العلاقة بين الشدياق ورزق الله حسون
العلاقة بين أحمد فارس الشدياق ورزق الله حسون
تشير العلاقة بين رزق الله حسون والشدياق الى اهتمام الباحثين في تاريخ النهضة العربية، لأنها تشكل جانبا بارزا من جوانب الفكر الاجتماعي – السياسي.
كان رزق الله حسون قد ترقى سنة 1861 الى رئيس نظارة جمارك الدخان، وفي العام التالي رافق الصدر الأعظم فؤاد باشا الى لندن بعد أن جاءها معتمدا عثمانيا في معرضها الدولي عام 1862. وبعد وقت قليل من عودته الى الأستانة اعتقل ورمي به في السجن. كانت التهمة التي وجهتها نظارة الضبطية الى حسون استيلاءه على أموال الجمارك ترمى الى تمويه الرأي العام واخفاء الدافع السياسي الكامن وراء تسوية الحساب وهو: "خطورة" الرائد حسون الأرمني المحتد من الناحيتين السياسية والاجتماعية. وتؤكد مراجع الاستشراق الفرضية القائلة بحصول الشرطة التركية على "بينة مباشرة" تمكنها من تصفية حسابها مع حسون وهي: كتاب وشاية موقع من قبل الشدياق شخصيا. واذن، فالدشياق الراغب في أن يكون الانسان الوحيد المتمتع برعاية ووصاية الدولة العثمانية والطامع في كرمها وسخائها – جعل مهمة تصفية الحساب مع منافسه المسيحي الأكبر في المديان الأدبي – السياسي – الصحافي رزق الله حسون هدفا رئيسا لحياته. وفوق ذلك بكثير: ليس سرا أن حسون المدافع عن اتجاه استقلال العرب عامة، والمسيحيين العرب خاصة، كان محروما من امكانية التصدي علنا للشدياق في الصحافة الصفراء الموالية للسلطان والمتعصبة للاسلام. كان مضطرا لان يكتب بخط يده مناشير تنتقد بسخرية لاذعة الشدياق ويوزعها على الأوساط العربية من الأستانة وغيرها. ومن المثير حقا الاشارة الى أن حسون كان وظل حتى الرمق الأخير من حياته يوجه للشدياق تهمة الخنوع والاذعان للسلطان التركي وخدمته خدمة ذليلة كانت تحط من قدر وكرامة العرب وأهدافهم القومية السامية، في حين اتهم الشدياق حسون بخيانة الدولة العثمانية والأتراك وخدمة الأجانب.
واغتنم الشدياق الفرصة السانحة لتوجيه ضربة قاضية الى حسون. كان الأديب الحلبي الأرمني قد نشر عام 1859 كراسا بعنوان "حسر اللثام عن الإسلام" وجه فيه نقدا مرا للرجعية الدينية المتزمتة، الأمر الذي يوجب على صاحبه الموت شنقا بموجب قوانين الدولة العثمانية. كان الكراس الغفل متداولا في السر بين أبناء الطوائف المسيحية ، فوقع سنة 1861 بيد الشدياق الذي سارع للوشاية برزق الله حسون الذي اعتقل على الفور.
ينبغي القول ان وشاية الشدياق كانت بمثابة دليل ملموس على خطورة حسون لدى السلطات التركية . ومن المعروف أيضا أن حسون كان يثير مخاوف أرباب السلطة بسبب اتصالاته الوثيقة مع دعاة اصلاح الدولة التركية – على حد قول كراتشكوفسكي. ويجب ألا يغرب عن البال أن الأصل الأرمني لحسون كان ذائعا مشهورا، وأنه لم يكن أنئذ يخفي قناعته ومبادئه التي عبر عنها في أكثر من مجال لم ينحصر بالحصافة، والتي تجلت أساسا في أن يقظة العرب الثقافية ونهوضهم في شتى الميادين الأخرى ممكن في حالة واحدة لا مناص عنها وهي: خروجهم من نظام الحكم التركي ، وبما أن فكرة الاستقلال الكامل لم تكن قد نضجت بعد في فكر حسون، لذا كان يوجه فطريا أنظار العرب نحو الدول الأوربية، فأوصى بتحويل سورية الطبيعية الى محمية تابعة لروسية في المقام الأول.
