيهما واصل اعتكافه برفاعة ، وقد كانت الأعوام الأربعة ، هي في الحقيقة ، فرصة للعمل الحقيقي ، وهو اعداد الداعية الاعداد الكامل الذي به يكون تمام ملك الفكرة ، وتمام دعوة الآخرين اليها ، وما الاعداد الا صفاء الفكر وسلامة القلب ..


الفكرة الجمهورية في طور جديد

لقد كانت فترة السجن ، والاعتكاف ، تهيؤا لمنطلق أكمل في تاريخ الفكرة الجمهورية .. فلقد خرج الأستاذ محمود من اعتكافه في نوفمبر 1951 ، ومن ثم استأنف الجمهوريون نشاطهم ، وقد بدأ باجتماع عام عقد في 30/11/1951 .. ومنذ ذلك اليوم أخذ يتتابع تفصيل الفكرة ، وتبيينها ، بصورة أبرزت الفهم الجديد للأسلام كمذهبية تحل مشاكل الانسان المعاصر .. قدّم الأستاذ في ذلك الاجتماع بيانا يبرز سمات الفكرة الجمهورية نقتطف منه الآتي :_ ((الحزب الجمهوري ليس حزبا يقوم على التهريج ، كما هي العادة المألوفة لدى الاحزاب التي نراها ، ونسمع عنها ، وانما هو دعوة الى فكرة ، أولا وقبل كل شيء . والجمهوريون قوم ارتضوا هذه الفكرة ، وارتبطوا بها ، وعملوا على تحقيقها .. أن الحكومة نظام اجتماعي تعاقد الناس للدخول فيه ، ليتخذوه وسيلة الى غاية . هذه الغاية هي الحرية الفردية فالحكومة الصالحة هي الحكومة التي تحقق للفرد أكبر قسط من الحرية ، هي الحكومة التي لا تأخذ من حرية الفرد الا القدر الضروري لحفظ حق سائر المجموعة ، وبذلك تصبح الفكرة الاجتماعية الصالحة ، التي تقوم عليها الحكومة الصالحة ، هي الفلسفة التي توفق توفيقا متكافلا بين حق الجماعة في العدل وحق الفرد في الحرية الفردية المطلقة .. ولايمكن أن يتمتع الفرد بالحرية الا اذا تحرر من الجهل ، وللتحرر من الجهل لابد من نظام (يكفل للفرد حاجته من الغذاء الصالح ، والسكن الصالح ، واللباس الصالح .. أي لابد من المساواة الاقتصادية ، ولاتكون المساواة الاقتصادية مؤدية عملها الا اذا كفلت الحرية الجماعية ، أي الديمقراطية والديمقراطية الحقة هي الديمقراطية الشعبية ..)) ولقد مضى الجمهوريون يؤكدون ضرورة الفكر ، والمذهبية ومازالوا ينعون على الحركة الوطنية افتقارها للمذهبية .. فقالوا في بيان نوفمير 1951م : ((فللجهاد الصادق لابد من الاسلام . ولأسلوب الحكم الصالح لابد من الاسلام أيضا .. ولو أن السودانيين دعوا الى الجهاد لأن تكون كلمة الله هي العليا ، لصدقوا الجهاد أولا ، ولنقوا نفوسهم ، وأناروا بصائرهم ، ثانيا ، ولتحقق اذن بذلك غرضان ، في وقت واحد ، أولهما جلاء الدخيل ، وثانيهما تحقيق الحكم الصالح الذي يكون فيه الشعب المستنير رقيبا ، يقظا على قادته وحكامه )) .. ((ولو فرضنا جدلا أن هذا التكتل (الصناعي) الذي تدعو اليه حركتنا الوطنية حول جلاء الاستعمار فحسب ، استطاع أن يخرج الاستعمار لخشينا أن يقودنا الى حرب أهلية مستطيرة ، ويجب أن نفهم جيدا أن القول بالجمعية التأسيسية التي تقرر مصيرنا قول مضلل .. ذلك بأننا نحن منقسمون بين طائفتين كبيرتين بينهما عداء تاريخي ، وليس لأيهما برنامج ايجابي ، وانما برنامج كلتيهما الحرص على أن لا تنتصر الأخرى ، ولايمكن أن يكون في مثل هذه الحالة ، انتخاب حر ، ولاينتظر أن يرضى المهزوم في انتخاب مطعون فيه عن نتيجته ، ولايمكن تبعا لذلك ، أن يكون هناك استقرار ، وانما هي الحرب الأهلية ، والفوضى ، والفساد ، والنكسة .. انه لحق أن حركتنا الوطنية لايمكن أن تحقق طائلا الا اذا جمعت أشتات الفرق ، والطوائف ، والأحزاب أيضا حول الفكرة الخالدة التي جاء بها الاسلام والتي أشرت اليها آنفا ، والتي اجتمع عليها أوائلنا فحققوا العزة ، والحرية ، والعدل .. ولن تجد سودانيا واحدا يتخلف عن دعوة تجمع بين عز الدنيا ، وشرف الآخرة)) ..


