الحياة في آشور

لم تكن الحياة الاقتصادية عند الآشوريين تختلف كثيرا عنها عند البابليين؛ وذلك لأن هؤلاء وأولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال إلا أبناء الشمال وأبناء الجنوب من حضارة واحدة. وأهم ما كان بين البلدين من فروق أن المملكة الجنوبية كانت أكثر اشتغالا بالتجارة على حين أن الشمالية كانت أكثر اشتغالا بالزراعة؛ فكان أثرياء البابليين تجارا في الغالب، أما أثرياء الآشوريين فكانوا عادة من كبار الملاك، يشرفون بأنفسهم على ضياعهم الواسعة، ويزدرون ازدراء الرومان من بعدهم أولئك الذين كانوا يكسبون المال بشراء البضائع رخيصة وبيعها غالية(33). بيد أن النهرين نفسهما كانا يفيضان على أرض المملكتين ويغذيانها، ونظام الجسور والقنوات بعينه كان يسيطر فيهما على ما زاد من مياه النهرين، والشواديف ذاتها كانت ترفع المياه من المجاري المنخفضة لتروي الحقول التي تزرع نفس القمح والشعير والذرة الرفيعة والسمسم . وكانت الصناعات التي تعتمد عليها حياة أهل المدن واحدة؛ وكان للمملكتين نظام واحد للموازين والمكاييل والمقاييس تتبادل بمقتضاه البضائع. وامتلأت نينوى وغيرها من الحواضر بالحِرَف والصناعات بفضل ما جلبه لها ملوكها من ثراء عظيم، وإن كان موقع هذه المدن في الطرف الشمالي من هذا الإقليم قد حال بينها وبين أن تكون مراكز تجارية كبرى. وكانت المعادن تستخرج من أرض البلاد أو تستورد بكثرة من خارجها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصناعة والتجارة

وفي عام 700 ق.م أو حواليه أصبح الحديد بدل البرنز المعدن الأساسي في الصناعة والتسليح(35). وكانت المعادن تصهر، والزجاج يصنع، والمنسوجات تصبغ ، والخزف يطلى؛ وكانت البيوت في نينوى تجهز وتؤثث كما كانت تجهز وتؤثث في أوربا قبل الانقلاب الصناعي(36). وأنشئ في عهد سنحريب مجرى مائي فوق قناطر ينقل الماء إلى نينوى من مكان يبعد عنها ثلاثين ميلا؛ وقد كشفت منذ عهد قريب مائة قدم من هذا المجرى فكان أقدم مجرى مائي فوق قناطر عرف في التاريخ. وكانت مصارف الأفراد الخاصة تمول بعض التجارة والصناعة وتتقاضى فوائد على قروضها تبلغ 25%. وكانوا يتعاملون بالرصاص والنحاس والذهب والفضة؛ وحوالي عام 700 ق.م سك سنحريب قطعا من الفضة قيمة الواحدة منها نصف شاقل- وهذه القطع من أقدم ما عرف من المسكوكات الرسمية(37).

وكان الأهلون مقسمين إلى خمس طبقات: الأعيان؛ ورجال الصناعة المنتظمون في نقابات، والطبقة الثالثة تشمل أرباب المهن والحرف والعمال غير المهرة وهم الأحرار من صناع المدن وزراع الريف؛ وتشمل الرابعة الأقنان المرتبطين بأرض المزارع الكبرى، كما كان أمثالهم مرتبطين بها في أوربا في العصور الوسطى، وتضم الخامسة الأرقاء أسرى الحروب أو سجناء الديون، وكان هؤلاء يلزمون بالأعيان عن مركزهم الاجتماعي بخزق آذانهم، وحلق رؤوسهم، وهم الذين كانوا يقومون بالأعمال الوضيعة في كل مكان. ونرى في نقش من عهد سنحريب حراسا بأيديهم سياط يشرفون على هؤلاء الأرقاء المنتظمين في صفين طويلين متوازيين يجرون قطعة ثقيلة من تمثال على نقالات من الخشب(38).


الزواج والآداب العامة

وكانت أشور تشجع الإكثار من النسل بقوانينها الأخلاقية وبما تسنه من الشرائع، شأنها في هذا شأن جميع الدول العسكرية، فكان الإجهاض عندهم جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وكانت المرأة التي تجهض نفسها، وحتى المرأة التي تموت وهي تحاول إجهاض نفسها، تخزق بعد موتها(39). وكانت منزلة النساء في أشور أقل منها في بابل، وإن كان منهن من بلغن منزلة سامية بالزواج والدسائس. وكانت تفرض عليهن عقوبات صارمة إذا ضربن أزواجهن، ولم يكن يسمح للمتزوجات أن يخرجن إلى الطريق العام بغير حجاب، وكان يطلب إليهن أن يكن جد أمينات على أعراضهن- وإن كان يسمح لأزواجهن بأن يتخذوا لهم ما يشاءون من السراري(40). وكان البغاء يُعد أمرا لابد منه وتنظمه القوانين. وكان للملك عدد من النساء يعشن معيشة العزلة ويقضين أوقاتهن في الرقص والغناء والنزاع والتطريز والتآمر(41). وإذا قتل الذي يزني بامرأته الزاني وهو متلبس بجريمته عد ذلك من حقه، وقد بقيت هذه العادة بعد أن زالت كثير من الشرائع التي كانت تبيحها. أما فيما عدا هذا فقد كانت قوانين الزواج في أشور مثلها في بابل خلا أمرا واحدا وهو أن الزواج كان في كثير من الأحيان شراء بسيطا، وأن الزوجة كثيرا ما كانت تعيش في منزل أبيها ويزورها فيه زوجها من حين إلى حين(42).