ومما يؤسف له أن مصادر التاريخ والأدبيات التاريخية التي أرخت لمسيرة وأعمال رزق الله حسون لاذت بالصمت المطبق ازاء مسألة خلاص المنور العربي الأرمني من براثن الأتراك ، وعن تفاصيل لجوئه الى روسية؟ ونحن أيضا محرومون من امكانية تحديد الطريق الذي سلكه حسون الى روسية غير أن واحدة من قصائده تخبرنا بأنه بعد وصوله الى مدينة باطومي على البحر الأسود لم يتحرك فورا تجاه الشمال، بل سافر الى تفليس عاصمة جورجية. ومن غير المعروف حتى اليوم ما اذا كان حسون قد زار وطن اجداده أرمنية أم لا، ولكن من المجلي أنه في طريقه الى عاصمة القياصرة بطرسبورغ، عرج على مدينة موسكو التي احتوت يومئذ جالية أرمنية كبيرة. وعن هذا الموضوع كتب الأديب كريمسكي ما يلي: "من الجائز أن يكون حسون قد زار الشارع الأرمني، والكنيسة الأرمنية، ومعهد اللعازاريين للغات الشرقية المعروف لدى كل الأرمن، حيث كان الأرمن من جميع أطراف المعمورة يتلقون فيه العلوم ، ومن بينهم شبان أرمن من مدينة حلب نالوا منحا دراسية فيه".
ليست هناك معلومات موثوقة تؤهلنا لتعريف القارئ بالنشاط الذي اضطلع به الكاتب المغترب في بطرسبورغ، ومن المعروف عنه أنه عمل في نسخ عدة مخطوطات من الأدب العربي القديمة المحفوظة في الدائرة الشرقية للمتحف الآسيوي. ولكن ثمة مسألة تدعو للتساءل: هل قصد حسون عاصمة القياصرة للعمل في نسخ المخطوطات؟ ففي المكتبة العامة تجد ورقة كبيرة مكتوبة بخط يده الجميل، وبأحرف متناهية في الدقة وهي عبارة عن نصوص من الأناجيل المقدسة، فهل يا ترى قطع حسون هذه المسافات الطويلة للوصول الى أبواب القيصر ألكسندر الثاني ولا هدف له سوى اثارة اعجاب الناس بخطه الجميل؟!
ولكي تأتي الاجابة عن هذه التساؤلات وأمثالها أكثر دقة، ترانا ميالين للأخذ بالملاحظات التي أبداها المستشرق الكبير كراتشكوفسكي في هذا الموضوع، وهي: أن قلة قليلة من المغتربين العرب كانوا يميلون للذهاب الى روسية، اما بهدف التجارة فيأتون أوديسة، واما بدافع ديني – مذهبي يتلخص في تلقي العلوم في المدارس الروسية الأرثوذكسية. وحسون لم يكن لا تاجرا، ولا مؤيدا للمذهب الروسي الأرثوذكسي، بل هو من الأرمن الكاثوليك، أما اللاجئون السياسيون من العرب فكانوا يتوجهون الى أوربة الغربية، ولاسيما الى فرنسة وانكلترة. وهكذا، ظهرت روسية على خريطة اللاجئين السياسيين العرب الفارني من الارهاب التركي بفضل الرحلة التي قام بها حسون اليها.
ونحن نعتقد ان كراتسكوفيكي أجهد نفسه كثيرا لتفهم "الدوافع التي حدت بحسون للتوجه صوب روسية" . فالدوافع عسيرة على الفهم، اذ من المحتمل جدا أن الدوائر الدبلوماسية المقربة من أسرة حسون هي التي رسمت خطة الفرار، ولاسيما أن بطريرك الأرمن الكاثوليك في الأستانة، أي عم رزق الله حسون ، كانت له ارتباطات واسعة بروسية وله الكثير من المعارف المخلصين في داخلها، وهناك سبب آخر لا يقل أهمية وهو أن حسون الذي كان يعرب في كل شاردة وواردة عن حبه وولائه لروسية، كان في مركز اهتمام الدوائر الحكومية الروسية، خصوصا أنهم كانوا يأخذون بالحسبان أصله الأرمني، وارمينية الشرقية كما نعلم تابعة لروسية القيصرية عصرئذ. ويجب علينا ألا ننسى اطلاقا أن حسون نفسه لم ينقطع عن الأرمن أبدا، وأنه اعتبر بلاد الأرمن موطن أجداده، وأنه بوصفه واحدا من أبناء الشعب الأرمني الذين اشتهروا بمعارفهم الموسوعية، كان يدرك حق الادراك الآثار الايجابية التي نجمت عن انضمام أرمينية الشرقية الى روسية، ولعل أهمها خلاص شطر من الشعب الأرمني من مظالم الأتراك ومذابحهم.