حدث ماتوقعناه

لقد خرج الانجليز في عام 1956 ، بناء على اتفاقية القاهرة 1953م التي دفع تنافس دولتي الحكم الثنائي على السودان لتوقيعها .. ولقد كثفت كل منهما نشاطها قبيل انتخابات 1953م التي أريد بها أن تقرر مصير السودان في علاقته بمصر وبريطانيا .. وقد كان نشاط المصريين أظهر في مساندة الاتحاديين ، من نشاط الانجليز في مساندتهم لحزب الأمة .. وجاءت نتيجة الانتخابات لصالح الاتحاديين وتشكلت الحكومة منهم .. ولقد حدث ماتوقعه الجمهوريون من حرب أهلية ، ومن صراع طائفي مزق أوصال الشعب .. فلم يقبل المهزوم نتيجة الانتخابات فكانت حوادث أول مارس المشئومة صبيحة افتتاح البرلمان عام 1954حيث حشد حزب الامة جموع أهل الغرب من الانصار ، وحملوا حرابهم ، ومديهم في مواطنيهم ، ولولا لطف الله لانهار في ذلك اليوم كل جهد بذل ، وكل أمل بقي ، في أن يقف السودان على رجليه .. ولم تمض على فتنة مارس أيام ، حتى اشتعلت نار فتنة الجنوب التي استمرت تستعر 17 عاما ، حتى تم اتفاق مارس 1971 الذي أوقفت بموجبه الحرب الأهلية .. هذا يضاف الى صور الاضطراب والتدهور السياسي ، والاختلال الاقتصادي الذي ظلت حكومات الاحزاب تجر البلاد اليه عاما بعد عام .. أوليست هذه ((هي الحرب الاهلية والفوضى والنكسة)) التي توقعها بيان الجمهوريين؟ بلى انها لكذلك !!


جريدة الجمهورية

كان الجمهوريون ، ولمّا يزالوا يجدون عنتا ، ويلاقون اجحافا من الصحف ، فهي منذ الأربعينات ، وحتى منتصف السبعينات ، لاترحب بكتابات الجمهوريين .. وذلك موقف يؤخذ عليها ، ولايحسب لها ، وهو موقف لاتحسد عليه .. والحق ان صحافتنا ، مذ كانت ، هي صورة لأحزابنا الطائفية ، تعوزها الفكرة ، وتستهويها الكثرة ، وتستخفها .. ولقد صارت للجمهوريين صحيفة باسم ((الجمهورية)) في يناير عام 1954 . ولقد عمرت نحو 6 أشهر بعدها وقفت في وجهها امكانات الطباعة ومتطلباتها المالية .. ولقد كانت (( الجمهورية )) في عمرها الوجيز ذاك ، حافلة ، مليئة بالفكر ، وبالحوار الموضوعي ، وبالنقد البناء للحكومة .. ولقد يحسن أن نثبت هنا افتتاحية العدد الأول من تلك الجريدة فهي ، وحدها ، تعطي انطباعا كافيا عن مسارها الذي درجت عليه .. .. ((الجمعة 15/1/ 1954 - كلمة الجمهورية تحية وعهد .. أيها القاريء الكريم ، تحية .. أما بعد ، فهذه صحيفة الجمهوريين يقدمها لك فتية آمنوا بربهم فهجم بهم الايمان على صريح القصد ، فهم يقولون مايريدون بأوجز أداء ، ويعنون مايقولون ، من الألف الى الياء .. والجمهورية تطمع في أن تخلق تقليدا جديدا في الصحافة ، في معنى مايخلق الجمهوريون من تقليد جديد في السياسة .. فالجمهوريون حزب سياسي ، ولكنهم لايفهمون السياسة على أنها اللف والدوران ، وانما يفهمونها على انها تدبير أمر الناس بالحق وبميزان .. وللجمهورية في الصحافة رأي وهو أنها يجب أن تعين على العلم ، لا أن تماليء على الجهل ، يجب أن تسير أمام الشعب ، لا أن تسير في زمرته ، تتسقط رضاه ، وتجري على هواه وتقدم له من ألوان القول مايلذه ولايؤذيه .. وقد تعرض الجمهوريون في نهجهم السياسي للكثير من العنف والأذى ، من جراء مضائهم فيما يرونه الحق ، والعدل .. فهل تتعرض الجمهورية لشيء من الكساد ، من جراء ماستجافي من التقليد التجاري بتقديم ما يقدم في سوق النفاق ؟ ان هذا لايعنينا بقدر ما يعنينا أن نستقيم على الحق فقد أنفقنا عمرنا نبحث عنه ، ولانزال ، فان وجدناه فانا سنلقاك به صريحا غير مشوب بتلطيف ، وسيكون عليك أنت أن تختار لنفسك بين وجه الحق ووجه الباطل.))