ونشهد في كثير من نواحي الحياة الآشورية صرامة أبوية نراها طبيعية في شعب يعيش من فتوحه، ويعيش على حدود الهمجية، بكل ما يشمله هذا اللفظ من معان. وكما أن الرومان كانوا يتخذون آلاف الأسرى بعد انتصارهم في الحروب عبيدا لهم يقضون في الرق كل حياتهم، ويرسلون آلافا آخرين إلى الحلبة الكبرى لتنهشها السباع الجياع، كذلك يبدو أن الآشوريين كانوا يجدون متعة- أو تدريبا ضروريا لأبنائهم- في تعذيب الأسرى، وسمل عيون الأبناء أمام آبائهم، وسلخ جلود الناس أحياء، وشوي أجسامهم في الأفران، وربطهم في السلاسل في الأقفاص ليستمتع العامة برؤيتهم، ثم إرسال من يبقى منهم حيا إلى قطع الجلاد(43). وفي هذا يحدثنا أشور بانيبال بقوله: "لقد سلخت جلود كل من خرج علي من الزعماء، وغطيت بجلودهم العمود، وسمرت بعضهم من وسطهم في الجدران، وأعدمت بعضهم خزقا، وصففت بعضهم حول العمود على الخوازيق... أما الزعماء والضباط الذين ثاروا فقد قطعت أطرافهم" (44).

ويفخر أشور بانيبال بأنه "حرق بالنار ثلاثة آلاف أسير، ولم يبق على واحد منهم حيا ليتخذه رهينة" (45). ويقول نقش آخر من نقوشه "أما أولئك المحاربون الذين أذنبوا في حق أشور وائتمروا بالشر عليّ... فقد انتزعت ألسنتهم من أفواههم المعادية وأهلكتهم، ومن بقي منهم على قيد الحياة قدمتهم قرابين جنازية؛ وأطعمت بأشلائهم المقطعة الكلاب والخنازير والذئاب... وبهذه الأعمال أدخلت السرور على قلوب الآلهة العظام" (46). وأمر ملك آخر من ملوكهم الصناع أن ينقشوا على الآجر هذه العبارات التي يرى أن من حقه على الخلَف أن يعجبوا بها: "إن عجلاتي الحربية تهلك الإنسان والحيوان... إن الآثار التي أشيدها قد أقيمت من الجثث الآدمية التي قطعت منها الرؤوس والأطراف، ولقد قطعت أيدي كل من أرتهم أحياء" (47). وتصور النقوش التي كشفت في نينوى الرجال يخزقون أو يسلخون أو تقطع ألسنتهم؛ ويصور نقش منها ملكا من الملوك يفقأ أعين الأسرى برمح، ورؤوسهم مثبتة في أماكنها بحبل يخترق شفاههم(48). ولا يسعنا ونحن نقرأ هذه الصحف إلا أن نحمد الله على مركزنا المتواضع.

الدين والعلم

ويبدو أن الدين لم يكن له أثر قط في تخفيف هذا العنف وهذه الوحشية. ذلك أن الدين لم يكن له من السلطان على الحكومة بقدر ما كان له في بابل، وإنه كان يكيف نفسه حسب حاجات الملوك وأذواقهم. وكان أشور إلههم القومي من آلهة الشمس، ذا روح حربية، لا يشفق على أعدائه. وكان عباده يعتقدون أنه يغتبط برؤية الأسرى يقتلون أمام مزاره(49). وكان العمل الجوهري الذي تؤديه الديانة الآشورية هو تدريب مواطن المستقبل على الطاعة التي تتطلبها منه وطنيته، وأن تعلمه مداهنة الآلهة لكسب ودهم ورضاهم بضروب السحر والقرابين. ومن أجل هذا كان كل ما وصل إلينا من النصوص الدينية الآشورية لا يخرج عن الرقي والفأل والطيرة. ولدينا من هذين كشوف طويلة حددت فيها لكل حادثة نتائجها المحتومة، ووصفت فيها الوسائل التي يجب اتباعها لتجنب هذه النتائج(50). وكانوا يصورون العالم على أنه مليء بالشياطين التي يجب اتقاء شرها بالتمائم المعلقة في الرقاب، أو الرقى الطويلة التي تجب تلاوتها بدقة وعناية.

وذلك جو لا يزدهر فيه من العلوم إلا علم الحروب، فقد كان الطب الآشوري هو الطب البابلي لم يزيدوا عليه شيئا، ولم يكن علم الفلك الآشوري إلا التنجيم البابلي، فكان أهم غرض تدرس من أجله النجوم هو التنبؤ بالغيب(51). ولسنا نجد عندهم شواهد على البحوث الفلسفية، ولم نعثر على ما يثبت أنهم حاولوا أن يفسروا العالم من غير طريق الدين. وقد وضع علماء اللغة الآشوريون قوائم بأسماء النباتات، ولعلهم وضعوها ليستعينوا بها في صناعة الطب، وبذلك قدموا بعض العون لعلم النباتات؛ ووضع غير هؤلاء من الكتبة قوائم تكاد تحتوي على كل ما كان على الأرض من أشياء، وكان فيما حاولوه من تصنيفها بعض العون لعلماء التاريخ الطبيعي من اليونان. وأخذت اللغة الإنجليزية من هذه الكشوف، عن طريق اللغة اليونانية في الغالب، لألفاظ الإنجليزية الآتية: hangar, gypsum, camel, plinth, rose, ammonia, jasper, cane, cherry, Laudanum, naphtha, sesame, hyssop and myrrh.

الكتابة ودور الكتب

ومن أن نقر للألواح التي تسجل أعمال الملوك الآشوريين بذلك الفضل العظيم وهي أنها أقدم ما بقي لدينا من الكتب في علم التاريخ، رغم ما تتصف به من الملل والسآمة، وما تسجله من الأعمال الوحشية الدموية, وكانت هذه الألواح في السنين الأولى مجرد أخبار تروى، أو تروي كل ما تحتويه سجلات لانتصار الملوك، لا تعترف لهم بأي هزيمة. ثم أصبحت فيما بعد وصفا أدبيا منمقا لما وقع من الأحداث الهامة في عهد كل واحد منهم. وأهم ما يخلد ذكر أشور في تاريخ الحضارة هو مكتباتها، فقد كانت مكتبة أشور بانيبال تحتوي ثلاثين ألف لوح من الطين مصنفة ومفهرسة، وعلى كل واحد منها رقعة يسهل الاستدلال بها عليه. وكان على كثير منها تلك العبارة التي كانت من شارات الملك الخاصة: "فليحل غضب أشور وبليت... على كل من ينقل هذا اللوح من مكانه... وليمحوا اسمه واسم أبنائه من على ظهر الأرض" (53). وكثير من هذه الألواح منسوخة من أخرى أقدم منها لم يبين تاريخها، تكشف أعمال الحفر عنها في كل يوم. وقد أعلن أشور بانيبال أنه أنشأ مكتبة ليمنع الآداب البابلية أن يجر عليها النسيان ذيله.

ولكن الألواح التي يصح أن تسمى الآن أدبا لا تتجاوز عددا قليلا منها، أما معظمها فسجلات رسمية وأرصاد يقصد بها التنجيم والفأل والطيرة والتنبؤ بالمستقبل، ووصفات طبية، وتقارير ورقى سحرية، وترانيم وصلوات وأنساب للملوك والآلهة(54).

المثل الأعلى للرجل الكامل عند الآشوريين

وأقل هذه الألواح مدعاة إلى الملل لوحان يعترف فيهما أشور بانيبال بحب الكتب والمعرفة، وهو اعتراف يزري به في أعين مواطنيه، والغريب أنه يكرر فيهما هذا الاعتراف ويصر عليه إصرارا:

«

"أنا، أشور بانيبال، فهمت حكمة نابو وتوصلت إلى فهم جميع فنون كتابة الألواح. وعرفت كيف أضرب بالقوس وأركب الحيل والعربات، وأمسك أعنتها... وحباني مردك، حكيم الآلهة، بالعلم والفهم هدية منه... ووهب لي إتورت وشرجال الرجولة والقوة، والبأس الذي لا نظير له. وعرفت صنعة أدابا الحكيم، وما في فن الكتبة كله من أسرار خفية؛ وقرأت في بناء الأرض والسماوات وتدبرته؛ وشهدت اجتماعات الكتبة وراقبت البشائر النذر؛ وشرحت السماوات مع الكهنة العلماء؛ وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة، التي لا تتضح لأول وهلة. وكان من أسباب سروري أن اكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الأكدية التي تصعب قراءتها... وامتطيت الأمهار؛ ركبتها بحكمة حتى لا تجمح، وشددت القوس، وأطلق السهم، وتلك سمة المحارب، ورميت الحراب المرتجفة كأنها رماح قصيرة... وأمسكت بالأعنة كسائق المركبات... ووجهت ناسجي دروع الغاب ومجناته كما يفعل الرائد، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف أصنافهم حينما يحين وقت نضجهم، وتعلمت في الوقت نفسه ما يتفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية" . »

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.