واذن، فالأرمني أسطفان تزادور حسونيان (يعني حرفيا: رزق الله حسونيان) الذي اشتهر بين العرب باسم رزق الله حسون، اختار التوجه صوب روسية بحثا عن حل للقدر التاريخي الذي عانا العرب، ونعني به مصير وقوعهم تحت السيطرة التركية، كان حسون على معرفة تامة بأن العمليات الحربية التي قام بها الأسطول الروسي على الشواطئ السورية قبل قرن من الزمان، قد مهدت لتحرير قسم من العرب من النير التركي البغيض – ولو لفترة قصيرة نسبيا – وأن يوسف الشهابي كبير الأمراء في جبل لبنان توجه يومئذ الى رجال الأرمن للتوسط لدى روسية بقبوله وشعبه تحت الحماية الروسية. ومن الطريف أن حسون دون ببراعة على هامش المخطوط المكرس للأناجيل الأربعة اسم القيصر "ألكسندر نقولايفيتش" وعلق في الحاشية باللغتين الروسية والعربية بهاذ الكلام: "رباه، امنح ألكسندر ملك هذا الزمان القوة والعنفوان كي يحقق ما قاله الإسكندر المقدوني لملك الفرنس داريوس في غابر العصر والأوان: "وكما لا تشع شمسان في قبة السماء، كذلك لا يملك في آسيا ملكان". ومن الجلي أن حسون كان يعراض بذلك كل الداعين لوضع آسية برمتها تحت أمرة السلطان التركي وفي مقدمة هؤلاء الشدياق الذي بشر بالوحدة الإسلامية ، بينما كان حسون يصبو لرؤية القارة الآسيوية بكاملها تحت سيطرة القيصر الروسي.
وسافر حسون من روسية الى فرنسة عام 1867، حيث كانت له لقاءات مع أوساط العثمانيين الجدد وغيرهم من المهاجرين والمغتربين الذين اختارو باريس مقرا لهم. ثم انتقل إلى إنكلترة واتخذ معظم سكناه فيها، ولاسيما قرية وندسورث. وقد شاعت أخبار في الأوساط العربية أنه جاء الى مسقط رأسه (حلب) متنكرا سنة 1873 فتفقد مكتباتها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة.
لقد تفرغ حسون في إنكلترة لوضع كتبه وطبعها وللنشاط الأدبي والصحافي. كان في البداية يستنسخ بخطه الجميل الدوريات والمناشير ثم يطبعها على الحجر ويوزعها. وقد اخترع الحروف وحفرها بأنواع الخطوط المختلفة التي تفوق بها وجهز بها مطبعته المعروفة باسم "آل مسام".
وفي العام 1868 نشر مجلة عربية اسمها "رجون وغساق الى فارس الشدياق" نشر منها عددين في لندن: الأول في 4 آيار (مايو) 1868 في 14 صفحة صغيرة، والثاني في 5 آيار (مايو) وذلك ردا على أحمد فارس الشدياق اثر ما حدث بينهما من خصام شديد، فضلا عن أنها كانت تعبر تعبيرا صادقا عن الروح الوطنية السامية المتجسدة لدى الكثيرين من أدباء العصر الذين اضطروا للرحيل عن موطنهم، وتعكس مدى الاهتمام الذي كان يبديه حسون اذاء مصير أبناء العرب.
وفي سنة 1872 أصدر حسون جريدة سياسية أسبوعية مطبوعة عنوانها "آل سام" عمرت فترة قصيرة ايضا. كان قصده الأساسي يتركز في التقبيح بدولة الأتراك، اذ كان يقدح قدحا مريعا بالأتراك ودولتهم، فضلا عن تشويق الشرقيين الى محبة روسية التي كان يتمنى لها الاستيلاء على القسطنطينية.
وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1876 نشر جريدة أسبوعية سياسية أخلاقية سماها "مرآة الأحوال" فكانت أية في الظرف وبلاغة الانشاء وجودة الكتابة. وطبعت على الحجر بخط صاحبها رزق الله حسون. وكان هدفه من اصدار هذه الجريدة يتوقف على عدة أمور أهما: تحرير العرب من ريقة الحكم التركي، والدعوة الى يقظة العرب ونهضتهم القومية الحضارية والتجوه نحو روسية، وتوجيه النقد اللاذع للشدياق وغيره من رجالات النهضة. كان حسون يظهر قدراته الفائقة وابداعه العظيم كمناظر وهجاء ونقاد، فكان يندد بالآخرين المحسوبين على النهضة ويعارضهم بأفكاره الداعية الى تحرير العرب، كل العرب مسلمين ونصارى – من نير الحكم التركي، والى أن الدول الأوربية، وفي طليعتها روسية ستقهر الدولة العثمانية، وستمن بالتالي على العرب – حتى لو كانوا تحت حمايتها – بالحرية، وستمهد الطريق أمام نهضتهم الثقافية والقومية.
وكما جرت العادة في ذلك العهد، كان حسون في كل ما أصدره من جرائد ناشرا ومحررا ومضدا ومصححا وطابعا وموزعا. لكن كان لديه عدة مساعدين أيام نشره لجريدة "مرآة الأحوال" من مريديه ومواطينه، أمثال: جبرائيل الدلال وعبد الله مراش ولويس صابونجي وغيرهم. كانت الجريدة تصدر بأعداد كبيرة قياسا الى ذلك العصر (كان يباع منها في لندن وحدها 450 نسخة). حقا ان الناطقين بالضاد من العرب والأتراك الملمين بالعربية كانوا قلة في لندن، ولكن يبدو أن الجريدة كانت تتسرب الى المشرق العربي رغم مضايقات السلطات التركية.
كان الانتصار الذي حققه السلاح الروسي خلال الحرب الروسية – التركية (1877-1878) قد أنعش الآمال لدى حسون، الذي كان في ضائقة مالية أضطرته لتعطيل "مرآة الأحوال" ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة 1879 كانت تصدر كل خمسة عشر يوما، عنوانا "حل المسألتين الشرقية والمصرية"، وهي أول مجلة عربية شعرية كانت تنشر قصائد تبحث في سياسة مصر خصوصا، والشرق الأدنى عموما بالاضافة الى المسألة الأرمنية. فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، اتفق المؤرخون المهتمون بالصحافة العربية أنها كانت تحتوي على قصائد مشحونة بالهجو الفظيع في حق رجال الحكومة العثمانية ولاسيما مختار باشا الغازي الذي انهزم أمام الجيوش الروسية في قارص. وفي قصيده له يهجو الغازي – الفار مختار باشا مطلعها:
هل أتاكم بأن مختار غازي أصبح اليوم وهو مختار باشا
بات مثل البرغوث أو مقلة مف روكة قصعت بلحية باشا
ويقول بمناسبة النصر في قارص: "كم مرة حارب الروس الأتراك فهزموهم وسحقوهم، وهي هي ذي راية الروس ترفرف خفاقة فوق مدينة قارص. وأصبح الأتراك في خبر كان، هذه هي نهاية كل مستبد جائر، فهو دائما الى زوال، أما كان خيرا لهم لو أنهم عاملونا بالاحسان والعدل والانصاف؟
في سنة 1880 انقطع حبل حياة رزق الله حسون الكاتب الذائع الصيت والصحافي اللامع الذي طبقت شهرته الآفاق. وقد شاعت في الأوساط العربية رواية مفادها أن السلطان عبد الحميد – مدبر ألوف الاغتيالات – قد أمر بتسميم حسون، لأنه كان يوجه له ولرجال دولته نقدا مرا لاذعا أنزلهم دركات الجحيم، وذلك عبر صحافته وكتاباته التي لعبت دورا مهما في نهضة الآداب العربية وايقاظ الوعي القومي عند العرب. ورغم أن كراتشكوفسكي كتب مرة يقول: "على أن هذه الرواية لا أساس لها من الموثوقية"، لكنه استدرك فيما بعد ليشير في أكثر من مناسبة الى "أن حسون الذي حارب الحكومة التركية دون هوادة وافته المنية في لندن، ويبدو أن واحدا من عملاء السلطان التركي وجواسيسه قد دس له السم خفية". أما كريمسكي فكتب يقول: "ليست هناك أدلة ثابتة لهذه التهمة، ولكن عملا كهذا – والحق يقال – يتوافق تماما وجوهر سياسة السلطان عبد الحميد". وكانت جريدة "صوت الشعب" (الأرمنية الصادرة بتاريخ 27/10/1944 قد استشهدت بكلام المؤرخ اللبناني الشهير يوسف ابراهيم يزبك الذي "اتهم مدحت باشا بتسميم حسون" ، ولكنه قال أيضا أن المؤرخ عيسى المعلوف المقرب من رزق الله لم يدعم هذا الرأي).
