الفخري في الآداب السلطانية والممالك الإسلامية
ففي سنة إحدى وسبعمئة سافر ابن الطقطقي إلى الموصل قاصداً واليها فخر الدين عيسى بن ابراهيم بن هبة الله النصراني من قبل السلطان غازان محمود، إيلخان (سلطان) بلاد فارس، فحجزه الثلج الكثيف ولم يستطع مغادرتها، فألّف كتابه الذي اشتهر به «الفخري في الآداب السلطانية والممالك الإسلامية» وقدمه إلى والي الموصل، وسماه (الفخري) نسبة إلى لقبه، وتنقل بين حواضر العراق وبلاد فارس إلى أن توفي.
ويظهر من مقدمة (خطبة) كتابه أنه صاحب ثقافة كبيرة، ملمٌ بعلوم مختلفة، يهتم باقتناء الكتب و مطالعتها، ويعلي شأن العلم والعقل، ويحفظ الكثير من أقوال الحكماء وشعر الشعراء، وله باع كبير في التاريخ، يعرف دقائقه وقواعده، فجاء كتابه مرتبا مهذبا، اتسمت معالجته لمسائله بالموضوعية. لايمنعه هوى من إيراد الحقيقة، ولايقف معتقده حائلاً بينه و بين إنصاف خصوم أهل بيته، وإن اهتم بالشيعة وحركاتهم، وأشاد بدولة المغول التي يعيش في ظلها.
أبدى ابن الطقطقي إحاطة بشؤون الملك وسياسة الدول وعلاقة الحاكم بالرعية، مستفيدا من أقوال السابقين في هذا الباب، ومن ملاحظة طرائق الحكام من حوله في الحكم ومن علاقته بهم، فعرض آداب الحكم وأسسه، وحقوق الرعية على الحاكم وحقوق الحاكم على الرعية، فأتى بآراء قيمة في نشوء الملك و استمراره، وفي الاجتماع الإنساني، أوردها إيراداً أدبياً، وقد جاءت بعد ذلك عند ابن خلدون مرتبة مقسمة وفق قواعد محددة ونتائج واضحة.
قسم ابن الطقطقي كتابه قسمين، قصر الأول على الأمور السلطانية والسياسات الملكية، أوضح فيه حقيقة الملك وخواصه وأقسامه، وصفات الحاكم وأخلاقه، وذكر آراء العلماء فيما يوافق الشريعة منه و ما لايوافقها، و ما يستحب في الحكم وما يستقبح. وتناول في القسم الثاني تاريخ الدول الإسلامية منذ دولة الخلفاء الراشدين إلى أيامه، ذاكراً الخلفاء و الملوك و الوزراء بالترتيب الزمني، ومستطرداً إلى بعض الظواهر الاجتماعية في كل دولة، مورداً بعض الحكايات المشهورة، ومستشهدا بالشعر والأقوال، فأبعد الكتاب عن جفاف الحديث العلمي وملل السرد التاريخي، واقترب به من حديث الأدب المحبب، مع الحفاظ على صحة السرد وتحري الحق في تدوين التاريخ وتفسير الأحداث ما أمكن.
وقد جمع ابن الطقطقي عدة الكتابة، وأوتي موهبة الإنشاء، وحاز صفات الأديب الذي يلم من كل علم بطرف، فجاء أسلوبه في كتابه واضحاً، فيه القوة والدقة، يذكرنا بأعلام الكتاب القدامى كـالجاحظ، يقسم العبارات ويوازن بينها مع شيء يسير من السجع بغير تكلف، ويسترسل ببراعة من غير توقف أو تلكؤ في التعبير عن معانيه، مكثراً من الاقتباس القرآني، ومضمنا الحديث الشريف والأمثال والأقوال والشعر، فجمع أصالة التفكير العلمي إلى جمال التعبير الأدبي.
لاقى هذا الكتاب اهتماماً كبيراً منذ إخراجه إلى الناس، وترجم إلى الفارسية والفرنسية، وأصل اسم الكتاب « ُمنية الفضلاء في تواريخ الخلفاء والوزراء» واشتهر باسم «التاريخ الفخري». ويبدو أن لابن الطقطقي مؤلفات أخرى لم تصل، وقد نقل صاحب فوات الوفيات ترجمةً عن أحدها.