الثورة العامية في جبل حوران
الثورة العامية في جبل حوران (1888 - 1890) هي ثورة الفلاحين الدروز الفقراء في محافظة السويداء ضد الاقطاعيين والتي أدت لتدخل الجيش العثماني في خمس حروب خسرها كلها لكن الحرب الاخيرة بعد أن خسر حرب شهبا وهرب المشير طاهر باتجاه الشيخ مسكين عاد ليعلم أن كل قيادات الثورة قد استشهدت في المعركة ليعود ويدخل محافظة السويداء. ومن الجدير ذكره أن اقطاعيي الجبل الذين كانوا يرغبون بدخول الجيش العثماني ليعيد اليهم اقطاعات الارض حين دخل كان قد تغير المنهج العثماني وعوضا عن اعادة الاقطاعات للاقطاعيين قام بتمليك الفلاحين وعرفت سندات التمليك في ذلك العهد ب سندات الطابو وعلى اثرها ساهم الاقطاعيين لاحقا عام 1905 بالثورة ضد العثمانين.
ما بين 1853-1857 آلت زعامة العرب الدروز في جبل حوران لآل الاطرش. الذين وفقوا في القضاء على زعامة آل حمدان. أما سقوط آل حمدان فتعزوه المصادر الى سوء معاملتهم للفلاحين.
لم يغير ذلك من وضع الفلاحين حيث كان مشايخ القرى الجدد يتصرفون كالاقطاعيين ازاء الفلاحين. فيعمل هؤلاء بالاجرة دون ان يكون لهم حق التملك واقتناء الارض التي يكفي انتاجها مستلزمات الحياة التي تتزايد بتزايد النسل ونمو الاسرة.
وازداد وضع الفلاحين سوءا بعد وصول عدد كبير من المهاجرين العرب الدروز الى "الجبل" خلال تلك الفترة. اكثر من ستمائة اسرة درزية من شمال سوريا "حول المعرّة وحلب" هذا وبلغ عدد سكان جبل العرب ابان الانتفاضة نحو ثلاثين الف نسمة. منهم خمسة آلاف من المسيحيين وانصاف البدو. وقسمت اراضيه حينئذ الى 6500 فدان، يزرع معظمها بالحنطة والشعير والقطاني والقطن. وعني الفلاحون بتربية الماعز والغنم بالاشتراك مع البدو. واكثروا من تربية الخيول والابقار، وعرف الجبل صناعة النسيج وحياكته على الصعيد المحلي. كما عرف صناعة البسط على النول اليدوي، وعلى صعيد الحياة الاجتماعية عرف اهل الجبل اعرافا عربية قديمة الى جانب اعراف متميزة فيهم مثلا يرفضون ان تدفع دية القتيل من الارض او المسكن ولا يقرون تعدد الزوجات. وينافس الفلاحون والعامية مشايخهم في الضيافة والبسالة والمعارك. ويقرون من صميم تقاليدهم رفض دفع الضرائب اذا كانت جائرة ويقرون بان العدل يقتضي توزيع الارض بتمام المساواة.
وتعبير المشايخ الذي نعنيه هنا والذين تصرفوا مع الفلاحين باستبداد واعوجاج، ينطبق على المشايخ الزمنيين أي الزعامة السياسية. وليس مشايخ الدين الموحدين الدروز. لا امتيازات مادية لهم بل على العكس جلهم من اهل الزهد وفقراء الحال.
أما التقسيم الطبقي لاهالي الجبل آنذاك فقد كان كما يلي:
- - طبقة المشايخ الزمنيين أي الزعماء
- - طبقة الفلاحين الصغار وهم الذين يملكون قطعة ارض ومسكنا وما شابه. ويدفعون التزاماتهم للشيخ.
- - فقراء الفلاحين وهم لا يملكون سوى قوت عملهم.
- - انصاف البدو ويتمتع مشايخهم بملكية القطيع.
ومع ان انتقال الزعامة لآل الاطرش كان بسبب تمادي آل الحمدان في استبدادهم. لكن الطرشان لم يتعظوا بذلك مما ولد نفورا شعبيا عاما ضدهم. مع انهم كانوا قد قطعوا عهدا على انفسهم بانصاف الفلاحين. واقروا بمجموعة المطالب التالية:
- - اشراك فقراء الفلاحين بالتملك. واعادة توزيع الملكية من جديد.
- - دفعهم الضرائب المتراكمة للدولة وعدم تحميل الاهالي لها.
- - الغاء السخرة والترحيل
- - قصر جزية "القلاط" على قطعان الماشية الكبيرة وليس على كل رأس ماشية اذا كان عددها قليلا.
والقلاط هو ضريبة على الاقامة المؤقتة بدل المرعى والماء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الروح التعاونية بين الفلاحين
هذا ولم يؤد انتقال الزعامة من آل الحمدان الى آل الاطرش في الجبل الى تحسن يذكر على الاحوال المعيشية للفلاحين ووعوا تماما ان مهماتهم لا تقف عند استبدال الشيخ الرئيسي. وان عدم تعرضهم للمشيخة بالذات كان سببا في عودتها بشكل اقوى، وتوصلوا الى ان مواصلة الكفاح يحتاج لاساليب اكثر تطورا تتناسب مع الامكانيات الجديدة للمشايخ الجدد وبذلك اخذت تظهر الروح التعاونية بين الفلاحين انفسهم وروح الحوار والتضامن. وقبل ان يصلوا الى تنظيم انفسهم وتحركهم كانت تصرفاتهم العفوية تمهد الى هذا بشكل او بآخر فجميع الفلاحين باتوا يمتنعون عن العمل عندما يطرد الشيخ احد الفلاحين. وعندما هدم شيخ بلدة عرمان مثلا مضافة احد الفلاحين قام الفلاحون جميعا باعادة بنائها. وتمرد الفلاحون على جمعة الشيخ وهي يوما على الفلاحين ان يعملوه ايام البذار او الحصاد تبرعا منهم للشيخ. وامتنع قسم كبير منهم عن اداء الضرائب تعبيرا عن عدم اعترافهم بسلطة المشايخ المستبدين وبدأت التصرفات العفوية هذه تأخذ شكلا منظما عند الفلاحين. فتأسس عدد من الجمعيات السرية في قرى الجبل: نجران عرمان، لاهثة، متان، السويداء، وطرحت برامج ثورية كان الخط العام لها عزل المشايخ والغاء امتيازاتهم وبدأت هذه الجمعيات ترسل وفودا الى القرى للاتصال بالفلاحين وانشاء جمعيات لهم في كل قرية. وقد كان العمل يتم بشكل سريع "بتجاوب فلاحي" الى ان حققوا شبه تغطية تامة لقرى الجبل وصار الرفض الفلاحي يتم من خلال تنظيم الفلاحين في هذه الجمعيات السرية، لذا اخذ رفضهم يأخذ طابعا ثوريا اكثر منه اصلاحيا فصار الفلاحون يناقشون وجودهم ككل ويخططون لعمل شامل على امتداد الجبل لا ضمن القرية التي يتواجدون فيها ويجمعون في شعاراتهم بين التغير الاقتصادي وضرب الظلم والاستبداد، وتصاعدت هذه الحركة الفلاحية مما شجع فلاحي ملح وعرمان لدعوة فلاحي الجبل لاجتماع عام في "مجدل عرمان" وسمي منذ ذلك "اجتماع مجدل الشور" أي الشورى واخذ الرأي. وقد وفد الى الاجتماع حوالي مائة ممثل عن الجمعيات السرية للفلاحين من عموم الجبل. وقد انبثق عن المجتمعين (وثيقة – بيان) استعرضوا فيها: وضع الجبل واسباب الاجتماع والاجراءات الفلاحية الكفيلة بتغيير الوضع. وفي عرضهم لوضع فلاحي الجبل يركز البيان على: ذكر اضطهاد الفلاحين والسخرة والترحيل، وزرع المشايخ للفتن بين الفلاحين والاعباء والمشقات التي يرضخ لها الفلاحون ودورهم في بناء الريف واداء الضرائب للدولة العثمانية خليفة المشايخ ودور الفلاحين في الدفاع عن الجبل ضد الطامعين.
وفي تناولهم للاجراءات الكفيلة بتمزيق هذا الوضع بطرح البيان:
- - كف التعديات عن الفلاحين ومنحهم حقوقهم وتشمل هذه الحقوق الغاء امتيازات المشايخ وكل ارض تصبح لمن يعمل فيها، وكل مسكن يصبح ملكا لمن يقطنه، الغاء السخرة، والترحيل والمصادرة اعادة قسمة الارض لتشمل جميع افراد المجتمع.
- - المواجهة الفلاحية الجماعية لاي اجراء يقوم به المشايخ والتزام الفلاحين جميعا ببذل ارواحهم لانجاح قضيتهم العادلة، وان يكونوا يدا واحدة وعصبة واحدة على تحقيق مصالحهم المشتركة المدونة في البيان.
- - صب اللعنة والذل الاجتماعي والعرفي السائد حينها على من يغير او ينحرف عن طريق الجماعية الفلاحية ومقاطعته تماما وبكل معنى الكلمة.
بدأ الصدام بين الفلاحين والمشايخ عقب الاجتماع مباشرة يأخذ شكلا حادا او قويا. فجرى اصطدام بين الفلاحين والمشايخ في قرى: ملح، عرمان، لاهثة، وغيرها ذهب فيها عدد من الفتيان، وتوتر الموقف في السويداء وبلغ اشده في ترحيل الشيخ ابراهيم الاطرش لعدد من الفلاحين من السويداء. فدارت المعركة الحاسمة بين المشايخ وعامة الفلاحين في صيف عام 1888م، وقد انتهت بانتصار العامية بعد عراك ضار خسر منه الطرفان 42 قتيلا من الجهتين وكانت النتيجة اجلاء آل الاطرش من الجبل ولجوء قسم منهم الى قلعة المزرعة العثمانية. والقسم الآخر الى دمشق مع ابراهيم الاطرش في حين لجأ شبلي الاطرش الى خبب في سهل حوران وعقب المعركة طبق العاميون "مقررات اجتماع" مجدل الشور باكملها وشكلت لجان فلاحية مهمتها حسم الخلافات بين الاهالي حول توزيع الاراضي وتدبير شؤونهم الاخرى. وتصدت قوات العامية الفلاحية لمناوشات جيرانهم من البدو وسهل حوران والتي حرضها العثمانيون. وفرضوا على القرى التي تحرشت بهم جزية مالية. فقد العثمانيون صوابهم من جراء هذه التغيرات الصاعقة في اوضاع الجبل، وارتجفوا من انتقال عدواها الى المناطق المجاورة ولم يقف ابراهيم الاطرش مكتوف اليدين بل حرك بواسطة "ارستقراطي دمشق" آنذاك. الحاكم التركي وتحرك مشايخ حوران يستنجدون بالعثمانيين ليستنفروا جيوشه المتواجدة على امتداد السهل السوري.
وقدمت الجيوش العثمانية الغازية واحتشدت في "ريمة حازم" وفي "ولغا" مع ابراهيم الاطرش وكانت بقيادة القائد التركي احمد قرة ببور باشا فيما حصن الثوار مواقعهم في السويداء وعتيل. وكلف القائد التركي احد ضباطه ممدوح باشا قائد حامية المزرعة باجراء التفاوض مع قادة الثورة العامية على الاسس التالية: 1- يقبل الفلاحون بدخول القادة العثمانيين مع المشايخ الى الجبل. 2- تلتزم القوة العسكرية العثمانية بتنفيذ المقررات التي يتم الاتفاق عليها بين المشايخ والممثلين عن الثوار. رفض الثوار الموافقة على اقتراح "ممدوح باشا" خوفا من ان ينكل بهم العثمانيون بعد دخولهم الى السويداء. بعدها شن العثمانيون هجومهم على الفلاحين في خريف عام 1889م قاوم الفلاحون الثوار بكل ما عندهم من قوة وبشكل مميت في حرب كانت نسبة المقاتلين فيها 20 من العثمانيين مقابل واحد من الفلاحين. مع تجهيز الجنود العثمانيين بالاسلحة المتقدمة في حين كان الفلاحون موزعين بين حملة البنادق القديمة والسلاح الابيض.
خاض العثمانيون المعركة بكل همجية ووحشية القرون الوسطى فبشعوا ونكلوا بالثوار ايما تنكيل وقتلوا الاسير والجريح منهم واحرقوا وهدموا بيوت الفلاحين في القرى التي مروا بها ونهبوا وقتلوا المواشي. دخل الغزاة العثمانيون وبرفقتهم المشايخ الى السويداء في مجزرة الدم هذه وجرت اعتقالات واسعة في صفوف الثوار وقادتهم. ونالوا اشد انواع العذاب في اعتقالهم في القلاع العثمانية وطلب العثمانيون من المشايخ تأشير بيوت الثوار حتى يحرقوها ويقتلوا اهلها فما كان من قسم منهم الا ان وضع الشارات على جميع البيوت بما فيها بيوت المشايخ وذلك لايقاف هذا السيل الحاقد الاعمى.
لم يكن بالامكان ابادة تيار شعبي برمته ورغم الانتصار الوحشي الذي حققه العثمانيون. فقد استاء بعض المشايخ واستعادوا رشدهم ووعوا انه من المستحيل تجاوز مقررات العامية وشعروا باليأس التام من امكانية تطويق تأثير هذه المقررات التي منها هي ان الارض ملك لمن يفلحها بيده وينتج الغلة، وانه من غير الممكن انتزاع هذا الحق من الفلاحين والفقراء وهم الاغلبية الساحقة واعادته من جديد لقبضة المشايخ الذين اصبحوا في عزلة، هم في واد والجماهير في واد آخر، فما كان منهم الا ان ادركوا انه لم يعد ممكنا اغراق قرى الجبل بمزيد من الدماء على مذبح استبدادهم، وشعر قسم منهم بالذنب فعلا وبانهم بجريرة اطماعهم انجزوا التعاون مع العثمانيين على اخوانهم وابناء عشيرتهم وفطنوا انهم اساؤوا لمعتقدهم الديني الذي يأمرهم بحفظ الاخوان ومساواتهم بانفسهم واقتسام مصادر العيش قسمة عادلة واخوية. وهكذا بعد هذه اليقظة الضميرية اصبح سلاح عقيدة الموحدين الدينية يعمل لصالح الفلاحين العامية اصحاب القضية العادلة والمطلب الحق. ويولد لدى المشايخ استعدادا نفسيا للمصالحة والتسليم بحقوق العامية. فتداعى الاهالي من جميع انحاء الجبل في مطلع عام 1890م الى الاجتماع (اجتماع السويداء الكبير) الذي ما كانت نتائجه تكون لصالح العامية لولا وحدتهم الصوانية واستمرارهم اوفياء لمطالبهم ومخلصين لقضيتهم وبذل كل ما يستطيعون لانجاح مسعاهم العظيم الذي تعهدوه ببذل الدم والروح فداء له. ونجم عن الاجتماع ما يلي:
- - كل واضع يد على ارض او مسكن مالك له وهذا عمليا لم يبق للمشايخ الملاكين سوى (نصف ربع اراضيهم) مع احتفاظ دار كبير الطرشان في قرية "عرى" بالربع 25% من مجموع ملكيته وبقي لدار الشيخ بالسويداء الارض التي كانت لآل الحمدان فقط وهي 45 فدانا من اصل 128 فدانا.
- - يتكفل المشايخ بدفع دية جميع القتلى.
- - الغاء صلاحيات المشايخ في السخرة والترحيل وجباية الضرائب والمصادرة.
وبذلك خضع المشايخ لعدالة مطالب الثوار تحت سمع وبصر القوات العثمانية في الجبل العربي الدرزي وهذا بالطبع هزيمة مزرية لها بعد ان فشل اسلوبها في اعتقال مئات الثوار وحرق محاصيلهم وذبح مواشيهم. الامور التي رغم قسوتها لم تزحزح ايمان الثائرين بعدالة قضيتهم وبمشروعية انتفاضتهم قيد شعرة.
ثم ان العثمانيين طمعوا في اجراء تسجيل عقاري للاراضي وتقسيم اداري فعلي للجبل وابقاء الجيش العثماني فيه وتطبيق الخدمة الاجبارية على رجاله وشبابه خاصة. لكن الشعب الذي تكاتف وحارب ايام الانتفاضة ظل حريصا على ان لا يستغل بعد اليوم من اية جهة كانت لذا وعقب الاتفاق مباشرة طرح الفلاحون شعار "الاتراك يدوسون الجميع" ليقاومهم الجبل باكمله، فلم يمض عام على تعيين ابراهيم الاطرش من الاتراك قائم مقام الجبل ومنحه لقب باشا من السلطان عبد الحميد، حتى كان الامير شبلي الاطرش شيخ بلدة عرى والشاعر الشعبي المبدع المشهور قد انتقل الى مواقع الشعب في مقاومة العدو المشترك (العثمانيين) فحسن علاقته مع الجيران في سهل حوران وباشر في معارك عديدة على السلطة العثمانية تمكن على اثرها العثمانيون من اعتقال شبلي الاطرش في سنة 1892م، وقام الفلاحون بتخليصه من المعتقل عقب محاصرتهم لقلعة المزرعة ثلاثة ايام.
قصص النفي
في عام 1894 قامت السلطة العثمانية عقب معارك كبيرة في القرى قراصة، وبحران والسجن وام العلق بنفي مائتين من قادة الشعب الى جزيرة رودس وكريت والى تونس والاناضول فجرت سلسلة من المعارك بين 1894 – 1899 ارغم على اثرها الغزاة الاتراك على الرضوخ لمطالب الشعب بعد ان وصلت خسائرهم في 1899 الى حد كبير من جنودهم وضباطهم. فارجعوا الى الجبل المنفيين لتهدئة الوضع ورفعوا الضريبة والتجنيد الاجباري عنهم واعترفوا بالاعراف المتبعة في الجبل في مطلع 1900م وبذلك تكلل نضال الفلاحين بدءا من 1880 بشرخ الوجود العثماني الفعلي العسكري والضرائبي في جبل الدروز "جبل العرب" وتبلور ذلك كحقيقة وامر واقع سنة 1900م.
وهكذا تم للفلاحين ما ناضلوا من اجله وقاموا برزع ارض المشايخ ووضعوا حصتهم المتفق عليها جانبا بالعدل واخذوا نصيبهم. وترسخت مبادئ العمل الجماعي فصار الفلاحون يجمعون بقايا البيدر بالحاصل "الحاصل الجماعي" لتأمين طعام خيول الضيوف واستمرت بشكل افضل عملية التسويق الجماعي للانتاج فكان الفلاحون يرسلون نتاجهم في قوافل مشتركة الى دمشق يقوم بحمايتها الاهالي قرية قرية حتى تصل الى المركز وقد كان من انجازات الانتفاضة بدء الغرس في الجبل حيث انتشرت عملية زرع الاراضي بالكرمة والتفاح والزيتون والاشجار الاخرى وغطت قسما كبيرا من اراضيهم خاصة الجبلية منها.
ولعبت المرأة دورا هاما في تلك الانتفاضة وكانت نساء الفلاحين تمارس الاعمال الزراعية والحرفية والاسعافية والحربية ايضا.؟ وكان من اهم ما حققته انتفاضة العامية في جبل حوران العربي الدرزي فرزها للقيادات الفلاحية التي نجحت في تثوير الريف في الجبل رغم كونهم ابناء قرى صغيرة تجمعها وسائل وطرق بدائية، وتغيب عنها المميزات الحديثة من اتصال اعلامي بالمدينة والعالم كما انها جمعت بين طوائف الجبل فكان سفير العامية في اجتماع عرمان ابو ظاهر العيد مسيحيا وكذلك ناصيف غناج وغيرهما. كما ان شعار منع بيع العشب والماء الذي صدر عن رجال الدين الدروز قد جعل الفلاحين يؤثرون في انصاف البدو اضافة الى التحالف مع انصاف المشايخ.
ومن الاخطاء التي ارتكبتها الانتفاضة ان المشايخ الذين شاركوا في الانتفاضة لم تمس اراضيهم في عدد من القرى حيث جرت تسوية لم تنل من امتيازاتهم الا بشكل رمزي، مما ادى الى انتكاس مواقعهم في الاحداث اللاحقة في الجبل وابتعادهم عن مواقع الشعب.
وقد نفضت الاعراف المهترئة والمرتبطة بامتيازات المشايخ والغي بعد الانتفاضة الاحتلال البدائي للارض بحيث ابقي على احتلال الاراضي المأهولة اما غير المأهولة فمن حق الفلاحين رعي مواشيهم فيها ولا يجوز التعدي عليها بالتوسع غير المتفق عليه.
خلاصات
ماذا يعني لنا اليوم هذا الحدث؟ وهل شكلت انتفاضة العامية في جبل حوران العربي الدرزي الصورة الصحيحة للمجتمع الريفي الثوري البديل؟
لا شك ان عبارة انجلز لقد كان الطوباويون طوباويين لانهم ما كانوا يستطيعون ان يكونوا شيئا آخر في وقت كان الانتاج الرأسمالي فيه قليل التطور". تعطي هنا اجابة شافية.
العاميون في الجبل ليسوا بطوباويين ولكنهم لم يكونوا يفكرون بانشاء الجمعيات الانتاجية ومن الطبيعي آنذاك ان لا يخطر ذلك ببالهم وان لا يتطلعوا الى تشكيل مجتمع اشتراكي لم تظهر عناصر تشكيله بعد... وليس الا الحالم ان يطالبهم بهذا في مجتمع الركود العثماني حيث الامية والجهل يفرشان غطاء فضفاضا على امتداد ساحته.
لقد كان اسلوبهم في الاعداد للانتفاضة والقيام بها نموذجا للفلاح العربي ودرسا واقعيا من دروس الانتفاضة ضمن شروط موضوعية قائمة في خصوصية وضع الجبل آنذاك وحصار الدولة العثمانية الذي ضربته حول الانتفاضة. وعدم امكان انتشار هذه الانتفاضة للجوار، وغياب الصناعة والعمال العاملين بالصناعة وشكل الانتاج ما قبل الرأسمالي.
لقد اعطى فلاحو جبل العرب الدروز باجراءاتهم نموذجا لعملية تمزيق الاسس التخلفية للريف العربي وشاهدا حيا على ان الفلاح العربي قوة حليفة حية من قوى الثورة على اشكال الاستلاب.
وهكذا يثبت استقراء عبر ودروس هذه الانتفاضة، ان الصراع الطبقي هو الاساس والقاعدة والمصلحة الطبقية هي المحرك للصراع وهي تأتي فوق الاعتبارات الاخرى. فرغم ان الاقطاعيين العرب الدروز يفقهون تعاليم عقيدة جماعتهم الموحدين التي تأمر اتباعها بانصاف بعضهم بعضا، مع ذلك يبقى الاقطاعي الدرزي مثل سواه متمسكا بمكاسبه الطبقية والعقيدة وحدها ان كانت دينية او سياسية ومهما كانت عادلة لن تفي بالغرض لها بدون القوى المنبثقة عن وحدة الجماهير المظلومة والتي تنهض لازالة الظلم العالق بها وصنع المجتمع البديل العادل الذي يتساوى فيه الجميع في حقوقهم وواجباتهم.
ومن مدلولات هذا الحدث التاريخي الهام في تاريخ العرب الدروز السوريين ابناء جبل العرب، ان العرب الدروز لا ينامون على ضيم طويلا حتى ولو كان على يد ابناء عشيرتهم.
ومما تبين ايضا من هذا الحدث انه لكل طبقة اجتماعية اخلاقها التي تعكس الى حد كبير واقعها المعيشي وانه من الطبيعي ان يثور العامية والفلاحون الفقراء على ابناء بلدتهم وعشيرتهم من المشايخ الاقطاعيين اصحاب الايادي الطويلة التي لا تراعي حس الكرامة المرهف لمن هم دونها في السلم الطبقي والاجتماعي، خاصة اذا كان هؤلاء المظلومون يتسلحون بعقيدة سياسية او دينية تشحنهم بالتصدي للظلم والظالمين مثلما تعمل عقيدة الموحدين الدروز التي تنبه اتباعها عن عاقبة التسامح مع الظالم وتعلمهم ان من خشي من بشر مثله سلط عليه وان افضل ما يرضي الخالق قولة حق عند متسلط جائر. وليس من الايمان الاستسلام للظلم بل مقاومته واشهار السيف ضده. وعقيدة العرب الدروز الدينية توصيهم بالتكافل وان من واجب الاغنياء اعالة المحتاجين. كما انه حرام على المؤمن اذا تحقق من فقر شخص مؤمن ان يحوجه الى سواه اذا كان قادرا على مد يد المساعدة اليه.
ومما يجدر ذكره ان العربي الدرزي مهما كان ميسور الحال لم يحصل ان اشترى "عبدا" خلال الالف سنة التي انقضت حتى الآن من عمر الطائفة العربية الدرزية وعندما كان الانسان الدرزي يصادف العبد ويتعامل معه في حقل من الحقول كان يناديه يا اخي او يا حرير. أي اقل بقليل من الانسان الحر على نمط شويعر أي اقل بقليل من شاعر اما عبارة "عبد" فتعني العبودية والحرمان من الحرية وهذا ما ترفضه النفوس الانسانية المرهفة ولا تستسيغه. اخيرا بالامكان الاستنتاج من مطالعتنا لاحداث تلك الانتفاضة ان الشريحة الاجتماعية المالكة ذات البعد الاقطاعي وذات الزعامة السياسية التقليدية الوراثية، تجد نفسها احيانا كثيرة تستسيغ التحالف مع الاجانب والاعداء الطامعين لتتقوى بهم على الشعب الذي تتسيد عليه وتعيش بين ظهرانيه مفضلة مصالحها الطبقية على مصالح بلادها وشعبها الجوهرية.
وها نحن في وقتنا الحاضر نرى على ساحة وطننا العربي الكبير انظمة القطاع والملكية والبرجوازية متساوقة في حقيقة امرها مع الامبريالية الامريكية والانظمة الرأسمالية، ومعادية للمصالح الجوهرية لشعوبها مفضلة مصالحها الذاتية على أي شيء آخر وتلتقي مع الصهيونية في محاربتها لحركة التحرر والتقدم والاشتراكية في منطقتنا وكل مكان من العالم، ولا تدفع اكثر من الضريبة الاعلامية للانتفاضة الباسلة، فما احوج شعوبنا العربية الى الايمان العميق بالصراع الطبقي وتوجيه البنادق والحراب الى عروش وانظمة الاستبداد والاستغلال الطبقي والنهوض بواجب اسقاط الحكم من يد طبقات الاستغلال والظلم التي مثلت دائما "حصان طروادة" ازاء حركة التحرر العربية لتثبت سلطانها ووجودها.
- ملاحظة:المقصود بـ "انتفاضة العامية" انتفاضة العوام أي ابناء الشعب الفقراء والاُجراء والكادحين.