من الصعب جدا رسم صورة كاملة عن أعمال رزق الله حسون ونشاطه، فبعض آثاره مطبوعة لم تصل الينا آية نسخة منها، وبعضها الآخر لا يزال مخطوطا محفوظا في المكتبات والأرشيفات والمتاحف. وسيزول عجب القارئ حين يعلم أن جواسيس السلطان وعملاءه كانوا يحصون أنفاس رزق الله في حياته ويراقبون كل تحركاته وأنشطته، وكانوا يسهرون بعد وفاته على منع ذكر اسمه في اي من الكتب التي أرخت للأدب العربي. وبالفعل لم يكن اسمه واردا اطلاقا قبل القضاء على حكم الأتراك، ولاتزال مقالاته المنشورة في حياته غير معروفة بالكامل ، فضلا عن أن مجموعات الجرائد والمجلات التي أصدرها غير موجودة، وأخيرا، فان الكثير من كتاباته المخطوطة لا تزال موزعة في حوزة أفراد كثيرين.
فكتاب "حسر اللثان" مثلا لم يصلنا وليست هناك معلومات موثوقة عنه. فقد درست آثار النسخ المخطوطة التي كانت بحوزة المسيحيين العرب في مطلع القرن الحالي. ويذكر كراتشكوفسكي أن السوري ميشال مرقص ، مدرس اللغة العربية في جامعة موسكو، كان قد أحضر معه نسخة الى روسية ورغب في ترجمة "حسر اللثان" الى الروسية ونشرها، ولكنه لم يوفق في تحقيق مشروعه. ومن الجائز أن تكون تلك النسخة قد انتقلت سنة 1852 الى السوري إلياس نوفل مدرس اللغة العربية والفقه الإسلامي في الدائرة العلمية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، الذي استفاد من "حسر اللثام" كثيرا خلال تحضير كتاب بعنوان "محمد" الذي أصدره بالفرنسية سنة 1888 في بطرسبورغ، بيد أن السفارة التركية أمرت بجمع نسخ الكتاب واتلافها، فلم يبق منها سوى واحدة في المتحف الأسيوي، اختفت أيضا بعد عام 1894. ونشير في هذا السياق أن مؤرخا مجهولا كان قد نشر سنة 1895 كتابا سماه "حسر اللثان عن نكبات الشام" مؤلفا من 284 صفحة . ان تطابق عنوان الكتاب وموضوعه مع ما ألفه رزق الله حسون، ونعني تكريسه لتاريخ الحرب الأهلية المعروفة بحوادث سنة 1860، حين كان حسون أمين سر اللجنة المهتمة بالتحقيق في الحوادث – كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن اخفاء اسم الكتاب والمطبعة التي نشرته لم يكن مصادفة محضة أبدا، ولاسيما انه من المعقول جدا أن يكون حسون مؤلف ذلك الكتاب، ولكن هل شكل "حسر اللثام عن نكبات الشام" يا ترى جزءا من هذا الكتاب؟ ومما يؤسف له حقا أن التفتيش في سائر المكتبات العربية لم يسفر عن نتائج ايجابية للحصول ولو على نسخة واحدة من الكتاب المذكور.
ولم تصلنا أيضا الرسالة التي كتبها بعنوان "قول من رزق الله حسون يبرئ نفسه من الغلول"، أي من التهمة الباطلة التي وجهت اليه بشأن استغلال مال الجمارك، اذ يوجه انتقادا فاضحا لموظفي الحكومة التركية. ولم تزل المكتبات خالية من بعض أعماله التي وصلتنا أسماؤها نقلا عن مصادر التاريخ ولم نرها نحو: "نشيد الأناشيد" و"مراثي أرمينية" وغيرها.
وأخيرا، كتاب "النفثات" الذي قدمه شخصيا في دمشق الى الأمير عبد القادر الجزائري، كان يحتوي على طرف كثيرة وابتكارات عديدة، نشير الى واحدة منها، فالصفحات الأخيرة من الكتاب (80-83) احتوت على قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق مستخدما السورة 22 من القرآن ، التي رتب حسون أحرف آياتها السبع الأولى ترتيبا ألف منه جملة سخر وتهكم بها من الشدياق، فما كان من الأخير أيضا ألا أن تهكم من حسون حين قال عبارته الشهيرة: "كان حسون لصا وله سرقات، فأصبح صلا، وله النفثات". وقد أخطأ كراتشكوفسكي فقد فهمها بمعناها الحرفي "نفثت الحية السم"، والأولى بنا أن نفهمها بمعنى "انفجار وثوران" الذي يتناسب وطبع وأسلوب رزق الله حسون الثائر كالبركان المتفجر.
قد يدبو للنظرة الأولى ان كتاب "النفثات" الذي أصدره حسون في لندن قبل الشروع بنشر جرائده وضمنه صحفتين عرض فيهما بداعية الوحدة الاسلامية الشيخ أحمد فارس الشدياق، وقصائد مدح فيها البطل العربي عبد القادر الجزائري الذي قارع الاستعمار الفرنسي، علاوة على قصيدتين مكرستين لاعتلاء السلطان عبد العزيز العرش، والتماسين قدمهما للسلطان من غياهب السجن – قد يبدو ذلك بمثابة تراجع فكري أظهره حسون يومئذ بغية تمهيد طريق العودة إلى أسطنبول. ان ادراكه لعدم جدوى فعالياته ومردودين نشاطه السياسي – الاجتماعي بعيدا عن وطنه وشعبه، والشوق والحنين لأسرته التي تركها أسيرة في الأستانة ولاسيما الى قرينته وابنه الوحيد ألبير حسون، والآثار التي تركته في نفسه لقاءاته مع الرجال الأحرار العرب والأتراك دعاة الاصلاح في باريس وغيرها من الاعتبارات والعوامل التي قد تكون دفعته للتفكير بالعودة الى اسطنبول ولو مؤقتا. ولكن هذه الهواجش التي اعتملت في صدره أقل شأنا من الأهداف السياسية والاجتماعية التي وضعها نصب عينيه حين قام بتعريب قصص كريلوف عن الروسية. فوضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة، ولافونتين في خرافاته، ولقمان في حكاياته، وما شاكل. وهل كان حسون الا واحدا من كبار أحرار العرب حين نظم قصائد مكرسة لروسية، قارن فيها بين السلطان التركي الذي يستعبد الشعوب ويدمر المدن العامرة في الشرق، وبين بلاد القياصرة التي بلغت – كما يقول – حد الكمال، حيث يعيش الناس في أمان واطمئنان بعيدا عن الظلم والطغيان، فلا يعرفون شيئا عن فساد الحكم والأمراء الا من الحكايات؟
ويزداد حسون تألقا ولمعانا في كتاب "المشعرات" الذي صدر في سان باولو بعد وفاته (1901) والذي تضمن – وفقا لأخبار الصحافة العربية – أشعارا مختلفة وخمس مسرحيات ، الاشعار مكرسة أساسا لذكرى الأحداث الأليمة التي وقعت في بلاد الشام ولبنان سنة 1860 وهي دعوة صريحة للثورة على حكم الأرتاك، وقصائد تكفير واتهام للشدياق، وتجريم لليهود الذين ساهموا مع الأتراك في تدبير وتنظيم مذابح الشام، ومدائح للنصر المؤزر الذي احرزه السلاح الروسي على الأتراك في معركة قارص وغيرها.
الى هذا كله يجب التذكير بأن رزق الله حسون كان قد ساعد كثيرا من المستشرقين في دراساتهم وأبحاثهم وفي اكتشاف وتحقيق ونشر عدة كتب من تاريخ الأدب العربي القديم (ديوان الأخطل وديوان ذي الرمة، ونقائص جرير والفرزدق وغيرها)، وقد أعد بنفسه للطبع ديوان حاتم الطائي ونشره في لندن سنة 1872.
ورزق الله حسون له مكانته البارزة والمميزة في تاريخ الفكر العربي السياسي – الاجتماعي. وقد أصاب كراتشكوفسكي الهدف حين عده "واحدا من أعظم رواد النهضة الأدبية القومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". وكصحافي حر طويل الباع كان له أثر جليل في صياغة الفكر السياسي العربي الليبرالي وترويجه واشاعته داخل حركة النهضة، رغم أن الصحافة في المشرق العربي كانت تنمو بوتائر سريعة من حيث الكم والكيف، ورغم أن التحولات الاجتماعية – السياسية والتغيرات الفكرية – الثقافية، وتفجر حركة التنوير العربي أصبحت في حكم الواقع الذي لا مرد له.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .