الحافظ عبدالغني الجعفري
الحافظ عبد الغني الجعفري
الشريف الإمام الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور الجعفري الطيار الهاشمي
هو الإمام الحافط الزاهد العابد الصابر المحدث، حافظ الإسلام، أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ ، المجاهد لإحياء مذهب السلف وإعادة المسلمين اليه، أبو محمد تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن الحسن بن جعفر الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الجعفري الطيار الهاشمي القرشي ، أحد أعلام الفقه والحديث من ولاة وأئمة المسلمين في الديار الإسلامية.
ولد (1) الشريف الشيخ الإمام الحافظ عبد الغني في شهر ربيع أول سنة 541هـ - 1146م بجماعين (وقيل جماعيل) من جبل نابلس ، وقال المنذوي :- ذكر أصحاب الإمام الحافظ ما يدل على أن مولده في 544، وذكر ابن النجار أنه سأل الحافظ عبد الغني عن مولده فقال الإمام :- أما في ثلاث أو أربع وأربعين وخمسماية، والأظهر أنه في أربع وأربعين .
حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم الإسلامية في بلده حتى الثامنة من عمره حيث استولى الصليبيون على بلاد فلسطين حيث كانت قبل ذلك تحت حكم الظافر العبيدي، حينها هاجر والد الإمام بأسرته إلى دمشق فاراً بدينه ودعوته الإسلامية بعد سنة 550هـ وكان معه في هجرته ابنا خالته موفق الدين عبدالله والشيخ أبي عمر، وكان الحافظ يكبرهما بأربعة شهور، ونزلت الأسرة في مسجد أبي صالح بظاهر الباب الشرقي لدمشق التي لم يتحملوا رطوبتها فانتقلوا إلى سفح قاسيون بعد سنتين، وقد سميت البقعة التي نزلوا بها بـ "الصالحية" نسبة لِما عَرف أهل دمشق عن هذه الأسرة من الصلاح والتقوى والعلم، وكانت قبل ذلك تسمى بـ " قرية الجبل" .
بعد استقرار الأسرة بدمشق واصل الحافظ عبد الغني دراسته حتى بلوغه العشرين من عمره، وقد أخذ عن علماء دمشق مثل: أبو المكارم عبدالواحد بن أبي طاهر محمد بن المسلم بن الحسن بن هلال الأزدي الدمشقي، وأبو عبدالله محمد بن أبي الصقر القرشي الشروطي الدمشقي، وأبو المعالي عبدالله بن عبدالرحمن بن أحمد بن علي بن صابر الدمشقي وغيرهم .
وبعد هجرته إلى دمشق سنة 551هـ (2) واجتهاده بطلب العلم من أكابر العلماء فكان بذلك إماماً حافظاً متقناً ثقة وهو صاحب التصانيف، وقد رحل وطاف في البلاد وكتب الكثير وسمع الكثير، وقد كان أحد أكابر أهل الحديث الشريف وأعيان حُفّاظهم متـناً وإسناداً .
قام الحافظ برحلة علمية الى بغداد بصحبة ابن خالته موفق الدين عبدالله بن أحمد ابن قدامة سنة561 وقصدا أولاً الشيخ العالم القدوة عبدالقادر الجيلاني (ولد471- وتوفي561هـ) فأقام بها أربع سنين بعد وفاة الجيلاني الذي كان حينها يراعيهما ويحسن إليهما ، قال الحافظ بن كثير:- فأنزلهما عبدالقادر عنده في المدرسة، حيث كان لا يترك أحداً ينزل عنده ، ولكنه توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما ، وكانا يقرآن عليه كل يوم درسين فيقرأ الموفق من الخرقي ويقرأ الحافظ من الهداية ، وبعد ذلك بخمسين ليلة توفي الشيخ عبد القادر رحمه الله ، فكان حينها الحافظ عبد الغني يميل إلى الحديث وأسماء الرجال ، وميل الموفق إلى الفقه ، حيث اشتغلا على الشيخ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي الصديقي ، وعلى شيخ الحنابلة فقيه العراق وناصح الإسلام أبي الفتح نصر بن فتيان بن مطر النهرواني الشهير بابن المنى ، وعلى مسند العراق هبة الله الحسن بن هلال الدقاق ، والشيخ المسند أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطي البغدادي البزاز، وأبي زرعة طاهر بن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ثم الهمذاني، وأبي بكر أحمد بن المقرب الكرخي، وبعد أربع سنوات في طلب العلم عادا الى دمشق، ثم ذهب الحافظ عبد الغني إلى مصر والقاهرة سنة 566هـ أقام فيها مدة ثم عاد إلى دمشق ثم عاد مرة أخرى إلى الإسكندرية سنة 570هـ أقام فيها عند الحافظ أبي طاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني وسمع منه ، ويُقدَر ما كتبه ونقله عنه في مدة ثلاث سنوات بنحو ألف جزء ، وقد روى الحافظ ضياء الدين المقدسي عن أبي الثناء محمود بن همام قال: سمعت أبا عبدالله محمد بن أميرك الجويني المحدث يقول:- ما سمعت السلفي يقول لأحد " الحافظ " إلا لعبد الغني المقدسي .
وخلال إقامة عبد الغني في مصر سمع من أبي محمد عبد الله بن برى النحوي ومن ابن هبة الله الكامل وغيرهما حيث عاد بعدها إلى دمشق.
بعد ذلك قام الحافظ عبدالغني برحلة طويلة إلى الجزيرة والعراق وإيران ، ففي الموصل أخذ العلم عن خطيبها أبي الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبدالقادر الطوسي ثم البغدادي ، وفي همذان أخذ عن شيخ الإسلام الحافظ أبا موسى محمد بن أبي بكر بن عمر بن أحمد بن عمر المدني الأصبهاني، والحافظ أبا سعد محمد بن عبد الواحد الصائغ الأصبهاني ، وقد حصل في أصبهان على الكتب الجيدة ، وسرى فيها السيرة الحميدة والمكانة المرموقة بما رأوا من علمه الجليل وتقواه العظيمة.
قال الحافظ عبد الغني :- أضافني رجل بأصبهان ، فلما قمنا إلى الصلاة كان هناك رجل لم يُصلِّ فقيل هو من عُبّاد الشمس ، فضاق بذلك صدري ، ثم قمت بالليل أصلي والشمسيّ يستمع ، فلما كان بعد أيام جاء إليّ من أضافني وقال:- إن الشمسيّ يرفض أن يُسلِم ، فمضيت إليه فأسلم ، وقال:- من تلك الليلة لما سمعتك تقرأ القرآن وقع الإسلام في قلبي .
قال الضياء المقدسي: سمعت محمود بن سلامة الحراني التاجر بأصبهان يقول:- كان الحافظ عبدالغني نازلاً عندي بأصبهان وما كان ينام الليل إلا قليلاً، بل يصلي ويقرأ أو يبكي إلى السحور، وقال(3) أيضاً:- كان الحافظ يخرج فيصطف الناس بالسوق ينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها من شدة حبهم له ورغبتهم فيه. وفي رحلته إلى أصفهان(4) في إيران أحبه أهلها حباً شديداً وقيل أنه لو أقام فيها مدة أخرى وأراد أن يملكها لملكها من شدة حبهم له ورغبتهم فيه، وهو أول من نزل مصر من أئمة الحنابلة(5) (ممن تبعوا وتفقهوا المذهب الحنبلي).
قال الحافظ الضياء (6) :- سمعت شيخنا الحافظ عبدالغني يقول:- كنت يوماً بأصبهان عند الحافظ أبي موسى فجرى بيني وبين الحاضرين منازعة في حديث فقال:- هو في صحيح البخاري، فقلت: ليس هو فيه، فكتب الحديث في رقعة ورفعها إلى الحافظ أبي موسى يسأله عنه، فناولني الحافظ أبي موسى الرقعة وقال:- ما تقول؟ هل هذا الحديث في البخاري أم لا ؟ قلت: لا، فخجل الرجل وسكت.
فلما كان بأصبهان وكان قد اطلع على كتاب الحافظ أبي نعيم (معرفة الصحابة ) قام فألف كتابه (تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة) نقد به كتاب أبي نعيم في مائة وتسعين موضعاً ، ثم اجتمع أعلام أصبهان وحفاظها فأملاه عليهم ، ولكن بني الجندي في أصبهان غضبوا من نقد الحافظ عبد الغني لمفخرة بلدهم الحافظ أبي نعيم وثاروا عليه فاضطر الخروج من أصبهان مختفياً، أما في الموصل فقد سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب ما في هذا الكتاب من أبي حنيفة، فخرج من الموصل خائفاً يترقب. ولما عاد إلى دمشق تلقاه أهلها بالبشر والحبور، وأفاد شبابها من علمه القدير وإيمانه القوي وصلاحه وتقواه ، قال الحافظ الضياء:- كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره وبينه ، وذكر صحته أو سقمه ، ولا يسأل عن رجل من رجال الرواية والعلم إلا قال هو فلان ابن فلان ويذكر نسبه. قال الحافظ ابن رجب: وأنا أقول:- كان الحافظ عبد الغني المقدسي أمير المؤمنين في الحديث. ومن صفاته وفضائله(7) قال الضياء : كان شيخنا الحافظ لا يكاد يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فكان يصلي الفجر ثم يلقن الناس القرآن الكريم وربما شيئاً من الحديث ثم يقوم ويتوضأ فيُصَلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل وقت الظهر ثم ينام نومة يسيرة إلى وقت الظهر ثم يشتغل بعد الصلاة بتسميع الحديث أو بالتأليف والكتابة إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر بعد المغرب، وإن كان مفطراً صلى من المغرب إلى العشاء الآخرة، ثم نام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كمن أحداً يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما يتوضأ في ليله سبع أو ثمان مرات أو أكثر، وكان يقول:- ما تطيب لي صلاة إلا مادامت أعضائي رطبة، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، ولم يَرِد أنه صلى صلاتين مفروضتين بوضوء واحد.
وفي أيام الجمعة كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة في رواق الحنابلة من مسجد بني أمية ( الجامع الأموي في دمشق ) فيجتمع الناس عليه وإليه ، أما ليلة الخميس فيقرأ في مسجد دمشق أيضا وقد اجتمع عليه خلقٌ كثير، وقد كان رحمه الله رقيق القلب سريع الدمعة، يقرأ ويبكي الناس معه، فحصل له القبول من الناس جداً، ومن حضر مجلسه مرة لا يكاد يتركه حتى حسده بنو الزكي والدولعي وفقهاء الشافعية وبعض الحنابلة، وكان لذلك أثره في الفتنة التي لحقت به رحمه الله.
كان الحافظ عبد الغني لا يخشى إلا الله جل وعلا ، فكان لا يرى منكراً إلا وغيره بيده ، لا تأخذه في الله لومة لائم . حدّث أبو بكر بن أحمد الطحان قال :- كان في دولة الأفضل بن صلاح الدين أن جعلوا الملاهي على درج جيرون خارج الباب الشرقي من مسجد دمشق، ومر الحافظ يوماً من تلك الناحية فكسّرَ شيئاً كثيراً منها، ثم جاء فصعد المنبر يقرأ الحديث، فجاء إليه رسول من القاضي يأمره بالمشي إليه حتى يناظره الدف والشبابة، فقال له الحافظ: ذلك عندي حرام، وقال:-أنا لا أمشي إليه إن كان له حاجة فيجيء هو، ثم عاد إلى قراءة الحديث، فعاد الرسول فقال :- يقول القاضي لابد من المشي إليه أنت قد بطلت هذه الأشياء على السلطان، فقال الحافظ للرسول :- ضرب الله رقبته ورقبة السلطان، قال:- فمضى الرسول، وخفنا أن تجري فتنة، قال:- فما جاء أحد بعد ذلك كان الحافظ رحمه الله ليس بالأبيض الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسن الشعر كث اللحية ، واسع الجبين ، عظيم الخُلق ، تام القامة، كأن النور يخرج من وجهه، وفي آواخر عُمرِه كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والنسخ والمطالعة. ومن ثناء أهل العلم والأكابر عليه قال الحافظ ضياء الدين : سألت خالي الموفق عن الحافظ عبد الغني ، فكتب بخطه وقرأت عليه :" كان جامعاً للعلم والعمل ، كان رفيقي في الصبا وفي طلب العلم ، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل ، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم إياه وقيامهم عليه ، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة ، إلا انه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها رحمه الله ". وقال الحافظ عبد القادر الزهاوي لعبد الغني الهاشمي : سمعت وسمعنا ، وحفظت ونسينا . وقال أبو محمد عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني بمرو:- سمعت أبا اليمن تاج الدين الكندي يقول: لم يكن بعد الدارقطني مثل الحافظ عبدالغني. وقال الإمام أبو نزار ربيعة بن الحسن اليمني الشافعي :- رأيت الحافظ السلفي والحافظ أبا موسى ، وكان الحافظ عبدالغني أحفظ منهما، ذكر ذلك الإمام الفقيه مكي بن عمر المصري في كتاب خاص ألفه في فضائل الحافظ عبد الغني . وقال الإمام أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن عبد الجبارالمقدسي:- سمعت الحافظ يقول : سألت الله أن يرزقني مثل حال الإمام أحمد فرزقني صلاته. قال : ثم ابتلي بعد ذلك وأوذي .
ومن أخبار الفتنة التي حلت به رحمه الله أنه لما كان يقرأ الحديث بمسجد دمشق ويجتمع الخلق عليه وينتفعون بمجالسته ، حسده بعض طلاب العلم الذين شرعوا يعملون وقتاً في الجامع يجتمعون عليه فيقرأ عليهم الحديث ليصرفوا الخلق عن مجلس الحافظ . فاتفق الحافظ والناصح أن يختلفا للوقت فيجلس الناصح بعد صلاة الجمعة والحافظ بعد صلاة العصر، وفي إحدى الجمع دسّ هؤلاء رجلاً ناقص العقل من بيت ابن عساكر فقال للناصح:- انك تقول الكذب على المنبر ، فضرب الناس الرجل . وذهب مدبروا الفتنه الى الوالي وقالوا له:- هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة واعتقادهم يخالف اعتقادنا، ثم جمعوا كبرائهم ومضوا إلى الوالي في القلعة وقالوا :- نشتهي ان يحضر الحافظ عبد الغني . قال الضياء المقدسي:- وكان مشايخنا قد سمعوا بذلك فانحدروا إلى دمشق وقالوا للحافظ:- أقعد أنت لا تجيء فانك حاد ونحن نكفيك، فاتفق أنهم أرسلوا للحافظ من القلعة فأخذوه وناظروه، وكان أجهلهم يغري به، فاحتدّى . واستصدروا أمراً من الوالي فكسروا منبر الحافظ من الجامع ومنعوا الحنابلة من الصلاة في الجامع.
ثم إن الناصح بن الحنبلي جمع السِّوَقَة وغيرهم وقال :- إن لم يخلونا نصلي باختيارهم صلينا بغير اختيارهم ، فبلغ ذلك القاضي (وكان هو صاحب الفتنة ) فأذن لهم بالصلاة ، وقد خاف أن يصلوا بغير إذنه .
ولما ضاق صدر الحافظ عبدالغني مضى إلى بعلبك سنة 595هـ وأقام بها مدة يقرأ الحديث حيث توجه إلى مصر بعد ذلك وتوفي بها يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 600هـ 1204م ودفن بالقرافة بمصر عند أبي عمرو بن مرزوق يستجاب عنده الدعاء . وقد رثاه أحدهم بقوله:-
يا أصدقَ الناسِ في بدوٍ وفي حضــر وأحفظ النـاس فيما قالت الرسـلُ إن يحسِـدوك فلا تعبـأ بقائلِـــهم هُـم الغـثاء وأنتَ السـيدُ البطلُ
وقال عنه ابن ناصر الدين:- هو محدث الإسلام وأحد الأئمة البارزين ذا ورع وعبادة وتمسك بالآثار وآمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي آخر ولاية العزيز أبي الفتح عثمان بن السلطان صلاح الدين جاء شاب من دمشق إلى مصر يحمل فتاوى المخالفين من الذين أثاروا الفتنة على الحافظ عبد الغني ومعه كتب إلى العزيز عثمان بأن الحنابلة يقولون كذا وكذا ، وكان العزيز يتأهب للخروج إلى الإسكندرية ، فقال لحامل الفتاوى :- إذا رجعنا من هذه السفرة أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة ، ولكن العزيزعثمان لم يعد إلى مصر فقد عدا به الفرس وهو خلف الصيد فشب به وسقط عليه فخسف صدره ومات . ثم أرسلوا إلى الأفضل بن صلاح الدين (وكان بصرخد) فجاء وأخذ مصر ثم ذهب الى دمشق ، فلقي بالطريق الحافظ عبد الغني الذي أكرمه إكراماً كثيراً وبعث يوصي به في مصر . ولما وصل الحافظ إلى مصر (الفسطاط وجامع أبي عمرو ) تُلُقِيَ بالبِشر والإكرام ، ونزل فيها على تلاميذه آل الطحان ، وأقام بها يُسمع الحديث بمواضع منها وبالقاهرة . قال الضياء :- وسمعت بعض من حضر مجلسه بمصر بمسجد المصنع يقول :- إن الناس بكوا حتى غشى على بعضهم ، وقال بعض المصريين : ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ فأخرجنا من القبور . وفي آخر مدته بمصر حدثت المجاعة والغلاء سنة 596هـ والتي بعدها ، فبعث الملك الأفضل الى الحافظ بنفقة وقمح كثير ، ففرق الجميع . وكان يخرج في الليل بقفاف الدقيق إلى منازل أهل العفة والكفاف فيضع قفى الدقيق أمام الباب ويقرعه ، فإذا علم بأن أهل البيت جاءوا ليفتحوا ترك ما معه ومضى لئلا يُعرف ، وهذا من جمل كرمه الجم لئلا تعلم شماله بما تفعل يمينه . بعد ذلك جاء الملك العادل وأخذ مصر ، فأكثر المخالفون من التحامل عنده على الحافظ ، قال الضياء :- وسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار. ولما سافر العادل إلى دمشق وبقي الحافظ بمصر ، والمخالفون لا يتركون الكلام فيه، فعزم الملك الكامل على إخراجه من مصر، فاعتقل في داره سبع ليال، فقال :- ما وجدت راحة في مصر مثل تلك الليالي . وبعدها صدر الأمر من الملك الكامل إلى الحافظ أن يكتب اعتقاده، فكتب:- أعتقد كذا لقول الله تعالى كذا ، وأقول كذا لقول رسول الله كذا … حتى فرغ من المسائل التي يشفع بها المخالفون . فلما وقف الكامل على ما كتبه الحافظ قال:- إيش في هذا ؟ يقول بقول الله عز وجل وقول رسول الله، فخلى سبيله عنه. ثم ثار الفقهاء لحقدهم عليه مرة أخرى ، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأمر بنفيه الى المغرب ، ولكنه توفي قبل وصول الكتاب رحمه الله .
له مؤلفات تُعد بنحو الثلاث والأربعين مؤلفاً :-
1- الكمال في معرفة الرجال (رجال الكتب الستة ) في عشر مجلدات وهو معجم مطول لأسماء رجال الحديث، ذكر فيه ما اشتملت عليه كتب الحديث والسنة من أسماء الرجال ورتبها على الهجاء.
2- المصباح في عيون الأحاديث الصحاح . في 48 جزءاً ، ويشتمل على أحاديث الصحيحين .
3- نهاية المراد من كلام خير العباد .
4- اليواقيت.
5- تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين .
6- الآثار المرضية في فضائل خير البرية ، أربعة أجزاء .
7- الروضة ، في أربع أجزاء .
8- الذِّكر ، جزءان .
9- الأسرار ، جزءان .
10- التهجد ، جزءان .
11- الفرج ، جزءان .
12- تحفة الإمام أحمد ، ثلاثة أجزاء .
13- ذم الرياء.
14- ذم الغيبة .
15- فضائل عاشر ذي القعدة .
16- فضائل مكة ، أربعة أجزاء .
17- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
18- فضائل رمضان .
19- فضائل الصدقة .
20- كتاب الترغيب في الدعاء والحث عليه ،(مخطوط ، حيث حققه وأصدره الشريف محمد نعمان بن نهاد هاشم الجعفري الزينبي الطيار).
21- فضائل الحج .
22- فضائل رجب .
23- وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
24- الأقسام التي أقسم بها النبي .
25- كتاب الأربعين .
26- كتاب الأربعين من كلام رب العالمين .
27- كتاب الأربعين بسند واحد .
28- كتاب الأربعين ، كتاب آخر غير ما تقدم.
29- اعتقاد الإمام الشافعي .
30- الحكايات ، سبعة أجزاء .
31- أحاديث وحكايات ، وكان يقرأها في المجالس وتزيد عن المائة جزء.
32- غنية الحفاظ في تحقيق مشكل الألفاظ ، مجلدين .
33- الجامع الصغير لأحكام البشير النذير ، لم يتمه .
34- كتاب على صفة من صبر ظفر ، خمسة أجزاء ولم يتمه .
35- ذكر القبور .
36- مناقب عمر بن عبد العزيز ، وكلها بالأسانيد .
37- الأحكام على أبواب النفقة ، ستة أجزاء .
38- العمد في الأحكام مما اتفق عليه البخاري ومسلم ، جزءان .
39- درر الأثر على حروف المعجم ، تسعة أجزاء .
40- الدرة المضيئة في السيرة النبوية ، سيرة النبي محمد عليه السلام .
41- الاقتصاد في الاعتقاد .
42- النصيحة في الأدعية الصحيحة .
43- تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة، وهو نقد لكتاب أبي نعيم الأصبهاني .
وقد ذكر المؤرخون أن الامام الحافظ عبدالغني أعلم من "الدارقطني" (8) و "الحافظ أبي موسى" (9) كما جاء في ترجمته في كتب أحكام الأحكام . تزوج ابنة ابن خالته الشيخ أبي عمر ابن قدامه، وهو إبن عمر" تقي الدين أبو عبد الله يوسف بن عبد المنعم" أول من نزل نابلس من الجعافرة الهاشميين .
حدّث الحافظ عبد الله أبو موسى ابن الحافظ عبد الغني قال:- مرض والدي رحمه الله في ربيع الأول سنة 600هـ مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام واشتد به ستة عشر يوماً ، وكنت كثيراً ما أسأله : ما تشتهي ؟ فيقول : أشتهي الجنة … أشتهي رحمة الله . فلما كان يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول جئت إليه ، وكنت كعادتي أبعث من يأتي صباح كل يوم بماء حار من الحمام نغسل به أطرافه ، فلما جئنا بالماء على العادة مد يده ، فعرفت أنه يريد الوضوء ، فوضأته وقت صلاة الفجر، ثم قال :- يا عبدالله قم فصلِّ بنا وخفف ، فقمت فصلبت بالجماعة وصلى معنا جالساً. فلما انصرف الناس جئت فجلست عند رأسه وقد استقبل القبلة فقال:-اقرأ لي عند رأسي سورة يس ، فقرأتها ، فجعل يدعو الله وأنا أؤَمِن ، ثم قلت : هاهنا دواء قد عملناه فاشربه ، فقال : يا بني لم يبق إلا الموت ، فقلت: ما تشتهي شيئاً ؟ قال:- أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى ، فقلت : ما أنت عني راضٍِ ، قال : بلى والله أني عنك راضٍِ وعن أخواتك ، وقد أجزت لك ولإخوتك ولابن أختك إبراهيم ، وأوصاني عند موته :- لا تضيعوا هذا العِلم الذي تعبنا عليه ، ويعني الحديث ، فقلت:- ما توصي بشيء ؟، قال:- ما لي على أحد شيء ، ولا لأحد عليّ شيء . قلت:- توصيني بوصية ؟، قال:- يا بني أوصيك بتقوى الله والمحافظة على طاعته. وما زال يحرك شفتيه بذكر الله ويشير بعينيه، فقمت لأناوله كتاباً من المسجد فرجعت وقد خرجت روحه إلى بارئها ، وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 600هـ ، وبقي ليلة الثلاثاء بالمسجد حتى اجتمع عليه من الغد الخلق الكثير من الأئمة والأمراء ما لا يحصيهم إلا الله ، ثم دفناه يوم الثلاثاء بالقرافة مقابل قبر الشيخ أبي عمرو بن مرزوق في مكان كان يزوره ويبكي فيه إلى أن يبتل الحصى، ويقول:- قلبي يرتاح إلى هذا المكان، رحمه الله ورضي عنه.
وللحافظ عدة أولاد : ولده الشريف العز(عزالدين أبو الفتح) محمد بن الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور ولد سنة 566هـ1171م، وكان حافظاً ديِّناً ورعاً تقياً زاهداً، توفي في دمشق سنة 613هـ1217م رحل إلى بغداد صغيراً طلباً للعلم، ثم ذهب إلى أصفهان ثم عاد الى دمشق يتابع تحصيله، وهناك كانت له حلقة للدرس بدمشق، وكان موصوفاً بحُسن قراءة القرآن الكريم وجودة حفظه وفهمه ديّناً ورعاً زاهداً، وله أيضاً ولده الحافظ (جمال الدين) أبوموسى عبدالله (10) ، وأبو سليمان عبدالرحمن، وجلهم من العلماء المشهورين رحمهم الله تعالى.
وكان لإبراهيم عمادالدين أبو اسحاق أخ الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد عقباً، وهو قاضي القضاة أبو بكر شمس الدين(11) محمد بن عماد الدين أبو اسحاق إبراهيم المذكور، ولد يوم السبت 14 صفر سنة 603هـ، إمام محدث بيت المقدس تفقه على يد علماء دمشق وبغداد ثم انتقل إلى مصر حيث أفتى ودرَّس واشتغل وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة 676هـ، عظم شأن هذا الشيخ الشريف الجليل في مصر حتى أن الظاهر بيبرس لما عين لكل مذهب قاضياً خاصاً في مصر سنة660هـ عهد بقضاء المذهب الحنبلي إلى محمد بن إبراهيم المذكور، فكان أول من ولي القضاء بهذا المذهب من الهاشميين في مصر.
ومما يذكر عنه أن أحدهم بعث يشكوه للظاهر قائلاً انه يبغض السلطان ويتمنى زوال ملكه؛ كما ذكر أشياء قادحة فيه ، فبعث السلطان بالشكوى إلى الشيخ الذي أقسم أنه ما جرى منه شيء وأن الذي قدّم الشكوى هو خادمه، وكان قد طرده من خدمته لسوء فعاله، فقال له السلطان " لو شتمتني فأنت حِلْ "، وأمر بضرب الخادم مائة جلده، وقد عُرف رحمه الله بأنه كان سيداً صدراً من صدور الإسلام مبحراً في العلوم زاهداً في الدنيا وتوفي في محرم سنة 676هـ.
أما عبد المؤمن(12) بن سرور فله عقب في ولد الشيخ سعيد بن فلاح بن أبي الوحشة سعيد بن محمد بن سعيد بن عبد المؤمن بن سرور الجعفري الهاشمي وهو متصوف صالح وعالم محدث ولد سنة 658هـ (1260م) في إحدى قرى نابلس وتوفي سنة 743هـ (1343م).
المصادر:
(1) ترجمته في شرح عمدة الأحكام ص 7-8-9-10-11-12 كما في تذكرة الحفاظ - وطبقات الحنابلة - والبداية والنهاية - وشذرات الذهب - ومعجم البلدان، وسير أعلام النبلاء والنجوم الزاهرة، والعبر في أخبار من غبر، وكتاب طبقات الأنساب في نسب آل البيت الهاشمي للشريف محمد نعمان بن نهاد هاشم الجعفري ص 473 .
(2) الروض المعطار في نسب السادة آل جعفر الطيار للعلامة السيد محمد الزبيدي.
(3) ترجمته في أحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام ص 8 .
(4) ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي / بلادنا فلسطين ، لب اللباب ، ص1/221/ الروض المعطار.
(5) حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، ج1، ص205- لب اللباب ص 1/211- بلادنا فلسطين ص472 – النجوم الزاهرة 6/185/ شذرات الذهب 6/561 – 562/ تراجم أعلام نابلس ص14 – 15.
(6) أحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام ص 8 .
(7) ترجمته في أحكام الأحكام ص8.
(8) هو علي بن عمر بن احمد أبو الحسن البغدادي توفي سنة 358هـ وهو فقيه محدث.
(9) هو أبو موسى المريني شيخ الإسلام محمد بن أبي بكر عمر بن أبي عيسى الأصبهاني توفي سنة 581هـ .
(10) أحكام الأحكام ص12، وترجمة والده في أعلام نابلس ص20 وشذرات الذهب والنجوم الزاهرة وبلادنا فلسطين.
(11) بلادنا فلسطين ، ج9، ق2، ص250.
(12) مشجر مخطوط.