الجمهوريون ووحدة وادي النيل

لقد اختلفت نظرة الجمهوريين للعلاقات بين السودان ومصر عن نظرة الاتحاديين ، كما اختلفت عن نظرة حزب الأمة .. فقد طلبوا للسودان الاستقلال من غير عداء لمصر ، أو غفلة عن المطامع التاريخية لساستها في السودان .. وهذه فقرات من بيان بهذا الشأن : الرأي العام 14/11/1946 .. ((العلاقات التي تربط بين مصر والسودان علاقات وثيقة ، وهي انما كانت كذلك ، لأنها طبيعية ، ولن يكون في مصلحة أي من القطرين أن تضعف هذه العلاقات على وجه من الوجوه )) ((ان الحزب الجمهوري ليؤمن بالسودان ايمانا لاحد له ، وانه ليريد له استقلالا شاملا ، كاملا ، من ربقة الاستعمار ، وأنه لينكر ، أشد الانكار ، زعم الذين يزعمون ، هنا وهناك ، أن الدعوة الى الاستقلال تبينت أمرا للعلاقات التي تربط بين مصر والسودان – فالدعوة الى الاستقلال حق طبيعي من حقوق هذه البلاد ، وهي ينبغي أن تسر مصر ، لا أن تسوءها ، وينبغي أن تساعدها مصر بكل سبيل ، لا أن تقعد لها بكل سبيل .. فلأن يكون السودان حرا ، مستقلا ، قويا ، أفضل لمصر وأعود بالخير على تلك العلاقات من أن يكون مستعمرا ، مستعبدا ، ضعيفا )) .. هكذا !! لا افراط ، ولاتفريط ، كان ، ولايزال ، موقف الجمهوريين ..


الحركه الوطنية مرة ثانية

في هذه الخاتمة القصيرة ، نحب أيضا أن نشير الى ماسبق أن وكدناه ، في مقدمة هذا الكتاب ، من أن الجمهوريين قد كانوا يعيبون على ((الحركة الوطنية)) تقصيرها عن المستوى الذي يليق بالسودان ، وبشعب السودان ، من مضاء ، وكفاءة ، واحكام لخطى السير ، وبصر بالنتائج .. ولكن هذا لم ينس الجمهوريين فضائل الحركة الوطنية واسهام رجالها في الوصول بالبلاد الى الاستقلال .. ولكن الجمهوريين ساءهم رؤية التقصير مع امكان التمام ، والكمال .. ولما فعلت الحركة الوطنية مافعلت ، ولم تنتهج نهج الجمهوريين ، من توجه الى الشعب ، وايقاظ له ، وامتلاك لمذهبية الاسلام ، وقعت في كثير من السلبيات التي عانى من نتائجها السودان بعد الاستقلال ..

راجع هذه الكتب للأستاذ محمود محمد طه

  1. - السفر الأول
  2. - قل هذه سبيلي
  3. - اسس دستور السودان
  4. - الرسالة الثانية من الاسلام
  5. - رسالة الصلاة
  6. - الدستور الاسلامي نعم، لا
  7. - الديباجة
  • جميع هذه الكتب وغيرها موجودة بموقع الفكرة الجمهورية على الانترنت [www.alfikra.org]

مراجع ومصادر

  1. -موقع الفكرة الجمهورية [www.alfikra.org]
  2. - كتاب معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية