التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة 1492-1860
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقدمة: السعي للسعادة
لم تعرف مكانةالولايات المتحدة – مع بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين ما يضاريها في العلاقات الدولية على مر العصور. ويمكن أن نستحضر هنا الإمبراطورية الرومانية في أوج إزدهارها قبل ألفي عام لنجد حالة مماثلة مع اختلاف السياق التاريخي.
لقد فتحت روما العالم المعروف أنذاك بقوة السلاح ، واستمدت قوتها من جيوشها وكتائب جندها. منذ ذلك الحين مارست كل القوى العظمى هيمنتها السياسية/العسكرية على الشعوب الأجنبية دعما لمصالحها الخاصة. لقد وضعت الإمبراطورية البريطانية يدها قبل قرن مضى على ربع مساحة اليابسة في العالم حينما كان ثلث سكان العالم خاضعا لتاج الملك ادوارد السابع ، لكن قلة فقط من هؤلاء تحدثت الإنجليزية أو اعتبرت نفسها في عداد الشعب البريطاني.
أما الولايات المتحدة فكانت طوال تاريخا بلدا معارض بشدة للهيمنة الإمبريالية. وكانت القوة العظمة الوحيدة في القرن العشرين التي لم تسع في أعقاب الحروب التي خاضتها إلى ضم أراضي دول مجاةر ، مع أنها كانت البلد الوحيد الذي خرج من كل صراعات القوى العظمة الثلاثة التي شهدها القرن بحال أقوى. تبلغ مساحة الولايات المتحدة اليوم ستة في المائة فقط من مساحة اليابسة في العالم ويقطنها ستة في المائة من سكان العالم. ويعتبر مواطنوها أنفسهم أمريكيين نطقين بالإنجليزية ، كما أن نفوذها في العالم يفوق النفوذ البريطاني إبان ذروة القوة البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر. ويعود الفضل في ذلك إلى الاقتصاد الأمريطي ، اذ تبلغ مساحة الولايات المتحدة ستة في لامائة من مساحة اليابسة ويعد سكانها ستة في المائة من سكان العالم ، فإنها تنتج ما يعادل ثلاثين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم ، مجتمعة ، أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما نتنجه الدولة التي تليها هي في الترتيب ، كمان أن الولايات المتحدة تتفوق على كل دول العالم في جميع الحقول الاقتصادية تقريبا: من أعمال المناجم إلى قطاع الإتصالات ، وبكل المقاييس: من حصة الفرد من الناتج الزراعي إلى الكتب المنشورة سنويا إلى حاملي جوائز نوبل (أكثر من 42% من حاملي نوبل).
ولا يعد اقتصادها الأكبر في العالم فقط ، بل يمتاز أيضا بأنه الأكثر دينامية وقدرة على الإبتكار ، ولا نبالغ إذا قلنا أن الولايات المتحدة كانت مهد كل منتجات التقدم التكنولوجي التي شهدها القرن العشرون تقريبا – والذي كان بحق أعظم القروم في تاريخ التكنولوجيا – وفيها أخدذت بعض تلك المنتجات شكلها الصناعي العام وغدت سلعا نهائية. منهنا فإن ثقافتها تسود العالم أجمع: من الجينز الأزرق إلى أفلام هوليوود إلى الكوكاكولا وموسيقى الروك أند رول إلى السيارات الرياضية SUV وغرف الدردشة الإلكترونية. وبالتأكيد تحمل التقنيات الجديدة مع انتشارها في العالم طابعا أمريكيا لا مفر منه.
هذا وتتحول اللغة الإنجليزية بوقع غير مسبوق إلى لغة توحد العالم ، مثلما وحدت اللاتينية اوروبا طوال قرون. كما أن ستين في المائة من دارسي اللغات الأجنبية في العالم اليوم ينكبون على اللغة الإنجليزية التي دخلت كمادة أساسية في كل الأنظمة التعليمية في العالم. يعزي هذا في بعض منه إلى أن دولا كثيرة تعتمد الإنجليزية لغة أساسية أو لغة ثاني ، وذلك بفضل الإمبراطورية البريطانية ، من جهة وتفوق الولايات المتحدة من جهة أخرى ، على غيرها من دول العالم في حقل الاتصالات وصناعة الترفيه ، فالشبكة الدولية (الانترنت) التي تعتبر من أقوى وسائل الاتصالات المبتكرة حتى الآن هي أساسا ابتكار أمريكي ، كما أن الإنجليزية هي اللغة المستخدمة في أكثر من ثمانين في المائة من مواقع الإنترنت التي يصل عددها اليوم إلى أربعة مليارات.
وهكذا ، اذن فإن أكبر نقاط قوة الولايات المتحدة تكمن في المجال العسكري – على الرغم من درجة التطور التي وصلت إليها في هذا المجال طبعا – بل في ثروتها وتوزعها بين شرائح واسعة من سكانها وقدراتها على خلق مزيد من الثروة وإمكاناتها الابتكارية غير المحدودة في تطوير أساليب جديدة تفيد في استخدام تلك الثروة استخداما منتجا.
وان كان العالم اليوم يكتسب سريعا طابعا أمريكيا كما صبغه الطابع الروماني قديما ، فإن الفضل لا يعود إلى ترسانة الأسلحة التي تمتلكها الولايات المتحدة بل إلى رغبة دول العالم في إكتساب ما تملكه الولايات المتحدة وإستعدادها وسعيها لتبني أساليب خلقه. إن الإنتشار الواسع لموجة الديموقراطية والرأسمالية في العقود القليلة الماضية بفضل النموذج الأمريكي أساسا من جهة ، والنحب التي بدأت ترى نفوذها لاقى ترحيبا واسعا من قبل الشعوب من جهةة ، والنخب التي بدأت ترى نفوذها يتلاشى من جهة أخرى. هذا الفتح السلمي يعد من أكثرالفتوحات التي عرفها التاريخ منطقا وإيجابا وشمولا ، كما أنه يعتبر أكثر ديمومة في كل وجوهه.
من هنا فإن أمريكا هي إمبراطورية سلاحها الثروة: إمبراطورية بنيت على النجاح الإقتصادي والفكر والتطبيق اللذين عززا ذلك النجاح ، كمثل العديد من تجارب النجاح في المجالات الأخرى ، يعتبر النجاح الاقتصادي الأمريكي بمعايير اليوم أمرا محتوما بل مقدرا. إذا أن البلد كن يتمتع على الدوام بأراضي شاسعة تميزت بتنوعها وخصوبتها إلى جانب مخزونه الكبير من الموارد الطبيعية الوفيرة والموارد البشرية الكفوءة. لكن الأرجنتين امتلكت مثل تلك المقومات وهي لم تدخل أيضا في حروب طويلة منذ العام 1870 ، ومع ذلك ، تسعى جاهدة للحفاظ على موقع لها بين الدول المتقدمة ، إذ أن ناتجها المحلي الإجمالي لا يتعدى ثلث الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
تعود هذه الفروق أساسا إلى عوامل سياسية ، ذلك أن النظام السياسي في الأرجنتين ، الموروث عن النظام الإمبريالي الإسباني الذي قام على سياسة حكم الطبقات العليا ، قد أدى على الدوام إلى تقويض الثروة ، وأعاق آلية خلقها بدلا من المساهمة في هذه الآلية. أما النظام السياسي الأمريكي فقد استمد لحسن الطالع من التقاليد الإنجليزية ، خصوصا فكرة سيادة القانون وليس سيادة الدولة ، كمان أن الإنجليزي أسبغوا أهمية كبيرة على مفهوم الحرية الذي ينص على أن للفرد حقوقا متوارثة (حق التملك) لا يمكن إنتزاعها تعسفا.
إضافة إلى ما تقدم ، فان قدرة إنجلترا على تطوير هذه المفاهيم وإدخالها في صلب النظام السياسي ، وتوريثها للأجيال المتعاقبة كانت تقوم في الأساس على واقعها الجغرافي الذي لم يكن خافيا عن اوروبا والعالم ، تلك الأميال الثلاثة والعشرين من المياه العميقة التي تفضل جزيرة بريطانيا العظمة عن البر الاوروبي. إن القنال الإنجليزي ضيف بما يكفي لأن تقيم انجلترا صلات وثيقة ودائمة مع اوروبا الأم ، كما أنه واسع لمكا يكفي لدرء خطر الغزاة عن الجزيرة. مع ذلك لم تؤمن عواقب الإفتراض الأخير ، حتى في أفضل حالاته ، بعد أن تعرضت الجزيرة للغزة ذات مرة في الألفية الثانية.
لقد تميزت انجلترا ، وهي التي لم تكن في حاجة إلى بناء جيش كبير يكلفها أعباء مالية كبيرة ، بإنخفاض معدلات الضرائب في مراحل طويلة من تاريخا ، وكانتب التالي قادرة على توجيه مواردها الاقتصادية نحو خلق موارد جديدة ، إلى ذلك ، اعتمدت انجلترا على أسلوب الحكم غير المركزي ، فتركت تسيير الشئون المحلية في أيدي السكان المحلليين ، وكان تدخل الملك محدودا.
كما اتسمت بريطانيا بتكريبتها الاجتماعية الأكثر حراكا بين كل الأمم الاوروبية ، وحملت طبقتها الأرستقراطية ميزات خاصة استمدتها من ثروتها ونفوذها . لكن طبقة النبلاء في المجتمع البريطاني لم تكن حكرا على فئة معينة. فعلاقات الزواج بين الأسر البرجوازية الكبيرة وعائلات الإقطاع كانت أكثر شيوعا في بريطانيا من بقية دول القارة الاوروبية ، وكانت الطريق فيها بالتالي مفتوحة من دون قيود أمام أصحاب الكفاءات لارتقاء السلم الاجتماعي ، لقد قصد نابليون المذمة حين نعت بريطانيا متهكما بأنها أمة "أصحاب المتاجر" ، لكن البريطانيين إعتبروا ذلك إطراء لهم.
واعتاد الإنجليزي هذا الواقع ، وقاوموا بشدة كل محاولات تغييره ، فالإنجليز الذين شرعوا في استيطان أمريكا مع مطلع القرن السابع عشر جلبوا معهم هذه الأفكار وطبقوها في البيئة الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها.
هذه المحال الجديدة كانت شبيهة بواقع انجلترا ، من الناحية الجيوسياسية ، ولكن على نطاق أوسع ، فحتى النصف الثاني من القرن العشرين كانت أمريكا الشمالية بمنأى عن الهجوم الهارجي ، مما خفف من ثقل يد المصالح الضريبية عن كواهل سكان البلاد طوال الشطر الأعظم من تلك الحقبة. وبفضل موقع بريطانيا المميز على خريطة العالم ، الذي سمح لها بالسيطرة على طرق التجارة في شمال اوروبا ، بدأت تلك الرقعة الجغرافية بالهيمنة على شئون اوروبا والعالم. وكانت الولايات المتحدة مهيأة تماما للافادة من نشوء اقتصاد معولم كليا. إن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي تمتد أراضيها على مناطق مناخية قطبية ومعتدلة ومدارية. إنها تجمع بين خصائص الجزيرة المنعزلة بذاتها ، وما يوفره لك من أمن عسكري وسمات القارة بكل الموارد التي تزهر بها تلك القارة.
إلى هذا ، فإن معظم الذين وفدوا إلى ما يسمى الآن بالولايات المتحدة – وهم كلهم من الانجليز – قد جائوا لتسيير شئون حياتهم الخاصة من دون قيود ، ليمارسوا عباداتهم ويحسنوا ظروفهم الاقتصادية معا في تلك البلاد التي اعتبرت على مر القرون أرض الفرص. إذا ليس من قبيل المصادفة في هذا المقام أن تكون الولايات المتحدة أكثر الأمم تدينا على وجه الأرض وأكثرها علمانية أيضا ، أكثرها تمسك بالعقيدة وأكثراه حبا للتجارة.
وما من شك بأن تميز الولايات المتحدة بشعبها المثابر إنا يأتي من تحدره من سلالة أولئك القوم ذوي الهمة العالمية الذي تخطو كل الصعاب وهاجروا إلى أمريكا. إن أولئك الذين تركوا وراءهم كل شيء ووفدوا إلى أرض غريبة قاصية قد فعلوا ذلك بحثا عن تصورهم الخاص عن معنى السعادة. في هذه البلاد وجدت أغلبيتهم الظروف مواتية للوصول إلى ذلك في بيئة تكاد تنعدم فيها القيوم والمعوقات ، وهذا ما قدم لهم فرصة أفضل لبلوغ تلك السعادة. حتى اولئك الذين جاءوا في عداد الأسرى رغما عن إرادتهم الحرة صمدوا في وجه محنة لا يتصورها العقل في يومنا الحالي ، وأورثوا تلك القوة التي اكتسبوها لأولادهم وأحفادهم. ولأن الاقتصاد الوطني هو مجموع الإنجازات الفردية لمواطنيه فقد أضحى الاقتصاد الأمريكي طوال ما يقرب من أربعة عقود على نشأته واحدا من أعظم عجائب العالم الحديث ومرتكزا أساسيا للنهضة التي يشهدها عالم اليوم.
لا نقصد هذا القوم بأن تاريخ الاقتصاد الأمريكي كان مجموعة من الإنتصارات المتعاقبة. إننا إن إدعينا ذلك خرجنا على مصداقية هذا الكتاب. ففي كثير من مراحل تاريخ الولايات المتحدة مر الاقتصاد بصعاب بالغة كانت ستتفاقم وتخرج على السيطرة ، لو أن القيادة السياسية انتهت إلى الفشل كمان كان مصير حكومة الأرجنتين طوال تاريخا.
لقد دخل الاقتصاد الأمريكي بعد الثورة في ركود ثفيل ، إذا لم تجد منتجات البلد منافذ لها في مناطق نفوذ الإمبراطورية البريطانية ، حيث كانت أسواقها التقليدية ذات يوم ، وكانت عملتها – ان ارتقت فعلا إلى مستوى العملة – عديمة القيمة ، وتخلفت الحكومة عن سداد ديونها المتراكمة ، وفي العام 1932 عمت آثار الكساد الكبير كل القطاعات ، مما جعل مستقبل الاقتصاد ومستقبل الجمهورية نفسها غامضا في نظر الكثيرين.
في كلت المحنتين استطاع هذا البلد أن يدرأ عن نفسه الخطوب ، ويقف ثانية على قدميه أقوى من ذي قبل بفضل قيادته الحكيمة وعلى رأسها جورج واشنطن وأليكساندر هميلتون، ثم فرانكلين روزفلت. مع ذلك فقد ارتكب القادة السياسيون للبلد أخطاء فادحة أيضا ، منها تلك التي أدت إلى الكساد الكبير نفسه. كمان أن انهيار البنك الثاني للولايات المتحدة لعى يدي أندرو جاكسون ترك البلد من دون مصرف مركزي طوال ما يقرب من ثمانين عاما. وبالنتيجة تفاقمت نتائج الإنهيار المالية المتعاقبة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كما كانت فترات الكساد الكبير أشد وطأة مما يجب.
تحمل قصة إمبراطورية الثروة ، كمعظم قصص الإمبراطوريات ، طابعا ملحميا حافلا بالإنتصارات والهزائم ، بالجرأة والتردد ، بالأفكار الجديدة والرواسب القديمة ، بالعقلاء والحمقى. لكنها كانت في شطرها الأعظم ملحمة فادتها الملايين التي لم يقف في طريقها شيء في سعيها إلى تحقيق مصالحها الذاتية في ظل حكم القانون ، وهذا هو أساس الحرية. ومثل كل الملاحم ، تعتبر هذه الملحمة بجوهرها نافذة نطل منها إلى كل ما يحقق إنسانيتنا ، ذلك أنني لا أرى أفضل من قصة الاقتصاد الامريكي لدخض فكرة ويليام وودسورث التي عبر عنها في قوله: "إننا نهدر مواردنا في عمليات الكسف والإنفاق".
الجزء الأول: فلاة شاسعة وغنية
الفصل الأول: الأرض والشعب والقانون
كان ابراهام لنكولن يرى أن أي أمة مهما تجاوزت قدراتها مجموع أجزائها هي نتاج عناصر ثلاثة: شعبها وأرضها وقوانينها.
لم تنفصل هذه العناصر الثلاثة في بلدان العالم القديم على امتداد تاريخها الطويل. لكن الولايات المتحدة لم تعرف لها تاريخا قديما كغيرها من الأمم التي تأسست على أيدي مستوطنين اوروبيين في موجة المد الكبير للثقافة الغربية في أواخر القرن الخامس عشر ، فمع بداية التاريخ الأمريكي لم يكن هناك إلا الأرض.
كانت الأرض التي ستصبح – فيما بعد – الأرض التي ترعرع فيها المستكشفون والمستوطنون الاوروبيون أول مرة . فقد تمركزت الكثافة السكانية في اوروبا الغربية في المدن والقرى والضياع! كانت الأراضي الزراعية تحرث بانتظام وكانت الحياة البرةي محدودة كما كانت الغابات نادرة ، فاقتصد أولئك القوم في استغلالها.
تقع أمريكا في المنطقة الحرارية نفسها التي تمتد عليها القارة الاوروبية ، وتعيش فيها أصناف من الأشجار والنباتات والحيوانات المعروفة ، إضافة إلى أنواع من النباتتات والحيوانات الغريبة ومنها الذرة والراكون والظربان والأفعى المجرسة. لكن وراء الساحل الصخري لما يعرف اليوم بولاية ما بين Maine والشاطئ الرملي الواسع الممتد تقريبا من دون انقطاع من نيوهامبشاير إلى مكسيكو وما يليها ، تمتد البراري البكر التي لم تمسها أيادي سكان المنطقة إلا قليلا.
هذه البراري كانت ذات يوم غابة تفوق مساحتها اوروبا الغربية مجتمعة ، لا يقطع امتدادها أحيانا إلا مروج القندس والمستنقعات والسبخات والجروف الصخرية وقمم الجبال الجرداء وحقول الهنود المحروقة. لقد امتدت هذه الغابة من خط الساحل إلى ما بعد نهر المسيسيبي. من هناك سارت بمحاذاة النهر وضفاف الجداول إلى السهول الواسعة التي غطت وسط القارة.
هذه الغابة العملاقة كانت مكونة من رقع متباينة ، ففي الشمال انتصب جدرات عالية من الصنوبر الأبيض – الذي تعتبر أخشابه الأفضل لصناعة صواري وعوارض السف الشراعية – تتناوب مع غابات الخشب الصلب حيث أشجار القيقب والجميز والدردار التي تفترض الأراضي المنخفضة ، والبلوط والجوزيات التي تتسلق المنحدرات الجافة العالية. إلى الجنوب تمتد رقع من فصائل مختلفة من الصنوبر على طول ساحل الأطلسي إلى المناطق الداخلية حيث تلتقي غابات شجر الخشب الصب عند أطراف النجود.
يتميز الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية بتضاريسه المنبسطة ، وقد ساعد السهل الساحلي الواسع على الاستيطان دون بالغ صعوبة. فهناك شبه جزر مثل كيب كود وديلمارفا وجزر مثل لونج آيلاند وهناك الشواطئ المنعزلة التي تمتد إلى أعماق الجنوب التي وفرت مرفأ آمنا لطلائع السفن الوافدة. وبفضل وفرة الأنهار مثل الميرماك وتشارلز والتايمز وكونيكتيكوت والهوساتونيك والهدسون والراريتان والديلاوير وساسكويهانا والبوتوماك والراباهانوك واليورك والراريتان والبيدي والآشلي والكوبر والسافانا وجدت المراكب الصغيرة المبحرة آنذاك في المياه الضحلة شبكة النقل التي تصل إلى المناطق الداخلية البعيدة. في العام 1609 أبحر هنري هدسون – وهو رجل انجليزي عمل لحساب الهولنديين – بسفينته المتداعية هاف موون لمسافة 150 ميلا إلى أعالي النهر الذي سمي فيما بعد باسمه ، حيث بلغ مكانا قصيا يشارف ما يعرف اليوم بألباني . إن رحلة طويلة مثل هذه عن طيرق البر كانت لتستغرق شهرا أو أكثر ، لكن هدسون – على الرغم من مسيره الهذر في مجرى مائي ضيق لم يعهده قليلا – قطع المسافة في أسبوع واحد.
لقد تشكلت هذه الأنهار حيث كان البحر أدنى من مستواه الحالي ، وبالتالي أدى ارتفاع منسوبها إلى غمر مصبات الانهار ووفر عددا من المرافئ التي اصبحت من أفضل المرافئ على المحيط الأطلسي الشمالي. وهكذا فإن عددا من المدن الأول في البلد – بوسطن ونيويورك ونيولندن ونيوبورت وبالتيمور وتشارلتسون – ازدهر في تلك المرافئ.
أما مناخ أمريكا الشمالية الذي واجه المستوطنون فكان – كما الأرض – كان مألوفا وغريبا معا. إن مناخ الجانب الشرقي في هذه القارة لاواسعة الذي كان قاريا بطبيعته مقارنة بمناخ اوروبا الغربية البحري الذي تعتدل درجة حرارته بفضل موجة الدفئ القادمة مع نسيم الخليج ، يجعل من فصل الشتاء في أمريكا أشد برودة من شتاء اوروبا الغربية ، كما أنه يجعل لندن التي تقع شمال خط العرض الواحد والخمسين ، تصلا إلى 99 درجة ودرجتين (فهرنهيت) على التوالي. وقلما تبلغ درجة الحرارة هذه الحدين. أما درجات الحرارة المسجلة في نيويورك شمال خط العرض الواحد والأربعين ، فهي 106 درجات و – 15 درجة على التوالي ، وكثيرا ما تصل الحرارة إلى هاتين الدرجتين العظميين ، وبالمقارنة مع اوروبا تعتبر فصول الشتاء في نيوانجلاند وفصول الصيف في الشطر الجنوبي طويلة قاسية.
هذه الأرض الشاسعة لم تكن خالية من السكان ، إذا كانت تسمى انديانز (ليز انديا بالفرنسية ، ولوس انديوس بالاسبانية) ، على الرغ من جهل طلائع المستكشفين الاوروبيين بهذه الحقيقة ، ذلك أنه اعتقدوا أنفسهم حينها على تخوم آسيا. في الحقيقة عاش سكان أمريكا الشمالية الأصليون في كل أنحاء القارة التي كانت تعتبر مقارنة باوروبا قليلة السكان نسبة إلى مساحة الأرض. ولا يمكن الوصول إلى الأرقام الدقيقة ، أما التقديرات فهي متباينة ، مع ذلك كان عدد السكان الهنود في الشطر الشرقي من أمريكا الشمالية يتراواح بين مليون ومليوني نسمة زمن كولومبس. وقد تناقص هذا العدد – بأطراد أحيانا – جين جلك الاحتكاك المتزايد بالاوروبيين قبل استيطانهم أمراضا لم يكن الهنود محصنين ضدها.
لم يشترك الهنود مطلقا في حضارة واحدة حتى بالمعايير الاوروبية على اختلافها ، فقد كان هناك مائتنان وهمسون لغة حية في أمريكا الشمالية مع بداية الكشوف الاوروبية (نحو ألفي لغة في النصف الغربي من الكرة الأرضية جميعا). حتى تلك الجماعات من سكان أمريكا الشمالية التي تكلمت لغة واحدة كانت منقسمة إلى قبائل صغيرة متناحرة ، وكانت المناوشات لا تنقطع بينها.
وحدهم هنود وادي المسيسيبي الذي انتطموا اجتماعيا في زعامات اتخدذوا الزراعة مصدرا رئيسيا لقوتهم ومعاشهم ، أما هنود الساحل الشرقي – الذين عاشوا في قبائل – فكانوا أساسا من الصيادين وجامعي الغذاء. إن أقل من 1% من الأراضي الصالحة للزراعة في الشطر الشرقي من أمريكا الشمالية أستخدمت لزراعة المحاصيل الغذائية. وباعتمادهم أسلوب حرق الأراضي استطاع الهنود زراعة الذرة واليقطين والبقول في رقعة من الأرض بضع سنين والإنتقال إلى رقعة جديدة مع تدني خصوبة الرقعة القديمة.
وبلغة التقدم التقني ، كان الهنود الشرقيين ينتسبون إلى العصر الحجري الحديث ، إذ كانت أدواتهم متطورة ، لكنهم لم يعرفوا المعادن ، كانوا ذوي حضارة متقدمة ، إذا استخدموا مئات من المواد والتقنيات المختلفة بالاستعانة بما أطلق عليه جيمس فينيمور كوبر ، الذي عاش بعد قرنين اسم فن الغابة الرفيع. وقد ساعدت هذه الفنون التي تطورت على مدى آلاف السنين من العيش على ما تقدمه الأرض – التي نقلها السكان الأصليون إلى المستعمرين – في صمود هؤلاء الهنود غير مرة في وجه الكوارث ، بل ومواجهة مخاطر الإنقراض مع كفاحهم الدئوب لايجاد موطي قدم لهم في العالم الجديد الذي لم يعهدوه من قبل.
لكن الحضارة التي جلها هؤلاء المستعمرون معهم ، وأحلوها مكان حضارة الهنود فاقت الأخيرة بتقدمها التقني ، وهذا عامل مهم سيفضي إلى تقويض حضارة الهنود ، فقد اعتاد الهنود استخدام ما جاء به الاوربيون من نتاجات أكثر تقدما من قبيل الأدوات المعدنية والأسلحة النارية. ولم يعد من مكان لمهارات الهنود في استخدام موادهم البدائية. وبعد فترة ليست بالطويلة ، لم يكن أمام الهنود مفر من التبادل التجاري للحصول على احتياجاتهم ، وبشروط كانت تزداد اجحافا ، وهكذا خسروا سيادتهم الاقتصادية ، وجلبت نهاية السيادة الاقتصادية معها بداية انحسار السيادة السياسية ، وكل الهناصر الباقية التي ميزت حضارتهم.
لقد جلب أهم تقدمين تقنين في تاريخ البشرية معهما نهاية اوروبا القرون الوسطى مع مطلع القرن السادس عشر وفتحا الباب أمام استيطان العالم الجديد ، فابتكار المطبعة ساهم في تقليل تكاليف انتاج الكتاب ، وبالتالي تكاليف المعرفة. اذ مع منتصف القرن الخامص عشر لم يكن هناك إلا نحو خمسين ألف كتاب في كل القارة الاوروبية معظمها خاضعة لرقابة الكنسية ، التي كانت تشرف أيضا على الجامعات ، ومع نهاية لاقرن بلغ عدد الكتب في اوروبا عشرة ملايين كتاب شملت طيفا واسعا من المواضيع أكثرها في المجال التقني والزراعي ، وكان القسم الأعظم من هذه الكتب في أيدي فئة التجار الأثريا والطبقة الأرستقراطية الاقطاعية ، ومن هنا انكسر احتكار الكنيسة للعلوم والمعارف ، ومن ثم احتكارها الدين مع انتشار المد البروتوستانتي الاصلاحي في معظم الشطر الشمالي من اوروبا ، وهذا ما أشعل فتيل حروب دامت أكثر من قرن.
أما الابتكار الكبير الآخر الذي شهتده العصور الوسطى فكان السفينة الشراعية المهيأة للقيام برحلات طويلة عبر المحيط ، في نحو العام 1400 كانت أكثر السفن الاوروبية صغيرة ، وذات صار واحد ، مثل تلك التي استخدمها وليام الفاتح قبل أربعمائة سنة تقريبا ، حين عبر القنال إلى انجلترا. غير أن العام 1450 شهد ظهور سفن أكبر حجما ذات صوار وصل عددها أحيانا إلى أربعة ، وكانت هذه السفن تبحر خلف حدود العالم المعروف للأوروبيين آنذاك.
وقد ظهرت الحاجة آنذاك إلى الإبحار خلف الحدود المعروفة ، فقد استولى الأتراك في العام 1453 على القسطنطينية ، العاصمة القديمة للامبراطورية الرومانية الشرقية ، وهكذا اعترضت قوة مسلمة الطرق التجارية إلى الشرق وفرضت ضرائب على كل السلع التي كانت تمر عبر الطرق الخاضعة لسيطرتها ، كما بدأ الأتراك في التوسع باتجاه اوروبا نفسها ، وستصل جيوشهم مع منتصف القرن السادس عشر إلى مداخل فيينا ، حينها شعرت المسيحية بأنها مستهدفة بشكل غير مسبوق منذ عصور الظلام قبل نحو مائة عام.
لكن بفضل السفن الشراعية ، أتم الاوروبيون الغربيون الدوران حول مناطق نفوذ المسلمين التي امتدت عبرها طرق التجار. ومع نهاية القرن الخامس عشر دار البرتغاليون حول رأس الرجاء الصالح عند الحافة الجنوبية للقارة الأفريقية ليصلوا إلى الهند. وبلغوا في العام 1510 جزر التوابل ، وهي مصدر التوابل (كالفلفل) ، التي ستدر أرباحا خيالية حين تدخل إلى اوروبا.
ان كولومبس الذي سار على هدي النظرية التي قامت على فكرة مغلوطة عن حجم العالم ، سيجد نفسه من دون أن يدري – في العالم الجديد في العام 1492 في أثناء محاولة الوصول إلى آسيا بالإبحار غربا.
بعد أن تبين أن كولومبس وسواه من طلائع المستكشفين قد اكتشفوا حقا العالم الجديد ، عملت القوى البحرية الاوربية الغربية على تمويل الحملات الاستكشافية. وكان الاسبان أول من أصابوا نجاحا وتحققت لهم الثروة من فتحهم المكسيك. ثم البيرو بعد عشر سنوان ، ثم بدأت كميات هائلة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة تتدفق إلى أسبانيا التي تحولت نتيجة ذلك إلى قوة مهيمنة في اوروبا. وبدأت البرتغال بانتاج السكر في البرازيل مع منتصف القرن السادس عشر ، إذا أصبح السكر بسرعة محصولا مربحا حين كانت زراعته تقوم على سواعد العبيد ، ومع نهاية القرن بدأ الفرنسيون بسلكون نهر لورنس للإبحاء إلى أعماق قارة أمريكا الشمالية وإقامة تجارة كبيرة للفرو مع الهنود الذين سكنون ضفاف البحيرات العظمى.
مع ذلك ، وباستثناء استطيان الاسبان في خلي تشيسابيك وهجمات الهنود التي أجبرتهم على التنازل عنه فيما بعد العام 1572 ، كان الساحل الشرقي لما يسمى الآن بالولايات المتحدة خارج دائرة الإهتمام تماما.
فقد كان قرب الأراضي من المناطق الشمالية لا يسمح بزراعة المحاصيل المدارية مثل السكر ، وكان قربها إلى المناطق الجنوبية يعني استحالة العثور على فراء ذي جودة عالية ، ولم تكن هناك دلائل على وجود معادن ثمينة.
وفي أثناء البحث عن ممر بحري من الناحية الشمالية الغربية مولت انجلترا الاكتشافات الاتي قام بها جوفاني كابوتي (وهو ايطالي عرف في الأوساط الانجليزية باسم جون كابوت) ، لكن ذلك جاء متأخرا في حملة السباق لاستغلال خيرات العالم الجديد عبر الاستطيان ، لقد كانت تلك نقطة البدء. ففي العام 1585 ، ومرة أخرى في العام 1587 ، حاول السير والتر راليه أن يؤسس مستوطنة في رونوك آيلاند في ألبيمارلي ساوند ، فيما يطلق عليه الآن نروق هارولاينا. لقد زالت هذه المستوطنة ولم يتخلف من أثرها إلا رسالة غامضة حفرت على جذع شجرة ، لكن انجلترا أعادت الكرة ثانية بعد عشرين عاما وأصابت نجاحا هذه المرة.
إن الفضل في تأسيس المستوطنة التي تقع في جيمس تاون لايعود إلى الحكومة الانجليزية ، بل إلى شركة تجارية خاصة.
وتلقى الإبتكارات المادية كالمطبعة والسفن الشراعية اهتماما كبيرا من قبل المؤرخية ، ولكن للابتكارات الفكرية أهمية لا تقل عن هذه الابتكارات. فقد كان لاثنين من الابتكارات الفكرية في عصر النهضة (هما القيد المحاسي المزدوج والمؤسسة الخاصة) دور حيوي في تطور الحضارة الاوروبية في العالم الجديد ، خصوصا فييما يعرف الآن بالولايات المتحدة.
لقد عرفت المحاسبة منذ فجر الحضارة في بلاد مابين النهرين ، وابتكرت الكتابة في الحقيقة – وهي تمثل الخاصة المميزة للحضارة – لحفظ المؤلفات. لكن المحاسبة لم تشهد تطورا كبيرا طوال آلاف السنين حتى ظهر أسلوب مسك الدفاتر باستخدام القيد المزدوج في ايطاليا في القرن الخامس عشر. فقد سهل القيد المزدوج كثيرا تتبع الأخطاء وتقديم صورة واقعية عن الوضع المالي للمؤسسة بناء على الأرقام الأولية المتاحة. واستطاع عامة الناس ، بفضل مسك الدفاتر باستخدام القيد المزدوج ، الاستثمار في مشاريع بعيدة جغرافيا ومتاعبة أحوال استثماراتهم. وقد وصلت الحال بفيرديناند وايزابيلا أنها أرسلا محاسبا بصحبة كولمبوس في رحلته الأولى لتيسنى لهما التأكد من الحصول على حصتهما الكاملة من الأرباح المأمولة.
كما أثبتت الشركة المساهمة دورها أيضا في هذه الظروف. فقد كان اكتشاف الأراضي النائية باستخدام السفن الشراعية عملا محفوفا بالمخاظر – اذا ان كثيرا من السفن ذهبت بلا عودة – وكان ذلك يتطلب توظيف قدر كبير من رؤوس الأموال بأرقام القرن السادس عشر. ففي المقام الأول ، كانت أكثر الرحلات عبارة عن حملات مولها التاج في هذه البلدان. لكن انجلترا كانت بلدا صغيرا قليل السكان يفتقر إلى الموارد المالية التي تتمتع بها اسبانيا وفرنسا. وكانت الجمهورية الهولندية التي نافست اسبانيا في حاجة إلى وسيلة أخرى لتمويل هذه المشاريه المكلفة التي تخفي في طياتها امكانات ربح وفير ، وتتطلب بالمقابل امكانات مالية تتجاوز امكانات الأثريا الأفراد.
ربما كان أسلوب المشاركة (الشراكة) معروفا منذ أقدم العصور ، لكن الشراكة تنص على تحميل الشريك مسؤولية كل ديون المشروع ، وهذا ما كان يعرض المستثمر صاحب رأس المال المدود إلى الإفلاس مع فشل المشروع. ولم يكن هناك سوى قلة أبدت استعدادا لتحمل هذه المخاطر ، وخصوصا في مشروع لا يمكن وضعه تحت الرقابة المباشرة ، ولقد عالجت الشركة المساهمة هذه المشكلة من خلال حصر مسؤولية المستثمر في مقدار أمواله المستثمرة. وبالتالي فقد نقل ذلك بعضا من المخاطر إلى دائني الشركة ، لكنه سمح في الوقت نفسه بتأمين مبالغ هائلة من الاستثمارات الصغيرة. وهكذا مثلت الشركات المساهمة التي جائت في المرتبة الثانية بعد "الدولة- الأمة" أحم التطورات التنظيمية لعصر النهضة وساعدة على غرار "الدولة- الأمة" في تحقيق الإنجازات التي صنعت العالم الحديث.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر أنشئ كثير من الشركات الانجليزية المساهمة لتسهيل التجارة في عدد من المنطاث ، من بين هذه الشركات: شركة موسكو (العام 1555) ، شركة المشرق (العام 1583) وشركة الهند الشرقية (العام 1600). كما أسس الهولنديون بدورهم شركة أطلقوا عليها أيضا شركة الهند الشرقية. وقد ساهمت هذه الشركة في انتزاع الشطر الأعظم من الإمبراطورية البرتغالية في الشرق الأقصى وجعلت من هولندا ، ذلك البلد الفقير بموارده الطبيعية ، الأمة التجارية الأولى في العالم وأغنى بلدان اوروبا في مطلع القرن السابع عشر.
وفي العام 1606 سمع الملك جيمس الأول بترخيض انشاء شركة فيرجينيا – التي تأسست على أيدي مجموعة من تجار لندن. ونص ميثاق الشركة على أن هدف الشركة كان بناء أسطول تجاري لانجلترا وزيادة عدد البحارة المتمرسين من خلال زيادة حجم تجارتها واكتشاف المعادن الثمنية وتأسيس متسوطنة بروتستانتية في أرض كانت تحت رحمة التهديدات الاسبانية ، ومن جملة ذلك ادخال الوثنيين في المسيحية.
هذا الهدف الأخير لم يحظ ، في الواقع ، بكثير من الاهتمام . وبالتأكيد فإن انجلترا لم ترسل مبشرين على الإطلاق ، على العكس من ذلك ، كانت نيتها واضحة تنصير الهنود من خلال مجموعة من عمليات التلقين الاقتصادي "بغية توطين رعاياها وتفريق شمل السكان الأصلييين في سبيل الله العظيم ، ونشر الدين المسيحي ، وتطوير عمل المزارع في ذلك البلد عموما ، وتحقيق مصلحتنا الخاصة وضمان أرباحنا".
وهكذا كانت رؤية الانجليز للاستطيان منذ البداية مختلفة جذريا عن نظرة السبان والفرنسيين. فقد سعت حكومات اسبانيا وفرنسا إلى السيطرة على كل الشؤون الخاصة بالأراضي الخاضعة لها في العالم الجديد وبذلت جهودا حثيقة لادخال الهنود في الدين الكاثوليكي شاءوا أو أبوا. أما باب الهجرة إلى نيو سبين ونيو فرانس فلم يفتح إلا لمن حمل تصريحا ، وذلك كي لايفسدها المهرطقون والمخربون. لكن حكومة انجلترا لم يكن لديها مصلحة كبيرة في المشروع واكتفت بإبعاد مصدر الاضطرابات – سوا أكانوا من المتدينين أم أرباب الجريمة – والعاطلين عن العمل ، وما أكثرهم فيها.
كان الاقتصاد الانجليزي يعاني من تغيرات سلبية في الشطر الأعظم من القرن السادس عشر ، فقد ازداد عدد السكان بسرعة ، من نحو ثلاث ملايين في العام 1500 إلى أربعة ملايين بعد قرن ، وخمسة ملايين في العام 1650. لكن العمالة لم تزدد بالنسبة نفسها. وكانت صناعة الألبسة – الدعامة الأساسية للصناعة البريطانية منذ استقر الحائكون الفلمينج فيها في منتصف القرن الرابع عشر – تفقد مكانتها لمصلحة المنافسين من بلدان القارة الأخرى.
في هذه الأثناء كان النظام الاجتماعي القديم الذي قام على ملكية الأرض ، يتلاشى سريعا. وكانت الطبقة العليا الارستقراطية – وهم يمثلون 5% من السكان الذين حازوا معظم الأراضي الزراعية في انجلترا – تقيم أسوارا لعقاراتها وتخلي المستأجرين لكي تعمل بنفسها على الإضراف على قطعان الماشية وبالتالي زيادة الأرباح باستخادم اليد العالمة المأجورة. وفي القرن المتتد ما بين 1530 و 1630 خسر نصف الفلاحين الانجليز ايجاراتهم وواجه العديد منهم صعوبة بالغة في العثور على عمل آخر.
وبالإضافة إلى ذلك ، أدى التدفق الكبير للذهب والفضة إلى الاقتصاد الاوروبي من العالم الجديد ، بفضل الفتوحات الاسبانية إلى إطلاق العنان للتضخم الجامح وارتفعت الأسعار نحو 400 في المائة في القرن السادس عشر.
واندفع الفلاحون المحرومون من ملكياتهم وعمال الملابس العاطلين عن العمل – الذين عرفوا بالمتسولين الأصحاء (القدرين على العامل) تمييزا لهم عن المتسولين العاجزين ممن أعاقهم المرض أو الاصابة – يطوفون من أبرشية إلى أخرى بعد أن رفض الموظفون المحليون ايلائهم أي عناية أو اهتمام. لقد اعتاد هؤلاء التجمهر في أسواق القرى والمرافئ البحرية. وشهدت لندن – أكبر موانئ انجلترا – زيادة في عدد السكان من 120 ألف نسمة في العام 1550 إلى 200 ألف نسمة بعد خمسين سنة فقط. وفي العام 1650 ، كانت الأحياء الشعبية بشوارعها الضيقة الملتوية ومساكنها الصغيرة تؤوي 350 ألف نسمة أكثرهم من الفقراء المعدمين.
كان المنتمون إلى تلك الفئات الاجتماعية – الهاربة من قبضة المجاعة أو الفارة من عمدات البلد – هم الذين استقطبتهم شركة فرجينيا إلى جانب المغامرين من الأشراف الذين كانوا في الأغلب أصغر أبناء العائلات الاقطاعية. وفي ديسمبر 1606 غادرت انجلترا ثلاث سفن هي سوزان كنستانت وجادسبيد وديسكفري . وبلغت خليج تشيزابيك في 26 ابريل 1607 وعلى متنها مائة وخمسة رجال (مات تسعة وثلاثون منهم في الطريق). وبعد أن أبحرت بضعة من ستين ميلا باتجاه منبع نهر جيمس لاخفاء وجودها عن الاسبان ، رست السفن الثلاث في الثالث عشر من مايو في موقع حمل أيضا اسم النهر ، جيمس توان نسبة إلى ملك انجلترا.
وعلى الرغم من أمنه النسبي من هجمات الاسبان لم يكن لهذا الموقع – على الضفة الشمالية من هر جيمس قرب أحد المستقنعات – أي ميزة أخرى. فالمستقنع الذي ساعد في صد هجمات الهنود كان بؤرة خصبة لتكاثر البعوض بأعداد كبير في فصلي الربيع والصيف ، وهذا ما أدى إلى انتشار الملاريا في أوساط المستوطنين ، لا بل أن الماء في الآبار الضحة التي حفرها المستوطنون لم يكن عذبا ، خصوصا مع انخفاض منسوب النهر. وقد أدى ذلك إلى تسمم المستوطنين بالأملاح هم نتيجة التعرق الشديد بفعل حرارة فرجينيا العالية واضطرارهم إلى شرب كثير من هذه المياه. وحين ينخفض منسوب النهر لم تكن النفايات ومياه المجاري التي ترمي فيه تجد طريقها إلى البحر ، ولكن كانت تولد الأمراض كالتيفوئيد والزحار وتساعد على انتشارها.
لقد كانت المشكلة الاجتماعية تكمن في دخول شركة فرجينيا آنذا في مشاريع جديد – هي المزارع الأمريكية – التي صارخ اقامتها ممكن بفضل تقنية جديدة تماما ، ألا وهي السفن الشراعية. وكما كانت عليه الحال منذ ذلك الحين – يتبادر إلى الذهن هنا اختراع السكك الحديد في أوائل القرن التاسع عشر ، وابتكار الانترنت في أواخر القرن العشرين – كانت التعليم يتطلب كثيرا من الإنفاق قبل أن تشعد الأرباح استقرارا في ظل هذه الظروف. ولم يكن لدى التجار اللندنيين الأثريا ، الذين هيمنوا على شركة فرجينيا ، أي فكرة عن متطلبات إنشاء مستوطنة ناجحة على تخوم البرية الأمريكية على مبعدة ثلاثة آلاف ميل ومسيرة ثلاثة أشهر من الوطن الأم.
بالنتيجة ، ارتكب هؤلاء التجار أخطاء متكررة ، فهم بتبشيرهم بحلم الذهي حملوا المتسوطنين على رفض امتهان الأعمال الشاقة اللازمة للزراعة في التربة البكر ، وبالطبع ، لم يكن هناك من ذهب للبحث عنه ، لأن المستوطنين عثروا على كميات من معدن الميكا (المحلي) وأقنعوا أنفسهم بأنه كان فلز الذهب الثمين. على حد تعبير الكابتن جون سميث الذي نشر في العام 1612 فإنه: "لم يكن هناك من حديث أو طموح أو عمل ، اللهم إلا التقيب عن الذهب". وقد تبين أن هذا الذهب الذي شحن إلى انجلترا عديم القيمة.
لقد حافظت الشركة في البداية على حقها في ملكية الأرض ، لأنها توقعت أن يعمل المستوطنون فيها كفلاحين ، لكن أيا من المغامرين الأشراف أو المجندين الذين وفدوا على أرصفة الموانئ في لندن وبريستول لم يرغب ببذل جهد شاق في سبيل الشركة . كما أنهم لم يملكوا المهارات اللازمة لذلك: الأشراف لم يكونوا مضطرين لهذا العمل ، والمتسولون الأصحاء لم يجدوا الفرصة المواتية.
كانت النتيجة مجاعة في الشتاء ، لأن الهنود لم يكن لديهم الا فائضا ضئيلا للمقايضة أو المتاجرة ، كما أ،هم رفضوا المقايضة من أصلها في أحيان كثيرة. ومع أن الشركة نقلت مزيدا من المستوطنين سنويا فإن الرقم الاجمالي لم يرتفع كثير الا بمعدلات بطيئة. في ديسمبر 1609 بلغ عدد سكان جيمس تاون مائتين وعشرين نسمة. ومع حلول الربيع لم يكن هناك إلا ستون على قيد الحياة بسبب نقص الطعام. حتى أن أحد المستوطنين عمد إلى قتل زوجته وأكل لحمها (وقد أحرق على الوتد جزاء له).
ومن تبقوا من المستوطنين هجروا جيمس تاون في يوينو 1610 ، وأبحروا عائدين إلى وطنهم الأم ليلتقوا بثلاث سفن عند مصب نهر جيمس كانت تحمل على متنها ثلاثمائية مهاجر جديد. وهكذا عادوا ثانية إلى المستعمرة الصغيرة.
لقد بذلكت كثير من المحاولات لايجاد منتج يمكن تصديرع والتعويل عليه لسداد النفقات وتحقيق ربح لأصحاب الحصص الاستثمارية . ولأن الطلب على الزجاج كان في ارتفاع متصاعد في انجلترا في حيث كان وقود الأخشاب اللازم لانتجاه نادار ، ومع أن الشركة حاولت استغلال الغابات الشاسعة في فيرجينيا ورمالها الوفيرة فهي لم تكن قادرة على شخنه عبر الأطلسي بطريقة مريحة. ولم تعط تجارة الحديد والقار والقطران وأخشاب الكلابورد وتوابل الساسافراس أيضا عوائد كافية.
ومع حلول العام 1616 كانت شركة فريجينيا قد نقلت أكثر من ألف وسبعمائية شخص إلى فرجينيا واستثمرت أموالا طائلة وصلت إلى 50 ألف جنيه في مشروعها على ضفة تشيزابيك. ولاعطاء فكرة أولية عن قيمة ذلك المبلغ في انجلترا ، أيام اليعاقبة ، نذكر أن الدخل السنوي لرجل من الأشراف من ريع الأرض كان يصل إلى خمسين جنيها. أما العوائد التي كان التاج يتقاضاطها من متحصلات الضرائب – وكانت مصدرا أساسيا لدخل الملك – فقد بلغ متوسطها خمسة وسبعين ألف جنيه. ومع ذلك وفي مقابل كل هذه الأموال لم تحقق الشركة نتائج تذكر على ضفة نهر جيمس التي نزل بها ثلاثمائية وخمسون شخصا عانى كثير منهم المرض والجوع.
وبعد تسع سنوات كان موطئ قدم الانجليز في قارة أمريكا الشمالية لا يزال عرضة لتهديدات متعددة من بينها هجمات الهنود وغارات الاسبان والمرض والمجاعة . ولم يقل عن هذه التهديدات حدة واقع شركة فرجينيا التي كانت تجهل آنذاك السبيل لتحقيق عوائد أكثر من النفقات في هذه المستوطنة.
لقد تبين أن حل المشكلة يكمن في نبات محلي شائع الانتشار في الأمريكتين ، يدعى تبغ النيكوتين ، زرع التبغ – الذي اكتشف فيما يعرف الآن بالبيرو والاكوادور – طيلة آللاف السنين قبل قدوم الاوروبين. كان تدخين الأوراق المجففة يعطي شهورا بالمتعة في البداية يعقبها ادمان التدخين بعد مدة ليست بالطويلة. وفي الوقت الذي وصل فيه كولومبوس إلى العالم الجديد انتشرت هذه العادة في النواحي المعتدلة من الكرة الأرضية الغربي وما وراءه حيث يمكن زراعة التبغ.
وقد نقل كولومبوس التبغ لدى عودته إلى اوروبا من رحلته الأولى. وفي القرن التالي انتشرت العادة بسرعة في العالم القديم. وبدأت زراعة التبغ في الإنتشار في حوض المتوسط. وشرع الاسبان في زراعته في ويست انديز أيضا بهدف التصدير. وانتشرت العادة سريعا في بريطانيا التي أبدى ملكها جيمس نفورا من التبغ واعتبره من الشرور ، فألف ونشر كتيبا بعنوان "في دحض التبغ" ، ولا عجب أن لم تلق مادة الكتاب اهتماما يذكر بوجهة النظر الملكية ، اذا استمرت شعبية التدخين في الازداياد ، لكن مناخ بريطانيا البارد والماطر ، لم يلائم زراعة التبغ لغايات تجارين ، وكان على البلد أن يستورد معظم حاجته من اسبانيا التي كانت في حرب دائمة معها. أما الهنود المحليون في فيرجينيا الشرقية فقد كانوا هم أيضا مدمنين على التبغ ، لكن الأنواع التي زرعوها لم تكن شائعة بين المستوطنين الانجليز الذين ظهروا بينهم. فقد فضل المستوطنيون التبغ الذي أنتجه الاسبان في ويست انديز ، ومن ثم في العام 1612 جلب رجل يدعى جون رولف حفنة من البذور التي حصل عليها من تلك البلاد – من ترينيداد على الغالب - وزرعها. وقد نمت البذور بسرعة في جو فيرجينيا الحار الرطب وذلك بفضل جهود الهنود المحليين (تزوج رولف في العام 1614 الأميرة الهندية بوكاهونتاس) ن وهكذا تعلم جون زراعة التبغ.
ونقل معه إلى انجلترا في العام 1616 أول محصول تجاري واصطحب معه زوجته أيضا. وقد تسبب وصول المحصول وزوجته الهندية إثارة بالغة على الرغم من أن مناخ انجلترا أدى إلى وفاة بوكانونتاس (زوجته). عندما عاد رولف إليها في العام 1617 احتفلت فيرجينيا بأول أعياد الشكر في أمريكا لأن محصول تلك السنة من التبغ كان وفيرا وجيدا مما بشر بالخلاص التجاري للمستعمرة.
كانت أولى فترات الزدهار الاقتصادي الأمريكي في طريقها إلى الظهور ، وأفاد الكابت جون سميث حين عاد إلى انجلترا بأن الحاكم الجديد وجد لدى وصوله تلك النسة جيمس تاون في حالة مزرية ، وكانت السوق والشوارع وكل رقع الأرض الخلاء مزروعة تبغا.
في العام 1618 أنتج عشرون ألف رطل من التبغ في فيرجينيا لتشحن بمدها إلى انجلترا. وبعد أربع سنوات – وعلى الرغم من هجوم الهنود في ذلك العام ومقتل تلث المستوطنين بمن فيهم ، كما ترجح الروايات ، جون رولف نفسه - فقد تضاعف المحصول ثلاث مرات . ومع العام 1627 ازداد المحصول إلى 500 ألف رطل ، ثم بلغ 1.5 مليون رطل في العام 1629. ومع حلول العام 1628 كانت فيرجينيا تصدر ثلاثة ملايين رطل من التبغ إلى بريطانيا سنويا ، وأضحت مصدر التبغ الرئيسي لاوروبا الغربية متفوقة بذلك على ويست انديز.
كان من الأسباب التي أدت ، ولا ريب ، إلى الزيادة السريعة في انتاج التبغ ، تغيير شركة فيرجينيا سياستها الخاصة بالأراضي في عام 1616 ، فبدلا من الطلب إلى المستوطنين إلى العمل في الأرض لحسابها فتحت الشركة الباب حينها أمام المستوطنين لامتلاك أراضيهم الخاصة ، بالإضافة إلى هذا ، وأملا في جذب المزيد من المهاجرين قدمت الشركة أراضي مجانية إلى المستوطنين الجدد وفق نظام كان يعرف حينها باسم حقوق الرأس. وقد أعطي كل رجل تحمل بنفسه مصاريف سفره إلى تلك البلاد خمسين هكتارا ، بمصاريف رحلته إلى هذه البلاد ، كما كان للخدم المتعاقدين ، الذين قبلوا العمل عددا من السنوات لسداد تكلفة سفرهم ، حق الحصول على خمسين هكتارا من الأرض بعد انتهائهم من دفع مستحقات عقودهم . وبالطبع كان ذلك أيضا مرهونا ببقائهم أحياء للحصول على هذه الحقوق. اذ أن 25 في المائة من المهاجرين قضوا نحبهم في عامهم الأول في تشيزابيك في أوائل أعوام الاستيطان الانجليزي.
لقد كان امتلاك مائة أو مائتين أو أكثر من هكتارات الأرض الصالحة للزراعة من دون مقابل حافزا قويا على الرغم من كل المخاطر. ففي هصر كانت فيه الزراعة أساس كل الاقتصادات الوطنية ، كانت الثروة لا تقاس بالمال ، بل بملكية الأراضي . وفي اوروبا التي افتقرت إلى الأراضي الشاسعة كان امتلاك مائتي "أكر" من الأرض الزراعية الخصبة يجعل المرء غنيا. أما شركة فيرجينيا ، التي وهبت الأراضي ، فقد أفادت كثيرا من أهم الميزات التنفاسية التي تمتعت بها أمريكا ، رصيدها الذي لا ينضب من الأراضي الشاسعة.
وقنع المستوطنون من زراع التبغ بأن يدفعوا تكلفة سفر هؤلاء الخدم المتعاقدين. اذ أن التبغ يعد محصولا يتطلب كثافة في لايد العاملة ، وحين بدأت الكميات المخصصة للتصدير في الازديياد سريعا كان لابد أيضا من زيادة سكان فيرجينيا بمعدلات كبيرة. وهنا تتبلور احدى الخصائص الأخرى التي ستلازم الاقتصاد الأمريكي ، نقص اليد العاملة.
لقد ساعد ازدهار صناعة التبغ في انقاذ فيرجينيا ، لكنه لم ينقذ شركة فيرجينيا. فإلى جانب ديونها الكبيرة ، تكبدت الشركة – بعد هجوم الهنود الكبير في العام 1622 – خسائر فاقت امكاناتها. وفي العام 1624 سحب الملك جيمس رخصة الشركة المفلسة ووضع يديه على فيجرينيا لتصبح إحدة مستعمرات التاج ، وقد حمله نفوره من التبغ والتدخين على فرض الضرائب من دون تردد على هذه التجارة. ولقمد أنشأ الملك جميس احتكارا يضطلع بإشراف مباشر على هذه التجارة التي كانت تحقق نموا متصاعدا بعد الارتفاع الكبير في انتاج فيرجينيا من التبغ واتساع حجم تجاريتها باطراد مع انجلترا واوروبا. وبعد جيل آخر سيقدم التبغ ربع حصيلة ضرائب التاج.
أما سنة 1619 – حين كانت تجارة التبغ تغير وجه فيرجيينا واقتصادها – فستكون سنة حاسمة في تاريخ فيرجينيا وتاريخ البلاد ، هذه البلاد التي ستصبح فيرجينيا جزءا منها في يوم من الأيام.
فمنذ تأسيس المستعمرة قبل اثنتي عشرة سنة كان الرجال هم أكثرية سكان جيمس تاون. حينها كانت شركة فيرجينيا تسعى إلى تأسيس مستعمرة آهلة في العالم الجديد. لكن الشركة استقدمت في العام 1619 أول سفينة محملة بالنساء (تسعين تحديدا) إلى المستعمرة وقبله المستوطنون زوجات لقاء 125 رطل تبع عن كل امرأة ، بعد أن بقوا طويلا – دون زوجات. وعلى الفور بدأ مجتمع فيرجينيا يشهد تحولا حقيقيا. وبدأ الطابع الذكوري الشبيه بمعسكرات عمال المناجم أو معسكرات الجيش المفتوحة ينحسر ، ليحل مكانه تدريجيا مجتمع بشري أشبه بذلك الذي خلفه الفيرجينيو وراءهم في انجلترا.
في تلك السنة أيضا أسس أول مجلس نيابي في الشطر الغربي من الكرة الأرضية ، وانتخب السير ايديون سانديز أمينا لصندوق شركة فيرجينيا لذلك العام ، ممع جعله فعلا مديرها الأ‘لى . وقد عمل على الفور على إرسال حاكم جديد ، هو السير جورج بيردلي ، موصيا اياه بتشكيل مجلس نيابي يسمى رسميا مجلس النواب ليقوم الحاكم ومجلسه بمقام المجلس التشريعي الذي سيقر التشريع الجديد. هذا البرلمان المصغر عن ويستمنستر انقعد للمرة الأولى في الثلاثين من يونيو 1619 في كنيسة جيمس تاون.
وعلى الرغم من أن هذا الانجاز يعتبر كبيرا بمعايير اليوم ، فهو لم يكن كذلك حينها ، فلطالما تمتع الانجليزي بحكومة تميزت عن غيرها من حكومات الدول الاوروبية في تدخلها المحدود في شئون المواطن ، كما كانت الحقوق الشخصية للمواطن الانجليزي تفوق حقوق أقرانه في الدول الاوروبية – هذه الحقوق التي تجسدت في كلمة الحرية شهدت تطورا مستمرا منذ عهد الوثيقة العظمى Magna carta. فقد اعتادت الطبقة العليا في المجتمع الانجليزي تسيير شئونها المحلية بنفسها ، كما اعتادت أيضا المشاركة في برلمان عملت فيه يدا بيد مع الحاكم على سن قوانين وتشريعات البلد.
ولاستحالة ايجاد برلمان مشابه لبرلمان ويستمنستر في هذه البلاد الجديدة ، فإن اعطاء فيرجينيا تشريعها الخاص بإدارة شئونها المحلية كان يعني شيئا واحدا فقط ، إعطاء سكان فيرجينيا حقوق المواطن الانجليزي.
"لم يزر السير ايدوين سانديز فيرجينيا قط ، لكن شقيقه جورج ، وهو من الشعراء المرموقين ، عاش هناك نحو عشر سنوات من 1621 – 1631 ، حين عمل أمينا لصندوق المستعمرة. وفي جيمس تاون نفسها كتب ترجمته لكتاب أوفيد "الممسوخ" ، أول جنس من الشعر الانجليزي يكتب في العالم الجديد).
وبعد ثلاثة أسابيع من أول اجتماع لمجلس النواب أبحرت سفينة هولندية إلى تشيزابيك ، وكان في نية قائدها بيع حمولتها من الرجال إلى أصحاب المزارع التواقين إلى تأمين اليد العاملة اللازمة لحقول التبغ. والتي كانت مساحتها في ازدياد ، ولم يكن في وصول السفينة ما يريب سوى أمر واحد ، لم يصعد الرجال على ظهرها بمحض إرادتهم في الميناء الانجليزي ، بل اقتيديوا بالإكراه ليشتريهم قبطان السفينة.
وعلى الرغم من ذلك ، فهم لم يكونوا عبيدا بالمعنى الدقيق للكلمة ، اذا أن المزارعين بمن فيهم الحاكم - الذي وضع يده على معظم هؤلاء الرجال – لم يشتروهم ، بل استأجروا جهدهم . وبعد أن ينهي هؤلاء الرجال أجال خدمتهم كان يغدون أحرارا مثل الخدم الانجليز المتعاقدين. وبالفعل ، فإن كثيرا من السود الذين نقلوا إلى فيرجينيا في السنوات الأولى من عمر المستعمرة قد نالوا حريتهم ، وأصبحوا ملاكا لأراض وعقارات واسعة إلى درجة أن البعض منهم اشترى عبيدا للعمل في تلك الأملاك. وبالنظر إلى قصر العمر المتوقع للمهاجرين إلى فيرجينيا ، فإن العبيد – الذين كانوا أعلى تكلفة – لم يمثلوا خيارا اقتصاديا مجديا كأقرانهم من الخدم المتعقادين.
في العام 1650 ، كان هناك فقط نحو ثلاثمائية من العبيد في فيرجينيا ، أي أقل من 2 في المائة من عدد السكان. وسينقضي عقد الستينيات قبل أن تكون هناك إشارة رسمية للرقيق الأسود في قانون فيرجينيا ، وسيظل عدد الهدم المتعاقدين إلى ثمانينات القرن السابع عشر يفوق عدد العبيد بأضعاف كثيرة . إلا أن تحسن الظروف الاقتصادية في انجلترا التي خففت الضغط على المهاجرين ، وارتفاع معدل العمر الوسطي في فيرجينيا مع توسع المستعمرة وتطورها أديا إلى زيادة أعداد العبيد على أعداد الخدم المتعاقدين بصفتهم المصدر الرئيسي لليد العاملة. وتضاعف عدد العبيد في ثمانينات القرن السابع عشر ، وتضاعفت مرة أخرى في العقد التالي.
كانت تكلفة الخادم المتعاقد مع نهاية القرن السابع عشر نحو 15 جنيها مقابل أربع سنوات من الخدم! في حين كان العبد الواحد يكلف ما بين 25 و 30 جنيها مع التزام أولاده من بعده بالعمل مدى الحياة. وبدأت أعداد العبيد السود بالتزايد نسبة غلى عدد السكان حتى بلغت 14% في العام 1710.
إن من الصعب علينا ، نحن الذين ننظر الآن إلى الحوادث بعد وقوعها ، أن نفهم السبب الذي حمل الناس في القرن السابع عشر على عدم النظر إلى العبودية من زاوية أخلاقية. وسيشهد القرن الثامن عشر نشوء الأفكار التي رأت في العبودية عملا خارجا على الأخلاق في كل مكان وزمان. هذه الأفكار انتشرت سريعا عبر اوروبا وأمريكا. وسادت على الأقل في أوساط الفئات الاجتماعية التي لم تعتمد على عمل الرقيق ، ذلك أن المصلحة الذاتي الاقتصادية تعتبر على الدوام عائقا أمام التفكير النزيه الذي يلزم لمعالجة النواحي الأخلاقية والسياسية لشأن من الشئون.
وفي القرن السابع عشر ، حين شعر أكثر الناس بأن الارادة الإلهية هي التي تحدد المركز الاجتماعي للإنسان اعتبرت العبودية شقاء مقدرا على فئة من الناس ولم تقابل بالإنكار والكراهية ، كما هي حالها اليوم ، ولم يكن هناك من يرى في العبودية والعرق نوان مثلا زمان. على الأقل في ذلك الزمان . في منتصف القرن السابع عشر كان لدى رجل أسود اسمه انتوني جونسون مزرعة للتبغ تبلغ مساحتها 250 هكتارا على الساحل الشرقي لفيرجينيا وعبد واحد. وقد اعتبر نفسه مساويا لجيرانه الذين كانوا بدورهم لا ينكرون عليه ذلك. ولم يكن يتردد في الطلب إلى المحكمة إثبات حقوقه على العبد الهارب من الخدمة ، فلقد كان القانون يكفل تلك الحقوق صراحة.
ومع تزايد أعداد العبيد السود بمعدلات ثابتة ، سواء على نحو مطلق أو بالنسبة إلى تعداد السكان في وقت بدأت تهبط فيه أرباح التبغ عن وحدة العمل الواحدة ( العامل) ، مع بلوع السوق حد الإشباع انقلب هذا الضوع. فالإنتقادات اللاذعة التي وجهت ضد استغلال العبيد وتلك الصرخات التي كان يطلقها السود الأحرار تصاعدت مع تزايد المخاوف من وقوع حوادث تمرد ، والحاجة الاقتصادية إلى حمل السود على تقديم مزيد من الجهد لخفض التكاليف. ومع بداية القرن الثامن عشر لم يعد يسمح للسود بالتجمهر في مجموعات تتجاوز أربعة أشخاص ، وكان يطلب إليهم الحصول على رخصة خطية إذا ما أرادوا مغادرة المزارع التي أقاموا وعملوا فيها. وساعدت دوريات الشرطة المحلية على فرض القيود الجديد ، وتعزيز النظام والانضباط. حينها كتب أحد المزارعين ويدعي وليام بيرد ، أن من الآثار السلبية لامتلاك أعداد كبيرة من العبيد: "الحاجة إلى أن يكون المرء صارما ، فالعدد الكبير يجعلهم خالعي العذار ، وبالتالي فإن الترهيب يصنع مع يعجز عنه الترغيب".
وقد أدى توسع البون الفاصل بين السود والبيض والقسوة المتزايدة في معاملة العبيد إلى تراجع الدعوات التي انطلقت بالمناداة باحترام وضعهم الاجتماعي وحالتهم الاقتصادية في نوع من العنصرية المتسفحلة. وتحولت تلك العنصرية إلى سرطان دب في النسيج السياسي للولايات المتحدة. وكلف استئصاله كثيرا من الأرواح والأموال.ودامت الحال كذلك طوال ثلاثمائية سنة لتبدأ بالانحسار في يومنا الحالي.
لم يكن هناك من مسوغ بالطبع لاستبعاد السود ، والعنصرية التي تجلى فيها هذا الاستعباد ، واستخدام ذلك كأداة لاستئصال مشكلة اقتصادية مزمنة عانت منها أمريكا تجلت في نقص اليد العاملة. لكن ذلك يفسر هذا الواقع إلى حد ما. ويمكن القول إن أشد اساءة ارتكبناها في حق أنفسنا وأكبر فشل أخلاقي أصبناه كشعب قد وقعنا عن حسن نية من دون تفكير في العواقب.
لقد ضمنت فيرجينيا إذن مصدر حياتها الاقتصادية بفضل نجاحها في زراعة وتصدير التبغ ، وهكذا وجد أولئك القوم الذين يرطنون بالانلجيزية مقاما لهم في العالم الجديد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثاني: باسم الله والريح
من حسنات منحنى التعليم الاقتصادي Learning curve ، أن أي مجتمع لا يحتاج إلى أن يسلكه إلا مرة واحدة. ولم تعان مستعمرة من المستعمرات التي ستنضوي يوما تحت لواء الولايات المتحدة بقدر ما عانت فيرجينيا في الوصول إلى الإنتعاش الاقتصادي.
إن ماريلاند المحاذية لفيرجينيا تأسست في العام 1632 عندما منح الملك تشارلز الأول صديقه سيسليوس كالفرت ، لورد بالتيمور الثاني ، نحو اثني عشر فدانا من الأرض شمال نهر بوتومان وجنوب خط الطول الرابع عشر. وعرفانا منه ، أطلق كالفرت على المستعمرة الجديدة اسم زوجة تشارلز الملكة هينريتا ماريا. وهكذا كانت ماريلاند أول مستعمرة خاصة. ذلك أن مقاليد الحكم فيها كانت بيد شركة يملكها شخص واحد ، وقد أمل بالتيمور في تأسيس مستعمرة يتسنى من خلالها لبي طائفته الكاثوليك الهرب من حال الضعف والعجز التي عانوا منها في انجلترا ، وبالطبع لتحقيق دخل جيد من أطيانة الشاسعة التي وصلت مساحتها إلى خمس مساحة انجلترا ، وقد وصلت أولى سفينتين محملتين بالمستعرين – آرك ودوف – في العام 1634.
أرسل بالتيمور أخاف الأصغر ليونارد كالفرت ليضطلح بمنصب الحاكم حيث يرأس حكومة تضاهي حكومة فيرجينيا. ومع أن الكاثوليك لم يمثلوا أغلبية السكان في ماريلاند ، فإن قانون التسامح الذي وضعه مجلس المستعمرة في العام 1649 ضمن حقوق جميع المسيحيين (كما أن يهود المستعمرة – على الرغم من قلة عددهم واستثنائعم من قانون التسامح – لم يعاملوا بسوء). كان هذا أول تشريع من نوعه في التاريخ الأمريكي.
وأصابت ماريلاند ازدهارا سريعا ، ولم يثر الهنود سكانها الأصليون أي مشاكل ، أما أرضها الخصبة ومناخها الدافئ الرطب فكانا مناسبين تماما لزراعة التبغ الذي أصبح بفضل فيرجينيا مصدرا مهما للدخل والأرباح. كما ان إطلالة ماريلاند الواسعة على خليج تشيزابيك بخطوطها الساحلية شديدة التعرج قد وفرت لكثير من أراضيها إمكانات الشحن الرخيص.
وقد أسبغ كالفرت بسخاء حقوق الرأس مع المهاجرين لتشجيعهم على الهجرة إلى المستعمرة ، على الرغم من فرض أجرة إبراء قدرها 4 شلنات عن كل 100 فدان. هذه الرسوم في النظرية القانونية ، كانت تعد من جملة المستحقات الاقطاعية ، ولكنها في التطبيق العملي كانت ضرائب عقارية. وعلى غرار ماحدث في فيرجينيا نشأت على الفور طبقة أرستقراطية إقطاعية – ملاك عدة ألوف من الأفدينة – كان يقابلها أعداد أكبر من المزارعين العاديين. أما من لم يملك أرضا والخدم المستأجرون (المريين) فشكلوا باقي فئات طلائع السكان في وقت بدأ فيه الرق – كما في فيرجينيا – بالإنتشار تدريجيا من التطور الذي شهده الاقتصاد الزراعي (اقتصاد المزارع).
كما استمدت مستعمرة جنوبية أخرى من مستعمرات القرن السابع عشر – وهي كاليفورنيا – اسمها من الملك تشارلز الثاني الذي منحها لمجموعة من ثمانية من ذويي الحظوة لدية أطلق عليهم اللوردات الملاك. لكن الرغبة في تأسيس مستعمرة جديدة لم يكن منبعها انجلترا بل الانديز الغربية البريطانية – خصوصا باربادوس.
ومع حلول العام 1670 ـ كان السكر قد هيمن على اقتصادات مجموعة الجزر الصغرة نسبيا ، التي تمتد شمال أمريكا الجنوبية قبل أن تنعطف غربا باتجاه جزيرة اسبانية تكبرها كثيرا ، هي بورتوريكو. لقد تعرضت هذه الجزر لإهمال كبير من قبل الاسبان الذين لم يروا فيها سوى جزر بالغة الصغر لا تستحقمنهم أن يلتفتوا إليها. وهذا ما سمح للقراصنة البريطانيين والفرنسيين والهولنديين بوضع أيديهم عليها واستخدامها قواعد لمهاجمة السفن الاسبانية. ومع ذلك ، وفي الثلث الاوسط من القرن السابع عشر ، بدأت الجزر تشهد استقرارا وذلك باتخاذ السكان الدائمين الزراعة مهنة لهم ، وخصوصا زراعة التبغ ، وبدأت الدول المختلفة تولي إهتماما للنفوذ السياسي.
في البداية اجتذبت الأنديز الغربية مستوطنين أكثر مما اجتذبته أمريكا الشمالية. وفي العام 1650 فاق عدد المهاجرين الانجليزي الذين استقروا في الأنتيل الصغرى عدد المهاجرين إلى نيوانجلاند وتشيزبيك مجتمعين. لكن التشيزبيك تفوقت على الإنديز في إنتاج التبغ وكانت الجزر في حاجة إلى محصول جديد. ووجدت مبتغاها في السكر ، ذلك أن شهية اوروبا لهذا المنتج المستخرج من قصب السكر لا تشبع. والقصب نبات استوائب مصدره بولينيزيا لكن في القرن السادس عشر كان يزرع على نطاق واسع في مناطق حوض البحر المتوسط. ومع بدء الاوروبيين باكتشاف الأطلسي ادخلت البرتغال واسبانيا إنتاج السكر إلى جزرها الجديدة مثل ماديرا والكناري.
ومن ثم أدخل البرتغاليون السكر إلى البرازيل ونقله الاسبان إلى جزر الأنتيل الكبرى ، كما جلبوا معهم الرق الأسود إلى الأمريكتين. ذلك أن السكر محصول يتطلب عملا شاقا تحت الشمس الاستوائية ، كمان أن يتطلب رأس مال يفوق ما تحتاج إليه معظم المحاصيل الزراعية ، وذلك لشراء المعدات والأبنية اللازمة لمعالجة عصارة القصب وتحويلها إلى سكر.
كان استهلاك اوروبا من السكر يتزايد بمعدل 5 في المائة تقريبا في العام مما ضاعف الطلب كل أربعة عشرة سنة بالمتوسط ، وأصبح السكر – الذي كان يلقى التمويل اللازم ووصل إنتاجه إلى مستوى كاف لتحقيق وفورات الحجم – واحدات من أكثر المحاصيل ربحية في تاريخ العالم ، وهذا ما جعل كبار مزارعي السكر يصيبون ثراء فاحشا.
وبالنتيجة ، عندما وصل إنتاج السكر إلى بارباودوس التي تصل مساتحتها إلى 166 ميلا مربعا فقد والمكتظة أصلا بسكانها من المستوطنيين الاوروبيين إندلع تنافس محموم بين ملاك الأراضي لحيازة أرض تضمن لهم أكبر ربح ممكن من إنتاج السكر. وبين العامين 1643 و 1970 انخفض عدد ملاك الأراضي التي تزيد مساحتها على مائة فدان بنحو الثلثين.
ورغبت مجموعة اللوردات الملاك في كارولينا (لن تنقسم المستعمرة رسميا إلى شطرين شمالي وجنوبي حتى العام 1712) في جعل مستعمرتها الجديدة في البر الأمريكي مأهولة برجال ماعادوا قادرين على كسب قوتهم في بربادوس. وفي العام 1670 نجحو في اجتذاب مائتين من هؤلاء الرجال بفضل عروضهم السخية من الأراضي ، حيث قدموا 150 فدانا لكل عضو من أعضاء العائلة الواحدة لقاء أجور إبراء بسيطة لن تجئ حتى العام 1689 ، وقدموا 150 فدانا أخرى عن كل عبد مجلوب إلى البلاد.
كما خرجوا بدستور رسمي كان قد وضعه لكاليفورنيا أحد اللوردات الملاك ، وهو لورد أشلي الذي أصبح مباشرة ايرل شافتسبيري. وحصل أشلي – رغبة منه في طمأنة نفسه – على قدر كبير من المساعدة من سكرتيره الخاص الفيلسوف السياسي جون لوك – الي ستلهم كتاباته الآباء المؤسسن بعد قرن من ذلك التاريخ. ومنح الدستور الجديد الحرية الدينية لكل أصحاب العقائد وأسس مجلسا كانت بيده السلطات الدينية لكل أصحاب الضريبة المحلية. واعترف الدستور أيضا بوجود طبقتين من النبلاء اللاندجريف والكاسيكس الذين كانوا يوهبون أراضي شاسعة (ثمانية وأربعون ألف فدان وأربعة وعشرون ألف فدان على التوالي).
لا عجب إذن ألا يستمر طويلا صراعه مع الواقع ذلك "المخطط الاستثنائي بتشكيل حكومة ارستقراطية في مستعمرة من المغامرين وسط الغابات والهمج ووحوش الفلاة " على حد تعبير المؤرخ الكاروليني الجنوبي ادوارد مكراري ، لكن كارولينا الجنوبية ستصبح أكثر المستعمرات الأمريكية أرستقراطية ، وقد عينت مجموعة اللوردات الملاك المزراع الباربادوسي السير جون يمانز أول حاكم لها ، وهو الذي شق طريقه من دون هوادة إلى قمة الهرم الاجتماعي والاقتصادي في باربادوس وذلك بقتل منافسه ثم الزواج من أرملته. وقد قال عنه أحد اللوردات الملاك: "لو كان استحواذ كل شيء في سبيل الربح الشخصي علامة على القدرة والكفاءة ، لكان السير جون بلاريب رجل حكمة كبير".
ونشأ تجمع بشري مزدهر في تشارلز تاون (اختصر الاسم في العام 1783 إلى تشارلستون) حيث يلتقي نهرا أشلي وكوبر (ينسب الاسم إلى اللورد شافنتسبيري الذي كان اسم عائلته أشلي كوبر) في مرفأ تشارلستون. ومع حلول العام 1700 ، بلغ عدد سكان المستعمرة نحو ستة آلاف وستمائة (ثلاثة آلاف وثمانمائة من البيض وألفان وثمانمائة من السود).
في بادئ الأمر كان اقتصاد المستعمرة – الممتدة شمالا بما لايسمح بزراعة السكر – يعتمد على التجارة مع هنود المناطق الداخلية. وكانت جبال الأبالاتشيان – وهي حاجز طبيعي هائل في الشمال الأقصى تنتهي إلى هضاب صغيرة في منطقة تعرف اليوم بجورجيا الشمالية ، وكان هذ يتيح للتجار بلوغ أعماق المناطق الداخلية. ونرى حاكم كارولينا العام 1707 يفاخر بأن "تجارة تشارلزتون تمتد بعمق 100 ميل داخل القارة".
وكانت المنطقة تمتد إلى الجنوب الأقصى بما لايسمح لها بإنتاج فرو عالي الجودة ، ولكن الهنود فيها باعو جلود الرنة – التي كانت تشحن إلى اوروبا لتدخل في صناعة جلود الكتب والأحزمة والقفازات وكل ما تحتاج صناعته إلى جلود ناعمة وطرية – وذلك في مقابل الملاءات والألبسة والعدد المعدنية والأسلحة والذخائر والرم والخرز وغيرها من الصناعات التي اشتهرت بها اوروبا. لم تكن تلك التجارة بالتجارة الصغيرة. فالرنة كانت متوافرة بأعداد كبيرة ، وقد تسنى للصياديين الهنود بفضل تلك الأسلحة قتل أعداد أكبر من قبل ، وساعدت لحوم الرنة على توفير الاستقرار الغذائي للسكان. وبين العامين 1699 و 1715 صدرت كاليفورنيا في المتوسط ثلاثة وخمسين ألفا من جلود الرنة سنويا إلى انجلترا بقيمة 30 الف جنيه.
كان هناك طلب كبير في الأنديز الغربية على أخشاب الصنوبر المتوفرة بكثرة في المستوطنة ، وكانت هذه الاخشاب مصدرا للمشتقات الصمعية كالقطران. وصدرت كارولينا في العام 1717 أربعة وأربعين ألف برميل من القطران.
كما أصبحت الماشية سلعة أساسية من سلع التصدير ، وخصوصا إلى الأنديز الغربية ، حيث كانت كل بوصة من الأرض تستخدم لزراعة مصحول قصب السكر الذي يدر أرباحا كبيرة. وانتشرت تربية الماشية والخنازير في الأراضي والغابات الواطئة التي تكثر فيها المزارع والسباخ. وكان العبيد السود الذين تعلموا أصول رعي الحيوانات في أفريقيا يرعون هذه القطعان التي كانت تطلق من دون قيد في الأراضي غير المأهولة من المستعمرة . إن العديد من مهارات رعي الماشية التي التصقت تاريخيا بالغرب مثل وسم الماشية والطراد السنوي وسياقة الماشية إنما ظهرت أولا في كارولينا الجنوبية أول عهدها. حتى أن الكلمة الأمريكية الشهيرة "كاوبوي" إنما إنطلقت بادئ الأمر على العبيد السود الذين رعوا الماشية في كارولينا أيام كانت مستعمرة.
ولكن الفضل في قيام اقتصاد كارولينا يعود إلى الأرز. إذ يعتقد أنه أدخل إليها في العقد الأخير من القرن السابع عشر (1690) على يد واحد من اللاندجريف الأوائل ، وهو توماس سميث ، لكن أصول زراعته التي تحتاج إلى خبرة كبيرة أخذت عن العبيد الذين اشتغلوا في زراعته في غربي أفريقيا. لقد كانت السبخات ، التي تشكلت من حركة المد العالية في أراضي كارولينا المنخفضة ، والتي وقفت سدا في وجه المياه الجارية ، كانت مناسبة تعماما لزراعة الأرز ، وبدورها شكلت الأنديز الغربية والمستعمرات الشمالية وانجلترا سوقا كبيرة. وكانت النتيجة ثروات طائرة ، لقد صدرت كالرولينا أربعمائة ألف رطل من الأرز في العام 1700 وبعدها بأربعين سنة وصلت صادراتها إلى ثلاثة وأربعين مليون رطل. إن من يطلق عليهم ملوك الأرز ، وهم عائلات من قبيل ميدلتون ويول ، أصبحوا أغنى الأغنياء الانجليزي في أمريكا الشمالية حين أضافت محاصيل الأرز في كارولينا نحو مليون جنيه استرليني سنويا إلى الناتج المحلي الاجمالي للامبراطورية البريطانية.
وفيما بعد أصبحة النيلة المحصول الثاني الأكثر ربحية . والنيلة نبات يفرز صبغا أزرق اللون ، وكان الطلب عليه مرتفعا بفضل صناعة الملابس البريطانية التي شهدت ازدهارا في تلك الأيام ، والتي أطلقت الثورة الصناعية في الثلث الأوسط من القرن الثامن عشر. وقد ساعدت النيلة والأرز والخشب والماشية على جعل تشارلز تاون أكثر الموانئ حركة في مستوطنات الجنوب وكبرى مدنها ، والتي ازدانت بمنازل التجار والمزارعين الأثريات والكنائس والمؤسسات التي بنوها مثل مكتبة تشارلستون ، ثالث أقدم مكتبة عامة في الولايات المتحدة.
ولأن مستوطنتي كارولينا وتشيزابيك وجدتا المحاصيل التي يرتفع عليها الطلب في أسواق التصدير ، فقد تمكنت من إنتاجها بتكاليف أقل من تكاليف إنتاجها في أي مكان آخر ، وقد تطورت هاتان المتسوطنتان كثيرا كاقتصادات مزراع ، وبفضل وفورات الحججم في قطاعات كبيرة من الأراضي التي تعمل بها أعداد هائلة من العبيد السود. وهذا ما أفضى بدوره إلى إنقسامات حادة في المجتمع تمثلت في نشوء طبقة غنية قليلة من غير ملاك الأراضي ، وهذا ما أدى بالتالي إلى انقسامات سياسية في كل مستعمرة.
لقد عجزت اقتصادات المزارع عموما – التي تعتمد أساسا على محصول أو اثنين مدرين للربح – عن بناء الأركان الأخرى التي يقوم عليها اقتصاد متكامل. وكانت تشارلستون الموقع الوحيد في الجنوب الذي استحق أن يسمى مدينة ، حتى ان كان ذلك بمعايير مستعمرات ذلك الزمن ، لقد تردى التصنيع المحلي من جراء تخصيص الموارد للمحاصيل المربحة ، وبالتالي كانت المستعمرات الجنوبية تعتمد على استيراد السلع والأغذية اللازمة من انجلترا ونيوانجلاند التي سلكت طريقا مغايرا تماما بسبب عدم وجود محصول مدر للربح تعتمد عليه.
لو تؤسس نيوانجلاند من قبل رجال مهتمين بالمغامرة والكسب ، بل كان المبرر الأهم للاستقرار في تلك القعة هو بناء مدينة على هضبة ، حيث يمكن للقديسين – الذين كتب الله لهم النجاة – العيش بعيدا عن مضايقات الفساد والانحلال ، متبعين وصايا الرب.
لكن تلك المدينة – بالتأكيد – مازالت اليوم مشروعات قيد التنفيذ بعد مرور نحو أربعمائة عام. وحتى القديسون أنفسهم كانوا في حاجة – على المدى القصير – إلى الطعام والشراب وشراء الحاجيات الأساسية ودفع أجرة عبور المحيط لتأسيس أورشليم الجديدة في ماأطلق عليه أحد التطهيريين (البيوريتان) "الفلاة المقفرة" . ولم يكن التطهيريون على الأقل معارضين للازدهار والرخاء في هذا العالم مادامت عبادة الرب تأتي في المقام الأول ، لقد اعتبروا ذلك في الحقيقة دليلا على فضل الله ، وإشارة على خلاص الفرد – وهكذا سيكت تجار القرنين السادس عشر والسابع عشر – وكثير منهم تطهيريين – في مقدمة دفاترهم المحاسبية العبارة التالية: "باسم الرب والربح".
لقد زاد هؤلاء فرصهم الخاصة بتحقيق الازدهار أيضا من خلال اعتقاد راسخ بأن البطالة (التعطل) هي مصنع الشيطان. وعملوا وفق هذا المبدأ. فلقد كان البيوريتانيون دائما منكبين على العمل. حتى ان الكاتب المسرحي اليعقوبي بن جونسون أعمل شخصية بيوريتانية هزلية في مسرحية "معرض بارثولوميو" اسما مناسبا تماما "الورع المشغول".
ولم تكن تكن نيوانجلاند مثل المستعمرات الجنوبية ، من نواحد عديدة إلى جانب الدافع الأول وراء تأسيسها. فالمناخ كان أبرد (لكنه بالمقابل كان أفضل للصحة). كان موسم الزراعة قصيرا. كانت التربة صخرية وسطحية ، وقد جردت الأرض من كثير من قشرتها حتى بلغت الصخر الام بفعل حركة المجلدات في العصر الجليدي. (لقد شكلت التربة التي جرفتها المجلدة من نيوانجلاند ما يعرف الآن بلونج آيلاند ومارثا فينيارد وناتيكيت وكيب كود).
ولم يكن ثمة عوامل مشتركة بين المهاجرين الأوائل باستثناء أنهم انجليز. وقد جاء المهاجرين إلى فرجينيا وماري لاند أساسا من جنوب انجلترا وكان معظمهم فقراء مدقعين ، بينما كان قلة منهم ينحدرون من عائلات غنية ذات أطيان. وقد تركزت هجرات البيوريتانيين على ايست أنجليا وهي أراضي زراعية منبسطة وخصبة تمتد إلى بحر الشمال في شمالي شرقي لندن ، ومن هوم كاونتي – أكثر بقاع ذلك البلد تطورا من الناحية التجارية. كما أن كثيرا من البيوريتانيين كانوا ممن يطلق عليهم اليوم الطبقة الوسطى: ملاك أرض صغار أو مزارعين مستأجرون أو أصحاب حوانيت أو أرباب حرف يديوة ، إلى جانب عدد لابأس به من المهندسين والأطباء والمحامين وبخاصة رجال الدين.
ولأن كثيرا من المهاجرين إليها كانوا من الطبقة الوسطى وآمنوا كثيرا بتلاوة الإنجيل فقد كانت معدلات الأمية في نيوانجلاند أدنى المعدلات في العالم الغربي في القرن التاسع عشر. وعندما تأسست مدن جديدة – وبوقع سريع – كان بناء المدارس جاريا على قدم وساق مع بناء الكنائس ، وقد أسست مستعمرة خليج ماساتشوستس كلية هارفارد بعد ست سنوات فقط من وصول المستوطنين إلى بطسن ، فسبقت بذلك كلية فيرجينيا "ويليام وماري" بأكثر من نصف قرن. وكانت إحدى دور الطباعة تمارس عملها في بوسطن في العام 1640.
لقد استطاع معظم المهاجرين إلى نيوانجلاند دفع تاكليف الرحلة واحضار عائلاتهم معهم حين وفدوا إليها. لكنهم لم يجلبوا معهم إلا أعداد قليلة نسبيا من الخدم المستأجرون واستوردوا أيضا بعض العبيد ، على الرغم من أن الرق لم يكن منافيا لعقائدهم الدينيا الصارمة. وبينما كانت نسبة الرجال إلى النساء في فيرجينيا في أول الأمر أربعة إلى واحدة ، فقد كانت في نيوانجلاند ستة إلى أربعة. وبفضل هذا التوازن الأقرب إلى المستوى بين الرجال والنساء ، لم تمر نيوانجلاند بمرحلة "الفلاة الغربية" قبل استقرارها. كما أن الإلتزام الديني العميق لدى معظم المستوطنين الأوائل والقيادة الصارمة لدى رجال من مثل جون وينثروب وويليام برادفورد ضمنا احترام المجتمع لحكم القانون على نحو أفضل عما بلغته المستوطنات الجنوبية.
ولأن استقرار العائلات هناك كان سهلا جدا وكان المناخ الصحي يساعد على أن يبقى عدد أكبر من الأطفال على قيد الحياة حتى سن الرشد ، فقد تزايد عدد سكان نيوانجلاند بمعدلات كبيرة. لقد هاجر نحو واحد وعشرين ألف شخص فقط إلى نيوانجلاند في القرن السابع عشر ، لكن عدد السكان بلغ مع نهاية القرن واحدا وتسعين ألف نسمة ، كان هذا هو عدد السكان البيض في تشيزبيك التي وصلتها أعداد كبيرة من المهاجرين.
ولقد تأسست مستعمرتا بليموث وخليج ماساتشوستس على يد شركات مساهمة. وعرف أعضاء هذه الشركات الذين قدموا إلى نيوإنجلاند كمزارعين. أما أولئك الذين بقوا في انجلترا واستثمروا أمواليهم في المشروع فسموا بالمغامرين. هذه الكلمة لاتزال تتردد اليوم في مصطلح الرأسمالي المغامر.
هؤلاء المغامرون ، مع حرصهم كغيرهم على بناء أورشليم الجديدة ، كانوا يأملون في تحقيق عائد على استمثارهم بأقصر زمن ممكن. وعندما عادت سفينة ماي فلور إلى انجلترا في ربيع العام 1621 بالصابورة كتب مديرو الشركة إلى الحاكم برادفورد خطابا يحثونه على عدم إرسال شخنة من السلع المخصصة للبيع في طريق العودة. لقد أدت التربة الصخرية في نيوانجلاند إلى استبعاد التفكير في ايجاد محصول مربح كالتبغ ، ولن تنتج الزراعة في نيوانجلاند أي محاصيل للتصدير بكميات كبيرة ، على الرغم من أن نيوانجلاند كانت تصدر الأغنام إلى الإنديز الغربية. لكن ، وان كانت التربة غير صالحة للزراعة فإن البحار المحيطة كانت غنية بالإمكانات.
لقد اكتشف القبطان جون سميث سواحل نيوانجلاند في العام 1614 وأطلق على المنطقة اسمه. وكان كما الحمال دائما يأمل في العثور على الذهب ، وعندما أخفق في ذلك ، أرسل رجالات لصيد سمك القد.
والقد هو نوع من السمك يمكن أن يصل وزنه إلى مائتي رطل ، وكان من المأكولات الاوروبية الشائعة على مر قرون. ويمكن تخزينه أشهرا بعد تجفيفه وتمليحه. وكان من المصادر الأساسية للبروتين الحيواني. وفي اوروبا كثرت مزارع تربيته في بحر الشمال إلى الغرب من آيسلاند. ومن ثم اكتشف الصيادون الباسيكون مناطق أغنى بهذه الأسماك قبالة الساحل الشرقي للولايات المتحدة. ويفضل القد المياه الضحلة نسبيا ، وتوفر الضفاف الواقعة في نيوانجلاند وعلى ساحل الأطلسي لكندا مناطق واسعة من المياه الضحلة. وبالإضافة إلى ذلك يلتقي نيار اوبرادور البارد المتدفق جنوبا وتيار الخليج الدافئ شمالا ، مما يعكر صفو المياه ويطلق فيها كميات كبيرة من الغذاء ، أما النتيجة فهي مرتع خصب للقد يعد أغنى مزارع الأسماك في العالم.
كان يعيش في نيوإنجلاند صيادو أسماك انجليز قبل بدء هجرة البيوريتانيين في العام 1620 ، وذلك في قرى ماين ونيوهامشير وماساتشوستس شمال بوسطن ، وتحديدا في قرى ماربلهيد ، وجلوشستر التي لاتزال حتى اليوم موانئ تشتهر بصيد الأسماك ، معظم هؤلاء الصيادين لم يكونوا من البروريتانيين ، بل من السوقة التي هي فئة أقل حظا بالتعليم واقل تدينا. ولن يكون لماربلهيد – التي كثرت فيها الحانات – كنيستها الخاصة حتى العام 1684 ، وقد صار القد الذي كانوا يصطادونه عماد اقتصاد نيوإنجلاند حقا. وفي العام 1641 ، حين مزقت الحرب الأهلية أوصال الاقتصاد البريطاني ، أرسلت نيوإنجلاند ستمائة ألف رطل من القد المجفف إلى اوروبا والإنديز الغربية. وبعد ثلاثين عاما وصلت صادرات نيوإنجلاند من القد إلى ستة ملايين رطل.
إن لأي فعل في أي نظام ايكولوجي – كالاقتصاد – آثارا جانبية غير متوقعة تصيب أجزاء أخرى منه. وهذه الآثار إما أن تكون سلبية أو ايجابية ، لكنها كانت – والحال كذلك - ايجابية تماما. فالكميات الكبيرة من مخلفات القد – الجلود والعظام والرؤوس والأمعاء المتخلفة عن عملية المعالجة – كانت تنثر في حقول انجلترا لتسميد الأرض مما زاد انتاجية التربة كثيرا.
لكن القد لم يكن المنتج المهيمن على اقتصاد نيوانجلاند ، كما هيمن التبغ على اقتصاد فيرجينيا ، فقد كان سلعة التصدير الأساسية لكن ليست الوحيدة لأن اقتصاد نيوانجلاند أصبح الأكثر تنوعا في أمريكا الشمالية التي حل بها البريطانيون. فإلى جانب القد صدرت نيوإنجلاند الخشب وصواري الصفن والصابون والزبدة والجبن وكل مافاض عن حاجة مزارعيها من إنتاجهم من القمح والبازلاء والشوفان والمحاصيل الأخرى.
وأصبح الخشب أكثر محاصيل نيوإنجلاند ربحية وأول القطاعات الاقتصادية الأساسية فيها. وفي العام 1655 كان ثمة أكثر من عشرين منشرة للخشب على نهر بيسكاتاكوا في نيوهامشير. وفي العام 1705 وصل عددها إلى سبعين وكان هناك كثير منها على أنهار هامشاير الآخرى. ومع نهاية المرحلة الاستيطانية سيصبح الخشب واحدا من أعظم صادرات أمريكا الشمالية.
وبين العامين 1771 و 1773 صدرت نيوإنجلاند فقط إلى الإنديز الغربية التي استطونها البريطانييون سبعة وسبعين مليون قدم مسطح من الخشب وستين مليون ضلع برميل.
وكان من أهم استخدامات أخشاب نيوإنجلاند بناء السفن اللازمة لشحن المنتجات الأخرى. ومع نهاية القرن السابع عشر ، أصبحت نيوإنجلاند واحدة من أكبر مناطق بناء السفن في العالم ، مما خلق آثارا عظيمة في الاقتصاد برمته. إن بناء السفن يعتبر عملا بالغ التعقيد ، ويتطلب كثيرا من العمال ذوي المهارات العالية في عدد من الصناعات والحرف كالحدادة وصناعة الأشرعة والحبال وتقطيع الأخشاب وصناعة البراميل. وقد تتطلب سفينة كبيرة بمعايير القرن السابع عشر تضافر جهود مائتي عامل أو أكثر.
وبينما كانت أجور العمل في نيوإنجلاند تفوق تلك التي في انجلترا بسبب ارتفاع حدة المنافسة على عمل الفلاحين ، فقد كانت تكاليف المواد الخام فيها أقل كثيرا ، خصوصا تلك التي تتعلق بالمكون الرئيسي للسفن ألا وهو الخشب. وبالنتيجة ، كانت تكلفة بناء السفينة في نيوإنجلاند أقل بمقدار النصف مما ينفق على بنائها في انجلترا ، وفي السنوات الأربعين بين العامين 1674 و1714 ، بلغ متوسط ما أنتجته بوسطن سنويا من السفن أربعين سفينة ، اي ما يتجاوز إنتاج باقي المتسعمرات في أمريكا الشمالية مجتمعة. وفي الحقيقة كانت بوسطن أكبر مركز لبناء السفن في الإمبراطورية البريطانية بعد لندن ، إذا وصل عدد المسافن العاملة فيها في العام 1700 إلى خمسة عشر مسفنا.
ولم يكن سكان نيوإنجلاند بناة سفن وحب ، بل صاروا بعد مدة وجيزة من كبار أصحاب السفن أيضا. وفي العام 1700 لم يتفوق على بوسطن في الشحن البحري سوى ميناء لندن وميناء بريستول في طول الإمبراطورية البريطانية وعرضها. وامتدت تجارة الشخن التي طورتها نيوإنجلاند عبر شمال الأطلسي والمتوسط والكاريبي وماسواها ، ولم تنحصر الشحنات في منتجان نيوإنجلاند ووارداتها.
ويمكن القول إن اسم نيوإنجلاند كان مناسبا جدا من الناحية الاقتصادية لأن إقتصادها كان الأكثر شبها باقتصاد انجلترا من بين كل المستوطنات البريطانية في أمريكا الشمالية. وبفضل أسطول الصيد الكبير وصناعة السفن فيها لم يكن لدى انجلترا حاجة كبيرة في المنتجات الأساسية لنيوإنجلاند. لكن حاجة نيوإنجلاند للسلع الصناعية البريطاينة كانت في ازدياد مطرد. واستجابة لذلك نشأت عدة تجارات ثلاثية. فقد صدرت نيوإنجلاند الخشب والأسماك واللحوم إلى الإنديز الغربية لقاء الحصول على السكر والتبغ وصدرت تلك السلع غلى بريطانيا مقابل السلع الصناعية وخصوصا النسيج والمعدات التي كانت تباع من ثم في نيوإنجلاند. وكان دبس السكر الذي ينتج في الهند الغربية يستقطر في نيوإنجلاند لإنتاج الرم إلى أفريقيا لمقايضاته بالعبيد ، ثم كان العبيد يباعون في الأنديز الغربية. وكانت نيوإنجلاند تقايض السمك مع اسبانيا والبرتغال مقابل النبيذ والفاكهةت ، التي كانت تباع في بريطانيا ويشترى بثمنها سلع صناعية. وحملت سفن نيوإنجلاند كثيرا من منتجات كارولينا والتشيزبيك إلى اوروبا والأنديز الغربية. وقد سعي تجار نيوإنجلاند – الذين يمموا وجوههم حيثما سنحت الفرصة كدأب التجار عموما – إلى الشراء بأثمان منخفضة والبيع بأسعار مرتفعة. وكسبوا بذلك سمعة كانوا أهلا بها. ويمكن تلمس نجاخهم اليوم في البيوت العظيمة التي شيدها التجار الأثرياء في كثير من المرافي البحرية في نيوإنجلاند.
ومع أن نيوإنجلاند نجحت في تطوير أكثر الاقتصادات تنوعا في أمريكا الشمالية ، فإنها كانت لاتزال في حاجة إلى استيراد معظم السلع المصنعة. ولم تكن بريطانيا قد أصبحت بعد "ورشة العالم الصناعية" ، ولكنها كانت في طريقها إلى ذلك مع بدء أولى بوادر الثورة الصناعية.
ومن جملة أشد احتياجات نيوإنجلاند ، المنتجات الحديدة التي كانت مادة أساسية في كل النشاطات الاقتصادية تقريبا. والحديد هو من أكثر العناصر وفرة في العالم ، لكن النحاس مع ذلك كان أول معدن استخدم على أساس منتظم . وذلك لأن النحاس أكثر لدانة في الصناعة ، إذ أن درجة انصهاره يمكن بلوغها باستخدام النار العادية ، كما أن بعض فلزات النحاس تعطي لدى تسخينها نحاسا خالصا دون الحاجة إلى مزيد معالجة.
لكن الحديد لا يوجد في حالة نقية إلا نادرا جدا في المذنبات لأنه عنصر شديد الفعالية الكيميائية وهذا سبب صدئه. إن درجة إنصهار الحديد مرتفعة جدا مما يتطلب تقنيات خاصة – كالأكيار (مفردها كير) - لبلوغ تلك الدرجة. وعندما ينصهر لابد لتخليصه من الشوائب ، على سبيل المثال الكربون ، من استخدام تقنيات هائلة الحجم في عملية لاطرق. لذلك فإن الحديد يتطلب وجود منشأة صناعية. حين أن النحاس الذي يحضره الحرفي يمكن إنتاجه بتقنيات بسيطة جدا (يمكن أن تتوافر لكشافة الصبيان).
وفور ظهور التقنية اللازمة ، في نحو العام 1400 قبل الميلاد أصبح تفوق الحديد على النحاس والبروزنز (الأقصى من النحاس) جليا جدا ، ذلك أن الحديد أصبح من المستلزمات الأساسية للحضارة البشرية.
لم يكن لدى طلائع المستوطنين في أمريكا الشمالية من خيار سوى استيراد المسامير وحذوات الخيول والقدور والأوعية المعدنية والمحاريث والمئات من العدد والأدوات التي صارت من المتطلبات اليومية في القرن السابع عشر. ولأن أقر مصادر مسبوكات الحديد كان على بعد إبحار لمدة شهرين ، فقد كانت المنتجات الحديدة باهظة الثمن مما أعاق تطور اقتصادات المستعمرات.
لكن ، وبعد سبع سنوات فقط من إبحار أسطول بقيادة جون وينثروب إلى خليج ماساستشوستس وتأسيس مستعمرة هناك ، كان ابن وينثروب (جون) في طريق عودته إلى انجلترا للإعداد لإنشاء ورش الحدادة في أرضه الجديدة.
كان آل وينقروب من عوائل النبلاء في سفولك ، وكان وينثروب محاميا زاول المهنة قبل أن يقبل منصب حاكم المستوطنات المزمع إنشاؤها . وكان هو من صاغ العبارة الأمريكية الباقية على مر السنين: "مدينة فوق هضبة" وكان إبنه أيضا محاميا وصحاب اهتمامات كثيرة في العلوم والتجارة. وسينتحب في العام 1664 زميلا للجمعية الملكية حديثة النشأة ، وهو أول أمريكي يمنح هذا الشرفز
أما وينثروب الأصغر – الذي عمل نائبا لحاكم ماساتسوشتس وحاكما لكونيكتيكت فقد أسس متجرا للملح لتزويد المستعمرات الجديدة بإحدى السلع الأساسية التي كان استيرادها مكلفا جدا ، لكنه كان يحتاج في تأسيس متجره هذا إلى أحد المستلزمات الاقتصادية التي لم تتوافر لديه في ذلك الحين ، رأس المال. وكانت انجلترا الوجهة الوحيدة التي أمل أن يحصل منها على رأس المال. وستكون انجلترا مصدر كثير من رؤوس الأموال الأمريكية لقترة تتجاوز القرنيين التاليين.
وقد يخيل للمرء أنه من الصعب جدا إقناع أرباب راس المال بالاستثمار في مشروع صناعي ضخم يقام على بعد ثلاثة آلاف ميل في قلب البرية. لكن استقطاب رأس المال لتوظيفه في فكرة غير مسبوقة لا يتطلب إلا خطة عمل وقليل من الحقائق والمعلومات المقنعة ورجل تسويق لدية القدرة على الإقناع. وألمح وينثروب إلى ميزة نسبية كبيرة تتمتع بها أمريكا وهي الخشب. إن الفحم النباتي – وهو خشب يحرق في معزل عن الهواء حتى يتحول إلى كربون نفي – ضروري لإنتاج الحديد كضرورة فلز الحديد نفسه. وكانت غابات انجلترا تعاني من أعمال قطع الأشجار وبمعدلات سريعة – وكان الفحم قد بدأ يتحول إلى الاستخدامات الصناعية. أما أمريكا فكانت تتمتع بمصادر غير محدودة من الأخشاب التي كانت في متناول الجميع بالمجان.
وقد رأى وينثروب أنه باستخدام المواد الأولية المتوافرة في أمريكا ، يمكن لماساتشوستس أن تصنع المنتجات الحديدية التي يمكن بيعها بربح ليس في نيوإنجلاند وتشيزبيك فقط ، بل في انجلترا نفسها. ولاريب في أن وينثروب كان مقنعا ، إذا أنه نجح في جمع 1000 جنيه من عدد من المستثمرين ، ومنهم ليونيل تويلي أحد أشهر تجار الحديد في انجلترا. وسيتسنى له في نهاية المطاف استمثار المبلغ كله. وقدره 15 ألف جنيه في المشروع ، ولادراك قيمة هذا المبلغ في ماساتشوستس في نهاية العقد الرابع من القرن السابع عشر (1640) ، يمكن أن نشير إلى أن أعلى مرتب سنوي في المستوطنة في العام 1948 كان 90 جنيها ، كان يذهب إلى الكاهن زاكاري سميس من تشارلستون (وهذا يعطينيا صورة أكبر طبعا عن ماساتشوستس حيث تدفع أعلى المرتبات في المستعمرة إلى رجل دين).
لقد بحث وينثروب – الذي عاد إلى ماساتشوستس – عن مواقع يقيم فيها ورشات الحدادة تلك ، وحصل "لجماعة المتعهدين" من الحكومة على احتكار إنتاج الحديد من المستعمرة لمدة إحدة وعشرين سنة اقترن بإعفاء ضريبي. ولسوء الطالع ، اختار وينثروب موقعا سيئا لأول افران الصهر في برنتري جنوب بوسطن حيث تبين عدم كفاية مصادر فلز الحديد والماء اللازم لإمداد الورشات بالطاقة.
ومع انشغال وينثروب بكثير من المشاريع واهتمامه المتزايد بكونيكتيكيت ، حيث سيكون حاكما لها في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته ، فقد قررت الشركة استيراد الخبرات اللازمة ، وهي سلعة سيعتمد هذا البلد على بريطانيا في الحصول عليها إلى ما بعد الاستقلال بسنوات طويلة ، فقد استأجروا ريتشارد ليدر الذي كان ملما بشؤون إدارة تجارة الحديد وربتوا أيضا لاستقدام عدد من الحدادين المهرة.
وأنشأ ليدر ورشات حدادة في لين شمال بوسطن في موقع مدينة سوجوس اليوم على ضفاف نهر سوجوس وفي العام 1646 ، أي بعد مرور ستة عشر عاما من نزول جون وينثروب في سواحل أمريكا أول مرة كان أحد المشاريع الصناعية الكبرى قد دخل مرحلة التشغيل في ماساتشوستس. لكنه واجه بداية متعثرة بسبب الحوادث المتكررة مع سعي العمال المحليين لتعلم أصول مهنة صناعة الحديد الشاقة على الرغم من المخاطر المحدقة ، المؤذية والقاتلة. وفي غضون ذلك ، كان العمال المستقدمون إلى المستعمرة يثيرون مشكلاتهم الخاصة. ولم يندمج هؤلاء العمال – الذين وقع عليهم الاختيار لمهاراتهم وليس لولائهم للعمل كالصياديين- بسهولة في مجتمع ماساتشوستس. اذ تحفل سجلات محاكم لين في ذلك الحين بقضايا خاصة بالحدادين الذين سيقوا إلى المحاكم بتهم السكر والبغاء والتغيب عن الكنيسة وغيرها من الخطايا الأخرى المنافية لنظام العالم البيوريتاني.
وقد كتب د. روبرت تشايلد – أحد المستثمرين الانجليز الذي كان يزور بوسطن في ذلك الوقت – إلى وينثروب في العام 1647 ، متذمرا من أن "عمال الحدادة لدينا لم يحققوا لنا بعد أرباحا تذكر". غير أن مستثمرا آخر أشار إلى أن "لكل عمل جديد صعوباته". ومع ذلك ، وفي نهاية صيف 1648 كانت المطرقة التي تزن خمسمائة رطل – والمستوردة من انجلترا لتقرب بدولاب الماء (الناعةورة) الذي يستمد حركته من نهر سوجوس – تضرب بثبات فاصلة الشوائب عن الحديد المصهور ، فكتب جون وينثروب الأب إلى ابنه أن "الفرن يصهر ثمانية أطنان في الأسبوع ، وتضهي بجودتها سبائك الحديد الذي تنتجه اسبانيا".
وكانت الصناعات الثقيلة قد دخلت أمريكا الشمالية. كما كانت ورش الحدادة في سوجوس آنذاك تكشف أيضا جانبا آخر من الإزدهار الذي شهده الاقتصاد الأمريكي ، ففي العام 1646 حصل حداد من هذه الورشات – واسمه جوزيف جينكز – على براءة اختراع عن أداة وصفها بأنها "محركات للطواحين لتعمل بحركة الماء" ، وذلك لتصنيع الأدواب المحدبة والمعقوفة كالمناجل. وربما كان هذا أول مثال عن "الفطنة الأمريكية" ، التي كانت سمة بارزة في الاقتصاد الأمريكي وأدهشت العالم أيضا منذ ذلك الحين.
وعلى الرغ من ذلك ، وبينما كانت ورش حدادة سوجوس تنتج كميات متزايدة من تماسيح الحديد ، والنواتج الأخرى المصنوعة منه ، فإنها كانت لاتزال غير قادرة على توليد أرباح تذكر. وبدأ حملة الأسهم بالضغط لإحداث تغيير في الإنتاج والإدارة ، آملين الإنتقابل بالورش إلى تحقيق الأرباح ، لكن الوضع المالي استمر بالتدهور ، وفي العام 1653 تفجرت المشكلات بسيل من الدعاوى القضائية التي بلغت أسماع حاكم انجلترا حينها اوليفر كرومل اللورد الحامي.
وبينما كان المحامون منهمكين في جدالهم ، تسرب العمال وانتقل كثير منهم إلى أعمال أخرى ، منها ورشات الحدادة الجديدة التي أنشأه وينثروب الابن في كونيكتيكت. وفي العام 1976 كانت أول ورشة حدادة في أمريكا قد انتهت إلى الزوال. والتمست مدينة لين إزالة السد لتعود أسمال الألويف ثانية إلى أعالي النهر لتضع بيضها.
لكن إذا كان أول مشروع صناعي في أمريكا الشمالية إنتهى إلى الفشل ، فإن الفكرة التي قام عليها – وهي إمكان تحقيق عائد من إنتاج الحديد في المستوطنات الأمريكية – كانت سديدة. ومع نهاية عصر المستوطنات – بعد أربعمائة عام من ذلك التاريخ – كانت إنتاج المستعمرات من تماسيح الحديد قد بلغ سبع الإنتاج العالمي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: الإمبراطورية الأطلسية
أسست نيويورك – مثلها مثل غيرها من مستعمرات نيوإنجلاند وفيرجينيا – على يد شركة تجارية. لكن شركة الهند الغربية الهولندية كانت أكبر حجما من تلك المشاريع الناشئة التي أسست المستوطنات الأخرى. فقد أنشئت في العام 1621 ، ومنحت احتكارا للتجارة في المنطقة الممتدة من جنوب افريقيا إلى نيوفاوندلاند. وتأسست متسعمرة نيوفاوندلاند (هولندا الجديدة) على يد الشركة بتكلفة 20 ألف جيلدر للاستفادة من إمكانات نهر هدسون (ويسميه الهولنديون نهر الشمال) في الحصول على الفرو الذي يرتفع الطلب عليه في اوروبا ، وفي السنة الأولى شحنت الشركة إلى اوروبا فروا بقيمة 45 ألف جيلدر ، وهذا ما ساعد كثيرا على استرداد تكلفة انشاء المستوطنة.
وفي مطلع القرن السابع عشر ، صار الاقتصاد الهولندي أكثر اقتصادات اوروبا تقدما وأكثر انفتاحا على آلية السوق. وقد ابتكر الهولنديون او ارتقوا إلى مستويات جديدة في بورصات الأسهم والسلع والتأمين والحوكمة المؤسسية المتطورة. كما كانت الحكومة الهولندية أكثر حكومات اوروبا إلتزاما بالتسامح الديني. وترسخت على الفور روح الرأسمالية الهولنيدة وحريتها الدينية في مستعمرتها الجدية في شمال أمريكا. وعندما حاول الحاكم بيتر ستويفسانت – أحد أكثر الأعضاء المخلصين لكنيسة الإصلاح الهولندية الكالفينية – نفى الكويكرز (الأصحاب) واليهود من أمستردام الجديدة. رفع هؤلاء احتجاجاتهم إلى شركة الهند الغربية الهولندية في هولندا وثيقة عرفت باسم الإحتجاج الصارخ وكتبت الشركة مباشرة إلى بيتر ستويفسانت تدعوه بعبارات حازمة إلى أن يهتم بشأنه ويدع الكويكرز واليهود لشأنهم.
وفي الأربعينات من القرن السابع عشر ، وبينما كان عدد السكان لايزال أقل من ألف نسمة ، تميزت المدينة الصغيرة التي تقع على حافة جزيرة مانهاتن عن غيرها من مدن أمريكا الشمالية بروحها الكوزموبوليتانية (العالمية). وقد رصد كاهن فرنسي ما لا يقل عن ثماني عشرة لغة كانت تسمع في شوارع المدينة في ذلك اقعد. وكل أولئك المواطنين الذين بلغوا ألفا تقريبا كانوا هناك سعيا وراء الكسب المادي. كما أن الهولنديين لم يسعوا إلى بناء كنيسة لهم لمدة سبع عشرة سنة. في الواقع كانت غاية الهولنديين من النزول إلى العالم الجديد جلية جدا ، فلقد حمل شعار هولندا الجديدة صورة قندس داخل قلادة من الوميم ، وهي العملة التي تعامل بها الهنود الحمر.
وفي أثناء سيطرة الهولنديين على منطقة دسون أربعين عاما فقط ، حققوا أثرا عميقا في المدينة التي أسموها. وهي لاتزال أعظم المدن التجارية في العالم – وذلك بعد 350 سنة تقريبا من سيطرة الإنجليز عليها في العام 1664.
لقد حل الكويكرز – كما البوريتانين – في أمريكا الشمالية هربا من الاضطهاد الديني . لكنهم – كالبوريتانيين أيضا – اعتبروا الازدهار الاقتصادي دليلا على رضا الله.
كان ويليام بين ، ابن الأدميرال ويليام بين – صاحب الأملاكالعقارية في انجلترا وايرلندا والذي كان له في ذمة المدينة دين كبير قدره 16 ألف جنيه ، لقد أصبح أحد الكويكرز في شبابه لكنه حافظ على علاقة طيبة مع الملك تشارلز الثاني وأخيه جيمس دوق يورك ، بفضل علاقاته الواسعة ودخله الكبير. وقد منحه تشارلز في العام 1681 ، لقاء التنازل عن الدين ، قطعة واسعة من الأرض شمال نهر ديليوير تزيد مساحتها على أربعة وخمسين ألف ميل مربع ، هذه المساحة التي تصل تقريبا إلى ثلاثة ملايين فدان جعلته من أكبر ملاك العقارات في التاريخ.
ومع ذلك فقد كانت تلك الأراضي بالطبع مجرد فلاة خاوية هندما اشتراها . وأراد بين أن يؤسس مجتمع التجربة المقدسة في أمريكا. وأن يحالفه النجاح في صنيعه هذا. وهو يشرح ذلك بقوله: "مع أنني أرغب في نشر وتعميق الحرية الدينية .. غير أنني أرغب في المقابل في ما يعوضني عن جهدي". وقد حقق الشطر الأول من طموحه ، حيث أكسب المستوطنة جوا من التسماح التام من دون تأسيس أي كنيسة ، ومن غير وجود أي من الكويكرز هناك. واشترى بعض رفاقة من الكويكرز 75 ألف فدان من أراضيه حصل لقاءها على 9 آلاف جنيه وظفها في تمويل المستوطنة.
وحقق بنسلفاينا (التي سميت كذلك على اسم والده وليس اسمه) تطورا سريعا جدا. وبعد أن كانت غير مأهولة بالسكان تقريبا في العام 1680 ، وصل عدد سكانها بعد ست سنوات فقط إلى أكثر من ثمانية آلاف. ولقد وصلت في السنتين الأوليين ثلاث وأربعون سفينة حاملة على متنها ثلاثة آلاف مستوطن. وكما اكنت حال نيوإنجلاند ، كان هؤلاء المهاجرين في معظمهم عائلات بكامل أفرادها ، تضاعف عددها بسرعة بفضل مناخ المستوطنة الجديدة. وفي العام 1700 وصل عدد سكان بنسلفانيا إلى أكثر من ثمانية عشر ألفا. وكانت فلادلفيا تتحول سريعا إلى أكبر مدن أمريكا الشمالية التابعة لبريطاينا. وفي العام 1776ستصبح فلادلفيا كبرى مدن الإمبراطورية البريطانية بعد لندن ، إذ بلغ عدد سكانها (بمن فيهم سكان الضواحي) نحو أربعين ألف نسمة.
كانت تربة بنسلفانيا أخصب من تربة نيوإنجلاند ، وكان فصل الزراعة فيها أطول ، وحقق مزارعوها بأعدادهم المتزايدة دائما فوائض متنامية في الإنتاج أمكن مبادلتها تجاريا ، إلا أن المحاصيل الصالحة للزراعة في بنسلفانيا (ونيويورك) – كالقمح – كانت تزرع أيضا في انجلترا ، لذلك كانت لاسوق مقتصرة على السوق الأم للناتج الزراعي للمستوطنات الوسطى . وبالتالي سعت تلك المستوطنات – مثل نيوإنجلاند – إلى فتح أسواق أخرى. وكان القمح الفائض يحول إلى طحين ويباع في الأنديز الغربية ، في شطريها الفرنسي والبريطاني ، لقاء السكر والدبس. وأصبح تصدير القمح عاملا مهما لاقتصاد نيويورك ، بحيث إن شعارها الذي اعتمده الانجليز في العام 1686 يظهر برميل طحين بين ضفرات طاحونة هواء.
ولأن المستوطنات الوسطى – مثل نيوإنجلاند – لم تكن قادرة على الاعتماد على محصول مربح عليه طلب كبير في البلد الأم ، فإنها لم تحقق تطورا اقتصاديا كذلك الذي حققته المستوطنات النموذجية في ذلك الحين. لقد اعتمد المزارعون في مستمعمرات مثل فرجينيا ، على تلك العوامل المتوافرة في انجلترا مثل فرصة تسويق تبغهم هناك وتوافر خدمات الصيرفة ووكلاء الشراء ، حين شحنوا إلى فيرجينيا سلعا لم تكن متوافرة فيها. لقد أوجدت بنسلفانيا ونيويورك – كما نيوإنجلاند – طبقة التجار الخاصة بها ، وكانت هذه الطبقة متطورة كتلك التي في البلد الأم تماما وتتمتع بروابط وعلاقات تجارية في كل بقاع الأرض.
وتوسعا المناطق التي كان البريطانييون يقيمون فيها تجارتهم بمعدل كبير في القرن السابع عشر ، كما توسعت إمبراطوريتهم الأمريكية أيضا. وفي العام 1600 كان القسم الأعظم من التجارة الانجليزية يتم مع الدول المجاورة شمال غربي اوروبا. وبعد مائة عام أصبحت بريطانيا أعظم أمم اوروبا تجاريا ، متفوقة بذلك على هولندا. ووصلت السفن البريطانية إلى مناطق قصية كالهند ، وانخرط في تجارتها مع آسيا وأمريكا ما يقارب 40% من أسطولها البحري التجاري.
ولاعجب ، إذن ، أن الحكومة في لندن رغبت في تنظيم هذه التجارة وذلك لسببين. الأول ، بالطبع ، هو تحسين قدرتها على جباية الضرائب منها ، والثاني ، حملها على تطبيق المبادئ التي هيمنت على الفكر الاقتصادي آ،ذاك. هذه المبادي باتت تعرف اليوم بالنظام الميركانتيلي (التجاري) وهي عبارة أطلها – كما هو الحال دائما – أحد منتقدي هذا النظام ، آدم سميث (تماما كما وضع كارل ماركس مصطلح الرأسمالية).
كانت الميركانتيلية ترى أن أفضل أشكال الثروة إنما يتمثل في المعادن الثمينة: الذهب والفضة. فإذا كان بلد ما يفتقر إلى مناجم المعادن الثمنية فيجب أن يعظم صادراته ويسعى إلى الحد من الواردات لتحقيق ميزان تجاري رابح وبالتالي تجميع الذهب والفضة. لكن هذه النظرية لم تلق قبولا عاما. فالسير دودلي نورث على سبيل المثال ، بين أن فكرة تحقيق دولة ما للثراء فقط على حساب دولة أخرى هو مغالطة. ورأى أنه كلما زادت التجارة – استيرادا وتصديرا – كانت الدولة في حال أفضل. وسيبني آدم سميث كثيرا من أفكاره في كتابه "ثروة الأمم" على ما قدمه نورث وآخرون.
كلن الميركانتيلية اقترنت بتركيز كبير على المصالح الشخصية الاقتصادية بين التجار والمصنعين الذين سعوا إلى حماية أنفسهم من المنافسة الأجنبية وعانت من تناقض فكري إلى أن أثبت آدم سميث بطلانها من خلال أكثر الكتب حجة وتأثيرا في التاريخ الغربي.
في العام 1651 بدأت انجلترا إصدار سلسلة من قوانين الملاحة لتنظيم التجارة في مستوطناتها الأمريكية. هذه القوانين ألزمت المستوطنات باستخدام السفن البريطانية الصنع والمملوكة لرعايا بريطانيين. أما الهولنديين – الذين تفوقوا على الانجليز بكفاءتهم كبحارة تجار في منتصف القرن السابع عشر – فكانوا قادرين على شحن التبغ من تشيزابيك إلى اوروبا بتكلفة تقل عن تكلفة السفن الانجليزية بنحو الثلث. غير أنه مع نمو الأسطول التجاري الانجليزي وتحول نيوإنجلاند إلى مركز رئيسي للشحن بقدراتها الذاتية انخفضت تكاليف الشحن حتى في ظل غياب المنافسة الهولندية.
كما اشترطت قوانين الملاحة أن تشحن أنواع معينة من البضائع التي يصدرها الأمريكيين إلى انجلترا فقط. كثير من هذه السلع – التبغ والأرز والسكر والنيلة والفرو والنحاس ومشتقات الصمغ (القار والزفت والتربنتين) – أعيد تصديره إلى اوروبا. وقد ضمن ذلك مرور السلع عبر الجمارك الانجليزية ونظامها الضريبي ، وأن يضطلع التجار الانجليزي بالتجارة مع ااوروبا. أما الصادرات الأخرى للمتسوطنات كالطحين من المستوطنات الوسطى تماسيح الحديد ، فكان يسمح للمستوطنات بتصديرها مباشرة إلى الأسواق الأخرى أينما وجدت.
وقد نصت قوانين الملاك على أن السلع المستوردة من أمريكا يجب أن تمر أولا عبر انجلترا وبالطبع عبر الجمارك البريطانية باستثناء عدد من منتجات اوروبا الجنوبية التي لم تكن انجلترا تنتجها أصلا مثل النبيذ من اسبانيا وماديرا أو الآزور. لقد كان الهدف الأساسي من هذا التنويع حماية السوق الأمريكية لمصلحة المنتجين البريطانيين. لكن تحول بريطانيا سريعا غلى أكثر من مصنعي هذه السلع كفاءة في اوروبا جعل المصنعين البريطانيين قادرين على البيع بأسعار تفضيلية دائما.
ومع التطور المستمر للمستوطنات الأمريكية في القرن الثامن عشر ، فرضت بريطانيا قيودا متزايدة على المصنعين الأمريكيين لحماية صناعتها المحلية المزدهرة. لم يكن ثمة حظر تجاري مباشر على أي مننج ، لكن حكم الأسواق كان مزدهرا ، مما أدى إلى حظر بناء المصانع والورش الجديدة لإنتاج سلع بعينها.
ولو أن هذه القوانين فرضت على قدم المساواة ، لكان أثرها كبيرا على الاقتصادات النامية لمستوطنات أمريكا الشمالية. أم السفن والشحنات التي انتهكت قوانين الملاحة فقد كانت عرضة للعجز والمصادرة. لكن تلك القوانين لم تفرض بصورة عادلة. إذ كانت أحيانا لا تفرض إلا بالكاد ، وفي أحيان أخرى كانت الرشا التي عرفت طريقها جيدا إلى المسؤولين تلاقى بتغاض مقصود من جانب أولئك المعنيين بفرض القانون وتطبيقه. لقد كان منصب محصل الضرائب في كثير من الموانئ الأمريكية يعد عملا جالبا للعطايا والرشا ، نظرا إلى إمكانات الكسب التي يوفرها. وكان تهريب البضائع طوال الفترة الاستطيانية عملا شائعا على نطاق واسع.
وعلى الرغم من نمو الاقتصاد الأمريكي إلى مستويات أعلى من الإنتاجية والتعقيد بصورة مطردة خلال الحقبة الاستطيانية ، غير أنه لم يرق إلى مستوى الاقتصاد الكامل ، وظلت المستوطنات تعتمد على البلد الأم في سلع وخدمات معينة لم تتمكن من توفيرها بنفسها. فكانت الصيرفة إحدى هذه الخدمات.
لقد حظر القانون البريطاني – وكان ناجعا في ذلك – تأسيس المصارف في المستعمرات ، كما حظر أيضا تصدير النقد العدني البريطاني من بريطانيا من أجل الحفاظ على كتلته النقدية (عرض النقد في الاقتصاد) ، وهذا ما دفع المستوطنات إلى إصادر النقد كل وفق إمكاناتها.
ويعد النقد سلعة لا تختلف عن كروش الخنازير وخدمات المحاماة أو لوحة مفاتيح الحاسب ، إلا من ناحية جوهرية واحدة. فالنقد – بالتعريف - هو كل سلعة مقبولة قبولا عاما كبديل عن كل السلع الأخرى. والنقد من أهم ابتكارات الكائن الاقتصادي. وفي الاقتصادات التي تقوم على المقايضة ، لابد لكل من يرغب – لنقل على سبيل المثال – في بيع البرتقال وشراء التفاح أن يعثر له على شخص آخر لدية التفاح ويرغب في الحصول على البرتقال. ويطلق علماء الاقتصاد على هذه العملية – بموهبتهم المعروفة عنهم في استخدام العبارات الرنانة – "التصادف المزدوج للحاجات.
أما في اقتصاد يعتمد النقد وسيطا في التبادل ، فبإمكان التاجر الأول بيع ما يملك من برتقال لقاء النقد وشراء التفاح نقدا ممن يتوافر لدية تفاح للبيع. ويزيد هذا كثيرا عدد الصففات التي يمكن أن تجري في الاقتصاد. وبالتالي فإن الوظيفة الاقتصادية للنقود تماثل كثيرا عمل الحفاز في الكيمياء ، يزيد من سرعة التجاوب وردة الفعل ولايصيبه هو نفسه أي تغيير.
كما تؤدي النقود وظيفتين أخريين إلى جانب وظيفتها كوسيط في التبادل. فهي وحدة حساب ، أي أن تقويم كل السلع (أو التعبير عن قيمتها) إنما يتم عبر النقد. كما أن النقد يعد مخزنا للقيمة ، أي موضعا لحفظ الثروة ريثما تتنتقل بين ضروب الاستثمار المنتج.
لقد أدت كثير من السلع دور النقد في حالات معينة ، كما هي الحال في استخدام الماشية في بعض الحالات ، والتي لاتزال تستخدم في بعض التجمعات الحضرية. إن الكلمة الانجليزية Pecuniary وتعني (مالي) مشتقة من الكلمة اللاتينية Pecus وتعني (ثور). وعندما بدأ استعمال المعادن ، كانت توضع في التدوال كأشباه نقود. وكان لها مزايا عدة مقارنة بالماشية ، فلوح النحاس يمكن تقسيمه إلى أجزاء ووحدات أصغر. إذا كانت قطع المعادن – المتداولة حسب أوزانها – تصك بقيمة معينة وتتداول وفق عددها. ومن هنا تحولت إلى قطع نقدية . فالقطع النقدية هي نقد حقيقي أو لنقل سلعة وظيفتها الوحيدة أن تكون نقدا.
وكان الذهب والفضة والنحاس – وهي أثمن من الحديد – هي المعادن التي شاع استخدامها في ضرب النقود. ولأنها كانت من الناصر فقد كان الحصول عليها يتطلب استخراجها من باطن الأرض (وليس تصنيعها) بتكاليف باهظة. صحيح أن تصنيعها (أو إيجادها من عناصر أخرى) كان مستحيلا ، غير أن خلطها بمعدن خسيس مع الحفاظ على القيمة الإسمية نفسها أو تقليل وزنها كان ممكنا. ولجأ الحكام إلى هذه الوسيلة عندما لو تتوافر لهم الأموال الكافية – وهذه حال الحكام عموما. وكانت النتيجة طويلة الأجل وواحدة لا تتغير. فقد انخفضت قيمة القطع النقدية المشوبة بمعادن أخرى نسبة إلى السلع الأخرى.
وفي ظل الحظر الانجليزي على خروج القطع المعدنية كان على المستوطنات الانجليزية الجديدة في أمريكا مواجهة مشكلة الحصول على النقد عبر اللجوء إلى مصادر أخرى. وفي العام 1652 بدأت ماسا تشوستس في سك نقدها الخاص على الرغم من القوانين الصارمة التي وضعت صلاحيات سك الند بيد الحكومة الملكية. وفي كان سك الشلن الذي يحمل صورة شجرة الصنوبر – وهو أول نقد سك في أمريكا الشمالية – يجري وسط جو مشحون بالشك. إذ وجب على الأفراد إحضار ما بحوزتهم من فضة لتحليلها وفحصها قبل سك النقد الذي يعادل محتواه من الفضة ثلاثة أرباع الشلن الانجليزي. كان شلن "شجرة الصنوبر" أحد أركان اقتصاد ماساتشوستس مما جعل الحكومة البريطانية لا تفرض قيودا على إنتاجه لأكثر من ثلاثين عاما. غير أن أمرا بوقف ضرب النقد صدر بعد إلغاء العمل بدستور ماساتشوستس في العام 1684.
وتحول مستوطنون آخرون إلى أقرب معادلات النقد الاوروبي في تلك الأيام ، اي الدولار الاسباني. كان الدولار الاسباني بشكل نصف حجم النقد المتداول في متسعمرات أمريكا الشمالية ، أما النسب الباقية فكانت خليطا بين النقد البريطاني الذي جلبه المسافرون بالإضافة إلى النقد افرنسي وما شابه. لكن نزيف النقد الأمريكي بسبب العجز التجاري الدائم للمستوطنات مع بريطانيا جعل هذا النقد يعجز عن الوفاء بالطلب عليه.
وكما هو شأن أي تقنية متطورة ، سعى المستوطنون الانجليز في أمريكا الشمالية – الذين اعتادوا استخدام النقد في مبادلاتهم الاقتصادية – إلى الحفاظ على مزايا الاقتصاد النقدي . لذلك بحثوا عن بدائل للنقود الحقيقية ، في نيوزيلاندا ومناطق أخرى استخدم تجار الفرو الهندي الوميم وسيطا في التبادل ، كذلك فعل عملاؤهم الناطقون بالهولندية والانجليزية. والوميم هو عبارة عن خرزات مصنوعة من أصداف بطلينوس الماء العذب الذي يكثر في البحيرات والأنهار في تلك المناطق. كانت تخاط في شكل أحزمة جلدية متقنة الصنع. وقد ساعدت المثاقب الفولاذية كثيرا على ثقب الخرز وزادت بالتالي من انتاجية وحدة العمل. وهذا ما أدى إلى هبوط كبير في قيمة الوميم ، لكنه ظل يستخدم كنقد حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفي العام 1760 افتتح جي سي كامبل من سكان نيوجيرسي مصنعا للوميم المقلد ، مما افقد الوميم الأصلي قيمته.
أما ماريلاند وفيرجينيا فلجأتا إلى ما يسميه علماء الاقتصاد "النقد السلعي" (أو السلعة النقد) ، مستخدمين بذلك التبغ. لكن ما يؤخذ على النقد السلعي – سواء أكان تبغا أو ماشية – هو صعوبة نلقه وارتفاع تكاليفه ، وتفاوته في الجودة وتقلب قيمته الفعلية ، فعندما انهار سعر التبغ في العقد التاسع من القرن السابع عشر – 1680 – حين قابل انتاجه في تشيزابيك الطلب العالمي وفاقه أحيانا ، حل الخراب باقتصادات المستوطنات: ويشكو أحد سكان ماريلاند من هذه الحال بقوله: "لم يعد التبغ – وهو النقد الذي نتعامل به – ذات قيمة تذكر" .. "لم يعد للتبغ أي قيمة هذا العام في كل أنحاء بلدنا".
وكان من شأت التشريعات التي حددت معايير مواصفات الحد الأدنى ، أنها أنعشت أسعار التبغ وعاد ليستخدم كنقد في مناطق زراعته. وفي العام 1696 ، كان رجال الكهنوت في فيرجينيا يقبضون رواتب تعادل 16 ألف جنيه من التبغ. ومع مطلع القرن الثامن عشر ، أحال القانونيون التبغ إلى مناقصة قانونية لدفع الضرائب والديون العامة.
كما أسست فيرجينيا في العام 1730 نظام مراقبة يفرض على المزارعين تسليم محاصيلهم من التبغ إلى المخازن العامة لفحصها وإصدار ايصالات بقيمتها. وقد أدت هذه الايصالات دور البنكنوت (النقد الورقي المصرفي) على الرغم من تقلب قوتها الشرائية كثيرا ، وذلك بسبب ربطها بسلعة متقلبة السعر: التبغ بدلا من الذهب والفضة. وسرعان مالحقيت ماريلاند بفيرجينيا في هذا المسار.
وقد بدأ إصدار النقد الورقي المصرفي على يد المصارف الانجليزية منذ بداية القرن الثامن عشر. وكانت قابلة للتداول – بفصل إمكان استيراد قيمتها ذهبا من الايداعات لدى المصارف – حيث كان الذهب الذي تمثله هذه الفئات النقدية ملكا مطلقا لحاملها. وكان للنقد الورقي المصرفي عدة مزايا على ضروب النقد الأخرى. اذ كانت تكلفته منخفضة (كانت الأوراق في الأساس تصدر بخط اليد) وأخف من الذهب ولافضة الذين يدعمان قيمتها في خزائن المصارف المصدرة لها.
ومن دون المصارف لم تكن المستوطنات الأمريكية قادرة على التعامل بالنقد الورقي. لكن ذلك لم يمنعها من إصدار نقدها الورقي. ففي العام 1690 حشدت ماساتشوستس قواتها لقتال الفرنسيين في حرب الملك ويليام (سميت حرب السنوات التسع في اوروبا). ولكي تدفع للجنود أجورهم أصدرت المستوطنة صكوك ائتمان – وهي وعود دفع مستقبلية. وقد كتب على تلك الأوراق (الصكوك) التي صدرت في فئات 5و10و20 شلنا مايلي:" صك المديونية هذا المسحق على مستوطنة ماسا تشوستس للمالك يحمل قيمة معادلة لقيمة النقد ، وعليه فإنه مقبول لدى أمين الخزينة والقابض في جميع المدفوعات العامة ومهما كان رصيد الخزينة في اي وقت – نيوإنجلامد ، الثالث من فبراير 1690 ، بأمر المحكمة العامة".
ولأنها كانت نقودا قانونية استخدمت في سداد الضرائب والمستحقات الحكومية الأخرى ، فقد جرى تداولها كالنقود (مع أن ذلك تم غالبا بحسم على قيمتها الإسمية). هذه الأدوات النقدية لم تكن فقط أول نقود ورقية تصدر في أمريكا الشمالية ، بل كانت أول نقد ورقي يصدر في العالم الغربي أيضا.
وحققت الفكرة نتائج باهرة ، فانتشرت في نيوإنجلاند وبنسلفانيا ، اللتين أصدرتها أولى عملاتهما الورقية في العام 1723 ، وقد نشر بنجامين فرانكلين في العام 1739 – وكان له من العمر حينها 23 عاما فقد – كتابا بعنوان: "تحقيق مبسط عن طبيعة العملة الورقية الحاجة إليها" ، ومنح على الفور عقدا لطباع الإصدارات المستقبلية لبنسلفانيا من صكوك الإئتمان ، وابتكر عددا من وسائل الكشف عن العملات المزورة ، التي لايزال بعضها مستخدما حتى يومنا هذا.
لكن فرانكلين على الرغم من ذلك ، عمل على الحد من الإنتشار الخطير لما يطلق عليه علماء الاقتصاد "النقد القانوني (أو النقد الاعتباري) ، أي النقد الذي يكتسب صفة النقد لأن الحكومة أرادات له ذلك. وليس لأنه مصنوع من سلعة تحمل قيمة ذاتية أو مدعوم لها. ومنذ فجر الحضارة الانسانية ، واجه السياسيون خيارات صعبة بين رفع الضرائب الذي لا يحبذه الشعب أو ضبط الإنفاق الذي يؤيده الشعب. وعندما تيسرت لهم القدرة على دفع التزامات الحكومة المالية بنقد أرخص – كما هي الحال عند تخفيض المحتوى القيمي للنقد المعدني أو تقليل وزنه - فإنهم لم يترددوا في ذلك.
لكن القطع النقدية المعدنية لابد أن تصنع من معدن ما ، كما ان إنتاجها يعتبر باهظ التكلفة. أما إنتاج النقد الورقي فليس ذا تكلفة تذكر. ولم يتوان السياسيون عن الانسياق وراء استخدام النقد الورقي كحل قصير الأجل لمشكلات الحكومة المالية. ولا يستثنى من ذلك سياسيو أمريكا الشمالية التبعة لبريطانيا . وعمدت حكومة ماساتشوستس – التي انكبت على اصدار المزيد والمزيد من النقد الورقي – إلى سحب القطع المعدنية الذهبية والفضية من التداول تأكيدا لقانون جريشام (العملة الردئية تطرد العملة الجيدة من التداول). وهكذا كان الناس يتعاملون بالنقد الورقي ويحفظن النقد المعدني تحت وسائدهم ، لأنهم اعتبروه مخزن قيمة ، وهذا ما كان عليه فعلا.
وقد أدى التضخم على الفور إلى تقلص قيمة النقد الورقي. وهكذا أبطلت ماستاتشوستس في العام 1716 العملة الورقية واستوردت الدولار الاسباني ، ثم عادت إثر ذلك مباشرة إلى طباعة صكوك الائتمان مرة أخرى. وأخيرا أصدر كل اقليم باستثناء فيرجينيا أشكالا مختلفة من العملة الورقية ، لكنها لم تكن إطلاقا بديلا عن أشكال النقد الأخرى ، وفي فيرجينيا في العام 1730 ، كان هناك مالايقل عن سبعة عشر شكلا من أشكال المناقصات القانونية.
وكان العامل المشترك الوحيد يتمثل في استخدام الجنيه الاسترليني كوحدة حساب عامة ، حتى عندما لم تعد النقود المعدنية البريطانية تشكل إلا جزءا صغيرا فقط من مجموع النقد المعدني المتداول ، ولم يتم تداول النقد الورقي البريطاني إلا نادرا. إن تكاليف تقويم الأشكال المختلفة للنقد وتحويلها كلما دعت الحاجة ، كانت مرتفعة جدا في الاقتصاد الأمريكي حديث النشأة.
وعلى الرغمن من الفوضى النقدية التي عمت اقتصادها كانت أمريكا الشمالية البريطانية في منتصف القرن الثامن عشر تشهد ازدهارا لم تحققه إلا قلة من المناطق الأخرى في العالم. فإلى جانب مركزها كمصدر رئيسي ، ومهيمن أحيانا ، للمنتجات الزراعية والمواد الخام وتميزها في صناعة السفن والتجارة كانت أيضا تلبي حاجاتها الخاصة من السلع المصنعة.
لقد كان في كل بلدة تقريبا حداد ونحاس وصانع عجلات واسكاف ونجار ودباغ وماشابه من الحرفيين القادرين على تلبية الطلب المحلي. وارتفعت أعداد مطاحن الدقيق والمناشر وازداد حجم عملها. وفي المدن الكبرى كان كثير من الحرفيين يوسع أعماله إلى مشاريع صناعية ناشئة (ورشات). وقد ولد وليام جونسون (1714 – 1808) في مدينة نيويورك لكنه إنتقل إلى تشارلستون في كارولينا الجنوبية في شبابه ، وأسس لنفسه ورشة حدادة. لكنه حقق الكثير في فترة قصيرة جدا ، حيث إنه أدار مشروعا كبيرا يعمل فيه عمال ومتدريون (صناع) وعبيد في إنتاج سلع حديدية كثيرة جدا. كان جونسون ناجحا بمايكفي لأن يصبح من كبار ملاك الأراضي ، وأن يلتحق بنخبة المجتمع في تشارلستون بصفته عضوا قديما في المجلس التشريعي وعضوا في مجلس كنيسة القديس فيليب ، وسيمعمل ابنه ويليام جونسون أيضا في المحكمة الأمريكية العليا لمدة ثلاثين عاما.
كان مدن بوسطن ونيويورك وفيلادلفيا وغيرها تشعد زيادة في نماذج مثيل ويليام جونسون. وحينها كانت معاصر الرم توفر 60% من حاجة السوق الأمريكية. وكانت أعداد متزايدة من مصانع تكرير السكر تحول السكر البني الذي ينتج في الهند الغربية إلى سكر أبيض غزا بسرعة قلوب المستهلكين الأمريكيين. وازدهرت تجارة الرم والسكر المكرر والمواد الغذائية والسلع الصناعية بين المستوطنات. وفي العام 1770 كان نحو 20 بالمائة من الحمولة التي غادرت ميناء نيويورك تتجه إلى موانئ المستوطنات الأخرى وليس إلى اوروبا أو الإنديز الغربية.
وبدأ اقتصاد أمريكا الشمالية التابعة لبريطانيا بالتحول عن طابعه الاستيطاني (الكولينيالي) إلى اقتصاد مماثل لاقتصاد البلد الأم ، اقتصاد متنوع ومتطور. كان في فيلادلفيا في العام 174 أكثر من ثلاثمائة عامل يزاولون صناعة العربات. كما كان النجارون من أمثال توماس ألف في تشارلستون وتوماس أفلك في فلاديلفيا وجون تاون سيند وجون جواردر في نيوبورت وجون كوجيل في بوسطن يصنعون تحفا من تصاميم الأثاث ، التي كانت تضاهي في تفاصيلها ما تنتجه بريطانيا آنذك. وكان رسامون من أمثال جون ترمبل يحققون مكاسب كبيرة من رسم اللوحات الفنية (البورتريهات الشخصية).
لم يكن هذا الاقتصاد فقط ، يتطور بوقع سريع ، بل كان يحقق نموا سريعا أيضا ، وتضاعف عدد المستوطنات الثلاث عشرة تقريبا بين العامين 1750و 17770 من 117600 إلى 2131000 نسمة بفضل الهجرة والعائلات الكبيرة التي ناهز أبناؤها سن البلوغ. كما كانت المساحات المأهولة في المستوطنات تزداد سريعا ، وفي عشية الثورة كان ثمة نحو 180 ألف ميل مربع – أي نصف مساحة بريطانيا وما يقارب مساحة فرنسا أكبر دول اوروبا الغربية.
هذه الأملاك اقتسمت بين السكان على نطاق كبير. وعلى الرغم من أن 20 في المائة من السكان كانوا يضعون أيديهم على ثلثي الثروة في سبعينيات القرن الثامن عشر ، في حين أن 20 في المائة من السكان القابعين أدنة هرم الثروة لا يملكون أكثر من 1 في المائة ، فإن هذه البيانات الأولية تقدم صورة مشوهة ، لأنها لا تأخذ عامل الزمن بعين الإعتبار. (الإحصائات المعاصرة تؤدي الغاية نفسها ولكن لأهداف سياسية مشبوهة). كان سكان أمريكا الشمالية التابعة لبريطانيا من الشباب اليافعين ، ومعلوم أن صغار السن لايملكون على العموم ثروة تذكر إلا أنهم مع التقدم في العمر يميلون إلى اكتساب الثروة وهذا ما كان عليه واقع الحال في المستوطنات الثلاث عشرة. ولقد توصل أحد المؤرخين الاقتصاديين إلى أن نحو 8 في المائة ممن هم في الأربيعينات من العمر ، فإن 8 في المائة فقط كانت تعتبر في عداد الفقراء بمعايير اليوم ، وتقل هذه النسبة في صفوف من هم في الخمسينات من العمر.
كان سبب ذلك ببساطة يتجلى في أن أمريكا في عهد المستوطنات قبل الثورة كانت أرض فرص لم يعرف العالم لها نظيرا من قبل. فقد كان اقتصاد العالم الغربي في منتصف القرن الثامن عشر في طور التغير مع ظهور النتائج الأولى للثورة الصناعية ، التي كانت تجري في قدم وساق في الأراضي الوسطة في إنجلترا. لكن الزراعة ما كانت لاتزال القطاع المهيمن على الاقتصاد وبقيت الأرض أساس الثروة. ولم يكن في اوروبا أو الإنديز الغربية أراضي غير مأهولة صالحة للزراعة. وإن وجدت كانت ذات مساحات محدودة ، أما كندا الغنية بعنصر الأرض فكان فصل الزراعة والنماء فيها قصيرا جدا ، مما حد من المحاصيل الصالحة للزراعة والعائد التولد منها.
لكن المستوطنات الثلاث عشرة كانت تزخر بملايين الأفدنة من الأراضي الخصبة المشاع. وعندما لم تتوافر لمزرعة العائلة أراضي كافية لإستيعاب أبنائها فإن التخوم – حيث تكثر الأراضي – كانت على مسير يوم أو اثنين على ظهور الخيول. وهكذا اصبح الترحال والإنتقال سمة أمريكية ، ولاتزال أمريكا إلى اليوم أكثر المجتمعات تنقلا وترحالا على وجه البسيطة.
ولم يكن الأطفال الذين ولدوا هناك هم وحدهم من وقعت على أذنهم معزومة الإصتقلال المالي التي كانت تتردد في أمريكا، فقد كان هناك سيل لاينقطع من المهاجرين يختلف عددا من عام إلى آخر ، لكن هذه الأعداد ارتفعت بإطراد بعد العام 1750 مع وصول أخبار الإزدهار الأمريكي والفرص المتاحة هناك. ولتأمين تكلفة سفرهم كان أولئك المهاجرون يقبلون بالإستعباد قصير الأجل من خلال العمل خدما مأجروين فترة محدودة.
وفي العام 1767 ذكر السيد هنري مور ، الحاكم الملكي لنيويورك أنه "فور إنقضاء الأجل المضروب في عقود إجازتهم كان هؤلاء العبيد يهجرون أسيادهم ويشترون قطع أرض صغيرة يمضون أول ثلاث أو أربع سنوات في حياة ملؤها الشقاؤ والمعاناة في أحط ظروف الفقر في سبيل إعمارها والإستقرار فيها. لكنهم كانوا يتحملون هذا بصبر وأسلموا أنفسهم غلى هذه المهم بملء إرادتهم ، فالرضا الذي تسبقه ملكية الأرض تهمون كل الصعاب ، وتجعلهم يحبذون أسلوب العيش هذا على أسلوب الدعة والراحة التي مكن أن يحققهوها لأنفسهم وعائلاتهم بالعمل في المهن التي نشأوا عليها وترعروا فيها". هذا الإقبال على حياة الضنك والمخاطرة أملا في الغنى مستقبلا ، الذي كان عليه حال أولئك المهاجرين وملايين المهاجرين الآخرين الذين سيسلكون طريقهم في القرنين المقبلين ، قد خلف أثرا بالغا – إن لم نقل لايقاس – في تاريخ الاقتصاد الأمريكي. إذ أنهم على غرار أولئك الذين لم يجدوا تعارضا بين عبادة الله والسعي وراء النجاح الدنيوي في القرن السابع عشر ، فإن أولئك الذين سعوا وراء الاستقلال الاقتصادي في القرن الثامن عشر خلفوا أثرا كبيرا في الثقافة الأمريكية الوليدة آنذاك.
وفي وقت كانت فيها النخبة تزداد عددا كانت نسبة سكان المستوطنات البريطانية ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطة (هذا الوصف لم يكن معروفا في القرن الثامن عشر. وإنما كان يطلق عليهم إسم "الفئة الوسطى" ، تفوق نظيراتها في أي منطقة من العالم الغربي. وقد اقتسمت ثمرات الإزدهار على نطاق واسع. وقد تجاوزت أطوال قامات الجنود الأمريكيين المولودين لآباء مهاجرين من السكان الأصليين في عهد الثورة – على سبيل المثال – بوصتين كاملتين بالمتوسط أطوال أقرانهم البريطانيين ، الذين كانوا في غالبيتهم المطلقة يحملون مجموعة المورثات نفسها ، وكانت صلات القرى بينهم وثيقة. ويمكن أن يعزو ذلك إلى إرتفاع القيمة الغذائية في طعاهم في مرحلة الطفولة.
وبالطبع ، لم يصب هذا الازدهار طبقة العبيد الذين هم – بالتعيف – أولئك الذين لا قروة لهم ولا مصدر دخل ولا فرص يفيدون منها ، وما لهم إلا الكفاح غير المأجول لمصلحة الآخرين. إلا أنه ، وعلى الرغم من عدم إمتلاك العبيد عريتهم ، فقد بدأت محنتهم تلفى أذانا صاغية وإدانة علنية. فقد ظهرت أولى بوادر الحركة المناوئة للعبودية في أواخر القرن السابع عشر في انجلترا. إذ استنكر جورج فوكس (1624 – 1691) – مؤسس جمعية الأصدقاء – الرق (في وقت كان فيه لدى ويليام بين كثير من العبيد). وسيأتي الكويكرز في طليعة حركة إلغاء العبودية عندما ستؤسس تلك الحركة بعد قرن من ذلك الزمان. ولقد دان كثيرون من غير الكويكرز ، فظائع تجارة الرقيق ومعاملة العبيد في المزارع التي تقع في الإنديز الغربية من دون أن يقصدو بذلك الرق نفسه. إلا أن النظام نفسه وقع تحت وطأة الهجوم والإدانة في منتصف القرن الثامن عشر.
إن تغير موقف بنجامين فرانكلين ، الذي امتدت حياته إلى القرن الثامن عشر يعكس تطور موقف المجتمع كله. فقد دأب فرانكلين في شبابه على الإعلان في مجلة بنسلفانيا ، عن العبيد الذين كان يعرضهم للبيع. وفي العام 1750 اعتبر الرق ظاهرة تسئ إلى رفاهية الدولة لأنه يولد استخفافا بالعمل (باليد العاملة) ، وكان يرى أن الرق في أفضل حالاته يحد من الكفاءة الاقتصادية. وفي العقود الأخيرة من حياته – مع ذلك – صار من المطالبين بإلغاء العبودية. ولقد أسست أول جميعة لإلغاء العبودية في فيلادلفيا في العام 1775 وترأسها بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون ، يرون أن الرق مناف للقيم والأخلاق. لكن أحدا منهم لم يكن يعلم كيف يخلص البلاد – أو حتى مزارعهم – منه.
وفي العام 1772 أصدر اللورد مانسفيلد – كبير القضاة – حكما يقضي بأن الرق مخالف للقانون العام ، مطالبا بتحرير العبيد لحظة يطأون أراضي المملكة المتحدة. لكن ذلك لم يترجم لمصلحة العبيد في المستوطنات طبعا. فقد استمرت عبوديتهم على الرغم من تنامي حس الإزدراء تجاه الرق في أواسط المجتع.
وبدأ الأمريكييون ، في الشطر الثاني من لاقرن لاثامن عشر ، بالإقلاع عن التفكير في بلادهم على أنها مستوطنات تابعة للوطن الأمن. فكلمة "أمريكي" نفسها تقيم دليلا على ذلك. لقد استخدمت هذه الكلمة للمرة الأولى لتحقير المنحدرين من أصول اوروبية الذين عاشوا في مستعمرات بريطانية في أمريكا الشمالية في العام 1765 ، لكنها بعد ذلك التاريخ بدأت تلقى قبولا عاما. إذ بدأ الأمريكيون يميلون سريعا إلى اعتبار أنفسهم رعايا للتاج البريطاني ، وبالقدر نفسه مساوين للرعايا البريطانيين الذين يقطنون أنحاء أخرى من الإمبراطورية الأطلسية العظيمة والمتنامية ومنها البلد الأم.
وقد عدوا انفسهم ، كغريهم من الرعايا البريطانيين ، ورثة صراع من أجل التحرر عمره أكثر من خمسمائة عام. فلقد تجاهلت الحكومة في لندن المستوطنات الأمريكية خلال فترات طويلة من القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكانت تستخدمها منفى للمحكوم عليهم وغير المرغوب فيهم (المبعدين) ، ولحماية المصالح الاقتصادية للتاج البريطاني ولأولئك المتنفذين في البرلمان كأصحاب مزارع السكر في ويست إنديان والتجار البريطانيين.
لكن الموقع الجغرافي لبريطانيا العظمى كان قد شهد تغيرات سريعة خلال تلك الفترة. ففي عهد تشارلز الثاني كانت بريطانيا – على أكثر تقدير – تعد قوة اوروبية متسوطة. وقد قبل تشارلز الثاني معونة سرية من لويس الرابع عشر لقاء الإذعاء للمطامع الفرنسية. لكن عندما أطاحت الثورة المجيدة في العام 1688 بجيمس الثاني – أخي تشارلز الذي أعلن انتماءه الكاثوليكي على الملأ – واستبدلت به ويليام الثالث البروتوستنانتي المناوئ لفرنسا ، وانخرطت بريطانيا في سلسلة لاتنتهي من الحروب مع فرنسا كان لها أثر واضح في تحول بريطانيا إلى دولة عظمى.
كان سلاح بريطانيا السري في هذه الحروب نظامها الضريبي المتطور وقدرتها على تمويل جيشها من خلال الاقتراض لحساب دينها الوطني الجديد. وفي وقت كانت فيه القوى العظمى الأخرى في اوروبا لاتزال تعتمد على متعهدي الجباية ، وهم أشخاص يتعهدون بتقديم عائدات معينة إلى الحكومة مقابل حصولهم على حق جباية الضرائب في منطقة ما ، بحيث يحتفظون لأنفسهم بالزيادة ، فقد حولت بريطانيا جباية الضرائب المجبوة إلى الخزينة البريطانية.
وقبل القرن الثامن عشر كانت الديون الحكومية عادة ديونا شخصية على الحاكم يتم ترتيبها شخصيا مع المقرضين. ولكن في العام 1694 منحت الحكومة البريطانية رخصة تأسيس مصرف انجلترا الذي تحول في العقود القليلة التالية إلى مصر انجلترا المركزي. وبدأ في انجلترا حالا الترتيب للقروض الحكومية وإصدار السندات القابلة للتداول بيعا وشراء في السوق. وأفضى ذلك إلى استنزاف كبير لثروات الأمة . وبدلا من إبقاء فائض رأس المال على شكل ذهب وفضة ، كان المستثمرون قادرين على توظيفه في السندات القابلة للبيع والشراء مباشرة في السوق. والتي عادت عليهم بدخل ثابت. وهذه لاقروض أدت بدورها عمل الضمانة على القروض الشخصية لتوفير رأس المال العامل للمشاريع الجديدة. وبالنتيجة ، حقق الاقتصاد البريطانية نموا سريعا في القرن الثامن عشر مع توافر إمكانات توظيف المزيد من رؤوس أموالها (في الاستثمارات المختلفة).
وبفضل ديونها القومية الفعلية استطاعت بريطانيا شن حروب ناجحة على بلدان تفوقها في عدد السكان والموارد الطبيعية. وعلى حد تعبير رجل الدولة الروماني سيسير قبل الفي عام: "إن عصب الحروب مال لا ينضب". وبفضل ديونها القومية أيضا صارت بريطانيا محور سياسة القوة الاوروبية.
لكن مركز بريطانيا الجديد كقوة عظمى لم يأت دون ثمن. فقد بلغ دينها القومي 16.3 مليون جنيه في العام 100 ، أي نهاية حرب الأعوام التسعة. وفي العام 1748 ، مع نهاية حرب خلافة عرش النمسا ، بلغ هذا الدين 76 مليون جنيه. وبعد خمس عشرة سنة ، في أعقاب حرب السنوات السبع (سميت في أمريكا الشمالية بالحرب الفرنسية الهندي) ، بلغ هذا الدين 131 مليون جنيه. وهو مبلغ هائل بالنسبة إلى مجتمع كانت العائلة الواحدة فيه تعيش حياة كريمة بمائة جنيه سنويا ، وحيث كان دخل سنوي قدره 1000 جنيه يكفي لجعل المرء فاحش الثراء.
وانتهت لمصلحة البريطانيين الحرب الفرنسية الهندية ، التي اندلعت في طول العام وعرضه من فورت دوكيسن في غربي بنسلفانيا إلى الهند. وقد أجبرت فرنسا على تسليم إمبراطوريتها في أمريكا الشمالية إلى البريطانيين لتنهي بذلك الوجود الفرنسي ، والتهديد الذي كان يمثله في "الباب الخلفي" للمستمعرات البريطانية. وهكذا وبسيطرة البحرية الملكية على لاأطلسي وحشد عشرة آلاف جندي بريطاني على الجبهة لحفظ السلام مع الهنود ، أمنت المستوطنات للمرة الأولى في تاريخها القصير من الهجوم الأجنبي.
وسعت الحكومة لابريطانية إلى موارد جديدة للدخل وقد أرهقت كاهلها خدمة الدين القومي الكبير – 60 في الائة من ميزانية الحكومة في تلك السنوات ذهبت إلى سداد فوائد الدين – في وقت استمرت فيه بريطانيا في تمويل جيش عرمرم. ومع تحول الإمبراطورية البريطانية في أمريكا الشمالية إلى قوة اقتصادية كبرى مستقلة بذاتها ، فلا عجب أن البريطانيين ركزا أعينهم عليها. واستفاد المستوطنون ايضا بصورة كبيرة من نتائج الحرب الفرنسية الهندية ، ولم تعد الضرائب تثقل كواهلهم كما كان شأن الرعاية البريطايين في البلد الأم. فقد كان المواطن البريطاني العادي يدفع 26 شلنا في العام كضرائب ، أما الأمريكي فلم تزد ضرائبه على شلن واحد. وكانت الحكومة في لندن تعتقد أن من الحكمة والعدل أن تقدم المستوطنات مساهمة أكبر في تحمل نفقات الإمبراطورية.
كما بينت الأضواء التي سلطتها الحروب الفرنسية الهندية على المستوطنات أمورا لم ترق للحكومة في لندن إطلاقا. إذ كان موظفو الجمارك في المستوطنات البريطانية على أعلى درجات الفساد ونقص الكفاءة ، وذلك لأن ماكانوا يجبنونه من إيرادات ضريبية وتعريفات جمركية لم تكن تعادل سوى ربع نفقات الجباية. وقد تجاهل تجار المستوطنات كل ما كان يخاف مصالحهم من قوانين الملاحة . وفيالعام 1733 اشترط البرلمان أن يكون بلد المنشأ لكل دبس السكر المستورد إلى مستوطنات أمريكا الشمالية من الجزر البريطانية المنتجة للسكر. لكن دبس السكر كان رخيصا في شرائه من هناك ، حتى في الفترات التي كانت فيها بريطانيا في حالة حرب مع فرنسا.
لقد جرت العادة أن صاحب الميز الاقتصادية – مهما كانت مجحفة- يكافح سياسيا بكل قوته للحافظ عليها ، سواء كانت تلك الميزة حق الإنتفاع من عمل الغير أم حماية جمركية لا مبرر لها أم إعفاء ضريبيا. فالأمر سيان في كل هذه الحالاتز ولأن المزايا التي تحققها القلة معروفة وليست بالقليلة ، في حين أن التكلفة التي تقع على كاهل الكثرة المحرومة من هذه المزايا غالبا ما تكون خفية وبسيطة فإن القلة تدحض الكثرة في مثل هذه السجالات السياسية.
ولقد قاوم المستوطنون حقا – وبضراوة – الضرائب البسيطة التي حاول الإنجليز فرضها وتشديد القيود التجارية. واعتبروا أن الرعايا البريطانيين لا يمكن أن يقبلوا الضرائب ما لم يصدر قرار فرضها عن نوابهم في البرلمان. ذلك أن الأمريكيين كانوا ممثلين في مجالس المستوطنات وليس في برلمان ويستمنستر. فليس لبرلمان ايرجو سلطة بفرض الضرائب عليهم. وعلى اعتبار أن الرعايا البريطانيين كانوا متساوين في الحريات ، فبأي وجه حق يسن البرلمان قوانين تصب في مصلحة التجار البرطانيين على حساب تجار المستوطنات.
وكما يحدث غالبا في الخلافات العائلة – ومع ارتفاع حدة الجدال – لم يبذل أي طرف جهدا في محاولة فهم وجهة نظر الطرف الآخر ، بينما تصاعد صوت المظالم. وأعلنت المستوطنات مرارا أن الخضوع لمطالب البريطانيين سيحولهم من أحرار إلى عبيد ، وهم أدرى الناس بمعنى العبودية تلك. وعندما أدركوا إمكان إستغنائهم عن حماية الجيش البريطاني للدفاع عنهم لم يروا من ضرورة لهذه الإمبراطورية من أصلها.
أما تعليقات البريطانيين على هذه الأزمة – من الجانب الآخر – فكانت لا تكف عن استخدمام كلمات مثل "المزارع" و"الأطفال" خلال الإشارة إلى المستوطنات وسكانها. فقد كانوا تابعين (رعاي) وكان لابد من معاملتهم على هذا الأساس. كما أن معظم النظام السياسي البريطاني لم يشك إطلاقا في أن جيشه المتفوق سيتصدى من دون عناء لأي أزمة تخلقها الماقومة التي قد تبديها المستوطنات.
لكن ذلك جانب الصواب ، إن ويليام بيت – ايرل تشاثام – الذي يعود إليه الفضل كرئيس للوزراء ، في كسب الحرب الفرنسية الهندية – كان ذا رأي أقرب إلى الصواب. فقد خاطب البرلمان البريطاين قائلا: "ليس في مقدوركم غزو أمريكا". لكن أعضاء البرلمان لم يرغبوا في الإصغاء إليه.
الجزء الثاني: بلد يستطيع أني يصنع من نفسه ما يريد
مقدمة: مرحلة تحول الثورة الأمريكية
كان البلد الذي أعلن استقلاله في 4 يوليو 176 يتمتع بكثير من نقاط القوة في صراعه العسكري مع بريطانيا – الذي لم يكن وليد اللحظة. لكن الوضع المالي ، على الرغم من ذلك ، لم يكن من بين نقاط القوة هذه ، لقد كانت الولايات المتحدة تخوض حربها على ترابها الوطني ، مما أتاخ لها شن هجمات مضادة سريعة ، أما بريطانيا فكان عليها أن تحارب من مسافة ثلاثة آلاف ميل حيث كانت عملية الاتصال مع مديان المعركة تستغرق ثلاثة أشهر على الأقل ، وغالبا أربعة أشهر. وكان قادة الجيش والسياسيون الأمريكيون على معرفة وثيقة بتلك الأرض ، أما نظراؤهم البريطانيون فكانوا في جهل مطبق. إذا ما كان على الولايات – قبل كل شيء – إلا تجنب خسارة الحرب إلى أن تشعر الحكومة البريطانية – ومعها شعبها – بالإعياء من هذا الصراع وتكاليفه المتصاعدة. أما بريطانيا فكان عليها أن تهزم بلدا كبير المساحة وأن تستأصل بؤر التمرد الكثيرة فيه.
لكن بريطانيا كانت تتمتع بموارد مالية غير محدودة – إذا جاز القوم – ولم يكن لدى الأمريكيين موارد مالية تذكر ، وبفضل مواردها تلك استطاعت بريطانيا أكبر أسطايل العالم وأفضلها (على الرغم من أن الأسطول انتهى إلى التقهقر والتراجع بصورة كبيرة منذ نهاية حرب السنوات السبع). ولم يكن ثمة جيش يضاهي الجيش البريطاني في الخبرة والعتاد ، ولم يمثل رفده بالجنود الأجانب المرتزقة أي عناء. أما الأمريكيون فكان عليهم أن يحشدوا كل ما تيسر لهم من قوات سواء كانت ميليشيات الولايات أم مراكب القراصنة التي يقارب عددها مجتمعة – إن لم يكن يتجاوز – عدد قوات الجيش والبحرية القاريين.
كما كان عليهم حشد الموارد اللازمة لسداد تكلفة الحرب. ولم يكن ذلك بالأمر السهل خصوصا في ظل غياب حكومة وطنية بمعناها الحقيقي. ورفضت الولايات الثلاث عشرة – التي خرجت على السيطرة البريطاينة – أن تتنازل عن جزء كبير من سيادتها التي اكتسبتها أخيرا ، ولم يكن للكونجرس القاري الثاني أي سلطة في فرض الضرائب وجبايتها. إذا كان مضطرا إلى تقدير متطلباته المالية ، وأن يسأل الولايات توفير المال اللازم . ولم تستجب سوى قلة من الولايات – التي كانت مهتمة بتمويل المجهود الحربي – وبالتالي لم تصل نسبة الضرائب من الإيرادات الكلية إلا إلى نحو 6 في المائة.
وكان لابد من توفير الأموال الباقية من خلال الإقتراض ، تارة من أمريكيين أثرياء التزموا بالقضية ، وفي أحوال كثير من فرنسا وهولندا اللتين كانتا بالطبع أكثر حرصا على كسر شوكة البريطانيين من مجرد مساعدة الأمريكيين. كما وفر هذا البلدان إلى جانب المال نحو 60 في المائة من بارود المدافع التي استخدمتها القوات الأمريكية ومعظم اللباس العسكري والأسلحة النارية. بل إن البريطانيين أنفسهم – ومن دون قصد منهم – وفروا كثيرا من العتاد العسكري للقوات الأمريكية. وفي أثناء الحرب استولت مراكب القراصنة الأمريكية على نحو مائتي سفينة بريطانية تقدر قيمة حمولتها بنحو 18 مليون جنيه.
وباستثناء القروض كان مصدر التمويل الوحيد ضرب النقد. وقد أصدر الكونجرس القري في العام 1775 أذونات (صكوك) ائتمان قابلة للتداول ، أطلق عليها اسم كونتيننتال. ومع نهاية القام 1779 وصلت القيمة الإسمية لتلك الأذونات المصدر إلى 225 مليون دولار على الأثل ، وهو مبلغ جد كبير بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي في ذلك الحين. هذا الارتفاع الحاد في الكتلة النقدية (الذي تفاقهم بفعل لجوء الولايات والأقاليم إلى الوسيلة نفسها) كانت نتيجته الحتمية زيادة هائلة في مستويات التضخم. وتضاعفت الأسعار في العام 1776 ثم تضاعفت مرة أخرى في العامين التاليين. وفي الفترة بين مطلع العام 1779 وبداية العام 1781 ارتفعت مستويات الأسعار بنحو عشرة أضعاف. وحاول الكونجرس استئصال المشكلة عبر إعادة تقويم الكونتيننتال الذي تدهورت قيمته إلى 2.5 في المائة من قيمته الاسمية. وستجد عبارة "لا يساوي كونتيننتالا واحدا" طريقها إلى القاموس الأمريكي أكثر من مائة عام.
ولم يكن أمام كثير من المزارعين من خيار إلى قبول شهادات أمناء الإمدادات وضباط التموين – التي كانت تتداول كنقد – بأي قيمة كان هؤلاء الضباط يصدرونها بها عند شراء المؤن قسرا من بائعيها. ولحسن الحظ كان البريطانيون يسلكون طريقا خلافيا. وذلك بمصادرة الماشية والحبوب كغنائم حرب.
ولأن الكونجرس القاري كان يفتقر إلى الخبرة اللازمة في إدارة طبقة بيروقراطية كبيرة (كان في قسم أمناء الإمدادات التابع للكونجرس القاري ما يزيد على ثلاثة آلاف موظف ذات مرة). فقد عمت مظاهر الفوضى والفساد ونقص الكفاءة. ولم تشهد المشتريات والمالية الحكومة أي شكل من أشكال النظام ، إلا في العام 1781 عندما إدارتها موريس روبرت ، التاجر الفيلادلفي الذي اشتهر بنجاحه الكبير.
الأهم من ذلك هو أن موريس استطاع تأمين التمويل الازم لنقل الجيش القاري من ولاية نيويورك إلى يورك تاون في فيرجينيا. وهناك – ولأن الأسطول الفرنسي كان يعترض الطريق إلى مدخل خليج تشيزابيك قاطعا مساعدات الإغاثة – اضطر اللورد كورنواليس إلى اعلان استسلام القوات الأساسية في الجيش البريطاني المرابط في أمريكا الشمالية.
ولو قدر للمجهود الحربي البريطاني أن يستمر ، لكان على لندن تشكيل جيش جديد وتجهيزه ونقله. ولم يكن ثمة سوى قليل من الدعم السياسي لذلك خصوصا مع الارتفاع المتسارع في مستويات الدين القومي (فقد تجاوز 200 مليون جنيه). وبدأ البريطانيون في مفاوضات معاهدة السلام ، التي انتهت باعتراف بريطانيا العظمى رسميا باستقلال أمريكا في العام 183. وهكذا فإن الولايات المتحدة كسبت بألا تخسر.
لكن الولايات المتحدة دفعت ثمنا باهضا بعد أن دمرت القوات البريطانية أجزاء كثيرة من كارولينا وفيرجينيا. وذلك حين عملت تلك القوات على تخريب المزارع والاقطاعات. كما استولى البريطانيون على كثير من العبيد. وهكذا ادى الحصار البريطاني إلى شلل كبير في حركة التجارة على غرار ما ساقه الاحتلال البريطاني إلى بعض الموانئ الرئيسية.
ورزحت نيويورك تحت نير الاحتلال البريطاني بين خريف 1776 و 25 نوفمبر 1783 (وهو التاريخ الذي احتفلت به نيويورك طوال مائة عام تحت اسم "يوم الجلاء"). وهذه أطول مدة تخضع فيها مدينة في العالم الغربي لهيمنة قوة محتلفة في العصر الحديث. وفي فترة الاحتلال اندلع حريقان أتيا على نصف مباني مانهات. وانخفض عدد سكان المدينة بمقدار النصف في تلك الأعوام. وانجلت عن المدينة ، مع القوات البريطانية ، طبقة التجارة الذين كسدت تجارتهم التي قامت على علاقتهم مع البريطانيين.
وجلب حلول السلام ردة فعل انتقامية من البريطانيين أخذت شكلا تجاريا. فقد أغلقت الأنديز الغربية التابعة لبريطانيا في وجه السفن الأمريكية – والتي كانت فيما مضى سوقا كبيرا للصادرات الأمريكية من المواد الغذائية والخشب. وأوقفت المعاملة التفضيلية في مجال التعريفات الجمركية على سلع كالنيلة مثلا.
لكن البريطانيين ظلوا المستورد الرئيسي للسلع الأمريكية وأكبر المصدرين إلى الولايات المتحدة . فقد قدم التجار البريطانيون عروضا تجارية سخية سعيا منهم إلى إعادة إرساء موطئ قدم لهم في السوق الأمريكية حيث فرص الربح الوفير. وفور انتهاء الحرب بدأ الاقتصاد الأمريكي يتعافى. وإن كان ذلك في مناطق دون أخرى. إذا ظلت كارولينا الجنوبية غارفة في أزمة الكساد ، بينما استعادت الاقتصادات التجارية في الولايات الأطلسية الوسطى عافيتها. وعلى الرغم من خسارة أسواق مثل الأنديز الغربية التابع لبريطانيا (هذه الخسارة كانت مؤقتة كما أثبتت الوقائع) ، فإن أسواقا جديدة ظهرت إلى الوجود. فقد رحبت اوروبا الشمالية – التي عزلتها قوانين الملاحة البريطانية عن بقية العالم – بالمرور عبر بريطانيا – ترد مباشرة وبتكاليف أقل من قبل. وانفتح الشرق الأقصى – الذي كان ذات يوم احتكارات نافحت عن شركة الهند الشرقية البريطانية بشراسة في وجه التجار الأمريكيين. وفي العام 1784 حلت السفينة (إمبراطورية الصين) في مرفأ نيويورك في طريقها إلى الشرق ، وكانت أول سفينة في سلسلة أساطيل ستزداد عددا. وحملت السفينة شحنة من الفرو وجذور الجينسنج – التي كان الصينيون يولونها منزلة عظيمة كدواء لكل الأمراض – والتي كانت تقايض بالشاي والحرير والخزف الصيني والبورسلان والنباتات والطيور الغريبة وغيرها من السلع الكمالية. وعندما قفلت السفينة راجعة بعد خمسة عشر شهرا وأفرغت حمولتها ، أصابت أرباحا تراوحت بين 30 ألف دولار و40 ألفا.
وتعافت مدينة نيويورك نفسها من الدمار الذي لحق بها على أيدي البريطانيين سريعا. ومع نهاية العقد ، لم تعوض فقط خسائرها البشرية ، بل وصل عدد سكان إلى مستويات غير مسبوقة ، فقد رصدت إحصاءات العام 1790 نحو 33 ألف نسمة.
وعلى الرغم من التحسن البطئ في اقتصاد البلاد ، فإن هذا لم يقترن بتحسن مواردها المالية. فلقد أقرت الولايات المتحدة أخيرا إطارا أساسيا للحكومة (الأحكام الفدرالية) في العام 1781 ، ليحل محل الحكومة الاعتباطية التابعة للكونجرس القاري الثاني. لكن ذلك لم يف إطلاقا بالغرض المنشود. إذ بقي الكونجرس ممسكا بمعظم الصلاحيات ، وكان أعضاؤه يعينون من قبل حكومات الولايات ويبذلون جهدهم لخدمتها وإرضائها. كما أنها لم تتمتع بصلاحيات جباية الضرائب ، فعملت بدلا من ذلك على طلب المال من ولايات أخرى تخلف كثيرا منها عن سداد ماعليها وقت استحقاقه ، وأقنع بعضها الآخر عن الدفع. لقد كانت حكومة الولايات المتحدة – في ظل الأحكام الفدرالية – أقرب كثيرا إلى وضع الأمم المتحدة اليوم منه إلى أي حكومة فعلية.
ولم تفلح محاولة توفير مصدر دخل دائم للحكومة الوطنية غبر فرض نسبة 5 في المائة على الواردات ، وذلك بعد أن فرضت نيويورك كثيرا من الشروط التي رفضها الكونجرس. ومن دون إجماع الولايات فضلت الإجراءات الجديدة. وهذا أدى إلى عجز الحكومة الوطنية عن الوفاء بالتزاماتها. وحلت البحرية وخفض عدد القوات إلى مستوى متدن جدا لم يتعد ثمانين من القوات الخاصة. وفي العام 1785 توقفت الحكومة عن دفع فوائد ديونها إلى فرنسا. وبعد سنتين توقفت عن سداد أصل الدين أيضا.
وعاملت القوى الأجنبية الولايات المتحدة بأسلوب يعوزه الإحترام ، بعد أن أدركت أن الولايات المتحدة تملك القوة. وشجعت بريطانيا الحركات الانفصالية في الشمال الغربي وفيرمونت ، ورفضت الجلاء عن حصونها التي تقع الآن فيما بات من أراضي الولايات المتحدة. ورفضت اسبانيا الاعتراف بسيادة الولايات المتحدة غربي المناطق الجبلية وجنوب نهر اوهايو ، وأعلقت نهر المسيسبني الذي كانت تسيطر على مصبه أمام حركات التجارة الأمريكية. ومع تدفق سيول المستوطنين عبر الجبال التماسا للأراضي الخصبة – التي صارت تسمى كنتاكي وتينيسي فقد خلق ذلك مشكلة كبرىة. لكي يضمنوا بقاءهم ، وكان المسيسبني المنفذ الوحيد إلى البحر. وأوشكت أن تفعل. ووصف جورج واشنطن في العام 1784 أولئك القوم بأنهم يقفون في مهب الريح: "إن مستهم ريشة فستجرفهم إلى أي اتجاه".
وعجز الدائنون المحليون والأجانب عن تحصيل القروض وفوائدها ، وظلت كتلة هائلة من صكوك الائتمان وشهادات التموين قيد التداول بمعدلات لم تكن إلا جزءا يسيرا من قيمتها الاسمية. ولم تكن أكبر مشكلات الأحكام الفيدرالية خافة عن العيان: إذ كانت الحكومة الوطنية عاجزة عن تمويل عملياتها عن طريق الضرائب وغير قادرة على تنظيم التجارة بين الولايات. لكن في المقابل لم تكن وسائل حل المشكلات جلية ظاهرة ، وبخاصة في ضوء رفض الولايات التنازل عن مظاهر السيادة. لكن المجلس التشريعي في فيرجينيا ، مدفوعا من جيمس ماديسون ، دعا الولايات الأخرى إلى الاجتماع في مؤتمر تبحث فيه "توحيد ضوابطها التجارية في منظمة واحدة لما فيه المصلحة العامة وتحقيق التناغم الدائم بينها".
وأفضى ذلك غلى انعقاد مؤتمر أنابوليس في سبتمبر 1786. ولم تحضره سوى خمس ولايات ، واقتصرت نتائجه على الدعوة إلى اجتماع آخر في مايو 1787 ، "لأخذ حالة الولايات المتحدة بعين الاعتبار ، ووضع أحكام اضافية وفق ما تراه الولايات لازما لجعل دستور الحكومة الفيدرالية قادرا على تلبية متطلبات الاتحاد".
وحالف الحظ الوطنيين – كما كان يطلق على مؤيدي إقامة حكومة مركزية قوية. إذ اندلع عصيان شايز في ماساتشوستس بالتزامن مع انعقاد مؤتمر أنابوليس. وفي الشطر الغربي من الولايات كان كثير من المزارعين مثقلين بالديون ، ولا يملكون لسدادها معينا. لكن المجلس التشريعي في ماساتشوستس – وكان خاضعا لطبقة التجار في بوسطن – انفض من دون الاستجابة للعراض الماطلبة بإصدار العملة الورقية وإعفاء الديون التي حبست رهونها. وفي نوفمبر كان دانييل شايز – الذي كان عقيدا في الجيش زمن الثورة ومزارعا معدما آنذاك - يقود قوة من ألف ومائتي رجل. وأرسلت حكومة ماساتشوستس – وقد راعها ذلك – الجنرال وليام شيفارد على رأس قوة من ستمائة رجل لحماية مخازن الأسلحة في سبرنجفيلد ، وفوضت إلى الجنرال بنجامين لنكولين تشكيل قوة من أربعة آلاف وأربعمائة رجل. ولم يستغرق ذلك الكثير من شيفارد – الذي كانت تدعمه المدفعية في مواجهة البنادث والمذاري – ليقضي على متمردي سبرنجفيلد في 24 يناير 1787 ، بينما سحق لنكولين التمرد بالهجوم على قواته في بترشام في 4 فبراير من ذلك العام ، وفر شايز إلى فيرمونت.
وأصدرت ماساتشوستس عفوا عن كل المتورطين (بمن فهيم دانيل شايز نفسه في السنة التالية). وكسب الانتخابت لاتشريعية متعاطفون مع تمرد شايز في ربيع ذلك العام ، وأصدروا تشريعا يعفي موجودات بعينها من حبس الرهن كالأدوات المنزلية والملابس ومعدات العمل.
وعلى الرغم من أن تمرد شايز انتهى سريعا لكنه خلف أثرا كبيرا في إدراك الناس للخلل الخطير في أسلوب إدارة البلاد والحاجة إلى تغيير جذري. وهذا ما مهد الطريق أمام انعقاد المؤتمر السنوي في فيلادلفيا ، في أواخر ذلك الربيع ، وقرر على الفور إنهاء العمل بالأحكام الفدرالية والبدء من نقطة الصفر من جديد. وفي مايو 1787 نشرت إحدى صحف بوسطن – بتهكم – تعليقا على التغيرات التي طرأت على قانون المديونية التي أفضى إليها عصيان تشايز إلى أن "العصان نفسه قد يأتي بالقوانين أحيانا" ، وبالفعل ساعد عصيان شايز على صياغة الدستور.
ومن المعلوم أن المنجزات الحقيقية التي يمكن أن تحققها أي لجنة هي محدودة العدد ، لكن دستور الولايات المتحدة بالتأكيد هو واحد من هذه الإنجازات الفارقة. لقد وضع هذا الدستور – الذي لم يعدل إلا سبعا وعشرين مرة في 215 عاما – عندما كان العالم مقبلا على أشد فترات التحول الاقتصادي عمقا وديمومة في تاريخ الجنس البرش. لقد تحول مركز القوة في الاقتصاد الأمريكي من قطاع إلى آخر مع التطور الذي كان الاقتصاد يشهده. فقد مرت مناطق برمتها بفترات مد وانحسار في وضعها الاقتصادي. وخرجت إلى حيز الوجود طرائق جديدة في وزاولة العمل التجاري ، ومؤسسات اقتصادية لم تجل بخاطر الآباء المؤسسن ، في ذلك الحين ، واندثرت أخرى في المقابل. وخلقت – وبددت أيضا – ثروات لا يمكن أن يتخيلها من عاصر عالم ما قبل الثورة الصناعية. ومه هذا بقي الدستور قائما وحافظ البلد على ازدهاره في ظل هذا الدستور.
إن نشوء الولايات المتحدة وإرساء قوانينها الأساسية لم يكن ، بأي حال من الأحوال ، أقل التحولات الثورية حظا في التاريخ الأمريكي. ومن إحدى مصادفات التاريخ الكبرى إصدار آدم سميث كتابه الشهير "ثروة الأمم" في العام 1776. فلقد قوض الكاتب القواعد الفكري للمركانتيلية التي قامت عليها السياسات الاقتصادية للأمم الغربية على امتداد مائتي عام.
وقد عرض ، هذا الكتاب ، بمثال إثر آخر – وكل منها أشد حجة من سابقه – أن التجارة الحرة داخل حدود الدولة ومع الخارج ، وعدم تدخل الدولة في المنافسة الفردية في الأسواق قد أفضت إلى ازدهار عظيم انعكس على الجميع وساهم في زيادة قدرات الدولة بصورة عامة. لقد قرأ كثير من الآباء المؤسسين مؤلفات سميث وأدركوا أيضا قوة الحجج التي ساقها.
ولأن الولايات المتحدة كانت بلدا حديث النشأة فإنها لم تعرف احتكارات وأنظمة امتياز متجذرة لكي تحاربها وتسعى إلى تفكيكها. ولم تعرف مثيلا لشركة الهند الشرقية البريطانية ذات القدرات المالية الهائلة ، أو للطبقة الارستقراطية المتنفذة والمهيمنة على شئون البلد السياسية. كما لم تعرف منحا ملكية قديمة ، مثل حقوق جباية التعرفات المحلية التي شاعات في فرنسا ما قبل الثورة. وبالتالي كان من السهل جدا على الولايات المتحدة ترسيخ أفكار آدم سميث في نظامها الاقتصادي والسياسي على العكس من غيرها من الأمم الغربية الكبرى. وقد منحها ذلك أفضليات ومزايا كبيرة في العالم الاقتصادي الجدي الذي ظهر إلى حيز الوجود بعد اجتماع الآباء المؤسسين في فيلادلفيا.
وكتب كارل ماركس في مؤلفه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" إن: "الرجال يصنعون تاريخهم ، لكنهم لا يصنعونه كما يشتهون ، لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم ، بل في ظروف تنشأ مباشرة من الماضي وتنبثق عنه". وهذا صحيح تماما ، ومن نافلة القو إذا صح التعبير ، لكن ماركس لم يزر الولايات المتحدة قط. (ولذلك فإنه يم يزر مصنعا قط – وكل ما كان يعرفه ماركس عن البروليتاريا التي آمن بانتصارها كان من خلال مطالعته لكتب أقرانه من المفكرين). ولو قدر لماركس أن يسلك طريقه إلى العالم الجديد لرأى بلدا قد صنع تاريخه بفضل ظروفه الخاصة كما يشتهي ، أكثر من أي قوة من القوى العظمى.
وتأكيدا لذلك نقول إن الولايات المتحدة لم تأخذ ما جاء به آدم سميث بحذافيره لنباء اقتصادها ، فالمسؤولون الحكوميون سيمدون دائما يد العون لأصحاب النفوذ على حساب أولئك الذين قد يصبحون أصحاب نفوذ في المستقبل. إذا أن "ماهو واقع ، (الواقع الراهن) ، هو دائما مصدر للنفوذ وليس " ما قد يكون" (الإحتمال المستقبلي) ، بغض النظر عن قوانين تمويل الحملات السياسية المعمول بها. لقد جعلت قوة "الواقع الراهن" تحرير العبيد – الذي كان في مطلع العقد التاسع من القرن الثامن عشر يعد منافيا للأخلاق وبعيدا عن الكفاءة الاقتصادية – ممكنا من الناحية السياسية. وبالفعل ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ممثلين بثلاثة أخماس عددهم الفعلي عند توزيع مقاعد الكونجرس ، مما زاد كثيرا القوة السياسية للولايات المتحدة التي ارتفعت فيها أعداد العبيد.
لكن الولايات المتحدة كانت ، على الدوام ، الاقرب إلى أفكار سميث ، ولفترات زمنية أطول – من أي أمة أخرى. ويمكن تلمس النتائج كما نظرنا إلى حال الولايات المتحدة ، وبالطبع إلى أحوال الأمم الأخرى.
الفصل الرابع: صنيعة هاملتون
يمكن للأرقان أن تبين الأهخمية التي أولتها حكومة واشنطن – التي تسلمت السلطة في 30 ابريل 1789 – للتعامل مع الوضع المالي الذي واجهته الحكومة في ظل الدستور الجديد. فقد كان عدد موظفي وزارة الخارجية لا يتجاوزر الخمسة مقابل أربعين موظفا عملوا في وزارة الخزانة.
كانت المهمات الواقعة على عاتق الخزانة شاقة وعسيرة. إذا كانت ثمة حاجة إلى إيجاد نظام ضريبي موحد ووضعه حيز التطبيق. وكانت أيضا ثمة حاجة إلى ترشيد الديون المتبقية من عهد الثورة وتمويل سدادها. وكان يلزم أيضا تنظيم الجمارك لجباية الرسوم الجمركية ، التي ستستمد منها الحكومة مصدر دخلها الأساسي طوال مايزيد على قرن من الزمان. كان لابد من إيجاد مؤسسات الاتئمان العام التي ستتيح للحكومة الاقتراض عند اللزوم. وكان ينبغي أيضا تطبيق نظام نقدي جديد.
هذا المطلب الأخير كان متوافرا من الناحية النظرية على الأقل ، بعد أن وضع الكونجرس أسسه من خلال الأحكام الفدرالية. لقد جاء توماس جيفرسون بهذا النظام فكان اسهامه الفعلي الوحيد في بناء النظام المالي للولايات المتحدة.
وكما رأينا ، فإن الدفاتر المحاسبية لتجار المستعمرات قبل الثورة كانت تعتمد الجنيه والشلنج والبنس وحدة نقدية ، لكن الجنيه والشلنج والبنس لم تكن العملات المطروحة في التداول الفعلي على الاطلاق. وكان ايجاد وحدة حساب جديدة يمكن تبينها مسألة بالغة التعقيد لأن سكان المستعمرات كانوا يجرون مبادلاتهم بكثير من وحدات الحساب المختلفة من حيث القيمة.
وحاول مرويس روبرت موريس ، الذي بذل كثيرا لتمويل الثورة ، استئصال الخلاقات التي حالت دون الوصول إلى قاسم مشترك أصغر للوحدة النقدية الأكثر تداولا في كل ولاية. وقد توصل إلى تحديد قيمة وحدة الحساب عند 1.440 جزء من الدولار الاسباني. ورأى جيفرسون أن هذه القيمة الكسرية فائقة الصغر وتفتقر إلى العملية ، ووافقه موريس في ذلك. واقترح أن تضرب هذه الوحدة بالف وتحدد بقيمة 25.36 جزءا من الدولار. ودافع جيفرسون في المقابل ، عن استخدام الدولار وحسب الذي كان عملة معروفة في كل أنحاء الولايات المتحدة ليكون الوحدة النقدية الجديدة.
إن أصل كلمة "دولار" مشتق من الكلمة الألمانية "وادي" (تالي Thal). ففي القرن الخامس عشر اكتشفت طبقات كبيرة من الفضة في بوهيميا التي تعرف اليوم بجمهورية التشيك. وفي العام 1519 بدأ مالك تلك المناجم التي تقع قرب مدينة يواكيمستال ، واسمه جراف زو باساون أند فيسكيرشن ، بضرب قطع الفضة التي وزنت أونصة ساكسونية واحدة وأطلق عليها اسم "تالرز" Thalers. ومعناها الحرفي "من الوادي" (أو نتاج الوادي). هذه القطع النقدية الجديدة الصرفة في نقائها قوبلت بترحيب كبير من التجار وشرع حكام الامبراطورية الرومانية المقدسة بتقليدها في عملاتهم.
وتبنى هبسربج تشارلز الخامس ، الامبراطور الرماني المقدس ، التالر كموحدة نقدية أساسية لعملات الامبراطورية في أراضي النمسا واسبانيا وفي مستعمراته الجديدة في العالم الجديد. وأصبح التالر الوحدة النقدية الموحدة في التجارة الدولية على مدى قرون بفضل الكميات الهائلة من الذهب والفضة التي اكتشفت في مناجم أمريكا الاسبانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر (بين العامين 1580 – 1626) ، وتحولت لفظة تالر إلى "دولار" في اللغة الانجليزية تماما كما حرفت لفظة "تال" (وادي) قبل قرون إلى ديل ودل (وادي Dale وDell. كمان أصبح العملة الاسبانية الأكثر تداولا في مستعمرات بريطانيا في أمريكا الشمالية.
ولم يدافع جيفرسون عن استخدام الدولار في مذكراته عن اعتماد وحدة نقدية وعن عملة الولايات المتحدة فقط ، بل أيد وضع فئات أصغر ككسور عشرية من الدولار. ويبدو هذا في يومنا أمرا بديهيا. ففي عالم اليوم تعتمد كل الدول النظام النقدي العشري. لكن وعلى حد تبعير جيفرسون: "في كل الحالات التي يجب علينا فيها الاختيار بين الأعمال البسيطة والمعقدة ، فإن من البديهي جدا أن نختار تلك البسيطة". لكن توماس جيفرسون كان أول من دافع عن هذا النظام وكانت الولايات المتحدة في العام 1786 أول بلد يتبناه.
كان الدولار الاسباني مقسما إلى أنصاف وأرباع وأثمان أطلق عليها اسم "أجزاء" كنوع من التغيير (ومن هنا تأتي تسميتها قطع الثمانية Pieces of eight). لكن جيفرسون اقترح إصدار نصف الدولار وخمس دولار وعشر دولار (وأطلق عليها لفظة جديدة في العشر Dime) وجزء من عشرين دولار وجزء من مائة دولار (اقتبس لها اسم سنت الذي استخدمه روبرت موريس في خطته). وفي العام 1785 أعلن الكونجرس أن "الوحدة النقدية للولايات المتحدة الأمريكية هي دولار واحد" ، لكن الكونجرس في السنة التالية قرر – لدى تبنيه السنت وخمسة سنتات والعشرة سنتات والخمسون سنتا التي اقترحها جيفرسون – السماح بإصدار فئة قطعة ربع دولار معدني بدلا عن فئة العشرين سنتا.
ومازالت قطعة ربع الدولار تتداول إلى اليوم ، لكنها آخر بقايا النظام النقدي الثماني الذي ساد في عصر المستعمرات ، لكن ثمة أيضا بقايا أخرى ظلت مستخدمة طوال عقود. إذ ظلت بورصة نيويورك تقوم أسعارها بثمن الدولار حتى أواخر العام 1999. وبقيت عبارة شيلنج تحمل – في ذاكرة العامة – 12.5 سنتا أو ثمن دولار ، على الرغم من أن هذه الفئة النقدية المعدنية لم تستخدم في الولايات المتحدة في يوم من الأيام. وبقي الطرف الشرقي من برودواي في نيويورك – حيث كانت المتاجر الشعبية – يسمى "ركن الشيلنج" حتى أواخر عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر ، بينما كان الجانب الغربي من المدينة يسمي "ركن الدولار".
إن من أسباب بقاء كلمة: "شيلنج" في التداول طويلا حقيقة أن النقد المعدني الأمريكي لم يكن كافيا لتلبية الطلب المتصاعد باطراد عليه ، وبالمثل ظل في التداول خليط غريب من النقد المعدني الأجنبي. أما أول نقد معدني في الولايات المتحدة – السنت النحاسي الذي يحمل شعارا ينبض حيوية" "التفت إلى عملي Mind your business" فكان يضرب على نطاق ضيق. وقد تأسست دار سك العملات في فيلادلفيا في العام 1792 ولم يصدر عنها سوى قليل من النقد المعدني في السنوات الأولى وذلك لعدم توافر كميات المعدن اللازمة لذلك.
وانكب روبرت موريس على إصدار النقد ، ورفض عرض واشنطن تعيينه وزيرا للخزانة في الحكومة الجديدة (كان ذلك قرارا خاطئا – فقد انتهى أمره إلى سجون المدينين). وبذلك فقد تحول الرئيس بعرضه هذا إلى أحد مساعديه في أثناء الثورة ، وهو ألكساندر هاملتون الذي كان في مطلع الثلاثينات من العمر.
كان هاملتون الوحيد من بين الآباء المؤسسين الذي لم يولد في حدود ما بات يعرف بالولايات المتحدة. فقد ولد في نيفيس. وهي من الأملاك البريطانية في جزيرة ليوارد التي لم تكن ذات شأن بين الأراضي التابع لبريطانيا. كما كان الوحيد أيضا – إلى جانب بنجامين فرانكلين – الذي لم ينحدر من عائلة غنية. بل ترعرع فقيرا بعد أن تخلى والده – الذي لم يتزوج أمه – عن العائلة عندما كان هاملتون طفلا.
وعكف هاملتون – الذي عاش في سانت كروا ، وهي اليوم جزء من فيرجين آيلاند في الولايات المتحدة ، وكانت حينها من أعمال الدنمارك – على العمل لدى أحد البيوتات التجارية التي يملكها تجار من نيويورك ، نيوكولاس كروجر ودافيد بيكمان ، عندما كان له من العمر احدى عشرة سنة. وصار هاملتون بفضل كفائته الاستمثارية وطموحه الكبير ، مديرا لتلك المتاجر حينما كان في الخامسة عشرة ، وكان يترعرع في "مكتب محاسبة" بكل معنى الكلمة ، وبالتالي فإن فرانكلين من بين كل الآباء المؤسسين – كان الوحيد الذي نشأ في أسرة حضرية وبيئة تجارية. لا بل إن جون آدامز وهو محام بحكم مهنته اعتبر مزرعة عائلته في برينتري (كي كوينزي اليوم ) ، في ماستاتشوستس موطنه ، وليس بوسطن.
وقد ساعده كروجر – الذي أدرك مواهب هاملتون – على الذهاب إلى نيويورك في العام 1772 والإنتساب إلى كينج كوليج ، وهي الآن جامعة كولومبيا . وبعد الثورة درس القانون وبدأ مزاولة المحاماة في مدينة نيويورك ، حيث تزوج اليزابيث شويلر وهي سليلة إحدى أشهر عائلات نيويورك. وبعد الثورة كتب سلسلة من المقالات الصحافية والكتيبات ، التي عرض فيها آراءه عن مقومات تشكيل حكومة فدرالية "ناجعة". وأسس في العام 1784 مصرف نيويورك ، وهو أول مصرف في المدينة والثاني في الولايات المتحدة.
وحضر هاملتون المؤتمر الدستوري في فيلادلفيا ، وعمل بدأب على إقرار الوثيقة ، حيث صاغ بنفسه ثلثي أوراق الفدرالية. وعندما استبعد روبرت موريس نفسه ، كان هاملتون – الذي وصفه موريس بالمتقد الذكاء – سميدا جدا بقبوله منصب وزير الخزانة.
وكان من بين القلة المؤهلة لهذا المنصب. ومع أ، الأمريكيين تميزوا في عدد من حقول الاختصاص ، فإنهم لم يكونوا على دراية بأكثر علوم الأرض إبهاما وغموضا (المالية العامة) التي لم يجدوا في أنفسهم الدافع لدراستها. واستوعب هاملتون – وكان دارسا مجدا لعلوم الاقتصاد – علم المالية العامة على نحو كامل ، وهذا ما سوف يثبته بجدارة في السنوات القليلة اللاحقة. ولكنه ، وعلى غرار كثير من الآباء المؤسسين كان دارسا مثابرا للطبيعة البشرية وأدرك ألا دافع أقوى في العلاقات الانسانية من المصلحة الذاتية. وسعى إلى بناء نظام يوجه به سعي الفرد وراء مصلحته الشخصية نحو تطوير الاقتصاد الأمريكي وحماية الاقتصاد من الحماقات التي تنتهي إليها المصلحة الشخصية مطلقة العنان.
وحتى قبيل انشاء وزارة الخزانة في الثاني من سبتمبر 1789 وتأكيد تعيين مجلس الشيوخ هاملتون وزيرا في 11 سبتمبر ، وأقر الكونجرس تشريعا ضريبيا يوفر للحكومة الجديدة الأموال اللازمة للوفاء بنفقاتها. وكان مصدر الدخل الأساسي – بلا ريب - هو التعريفات الجمركية ، لكن جدالا طويلا ثار حول تحديد الواردات التي ستخضع للتعريفة الجمركية ومعدلها. وطبقت بنسلفانيا تعريف جمركية مرتفعة بموجب قوانينها القديمة لحمياة صناعة الحديد الناشئة ، مثل المسامير والمزالج ، فقد سعت إلى تخفيض التعريفة على منتجات الحديد أو رفعها كليا. كما سعى مقطرو الرم في نيوإنجلاند إلى خفض التعريفات على وارداتها من دبس السكر. أما مصنعوا الخمر في بنسلفاينا وماسواها فقد سعوا إلى رفع التعريفة على دبس السكر لكبح جماح الشركات الكبرى المنافسة لها.
وقد أصدر الكونجرس ، في آخر المطاف ، قوانين التعريفة والحمولة (حيث فرض قانون الحمولة رسما جمركيا قدره 6 سنتات على الطن الواحد في السفن الأمريكية الراسية في الموانئ الأمريكية ، و50 سنتا للطن على السفن الأجنبية) في صيف العام 1789. لكن موضوع الرقيق – في السنوات المائة المقبلة ، وأطلق بيرس بتلر من كارولينا الجنوبية أول تهديد بالإنسحاب من الاتحاد قبل أن يقر الكونجرس قانون التعريفة الجمركية في العام 1897.
ومع توافر التمويل اللازم ، صارت المشكلة الأكثر الحاحا والتي اعترضت طريق هاملتون – تتمثل في ايجاد حل لمسألة الديون الفدرالية. فلقد نص الدستور على أن تأخذ الحكومة الفدرالية على عاتقها ديون الحكومة السابقة اما آلية ذلك فظلت مسألة مثار اختلف. وانتقل قدر كبير من الديون إلى أيدي المضاربين الذين اشتروها لقاء 10% من قيمتها الإسمية.
وفي 14 يناير تقدم هاملتون إلى الكونجرس بأول تقرير له عن الائتمان العام الذي طالب فيه باسترداد الدين القديم بشروط أكثر تساهلا ، وإصدار سندات جديدة لسداده تدعم الايرادات المتحصلة من التعريفات الجمركية. وتنماي التقرير إلى علم الناس في مدينة نيويورك – العاصمة الانتقالية – على الفور ، لكن أخباره لم تبلغ سريعا أنحاء البلاد الأخرى واستطاع المضاربون في نيويورك اقناص جزء كبير من الدين القديم بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار التي اقترح هاملتون استرداده بها.
وثارت حفيظة البعض من أن أرباح المضاربين كانت مؤكدة بينما لم يكن أولئك الذين اشتروا الدين بأسعار مرتفعة في زمن الثورة ليستردوا المبالغ التي أنفقوها عليها. وأقر جيمس ماديسون أن من حق حملة الدين الأصلي فقط استرداد سنداتهم بيقيمتها الكاملة. ولا يحصل المضاربون إلا على القيمة التي أدوها فعلا. لكن ذلك لم يكن مجديا من الناحية العملية. إذا كانت من المستحيل – من جانب – تحديد حملة السندات الأصلية.
والأهم من هذا ان هذه الخطوة كانت تقوض قدرة الحكومة على الاقتراض في المستقبل. ولو كانت الحكومة تقرر دائنها الأصلي من بين حملة السندات المتعاقبين لكان الناس سيحجمون عن الاكتتاب على ديونها في المستقبل ، ولكن السعر بلغة معدل الفائدة المطلوب أكثر ارتفاعا. وكان اهتمام هاملتون منصبا على اقامة الدين القومي على أسس أكثر أمانا وقدرة على توفير التمويل اللازم سيرا على نموذج الدين القومي المعتمد في بريطانيا العظمة ، وللأغراض نفسها تقريبا التي وظفت فيها بريطانيا ديونها.
ولم يدرك ثير من أعضاء الحكومة الجديدة – غير العارفين بأصول المالية العامة – مدى نجاعة وسيلة الدين العام ، إن أحسن تمويله وسداده ، في المساهمة في ازدهار البلاد. لكن هاملتون كان يدرك ذلك تماما. وكان من المشكلات الكبرى التي اعترضت الاقتصاد الأمريكي في مطلع العقد الأخير من القرن السادس عشر نقص رؤوس الأموال السائلة الجاهزة لدخول مجال الاستثمار. وأراد هاملتون استخدام الدين القومي في زيادة عرض النقد وتعزيز مرونة هذا العرض. لقد أمكن للمصارف التي كان بحوزتها سندات حكومية إصدار أوراق مالية مدعومة بهذه السندات. وأدت لاسندات الحكومة دور الضمان للقروض المصرفية مما ضاعف من رؤوس الأموال المتاحة. كما أدرك هاملتون أن هذه السندات ستساعد على جذب مزيد من رؤوس الأموال من اوروبا.
وأخيرا ، أقر الكونجرس برنامج هاملتون بعد أخذ ورد. وكان حمو هامتلون ، وهو عضو في مجلس الشيوخ من نيويورك ، عضوا في الكونجرس الجديد ، وكان بحوزته أوراق مالية حكومة بقيمة 60 ألف دولار. وقد أمل أن يستردها من خلال برنامج هاملتون. وقد ذكر أن معارض البرنامج أوقفت شعر رأسه "كما لو أن الهنود أطلقوا عليه حرابهم".
كما أراد هاملتون أيضا ، أن تتحمل الحكومة الفدرالية الديون التي أثقلت كاهل عدد من الولايات في القتال الذي شب زمن الثورة. وكان السبب الأساسي الذي حمله على ذلك هو المساعدة في تقوية الاتحاد. وقد كانت معظم سندات ديون الولايات بحوزة مواطنين أثريا من هذه الولايات. ولو أن هؤلاء وظفوا كثيرا من ثرواتهم في السندات الفدرالية بدلا من السندات الصادرة عن الولاية. لكانوا أكثر حرصا على أن يروا الاتحاد – برمته – يصيب ازدهارا. وقد أيدت اقتراح هاملتون كل الولايات التي كانت لاتزال آنذاك ترزح تحت الدين ، وهي في الغالب ولايات شمالية. أما الولايات التي سددت ديونها فعارضت هذا الاقتراح بطبيعة الحال. وعارض جيفرسون وماديسون – وهما من فيرجينيا التي سددت ديونها – هذا الاقتراح بشدة وحشدا أصواتا كانت كفيلة بتعطيل المبادرة ، وهكذا تقدم هاملتون بعرض بديل.
ولو توافر عدد كاف من الأصوات لإقرار مشروعه لكان رأى العصامة الجديدة تقام في الجنوب. فلضمان تعاون بنسلفانيا يجب نقل العاصمة من نيويورك إلى فيلادلفيا مدة عشرة سنوات ريثما تبني العاصمة الجديدة. ووافق جيفرسون وماديسون على ذلك. وأجيز برنامج هاملتون وصدر على شكل قانون بتوقيع الرئيس واشنطن ، الذي كان متحمسا لفكرة بناء العاصمة الجديدة على ضفاف نهر بوتوماك الأثير إلى قلبه.
وأصاب البرنامج نجاحا سريعا ، وبيعت السندات الجديدة في بضعة أسابيع كما لاقت السندات إقبالا في اوروبا بعدما تبينت كفاية هوائد التعريفات الجمركية لخدمة الدين الجديد. وفي العام 1789 كانت الولايات المتحدة بلدات معسرا ماليا غير قادر على تسويق ديونها والتزاماته المالية ، فانعدمت قدرته على الاستدانة. أما في العام 1794 فكان تصنيفه الائتماني هو الأعلى في الوروبا ، فبيعت بعض السندات الأمريكية بعلاوة 10% من قيمتها الاسمية.
ويشرح ذلك تاليراند ، الذي هرب إلى الولايات المتحدة من الاضطهاد الديين ، والذي سيشغل فيما بعد منصب وزير الخارجية الفرنسية. إذ رأى أن السندات كانت "مضمونة ولا تعاني من مخاطر الإعسار. فقد جرى تمويلها على نحو سليم ، وكان البلد يحقق ازدهارات سريعا بدد الشكوك في ملاءته المالية".
كان يمكن لتاليران أن يشير أيضا إلى أن رغبة الحكومة الفدرالية الجديدة في تحمل الديون القديمة – بدلا من رفض الاعتراف بذلك لعوامل مالية أو لمكاسب سياسية قصيرة الأجل – قد ساعدت كثيرا على كسب ثقة المستثمرين. إن قدرة الحكومة الفدرالية على الحصول على قروض كبيرة عند معدلات فائدة ميسرة في أوقات الطوارئ – في حالات الحرب الأخلية والكساد الكبير – كانت من الأدوات الاقتصادية الناجعة على المستوى القومي. إننا ، إذا جاز القول ، مدينون بذلك لسياسات الكساندر هاملتون التي وضعت موضع التطبيق عند فجر الجمهورية ، إنه إرث كبير.
وبالتأكيد ، كان لهاملتون – ومعه الولايات المتحدة – حسن الطالع عندما اندلعت إحدى الحروب الاوروبية الكبرى في عام 193 بعد إعدام لويس السادس عشر على المقصلة ، إذ عاد ذلك برواج كبير على التجارة الخارجية الأمريكية وعلى صناعة الخشب في الولايات المتحدة – التي ساعد انتهاجها سياسة الدولة المحايدة على حمايتها من القراصنة. وتعاظم طلب اوروبا على الموارد الغذائية والمواد الخام من الولايات المتحدة فارتفعت عوائد التعريفات الجمرية للحكومة الفدرالية بمعدلات مماثلة. وفي العام 1790 صدرت الولايات المتحدة بضائع بقيمة 19.666.000 دولار ، بينما بلغا قيمة الوارادات غير المعدة لإعادة التصدير 22.461.000 دولار. كما تجاوزت قيمة الايرادات الحكومية خمسة أضعاف قيمتها قبل سبع عشرة سنة.
أما الركن الأساسي الآخر في سياسة هاملتون الضريبية فكان تأسيس مصرف مركزي يطلق عليه اسم مصرف الولايات المتحدة ، على غرار مصرف انجلترا. كان هاملتون ينتظر من المصرف المركزي الاضطلاع بثلاث وظائف. أولا ، أن يكون خازنا للأموال الحكومية ويعمل على تسهيل انتقالها بين أرجاء البلاد. وهذه الوظيفة كانت من الاعتبارات الأساسية في الشروط الأولية التي قامت عليها الولايات المتحدة عند نشوئها. ثانيا ، أن يكون مقرضا للحكومة الفدرالية والمصارف الأخرى. ثالثا ، أن يضطلع بتنظيم عرض النقد (الكتلة النقدية) من خلال الرقابة على المصارف المرخصة على متسوى البلاد.
كان التمويل مشكلة بالغة الحساسية في ذلك الحين ، إذ كانت كمية المصكوكات النقدية – العملات الذهبية والفضية – قاصرة كثيرا عن مستوى الطلب. وفي العام 190 لم يكن هناك سوى ثلاثة مصارف مرخصة حكوميا ومخولة بإصدار النقد الورقي بما فيها مصرف نيويورك الذي أسسه هاملتون. لكن هذه النقود الورقية اقتصرت على التداول المحلي بقيمتها الأساسية. يعني قبول مصرف الولايات المتحدة لهذه النقود الورقية سيوسع نطاق التداول. أما إذا رفض مصرف الولايات المتحدة النقد الصادر عن مصرف بعينه – بسبب حالات اختلال آلية خلق النقد أو وجود فائض في النقل المتداول – فسترفض المصارف الخاصة تلك النقوم الورقية أيضا ، مما يسحد من حركة المصارف المرخصة على مستوى الولايات.
لقد تعلم هاملتون ألا يركن إلى فكرة تولي الحكومة بنفسها إصدار النقد الورقي على إعتبار أن الحكومة ستعجز في أوقات الحاجة عن مقاومة إغراء حل مشكلاتها النقدية باللجوء إلى إصدار النقد وحسب. ولم يبد الكونجرس القاري أي قيود زمن الثورة ، لكنه على الأقل – تذرع بأنه لا خيار أمامه. وقد أثبت تاريخ النقد الورقي منذ أيام هاملتون أنه كان على صواب. إذا كان السياسيون – من دون استثناء – يسيئون استخدام سلطة إصدار النقل كلما اتيح لهم استخدامها. حيث انعكس ذلك بثمن باهظ على الحالة الاقتصادية للبلاد.
واقترح هاملتون تأسيس مصرف برأسمال 10 ملايين دولار. ولم يكن هذا بالمبلغ العادي ، خصوصا إذا أخدنا في عين الإعتبار أن مجمل رأسمال المصارف الثلاثة المرخصة على مستوى الولايات آنذا كان لا يتجاوز مليوني دولار. وستملك الحموكة 20 بالمائة من رأسمال المصرف و20 بالمائة من مقاعد مجلس إدارته. وسيكون لوزير الخزانة الحق في الاطلاع على دفاتر المصرف متى شاء. أما باقي رأسمال المصرف فسيذهب إلى ملكية خاص.
وكتب هاملتون في تقريره "حول مصرف وطني" الذي رفعه إلى الكونجرس في 14 ديسمبر 1790: " لإيلاء ثقة كاملة لمؤسسة من هذا النوع ، من الضروري جدا أن يخضع بهيكله التنظيمي لإدارة خاصة لا عامة – وسيرا على المصلحة الفردية لا السياسة العام ، التي يفترض أن تكون في حال الطوارئ – بيد إدارة متعسفة – عرضة للتأثر الشديد بالأوليات العامة".
وأقر الكونجرس مشروع القانون من دون معوقات تذكر ، حيث انقسم كلا مجلسيه تبعا للمصالح المحلية الضيقة, ولم يصوت ضد المشروع إلى أحد أعضاء الكونجرس عن الولايات التي تقع إلى شمال ماريلاند ، بينما صوت ثلاثة أعضاء عن الولايات التي تقع إلى جنوبها لمصلحة المشروع ، واعتقد هاملتون أن المشروع صار ناجزا.
لكنه لم يعول على توماس جيفرسون – وكان حينها وزيرا للخارجية ، وجيمس ماديسون الذي كان عضوا في مجلس النواب. ومع أن جيفرسون انغمس بما أوتي له في مباهج باريس التي لا تنتهي حينما كان سفيرا لدى الملك لويس السادس عشر بموجب الأحكام الاتحادية ، فقد اعتمل في داخله نفور سياسي عميق من المدن والتجارة التي كانت رائجة فيها.
كانت المصارف تجسد في نظره أبشع صور الاستغلال المالي التي كان يمقتها بشدة. وكتب إلى جون آدام في سابق عهده: "لطالما كنت عدوا للمصارف .. ومتحمسا جدا في محاربة هذه المؤسسات كما كنت صريحا جدا في معارضة تأسيس مصرف الولايات المتحدة ، مما جعلني عرضة للاتهام بالجنون من قبل عصبة من أرباب الصيرفة المتشدقين الذين كانوا يسعون لابتزاز الأرباح من العامة بطريق الخداع ومن دون وجه حق".
وقد ورث جيفرسون – وهو سليل أسرة بالغة الثراء في المستعمرات الأمريكية – عند وفاة والده أكثر من خمسة آلاف فدان من الأرض وثلاثمائة من العبيد ، وأنفق المال طيلة حياته بازدراء من لا يخشى الفقر. ولذلك توفي غارقا في الدين وقد أفلس من كل شيء إلا اسمه. وعلى النقيض من أسلوب حياته الأرستقراطي وعلى النقيض من أسلوب حياة الأرستقراطي فإنه كان يرى في أمريكا المستقبل أرضا يعمرها مزارعون مكتفون ذاتيا أو شكلا من الطوباوية "الريفية" التي لم يكن لها وجود على أرض الواقع. والتي ستنافي في حالة الاقتصاد الأمريكي الذي حقق نموه الحقيقي في عصر الصناعة وكانت هذه ولادته الحقيقية.
لقد عارض جيفرسون وحلفاؤه – ماديسون وادموند راندولف ، المدعي العام قيام المصرف الذي اقترحه هاملتون بكل ما أوتوا من قوة. وقدموا آراء للرئيس واشنطن تشكك في دستورية المصرف. ودارت حججهم حول ما سمي "بفقرة الدستور الضرورية واللازمة" التي تعطي للكونجرس صلاحية نم القوانين الضرورية واللازمة للعمل على تفعيه الصلاحية السابقة.
وقد قامت حجتهم على أن الدستور لا يمنح الكونجرس صلاحيات تأسيس المصرف إلى إذا دعت الضرورة. وقد صارت هذه القراءة المتشددة للدستور كانت جزءا من الأساس الذي قامت عليه شئون السياسة في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين ، مع أن جيفرسون نفسه اعترف بأنها راقت أساس لأولئك الذين كانوا خارج صفوف السلطة. لكن جيفرسون – بصفته رئيسا – لم يتمنعه حقيقة أن الدستور لا يسمح بحيازة أرض من دولة أجنبية من شراء لويزيانا عندما سنحت الفرصة.
ولوح هاملتون معترضا بمبدأ "الصلاحيات الضمنية" ، فرأى أن الحكومة الفدرالية لو أرادات إنجاز وظائفها الكثيرة بصورة ناجحعة ، فإن عليها أن تسموا بنفسها عند وضع آلية الإنجاز. وكتب إلى واشنطن قائلا: "إن عدم وجود فقرة تحريمية في نص الدستور يمكن أن يقوض المسلمات التي هي وليدة المفهوم العام للحكومة. ولا شيء يتجاهل فكرة وجود السلطة سوى التظاهرات". وأكد أيضا أن للكونجرس الحق في تقرير الوسائل اللازمة والضرورية. فكتب "إن الحكومة الوطنية ، مثلها مثل أي حكومة أخرى ، يجب أن تحدد في المقام الأولى الاستخدام الأنسب لصلاحيتها". وهكذا وقع واشنطن مشروع القانون بعد أن تبددت مخاوفه.
وأصابت مبيعات أسهم الصرف نجاحا مدويا ، حيث توقع المستثمرون أن يحقق المصرف أرباحا عالية ، وهذا ما كان. كما عمل المصرف بالآلية التي توقعها هاملتون. وارتفع عدد مصارف الولايات المتحدة من ثلاثة في العام 1790 إلى 29 مع مطلع القرن الجديد وأصبح عرض النقد في الولايات المتحدة أكثر استقرار وتكاملا مما كان عليه في أكثر الدول الاوروبية.
ومع النجاح الذي حققته مبيعات أسهم مصرف الولايات المتحدة شهدت أسواق الأوراق المالية الناشئة حديثا في نيويورك وفيلادلفيا أول مجاتها الصعودية في أسهم المصارف. وأسست فيلادلفيا – وهي السوق المالية الرائدة في البلاد آنذاك ، بفضل اتخاذ مصرف الولايات المتحدة مقره فيها – بورصة للأوراق المالية في العام 1792. وفي نيويورك وقعت مجموعة من واحد وعشرين سمسارا مستقلين وثلاث شركات اتفاقية سميث "اتفاقية باتون وودز – وذلك لأنها أبرمت – وفق العرف السائد على الأقل – تحت شجرة الدلب (اسمها الشائع اليوم شجرة الدلب الغربي (الجميز) بعضهم لبعض في وول ستريت. وتعهد أولئك المجتمعون بموجب هذه الاتفاقية بعضهم لبعض "بدءا من اليوم بعدم بيع أي شكل من الأسهم المطروحة للتداول العام أو شرائه من أي كان بسرع أقل من عمولة ربع سنت على قيمته الاسمية ، وبأن يعطي كل منا الآخر الأولوية في مفاوضتاتنا السعرية". لقد مثلت هذه المجموعة الجديدة التي شكلها السماسرة اتحادا العرض منه تقييد التداول ، ومخططا لتثبيت الأسعار أكثر منها تنظيما رسميا. لكنها كانت نواة لما يعرف اليوم ببورصة نيويورك.
وارتفعت فقاعة كبيرة من التساؤلات في نيويورك تركزت على أسهم مصرف نيويورك. وانتشرت شائعات بأن مصرف الولايات المتحدة الجديد سيشتري مصرف نيويورك ويحوله إلى فرع له في نيويورك. وأعلن تأسيس عدد ن المصارف الأخرى ، وتلقف الجمهوري أسهمها أو ماكان يعرف عموما بحقوق شراء أسهمها عند طرحها. وأعلن مصرف تاماني عرض 4 آلاف سهم للبيع ، وتلقى طلبات اكتتاب لشراب ما لا يقل عن 21.40 سهما.
هذا "السعار" في تداول أسهم المصارف إنما سببه أساسا مضارب افتقد النزاهة والشرف ، هو ويليام دوير. فقد عمل لمدة وجيزة لدى الخزانة ومن ثم استقال خروجا على الشرط الذي وضعه هاملتون الذي يمنح موظفي الخزانة من المضاربة في الأوراق المالية الصادرة عن الخزانة. وراع هاملتون ما كان يجري في وول ستريت. فكانت في مارس 1792 قائمة: "حان الوقت لتمييز الشريف عن المحتال ، وحملة الأسهم والمتعاملين النزيهين عن المقامرين الذين تعوزهم مبادئ الشرف".
ولم يمض وقت طويل قبل أن تنهار مخططات دوير "المحكمة" ، وأودع في سجن المدينين الذي لن يخرج مه قبل وفاته. ودب الرعب في وول ستريت أول الأمر ، وأعلن في اليوم التالي 25 انهيار في مؤسسات نيويورك التي كانت آنذاك لا تزال تجمعا ماليا بسيطا ، وأصاب أحد هذه الإنهيارات جماعة ليفنجستون المتنفذة.
كان جيفرسون سعيدا بتعاقب الأحداث على هذه الشاكلة. فكتب إلى صديق له: "أخيرا انفجرت فقاعتنا الورقية. لقد عصف إفلاس دوير في نيويورك سريعا بآخرين أمثاله ، كان ذلك شبيها بتساقط القناني الخشبية التي يرطم بعضها بعضا". وقدر جيفرسون – الذي كان ميالا إلى الاحصاء – أن الخسائر الكلية بلغت خمسة ملايين دولارر ،وهذا برأيه ما كان يعادل القيمة الكلية لعقارات نيويورك في ذلك الحين.وهكذا كتب جيفرسون – يغمره السرور – أن ارعب كان مثل كارثة طبيعية سحقت المدينة".
لكن الوضع لم يكن في الحقيقة على هذه الدرجة من السوء ، خصوصا مع تحرك هاملتون السريع لإعادة الاستقرار إلى السوق والحيلولة دون أن تقوض موجة الهلع مسؤسسات تمتلك أساسا موجبات الاستقرار والسلامة. وأصدر أوامره للخزانة بشراء أوراقها المالية (المطروح في التداول) لتعزيز استقرار السوق وأن تطرح في التداول مزيدا من السيولة – بعد أن أجاز تسديد التعريفات الجمركية التي كانت تدفع فقط بالعملة المعدنية أو بالأوراق النقدية المصرفية الصادرة من مصرف الولايات المتحدة – وذلك بكمبيالاات تستحق السداد بعد 45 يوما.
إن النظام الذي تصوره هاملتون ووضعه في التطبيق في ضوء المعارضة المتزايدة من توماس جيفرسون وحلفائه السياسين قد سار كما خطط له هاملتون ، فأفلس عدد من المضاربين على الرغم من إنخراطهم في اللعبة وهم واعون لمخاطرها. ولذلك ما كانوا ليلوموا إلا أنفسهم ، أما المؤسسات المالية حديثة النشأة فقد تجاوزت المحنة, وكتب هاملتون "لن تقع أي كارثة عامة مادامت هذه المؤسسات تحافظ على استقراراها وسلامتها". وانتهت موجة الهلع سريعا ، وتسنى لأكثر السماسرة الوقوف ثانية على أرجلهم بفضل الإجراءات السريعة التي اتخذها هاملتون.
لكن ، ولسوء الطالع ، كان توماس جيفرسون سياسيا محنكا أكثر من هاملتون وكان أيضا أكثر ميلا لحمل الضغائن والأحقاد. ولم يحمله نجاح مصرف الولايات المتحدة ودوره الدستوري الجلي لمصلحة الاقتصاد والادارة السلسة لدفة الحكومة على تغيير نظرته إلى المصارف ، فقد كرهها كلها. وسيتولى الحزب الذي تشكل حول توماس جيفرسون مقاليد السلطة في انتخابات العام 1800 ولن يخسرها لأكثر من جيل كامل. في ذلك الحين سيعمل هذا الحزب على تقويض نظام الرقابة المالية الذي وضعه هاملتون ولن يأتوا ببديل له.
وبالنتيجة ، سيكون الاقتصاد الأمريكي – على الرغم من نموه الهائل – أكثر الاقتصادات تقلبا في العالم الغربي وذلك بفعل دورة لا تنتهي من الازدهار والانحدار ، التي فاقت بحجمها كثيرا مراحل النمو والتراجع الطبيعية في الدورة التجارية. وفي السنوات المائة والخمس والتسعين التالية لن تتدخل السلطات النقدية الأمريكية – ولن تكون قادرة على التدخل – بصورة ناجعة لاستئصال حالة الهلع التي ضربت الأسواق قبل انفلاتها من السيطرة.
لقد كان توماس جيفرسون – وهو من أحذق الرجال – عاجزا نفسيا عن دمج الحاجة إلى آلية تنظم عمل النظام المصرفي الناشئ أو عمل المصارف مجتمعة في فلسفته السياسية. لقد سار معجبوه – وأكثرهم ممن يقلون عنه ذكا ء – على هدي سياسته طوال أجيال شهد فيها البلد والعالم تغيرات تجاوزت حدود الإدراك. وكنتيجة مباشرة ستحيث الكوارث الاقتصادية بالولايات المتحدة كل عشرين عاما تقريبا لأكثر من قرن من الزمان.
الفصل الخامس: تآزرات رهيبة
لا شئء يؤكد مقولة جون دون إننا كلنا جزء من القارة ، أكثر منا جزءا من عالم الاقتصاد. فهذا الاقتصاد يقوم – بالتعريف – على تبادل لا نهائي للسلع بين الأفراد والصناعات والأمم ، وهذا يمثل أكثر الشبكات تعقيدا في دنيا البشر. فعندما يطرأ تغيير ما على ركن ما من ذلك الاقتصاد فإنه يصيب كل أركانه الأخرى. وعندما يحدث أن يتفاعل تطوران منفصلان – بصورة جوهرية – فيمكن أن ينجم عنهما تآزر اقتصادي عظيم ورهيب.
وخير مثال على ذلك هو ما حدث عندما اعتملت فكرة بسيطة وعبقرية في ذهن شاب من نيوإنجلاند للنهوض بالزراعة الكاسدة في المناطق الجنوبية ، وتفاعلت (الفكرة) مع بوادر الثورة الصناعية في ميدلاندز بانجلترا. فإلى جانب الوصول إلى أكثر المحاصيل ربحية في التاريخ الأميركي فقد ساعدت الفكرة على إعادة إحياء المنظومة الأمريكية المتداعية لعمل الرقيق ، التي أوشكت على أن تقضي على الولايات المتحدة.
كانت تجارة صبغ النيلة في كارولينا الجنوبية وجورجيا من بين الكوارث الاقتصادية الكبرى التي جاءت بها الثورة الأمريكية. ذلك أن الإنديجوافيرا تينكتوريا وهو نبات أصله آسيا الوسطى وشمال إفريقيا. يعطي صبغا أزرق اللون كان عليه طلب كبير في صناعة الملابس في بريطانيا. أما أجود أصناف النيلة فكانت تأتي من اسبانيا وفرنسا. ولكن ، وبحكم العلاقات الإمبريالية ، فقد فتح السوق البريطاني – وكان أكبر أسواق العالم – أمام الواردات من جورجيا وكارولينا الجنوبية. وفي نهاية العصر الاستطياني كانت صناعة النيلة توظف 10 في المائة من الرقيق في المستعمرات الأمريكية.
وتحولت بريطانيا بعد استقلال أمريكا إلى الهند لتأمين وارداتها من النيلة. ومن دون السوق البريطانية انهارت صناعة النيلة في كارولينا الجنوبية وجورجيا سريعا. وظل الأرز ، وهو عماد مزارع كارولينا ، محصولا رابحا. لكن نموه بات يعتمد الآن على السوق الأمريكية صغيرة الحجم. وهكذا أصبح ازدهار أقاصي الجنوب في اقتصاد ما بعد الحقبة الاستعمارية يطلب محصولا رابحا جديدا.
القطن
كان القطن أحد الخيارات المتاحة ، إذ كان يزرع أساسا في سي ايلاندز التي تمتد على طول ذلك الجزء من الساحل المطل على المحيط الأطلسي ، لكن هذا القطن طويل التيلة – أو ما يسمى اليوم بالقطن المصري – لم تكن زراعته ممكنة في المناطق الداخلية – مهما كانت موغلة في العمق – لأنه يتطلب فصل إنبات طويل جدا وتربة رملية. وبالفعل فلم تزرع مساحات واسعة منه عندما صدرت أول إبالة (رزمة) منه إلى انجلترا في العام 1784 ، وهي أولى شحنات الصادرات الأمريكية ، ولم تكن تلبي قوانين الملاحة البريطانية. هذه القوانين كانت تشترط أن ترد المنتجات الخام إلى الموانئ البريطانية في سفن بريطانية أو في سفن بلد المنشأ. وقد رفض موظفو الجمارك الاقتناع بوجود ما يسمى القطن الأمريكي. وتركت شحنة القطن تتلف على أرصفة موانئ ليفربول.
أما القطن قصير التيلة أو ما يعرف بقطن النجود فلا يحتاج إلا إلى فصل إنبات من مائتي يوم ، كما أن أحوال التربة اللازمة لزراعته ليست عاملا مؤثرا ، مع أن أصلح أنواع التربة لزراعته هي التربة الطفالية . وكانت زراعته ميسرة في مرتفعات كارولينا الجنوبية وجورجيا. لكن مشكلة كبيرة كانت تعترض ذلك ، إذ على خلاف قطن سي لاند ، كانت بذور هذا القطن (قطن المرتفعات) دبقة وتعلق بشدة بالخيوط المحيطة بها. وكان فصل البذور عن النسيل – كما تسمى خيوط القطن – عملا يستنزف كثيرا من الوقت. إذ بينما كان يتطلب من العامل قطف نحو خمسين رطلا من أزهار القطن في اليوم الواحد ، فقد تطلب فصل البذور يديوا عن تلك القطنة خمسة وعشرين يوما من العامل الواحد بعملية عرفت منذ ذلك الحين بالحلج.
وكما كانت الحال في كثير من مفاصل تاريخ الاقتصاد الأمريكي ، سعادت قطنة اليانكي على حل المشكلة. لقد ولد إيلي ويتني في ويستبورو بماساتشوستس في العام 1765 ، لمزارع كان صاحب مشروع صناعي صغير ينتج سلعا لمصلحة المزارعين الآخرين الذين لم تتوافر لديهم الخبرة الكافية لإنتاجها بأنفسهم. وأثبن إيلي سريعا أنه صاحب مهارة مميزة في حقل الميكانيك وإدراك ثاقب لمتطللبات لاسوق. وبينما كان لايزال طفلا زمن الثورة ، عندما كان العرض المتاح من المسامير لايفي بالطب عليها ، اقترح على والده تأسيس ورشة حدادة لتصنيع المسامير ، وحقق المشروع نجاخا جعله يفكر في استئجار مساعد له.
بعد التخرج في جامعة يل في العام 1793 ، قبل ويتني وظيفة معلم في كارولينا الجنوبية. في طريقه إلى هناك عرج على صديق له اسمه فينياس ميلر، الذي كان يدير مزرعة في جورجيا تملكها أرملة الجنرال ناثانيل جرين. وهناك شاهد ويتني بأم عينيه زراعة القطن لأول مرة. وعلى الفور كتب إلى وادله قائلا: "لقد سمعت كثيرا مما يقال عن الصعوبات البالغة التي تكنف حلج الأقطان ، ثمة مجموعة من السادة الأفاضل في مزرعة السيدة جرين قبلوا كلهم فكرة تصنيع آلة لتنظيف القطن بسرعة سيكون شيئا عظيما لمصلحة البلد والمخترع. لقد حدثمن دون نية مسبقة مني أن فكرت في الموضوع ، وتصورت مخطط الآلة في خيالي".
لقد كانت الآلة غاية في البساطة . فقد ثبت ويتني مدحاة (أسطوانة) بالشفرات مباعدا بينهما بمقدار نصف بوصة. وعندما أديرت المدحاة كانت الشفرات تمر عبر شبكة معدنية فتنسحب نسيل القطن من الأسفل من خلال هذه الشبكة مخلفة وراءها البذور. وكانت ثمة فرشاة دوارة تزيل النسيل عن الشفرات إلى الحاوية. أما البذور فكانت تفرز إلى حاوية أخرى. بهذا لاحلج الذي ابتكره ويتني أمكن للعامل أني نجز في يوم واحد ما كان يتطلب جهد خمسة وعشرين عاملا في يوم واحد. وما كان هناك بالتلي أي لبس في المنفعة الاقتصادية لهذه الآلة. وقد سرق من ويتني أول نموذج وضعه. لكنه حصل على براءة إختراع على نموذج جديد مطور في العام التالي ، وبالمشاركة مع فينياس ميلر أقام مصنعا لإنتاج آلات حلج القطن قرب نيوهافن في كونيكتيكت.
ولسوء طالع ويتني ميلر ، كانت فكرة محلج القطن بسيطة جدا فلم يصعب على أي نجار متمرس صناعة محلج في شطر النهار ، وتبينت استحالة إنفذا براءة الاختراع مع انتشار زراعة القطن والارتفاع الكبير في الانتاج. وأنفق ويتتني سنوات في إقامة الدعاوى القضائية المكلفة على منتهكي حقوق براءة الاختراع ، ولم ينل حقوق حتى العام 1807 حين لم يتبق وقت طويل على نهاية براءة الاختراع.
ومع أن ويتني لن يحصل إلا على 100 ألف دولار فقط ، فإن هذا المبلغ كان يعد "ثروة لا باس بها" بمعايير مطلع القرن التاسع عشر من ابتكار غير وجه العالم بكل معنى الكلمة. وعلى الرغم من هذا ، فإن المبلغ لم يـأت من جعالات براءة الاختراع ، بل من حكومات الولايات التي شعرت بالإمتنان لقاء هذا الصنيع. وأثرت كارولينا الجنوبية لوتيني مبلغ 50 ألف دولار ، من خزينة الولاية للتعويض عن انتهاكات حقوق البراءة. وفرضت كارولينا الجنوبية ضريبة على القطن لمدة خمس سنوات تعويضا له وهذا ما عاد عليه بمبلغ 30 ألف دولار تقريبا. وقدمت تينيسي 10 آلاف دولار.
كان أثر محلج القطن في اقتصاد الجنوب وفي اقتصاد الولايات المتحدة اجمالا أثرا كبيرا. فقد أنتجت الولايات المتحدة في العام 1793 نحو خمسة ملايين رطل من القطن ، معظمها من انتاج سي آيلاندز. هذه الكمية كانت دون 1 في المائة من إجمالي محصول العالم من القطن ، الذي كان معظمه يزرع في الهند. ومع حلول العقد الأول من القرن التاسع عشر وبفضل محلج القطن ارتفع إنتاج الولايات المتحدة ثمانية أضعاف ليصل إلى أربعين ألف إبالة.
ومنذ ذلك الحين تضاعف إنتاج أمريكا من القطن كل عقد وسطيا ليصل إلى ملياري رطل في العام 1860 وكانت الولايات المتحدة تنتج في العام 1830 نصف انتاج العالم من القطن وبعد عقدين ارتفعت النسبة إلى 70 في المائة تقريبا ، ثلاثة أرباعها كانت تصدر إلى الخارج.
وتحولت أقاصي الجنوب إلى أفضل بقاع زراعة القطن في العالم . ولما صارت زراعة القطن ممكنة بشروط عالية الربحية في منطقة بيدمونت بكارولينا الجنوبية وجورجيا – وهي مسرح رواية ذهب مع الريح – فقد حققت زراعة القطن أقصى مردودها في التربة الخصبة للحزام الأسود في آلاباما والتربة الطموية العميقة في دلتا نهر المسيسبي ، حيث ازدهرت زراعة القطن أكثر من أي بقعة على وجه الأرض.
وشهدت كل هذه المناطق الجديدة انفتاحا ، وتحول مركز إنتاج القطن الأمريكي غربا. كانت كارولينا الجنوبية الولاية هي الرائدة في انتاج القطن حتى العقد الثالث من القرن التاسع عشر عندما احتلت جرجيا مركز الريادة لتحل محلها بعد عقد من الزمن ولايتا مسيسبني وآلاباما. وأصبحت لويزيانا مباشرة منتجا رئيسيا للقطن ، وكانت هذه الولايات الخمس تنتج ثلاثة أرباع القطن الأمريكي زمن الحرب الأهلية. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الولايات – إضافة إلى الولايات الأخرى المنتجة للقطن مثل فلوريدا وتكساس – كانت أولى الولايات التي انسحبت من الاتحاد بعد انتخابات العام 1860.
وعلى الرغم من أن سعر القطن انخفض إلى مستوى جعلته في متناول السوق الجماهيرية – بفضل محلج القطن – فإن القطن ظل محصولا يحتاج إلى كثافة في عنصر العمل. فقد كان الفدان الواحد من القطن يتطلب أيديا عاملة تزيد نسبة المعرض بنسبة 70 في المائة على الأيدي العاملة اللازمة لفدان الذرة. ومن أسباب ذلك أن القطن عرضة لهجمات الأعشاب الضارة ويتطلب تعشيبا منتظما. كمان أن قطاف القطن أيضا عمل مجهد في درجة الحرارة الشديدة التي اتسمت بها فصول الصيف في المناطق الجنوبية. ومع ذلك فقد كانت ثمة أعداد كبيرة من العاملين المستعدين للقيام بهذا العمل ، إنهم العبيد. وكمان رأينا كانت ظاهرة الرقيق قد بدأت في الإنحساء في أواخر القرن الثامن عشر ، مع تحول الرأي العالمي نحو ادانتها بشدة.
وبدأت حملة إلغاء الرق فورا بعد اندلاع القورة ، ولا عجب أن المناطق التي لم تعتمد اقتصاداتها كثيرا على عمل الرقيق كانت المبادرة في هذه اللحظة وألغت فيرمونت. مع إعلانها استقلالها عن بريطانيا في العام 1777 ، الرق أيضا. وكانت بذلك أول منطقة في نصف الكرة الغربي تعلن بطلان ممارسة الرق. وسارت على خطاها الولايات الشمالية الأخرى من دون تردد ، وحتى نيويورك ، التي كان يعمل بها نحو 19 ألفا من الرقيق في العام 1790 (أو ما يعادل 5.5 في المائة من السكان) ، بدأت تحرير العبيد تدريجيا منذ العام 1799 ، ولم يحل العام 1827 إلا وكانت قد حررت كل عبيدها. وقد حظر قانون الشمالي الشرقي في العام 178 الرقيق شمال نهر أوهايو.
وفي الجنوب صار تحرير العبيد أمرا دارجا ، وحرر الكثير من أصحاب المزارع – ومن بينهم جورج واشنطن – عبيدهم عند وفاتهم. وفي العام 1787 ، ارتأى المؤتمر الدستوري ليس فقط أن من اللازم بغية الوصول إلى اتفاق ، ألا تحظر تجارة الرقيق قبل العام 1808 ، إنما أيضا جعل تلك الفقرة غير قابلة للتعديل. لكن الرأي العام انقلب في العام 1808 – حتى في المناطق الجنوبية ضد تجارة الرقيق إلى حد دفع الكونجرس إلى ابطالها بحكم القانون فور أن تسنى له ذلك في الأول من يناير في ذلك العام. (كان إلغاء تجارة الرقيق محاربتها أيضا مسألتين مختلفتين في واقع الحال. وستشغل قوات البحرية في مكافحة هذه التجارة في معظم السنوات الخمسين اللاحقة). وبدأت أسعار العبيد بالتراجع في معظم فترة أواخر القرن الثامن عشر.
لكن القطن قلب كل الموازين ، فبعد العام 1793 ارتفعت أسعار العبيد ، إذ بيع العبد الذي كان ثمنه 300 دولار قبل ظهور محالج القطن بمبلغ 2000 دولار وأكثر مع حلول العام 1860 ، وتراجعت رغبة ملاك العبيد – الذي وجدوا في أيديهم سلغة تزداد قيمة – في أن يبيعوا ما أصبح في العقود الأولى من القرن التاسع عشر استثمارا رأسماليا ذا قيمة عالية. كمان أن أجزاء من الجنوب لم تعرف بزراعة القطن انخرطت في معاملاتها الاقتصادية في الدفاع عن مفهوم ما صار يعرف باسم "المنظومة المميزة للجنوب" . ومع تراجع مكانة التبغ في اقتصاد الولايات مثل فيرجينيا وماريلاند بدأت ببيع ما فاض على حاجتها من العبيد إلى الولايات التي بدأت لتوها في زراعة القطن. وبين العام 1790 -1860 بيع نحو 835 ألف عبد في ولايات الجنوب.
وفي وقت بدت فيه مظاهر الرق في كل أنحاء الجنوب ، فإنه لم ينتشر كثيرا بين السكان ، وفي العام 1860 - حين تجاوز عدد السكان البيض ثمانية ملايين نمسة ، كان بينهم 383.637 مالك عبيد ، ومن هؤلاء كان هناك 2.292 ممن كان لهم أكثر من مائة عبد. لكن العبودية التصقت بواقع الجنوب وأسلوب الحياة فيه. وظل الجنوب مصدرا أساسيا للمواد الخام بينما ارتفعت درجات التنوع في اقتصاد الشمال. حتى أن القطن المنتج في الجنوب كانت تجارته تجري في نيويورك. وبسبب الرق استقطب الشمال المهاجرين المهرة حيث توافرت كثير من الفرص، بينما اكتسب رأس المال البشري في الشمال – المنحدر من السكان الأصليين من غير العبيد – المهارات اللازمة في العالم الصناعي الجديد الذي كان يتخلق في البلدان المتطورة. وظل الجنوب اقتصادا يغلب عليه الطابع الزراعي ومصدرا للمواد الخام للاقتصادات الأكثر تقدما في المناطق الأخرى.
وسيرتفع انتاج القطن في أقاصي الجنوب بمعدلات كبير بفضل الارتفاع الكبير في الطلب على القطن على جانبي المحيط الأطلسي. وأصبحت حياكة الملابس ، وهي عمل منزلي منذ أقدم العصور ، في أواخر القرن الثامن عشر أول صناعة كبرى في زمن الثورة الصناعية. وفي مطلع القرن الثامن عشر كان القطن يعد من الأقمشة الترفية لأن انتاجه كان عملا يتطلب كثافة في الأيدي العاملة وذلك لأن نسيل القطن يميل بطبيعته إلى الالتفاف مما يجعل غزله يدويا أصعب كثيرا من غزل الصوف أو الكتان أو حتى الحرير. وقد تطلبت ما قدره عشرون يوما للعاملة الواحدة (ذلك أن العاملين في غزل الخيوط كانوا دائما نساء ، وهذا هو أصل كلمة الغزالة باللغة الانلجيزية Spinster) ، لغزل رطل من القطن في خيوط.
كانت أعمال الغزل تتم في المنازل وفق نظام المشاغل ، وكان رب العمل يوفر للعامل المواد اللازمة ، ومن ثم يدفع لهم بالقطعة عن العمل المنجز. وقد تطلب الأمر أربعة غزالين – بالمتوسط – لتوفير حاجة النول الواحد. لكن اختراع جون كي للمكوك الطائر في العام 1733 أحدث اختلالا في الوضع الراهن لأنه سهل أعمال الحياكة كثيرا. فقد كانت الحاجة تستدعي إما زيادة في عدد عمال الغزل وإما تطبيق طريقة أسرع في الغزل.
وفي العام 1764 ابتكر جيمس هارجريفز مكوك الغزل الذي أتاح إمكان غزل ثمانية خيوط في الوقت نفسه ، وبعد خمس سنوات أضاف إليها جيمس أركرايت تحسينا تجلى في الإطار المائي الذي اشتق اسمه من تشغيله بالدولاب آنذاك. وطور الميجل إدموند كاترايت النول الآلي في العام 1785 ، وتطلبت الآلة الجديدة التحول من الإنتاج المنزلي بطريقة المشاغل إلى الإنتاج المصنعي الذي يقوم على العمل المأجور بالساعة.
وارتفع إنتاج الملابس القطنية بطريقة درامية. وفي العام 1765 بلغ إنتاج غزول القطن في بريطانيا خمسة آلاف رطل كانت معظمها من إنتاج الورش المنزلية. وبعد عشرين عاما وصلت كمية الغزول إلى ستة عشر مليون رطل معظمها من إنتاج المصانع. وانخفص سعر الملابس القطنية كثيرا ما حقق طفرة في الطلب عليها. وهذا ما أدى إلى ارتفاع أسعار القطن الخام ، إلى أن ساعد اختراع ويتني على حل مشكلة حلج القطن وخفذ تكاليف انتاجه في مزارع المرتفعات. وهكذا ارتفع إنتاج القطن في أمريكا وبريطانيا معا في ذلك الحين.
ومع نهاية فترة الحرب هيمنت زراعة القطن على اقتصادات بريطانيا ومناطق الجنوب ، وبدأ أن اقتصادي بريطانيا والولايات الماتحدة أصبحا مرتطبتين بصورة وثيقة. وكتبت مجلة "الإكونومست" (الاقتصادي) البريطانية في العام 1855: "لو أصاب الولايات المتحدة أي اضطراب اجتماعي أو خلل مادي فإن أثر تلك الصدمة سيصل إلى انجلترا من لاندز اند إلى جون أوكروتز. إن حياة نحو مليونين من مواطنينا تعتمد على محاصيل القطن الأمريكي وربما توقفت أقدارهم – من دون مبالغة – على "خيط قطن". ولو حلت كارثة كبيرة في أراضي القطن لقبعت آلاف من سفن تجارنا عاطلة في مراسيها ، ولأوقفت عشرة آلاف مصنع أنوالها الدائرة ولانتهى ألفا فم إلى التضور جوعا ، بسبب نقص الغذاء اللازم لسد رمقهم".
فقد كان الجنوب آنذا يعتمد – بالقدر نفسه – على السوق البريطانية ، ولكنه بدأ يحقق لنفسه قوة متزايدة خصوصا في عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر عندما شرعت أسعار القطن في الارتفاع. وتسائل جيمس هنري هاموند عضو مجلس الشيوخ عن كارولينا الجنوبية : "ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يكن ثمة إنتاج من القطن لثلاث سنوات؟ لن أستنكف عن تصور ما قد يدور في أذهان الجميع ، لكنه لأمر مؤكد أن بريطانيا سترتد راسا على عقب وستجر العالم المتحضر معها ، باستثناء الجنوب. لا ، أنتم لن تجرؤوا علنا على إشعال الحرب لأجل القطن. ولا تجرؤ قوة فوق الأرض على أن تشن حربا لأجله ، فالطن ملك. وحتى وقت قريب كان مصرف انجلترا يحتل هذه المكانة الرفيعة لكن حاول أن يضع يده على محصول القطن – فوق الخريف ما قبل الماضي – لكن مصيره كان إلى خسارة مبينة. وهكذا انهارت آخر القوى . من يستطيع أن يشكك – في ضوء الأحداث الأخيرة – في مكانة القطن الرفيعة؟".
لقد أضحى الجنوب – بفضل أهمية صادرات القطن بالنسبة إلى الاقتصادات الجنوبية والحاجة إلى استيراد معظم السلع المصنعة – مناوئا بديهيا للتعريفات الجمركية المرتفعة. والمصدر الأساسي للإيرادات الفدرالية في القرن التاسع عشر. لكن ، وبفضل القطن وحده صار الشمال - خصوصا نيوإنجلاند – مدافعا عن التعريفات الجمركية المرتفعة. وسيثبت الزمن أن التعريفات الجمركية كانت الخيط الرفيع الذي بزواله انفصمت عرى الاتحاد.
وعندما نصب جورج واشنطن رئيسا في 30 ابريل 1789 ، ارتدى بذلة بنية متواضعة بأزرار فضية وجوارب بيضاء وحذاء بأربطة فذية. لكنه حرص على أن يكون لباسه أمريكي الصنع ، حيك في هارتفورد، كنتيكت. وأراد واشنطن الذي يدرك أهمية الرمز – وهذا هو دين السياسيين دائما – أن يشجع الصناعات الأمريكية كما كانت السلع الأمريكية تسمى آنذاك – حيث كانت كل الملابس عالية الجودة تستورد في ذلك الوقت من انجلترا ، لكن توظيف التقنيات الصناعية في حرفة الحياكة في بريطانيا في العقود القليلة السابقة منح بريطانيا ميزة تنافسية لا تضاهى ، وكانت بريطانيا مصممة على الحفاظ عليها. وقد كان تصدير آلات النسيج محظورا تماما ، وإذا كانت الولايات المتحدة تطور صناعة النسيج الخاصة بها ، لكان أمامها – والحال كذلك – خياران اثنان. إما أن تعيد بنفسها اختراع ما كان يعد في ذلك الوقت تقنية متطورة ، أو أن "تسرق" تلك التقنية. وكان الخيار الأول بعيدا عن الاحتمال ، حيث كانت الولايات المتحدة آنذاك تفتقر إلى العمالة الخبيرة بتعقيدات صناعة النسيج.
لذلك لم يبق أمام الولايات المتحدة سوى سرقة تلك التقنية. وعلى الرغم من أن الصحف البريطانية كان محظورا عليها الحديث عن هذه التقنيات على صفحاتها ، فإنه تم تداول إعلانات سرية – وهي نوع من النشر غير الرسمي – باليد في مناطق صناعة النسيج في ميدلاند (الأرض الوسطى) ، مما وفر عوائد كبيرة لكل من كان راغبا وقادرا على بناء آلات النسيج وتشغيلها في الولايات المتحدة. وكان هناك رجل على علم – ولا شك – بهذه المحفزات ، واسمه صموئيل سلاتر ولد في بلبير بديريشاير في العام 1768 في قلب منطقة صناعة النسيج المزدهرة. وتمرس سلاتر فيالعام 182 ، على يد جيديديا سترونز مشغل نسيج في بلبير وأحد أوائل الذي أصابوا ثروات من التقنية الجديدة.
كانت سلاتر منبهرا بالآلة ، وكان يقضي أيام الآحاد في المصنع منكبا على دراسة الآلات والتفكير في طريقة عملاه. وقد ابتكر – وهو لايزال في عمر المراهقة – طريقة لتدوير الغزول المنتجة حديثا بالتساوي على المغازل ، وكافأه ستروتز بجنيه واحد – أ ي ما يعادل أجور عام كامل لمتدرب مثله – كما أظهر سلاتر مهارة في الإدارة وأصبح بعد مدة وجيزة مشرفا على المصنع وإصلاح الآلات وبنائها.
وعندما انتهت فترة امتهانه في العام 1789 أراد سلاتر السير على خطى معلمه السابق في أن يكون له مصنعه الخاص. لكنه أدرج – بسبب افتقاره إلى رأس المال الكافي – أن أفضل فرصة لتحقيق غايته ستكون في الولايات المتحدة ، حيث سيكون الطلب على مهاراته أكبر كثيرا مما هو في بلده الأصلي. وأملت عليه مصالحه أن يسلك طيرقه عبر الأطلسي. كانت المشكلة تتمثل في كيف يصل إلى هناك. إذ لم تسمح بريطانيا – إلى جانب حظرها تصدير آلات النسيج أو رسوماتها ومخططاتها – أياض كل من لديه خبرة في صناعة النسيج بالهجرة خارج البلاد.
لكن سلاتر وضع خطة محكمة ، وقبل أن يترك العمل لدى ستروتز حفظ عن ظهر قلب كل تفاصيل الآلات التي كانت تحت اشرافه ، وبإدراكه يقظة الجمارك البريطانية فإنه لم يذع نواياه ولم يخبر والدته بما خطط له ، إلى أن أرسل لها خطابا من لندن قبل ساعات من إبحاره إلى نيويورك حيث أدرج إسمه في سجلات السفينة تحت فئة عمال المزارع.
وقد وطئت قدماه العالم الجديد في 11 نوفمبر 1789 ، وتناهى إلى علمه سريعا أن موسى براون أحد الأصحاب (الكويكرز) في بروفيدنس، رود آيلاند (وقد سميت جامعة براون على اسم عائلته في العام 1804) لديه عدد من آلات الغزل التي كان عاجزا عن تشغيلها. وكتب إلى براون عارضا عليه خدماته. كان براون في غاية السرور عندما أبدى قبوله ، إذ رد قائلا: "إننا نفتقر إلى شخص عارف بأعمال الغزل باستخدام الدولاب المائي .. فإذا لم تجر الرياح بما تشتهيه سفنك فتعال واشتغل بآلاتنا وليكن لك الفضل والإمتياز في إكمال أول ورشة تعمل بقوة الماء في أمريكا". وقد عرض سلاتر على كل ما يزاد من الأرباح عن مبالغ الفائدة على رأس المال ، وهي صفقة ما كان سلاتر ليحصل على نظير لها في ديربيشاير.
وعندما وصل سلاتر إلى بروفيدنس أصب بالاحباط لأن آلات الغزل لدى براون لم يكن ممكن إصلاحها. وعرض بالمقابل بناء آلات جديدة . وفي الأشهر الإثنى عشر التالية عمل سلاتر بتؤدة على بناء الآلة اللازمة لمصنع الغزل. ولأن النجارين والميكانيكيين في الولايات المتحدة لم يكونوا على دراية كاملة بمعدات النسيج ، فقد كان الأمر شبيها بصراع ، وأوشك سلاتر في لحظة ما على الإستسلام عندما تعطلت إحدى آلات التسريح. وعلى الرغم من ذلك فقد افتتح في 20 ديسمبر 1790 أول مصنع لغزل القطن في الولايات المتحدة أبوابه ، وبدأت الثورة الصناعية الأمريكية.
وكتب براون إلى وزير الخزانة ألكسندر هاملتون، الذي سيرفع "تقرير الصناعات" إلى الكونجرس بعد عام – مشيرا إلى أن "إمكان إنشاء المصانع وإقامة الآلات في عدة مناطق في سنة واحدة لإنتاج كل الغزول التي قد تحتاج إليها الولايات المتحدة". كان في ذلك بالطبع مبالغة كبيرة ، لكن مصانع النسيج بدأت بالإنتشار في نيو إنجلاند التي وفرت أنهارها الرائقة والجارية الطاقة اللازمة. وأصبح براون سلاتر (وابن عم براون وليام آلمي) شركاء عندما أقيم أول بناء لمصنع الغزل في العام 1793 وحقق سلاتر ثروة كبيرة ، وتزوج إبنة وليام آلمي – واسمها حنا – التي أصبحت أول سيدة تحصل على براءة إختراع أمريكية لتطويرها آلة لغزل الخيوط ، وعندما توفي سلاتر في العام 1825 أضحت نيو إنجلاند مركزا لثانية كبرة صناعات الملابس في العالم. وقبل سنتين من وفاة سلانتر استقبله الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون في جولة له في نيو إنجلاند ومنحه جاكسون لقب "أبو الصناعات الأمريكية".
كانت نيو إنجلاند – التي يخترقها عدد كبير من الأنهار الدافقة التي ساعدت على تشغيل دواليب الماء لتوفير الطاقة اللازمة للمصانع الجديدة – تتمتع بميزة تنافسية أخرى مع مطلع القرن التاسع عشر ، وهي مصادر اليد العاملة الرخيصة المستعدة للعمل والراغبة فيه. ولم تكن نيوإنجلاند دائما بلدا ذا زراعة يعول عليها بسبب تربتها السطحية والرمية في معظمها ومناخها القاسي لكنه بسبب الحاجة إلى إنتاج الغذاء محليا – بسبب ارتفاع تكاليف النقل – فقد ظهرت الحاجة إلى الزراعة المحلية.
وعلى الرغم من ذلك ، فقد تزايدت هجرة أبناء مزارعي نيو إنجلاند غربا إلى نيويورك ومن ثم إلى الولايات الغربية. ومع بناء قنال إري، سيبدأ هؤلاء المهاجرين بالتدفق إلى الأراضي الخصبة في الشمال الغربي القديم الذي يعرف باسم شتات نيوإنجلاند. لكن شقيقات أولئك المزارعين غير المتزوجات بقين حبيسات البيت وتضاءلت فرصهم في الزواج مع تقدمهم في السن. وهكذا كانت المصانع التي بدأت بالإنتشار حول ضفاف أنهار نيوإنجلاند آنذاك ملاذا لهن من وحشة حياة المزرعة وعزلتها في نيوإنجلاند ، التي سترسمها إيديث وارتون ببراعة في روايتها إيثان فروم.
وشغلت المصانع أولئك الشابات العازبات بأعداد متزايدة ، فوفرت لهن المأوى في مهاجع أشرفت عليها رئيسات حازمات. وكانت ريادة الكنيسة لزاما عليهن ، وخضعن لدورات تدريبية مختلفة أيضا. ولقد بدأت كثير من النسوة اللواتي صرن معلمات وأمينات مكتبة ومرشدات اجتماعيات في نيوإنجلاند ، تحصيلهن الدراسي الرسمي كعاملات في هذه المصانع. وبالطبع ، فقد وجدت كثير منهن أزواجا – على الرغم من الرقابة الصارمة من المشرفات – والتفتن إلى تأسيس عائلاتهن.
كان مصنع صموئيل سلاتر ، الذي يقع على ضفة نهر بوتكت في رودأيلاند ، يحول نسائل القطن إلى خيوط ، وكانت الخيوط ترسل إلى الحائكين في منازلهم ليحيكوها ملابس. وفي انجلترا أيضا كانت أعمال الغزل والحياكة تتم في ورش منفصلة في والثام بماستاتشوستس لمعالجة القطن الخام وتحويله ملابس جاهزة. وكانت أعمال الصباغة تجري أيضا في المصنع نفسه ، لقد كان هذا اول مشروع متكامل لصناعة الملابس في العالم.
لكن هذا المصنع لم يكن في حقيقة الأمر الأول من نوعه ، فقد طور أليفر ايفانز – وهو من أوائل المخترعين العظام في هذه البلاد – طاحونة دقيق متكاملة أساسها فكرة عبقرية. فقد عملت طواجين الدقيق على قوة الماء منذ العصور الوسطى. لكن أعمال الطحن وحدها كانت تنجز بدولاب الماءز أما العمليات الأخرى كالنشر والنخل والحزم فكانت تودى بجهد الإنسان ، وضع إيفانزر سلسلة من الناقلات اللولبية وكلها تعمل بطاقة الدولاب المائي لنقل الحبوب والدقيق والطحين من مرحلة إلى أخرى. لقد جعل إيفانز من طاحنة الدقيق آلة حقيقية ، إذ كانت الحبوب تضاف في إحدىة نهاياتها وتخرج براميل الدقيق من النهاية الأخرى. ولم تكن العملية برمتها تتطلب سوى قليل من الجهد البشري بإستثناء ما اتصل منها بأعمال المعايرة والصيانة والإشراف.
وعلى الغرم من أنه استدعى قدرا أكبر من الجهد البشري ، فإن مصنع القطن الذي بناه فرانسيس كابوت لويل أخذ التصميم نفسه. لقد انتسب لويل – الذي ولد في نيوبيبربورت بماسا تشوستس إلى عائلة مرموقة في الولاية – إلى جامعة هارفارد عندما كان في الرابعة عشرة من العمر ، وبعد التخرج اتجه – كغيره من كثير من أبناء نيوإنجلاند في تلك الأيام – إلى العمل التجاري.
كانت التجارة مصدرا لمعظم ثروات الأمريكيين منذ تأسيس المستعمرات ، واستمرت كذلك حتى تسعينات القرن الثامن عشر. وأصبح إلياس ديربي من سالم بماساتشوستس – أحد كبار ملاك السفن – أول مليونير في ذلك لاعقد ، حيث وصلت تجارته إلى مناطق قصية في الصين. وانخرط جون جاكوب استور أيضا في التجارة مع الصين – وهي سوق رائجة لتجارة الفرو – فكان يكسب 50 ألف دولار في الرحلة الواحدة.
وكما ذكرنا ، فإن إندلاع حروب الثورة الفرنسية في اوروبا في عام 1793 جعل كل طرف يسعى إلى تقويض تجارة الطرف الآخر بفرض قيود تصاعدية على حركة الشحن نحو الأطراف المحايدة ومصادرة كثير من لاسفن التي عدت خارجة عن تلك القيود ، وقد استولى البريطانيون ، بين العامين 1803 و1807 ، على 528 سفينة أمريكية أيضا ، وعملت البحرية الملكية – التي كان يعوزها البحارة المهرة – على اعتراض السفن الأمريكية ومصادرة البحارة الذين يجاهرون بأنهم من رعايا بريطانيا.
وأملا في إجبار فرنسا وبريطانيا على احترام حقوق الأطراف المحايدة ، فرض الرئيس جيفرسون على الكونجرس قانون الحظر الذي وقعه في 23 ديسمبر 1807 ، وكان هذا القانون واحدا من أبرز قوانين إدارة الدولة في التاريخ الأمريكي. وبالفعل كان هذا القنون لا سابق له في تاريخ الدول. لقد حظر هذا القانون على السفن الأمريكية مزاولة التجارة الخارجية ، وسهرت البحرية الأمريكية على تطبيقه. ولفرض ضغوط على بريطانيا وفرنسا طبقت الولايات المتحدة القانون على نفسها وحظرت الشحن الداخلي.
لقد جلب قانون الحظر الدمار إلى نيوإنجلاند التي كانت لاتزال آنذاك تعتمد أساسا على التجارة البحرية. وهبط حجم الصادرات القانونية من 45 مليون دولار في العام 1807 إلى 9 ملايين في العام 1808. واستشرت في المقابل أعمال التهريب على امتداد الحدود مع كندا ، وأصبحت بحيرة شامبلين مسرحا لهذه الأعمال ، التي كانت تجري عبر الحدود ، ما حدا الرئيس جيفرسون على إعلان أن المنطقة في حالة عصيان.
كانت ردة الفعل على قانون الحظر في كل المدن الساحلية شديدة بحيث لم يدم تطبيق القانون إلا أربعة عشر شهرا ، لكن قانون حظر التعامل ، الذي استبدل به ، حرم التجارة مع بريطانيا وفرنسا – وهما أكبر شركائنا التجاريين – وهكذا انتهت التجارة الأمريكية إلى مهاوي الكساد.
وقصد فرانسيس كابوت لويل – بعد أن انحدرت أعماله التجارية – إلى انجلترا في العام 1810 وازار مصانع النسيج في لانكشاير – وتأثر كثيرا بها – واستحضر في ذاكرته كثيرا من تفاصيل مخططات وتصاميم هذه المصانع التي أمكن له استذكارها عاقدا العزم على بناء مصنع فور عودته إلى الولايات المتحدة. ومثله مثل صموئيل سلاتر من قبله ، انخرط لويل فيما يعرف اليوم بالتجسس الصناعي ، وهرب لويل – كما فعل سلاتر أيضا – ثمار تلك الأفاكر إلى خارج إنجلترا ، لكنه عمل أيضا على تطوير الآلات بمساعدة احد خبراء الميكانيك واسمه باول مودي. وعندما قفل عائدا إلى الولايات المتحدة في العام 1813 كانت حرب العام 1812 قد نشبت وانتهت بالقضاء على ما تبقى من التجارة الأمريكية. وكانت نيوإنجلاند تعاني ظروفا اقتصادية صعبة. وأسصس لويل شركة بوسطن الصناعية برأسمال يعتبر كبيرا بمقاييس تلك الأيام (300 ألف دولار) ، ولم يمض وقت طويل حتى تضاعف هذا المبلغ.
لقد نتج عن انقطاع التجارة – وفي وقت انحدرت فيه نيوإنجلاند إلى درك الكساد – تقلص في عرض الملابس على مستوى الاقتصاد الوطني في الولايات المتحدة . وفي الحال بدأت شركة لويل تحقق أرباحا مرتفعة ، لكن عودة السلام في العام 1815 جلبت معها السلع البريطانية خصوصا الملابس القطنية الرخيصة من مصانع لانكشاير كثيرة العدد. لقد توسعت صناعة النسيج في نيوإنجلاند بسرعة قبل وبعد حرب 1812 ، عندما أدى قانون الحظر والحظر التجاري البريطاني دور التعريفات الجمركية الحمائية نفسها. وحينذاك ، ومع انبعاث المنافسة البريطانية (وفي الحقيقة الإغراق الذي مارسته بريطانيا بالملابس القطنية الرخيصة في الأسواق الأمريكية) ، لجأ مصنعوا النسيج – وعلى رأسهم كابوت لويل – إلى واشنطن طلبا للعون.
كان طلبهم يتمثل في تفعيل تطبيق التعرفة الجمركية الحمائية. وكان ذلك الحلقة الأولى ما سيتحول إلى سلسلة لاتنتهي حتى يومنا الحلاي ، حيث سعى المصنعون الأمريكيون إلى تأمين الحماية من المنافسة الخارجية التي استطاع فيها المتنافسون – بفضل ميزتهم التنافسية النسبية - البيع في السوق الأمريكية بأسعار تقل عن أسعار المصنعين المحليين وتحقيق أرباحا على الرغم من الأسعار المتدنية.
إن للتعرفة الحمائية قبولا ظاهريا يجعلها تروق في أعين السياسيين ، فالتعريفة الحمائية توفر العمل وتحفظ الربح في الأجل القصير ، وهذا ما علم به معظم السياسيين الذين يسعون إلى إعادة انتخابهم في المستقبل القريب. وقد أوصى ألكساندر هاملتون نفسه بتطبيق إحدى التعريفات الجمركية في تقريره عن الصناعة ، لكن الحجج المقدمة في دحضها التي فصلها كتاب ثروة الأمم كانت مقنعة بلغة الاقتصاد.
والأهم من ذلك هو أن التعريفة الجمركية لا تقع على عاتق المصنعين الأجانب ، إذا تنتقل إلى المستهلك المحلي الذي يتحمل تكلفة الإنتاج. ولا يتكبد المستهلك أسعارا أعالى على السلع الأ<نبية. بل إنه يتكبدون أسعارا أعلى على السلع المحلية ، لأن المنتجين المحليين ينتهزون كل فرصة تلوح أمامهم لزيادة أسعارهم ، وتعمل التعرفة الحمائية – وإن بصورة جزئية – على حماية المنتجين المحليين من المنافسين ، ومعلوم أن المنافسة هي محرك الابتكار ومصدر للحد من التكلفة في أي اقتصاد رأسمالي.
لقد لقيت فكرة التعرفة الجمركية الحمائية معارضة في الجنوب واصطدمن بمصالح صناعة الشحن في نيوإنجلاند. لكن لويل – وغيره من مصنعي النسيج – نجحوا في حمل الكونجرس على فرض رسوم جمركية بمعدل 25 سنتا للياردة على الملابس القطنية ، كانت تلك أول تعريفة جمركية حمائية في التاريخ الأمريكي (وقد فرضت في العام 1816).
وبدأت مصالح صناعة الشحن آنذاك تفقد زخمها في الكونجرس ، حينما بدأت الصناعة في نيوإنجلاند تتفوق عليها في قوة النفوذ هند المشرع المحلي ، وكان الجنوب ، على الرغم من ذلك ، موحدا خلف فكرة تخفيض التعريفة الجمركية. لقد خشي الجنوب – الذي كان يعتمد كثيرا على صادرات القطن إلى بريطانيا ، ومن ثم إلى فرنسا بمعدلات متزايدة – أن يفقد ازدهاره الاقتصادي بفعل التعريفات الجمركية الانقامية ، ولأنه كان مستوردا أساسيا للسلع الصناعية ، فقد اعتبر التعريفة الجمركية المرتفعة مجرد وسيلة بأيدي صناعي الشمال لابتزاز المستهلك في الجنوب.
لكن الضغوط التي مارستها مناطق الشمال أبقت على المستويات المرتفعة للتعريفة الجمركية حتى العام 1828 عندما أقر الكونجرس ما أطلق عليه الجنوب – وهو مصدر للعبارات السياسية الرنانة – تعريفة الكراهية . وأدى ذلك فورا إلى ما عرف بأزمة الإبطال في العام 1832 عندما أعلنت كارولينا الجنوبية أن للولايات القدرة على إبطال دستورية القوانين الفدرالية. ولمح الرئيس أندرو جاكسون إلى أنه سيستخدم القوة لضمان دعم تلك القوانين. وانتهت أزمة الانفصال عندما أقر قانون جديد للتعريفة الجمركية دعا إلى تخفيض تدريجي لمعدل الرسوم.
توفي فرانسيس كابوت لويل في العام 1817 ، بعد صراع طويل مع المرض ، لكن مشروعه أصاب ازدهارا وتحول العام 1823 إلى موقع على نهر ميرماك شمال بوسطن ، حيث توافرت قوة الماء. وعندما أدمجت المنطقة في مدينة واحدة في العام 1826 أطلق عليها اسم "لويل" ، لكن شركة لويل لم تكن الشركة الصناعية الوحيدة في أمريكا التي حققت ازدهارا في ذلك الحين. فمع حلول العام 1824 وصل حجم الأيدي العاملة في هذه الصناعة إلى مليوني شخص ، وكان هذا العدد عشرة أضعاف ما بلغه قبل خمس سنوات فقط (وكان هذا يعادل ثلثي سكان الولايات المتحدة زمن الثورة الأمريكية قبل خمسين عاما). لقد كانت الولايات المتحدة في طول التحول إلى أول قوة صناعية بعد بريطانيا.
الفصل السادس: بالكد تتحقق المعجزات
في العام 1791 فرضت الحكومة الفدرالية ضريبة انتاج على المشروبات الكحولية المقطرة. ولم تكن هذه الضريبة ، بالطبع ، في محلها في ظل وجود كثير من مصعني الرم والوسكي ، على الرغم من أن هؤلاء كانوا قادرين على نقل الضريبة – وقد فعلوا – إلى زبائنهم. لكن المسألة كانت في غابة الحرج بالنسبة إلى المزارعين في بنسلفانيا الغربية ، في الأراضي الواقعة فيما وراء قمم جبال أبالاشيان. ذلك أن قلة الطرقات الملائمة لم تترك للمزارعين وسيلة ناجعة لشحن محاصيلهم من الحبوب إلى أسواق المناطق الشرقية سوى تقطيرها إلى وسكي ، مما قلل من نسبة وزنها إلى قيمتها كثيرا.
وفي يوليو 1794 تطورت معارضة الضرائب إلى عصيان ، وأحرق خمسمائة رجل مسلج منزل الجنرال جون نيفيل ، مفتش الضرائب في المنطقة . وفي أغسطس أصدر الرئيس واشنطن بيانا يدعو فيه المتمردين إلى التفرق وإلى تجنيد المليشيات. وبعد فشل المفاوضات طلب الرئيس واشنطن إلى ثلاثة عشرة ألفا من الجنود التوجه إلى بنسلفانيا الغربية ، بقيادة الجنرال هنري لي ، ورافق الجند بنفسه إلى أقاصي بيدفورد في بنسلفانيا قبل أن يقفل عائدا إلى فلادلفيا . وأمام هذا الحشد الكبير من الجند تفرق المتمردون شعثا . وقبض على اثنين من قادة التمرد ووجهت لهم تهمة الخيانة ، لكن واشنطن أصدر عفوا عنهما.
واليوم تذكر ثورة الوسكي على أنها الحدث الوحيد في التاريخ الأمريكي الذي نزل فيه قائد الجيش إلى أرض المعركة جنبا إلى جنب مع جنوده. لكن ذلك العصيان – بالنسبة إلى معاصريه – كان إشارة واضحة إلى أنه ليس أمام البلد من مشكلة اقتصادية – إذ كان برنامج هاملتون حينذاك موضع التطبيق – أكبر من مشكلة النقل.
فلم يكن في الولايات المتحدة- وهي بلد تعادل مساحته أربعة أضعاف مساحة فرنسا وعشرة أضعاف مساحة انجلترا – إلا القليل من الطرقات التي تستحق الذكر. وكانت بلدا لا يعرف الاستقرار – لا بل أبعد أمم الأرض عن الاستقرار – إذ كان سكانها يزحفون غربا منذ بادية عهد الاستيطان . وكان قانون كيبك للعام 1764 من الأسباب التي أدت إلى إندلاع الثورة. ذلك أنه دفع حدود كندا إلى ضفاف نهر اوهايو وحظر استيطان السكان البيض غربي جبال أبالاشيان.
وكان الوصول إلى المنطقة التي تقع غربي الجبال قبل الثورة غير ممكن إلا عبر ممرات الهنود ، التي كانت قائمة طوال قرون خلت ، مثل طريق الفلاة التي سلكها دانييل بوني إلى اقليم كنتكي والطريق التي تمر بكمبرلاند جاب والتي تنتهي إلى تينيسي. ومع استخدام هذه المعابر توسعت بالتدريج إلى طقرات واسعة ، حيث كان المسافرون يقطعون الأشجار ويمهدون الطريق لمرور العربات. وفي مناطق المستقنعات عمد المسافرون إلى قطع الأشجار ومدها عبر الطريق لرصف ما كان يعرف بطريق كوردوروي.
لكن الطرقات الأولى – وخصوصا في مناطق المستعمرات – كانت ملأى بالحفر والأتربة في الصيف ، وكانت تتحول إلى سبخات طينية في الربيع والخريف . وكانت العربات ومركبات الجياد - إن تسنى لها عبور الطرقات – تستغرق ساعات في قطع بضعة أميال فقط ، وكان السفر أسهل في فصل الشتاء عندما تكون الأرض صلبة متجمدة . وقد تحدث الانجليزي هنري ادينجتون – في أثناء سفره غرب ولاية نيويورك في العام 1822 – عن أنه رأى: "حطام مركبة أو عربة عالقة في وضعية غريبة في حفرة ما على الطريق. كيف لعربة أن تسلك هذه المطبات المريعة التي تملأ هذه الطرقات أحيانا على مسير أربعة أو خمسة أميال متواصلة".. يصعب على أولئك الذي خبروا ضراوتها أن يدركوا ذلك". لكن لافضل في تحفيز عملية مد الطرقات في السنوات التي أعقبت الثورة يعود إلى حركة التجارة – وليس الهجرة – أو ما توخاه السواح المغامرون من مثل هنري أدينجتون من أسباب الراحة في السفر. وقد سعت فيلادلفيا إلى نقل نتاج الأراضي الزراعية الخصبة في اقليم لانكاستر إلى أسواقها موانئها بدلا من أن تتركها تمر عبر نهر ساكسيهانا وخليج تشيزبيك ، وهو الأمر الذي كان يصب في مصلحة بالتيمور. لذلك فقد أجازت في العام 1790 إنشاء شركة خاصة لمد طريق تجبي منه رسوم العبور.
وفي طور مهندس اسكتلندي يدعى جون ماك آدام تقنية رصف الطرقات في مطلع القرن التاسع عشر باستخدام طبقات الحجارة والحصى. وقد أطلق اسمه على هذه العملية (حرف الاسم قليلا ليصبح ماكادام) ، التي انتشر استخدامها في الولايات المتحدة وبريطانيا. وحتى نهاية القرن التاسع عشر – عندما بدأ المهندسون يخلطون الطبقة العلوية من الحصى بالقار لتأمين سطح واع من الماء – صارت الطرق المرصوفة بهذه الطريقة تسمى بطرق الأسفلت (الزفت) أو قار – ماكادام.
وحققت الطريق الرئيسية بين فلادلفا ولانكستر نجاحا ماليا سريعا للشركة التي مدتها ، لكن ذلك أفضى إلى ظهور عدد من مشاريع الطرق الرئيسية في نيوإنجلاند وولايات وسط الأطلسي في العقود القليلة التالية ، ولاحظت الحكومات المحلية أنه حيثما أقيمت طريق رئيسية كانت التنمية الاقتصادية تحل سريعا بانتشار الحانات والفنادق واسطبلات الخيل لتلبية حاجات المسافرين.
وفي العام 1802 رصد قانون الكونجرس الذي أسست بموجبه ولاية اوهايو الأموال المتحصلة من بيع الأراضي العامة لمد الطرق. وفي العام 1811 ، تم الترخيص لانشاء طريق يربط كيمبرلاند وماريلاند على نهر البوتوماك إلى وويلنج ، أو ما يعرف اليوم بفرجينيا الغربية على ضفاف نهر اوهايو. وسيصار فيما بعد إلى توسيع طريق كيمبرلاند ليصل إلى فانداليا بالينوي ، أي لمسافة تصل إلى خمسمائة ميل.
وفي أربعينيات القرن التاسع عشر كانت نيوإنجلاند الجنوبية ووادي هدسون الأدنى في نيويورك ونيوجيرسي وبنسلفانايا الجنوبية الشرقية تخدمها شبكة طرقات متطورة ساعدت كثيرا على تسهيل حركة المسافرين. وفي ثمانينات القرن الثامن عشر كانت عربة الجياد تستغرق بين أربعة ستة أيام لقطع المسافة بين بوسطن ونيويورك وفق حالة الطقس. وفي العام 1830 استغرقت هذه الرحلة يوما ونصف اليوم. ومع ذلك فقد ظل نظام الطرقات في الجنوب – وأساسه مجموعة الأنهار الصالحة للملاحة – بدائيا.
وطرأ تحسن كبير على المركبات أيضا . إذ لم تكن عربات الخيول الأولى سوى عربات زراعية مجهزة بمقاعد وتعوزها التوابض. وكان ركاب تلك العربات يتخبطون فيها كحجر النرد في فنجان. لكنه وبعد عدة قرون ، أصبحت تلك العربات مريحة أكثر ، ويعرفها كل من شاهد أفلام الويسترن التي أنتجتها هوليوود.
ولم تعرف المستعمرات السفر للاستجام وانما للتجارة ، لكنه صار شائعا في الثلاثينيات من القرن لاتاسع عشر أن يمضي الأزواج الأثريات رحلات شهر العسل (كانت شلالات نياجرا مقصدا مألوفا لأولئك الأزواج). وشرع الأطباء في ذلك الحين يصفون السفر كعلاج لمرضاهم الأثرياء.
وعلى الرغم من زيادة حركة المسافرين ، فإن التجارة بقيت تحتل القسم الأعظم من شبكة الطرقات المتوسعة. وفي العام 1836 لاحظ رالف والدوا إمرسون "موكبا لا ينقطع من العربات يمر بمنزله في كونكورد بماساتشوستس متجها إلى بلدات نيوهامشاير وفيرمونت. وبحلول العام 1840 بلغد عدد الذين كانوا يكسبون رزقهم بالعمل كحوذي متفرغ – في الولايات المتحدة – نحو خمسة عشر ألف رجل ، عملوا في نقل المنتجات والحمولات إلى المدن المتزايدة عددا . واتخذ كثير من الحوزذيين عملا حزئيا (غير متفرغ) خصوصا في الشتاء عندما كانت الأعمال الزراعية تتوقف والطرقات في أفضل حالاتها.
لكن كانت ثمة حدود صارمة لحمولة عربة الخيل بعض النظر عن درجة تطور الطرق. وكان لابد ، آنذاك ، من نقل السلع التي ارتفعت نسبة وزنها إلى قيمتها عن طريق الأنهار إذا ما أريد نقلها ملسافات بعيدة ، وكانت مع ذلك تحقق أرباحا لدى بيعها. وحيثما لم تتوافر المسالك البدائية الطبيعية خرج العالم ما قبل الصناعي بحل واحدة لهذه المعضلة ، وهو شق الأنهار الصناعية التي عرفت بالتقنال الانجليزي.
وترجع فكرة شق القنوات إلى أزمة غابرة ، فقد عرفتها لاصين وبلاد ما بين النهرين. كما أمر ملك الفرس داريوس الكبير بشق (أو بإعادة شق) قنال تصل النيل بالبحر الأحمر في العام 510 ق.م.
وقد أضاف ابتكار الهويس في منتصف القرن الخامس عشر بعدا جديدا للقنال ، إذا أتاح لها بلوغ الأراضي غير المستوية. وفي القرن السابع عشر وصلت قنال بين نهري لوار والسين. ومع نهاية القرن امتدت قنال لانجدوك في جنوب فرنسا عبر مسافة 142 ميلا فربطت البحر المتوسط بنهر جيروند ، الذي يمر بالقرب من بوردو ليصب في المحيط الأطلسي. ومع نهاية القرن الثامن عشر كانت بريطانيا ترتبط بشبكة من القنوات شق معظمها دوق بريدجوتر ، وكان لها فضل كبير في دعم الثورة الصناعية.
كانت ثمة حاجة بينة إلى القنوات في تحقيق التنمية في بلد والحد من كلفة كثير من السلع في الولايات المتحدة حديثة العهد ، وفي العام 190 ، حين لم يمض إلا عام واحد على تطبيق الدستور ، رخصت ثماني ولايات من الولايات الثلاث عشرة مالايقل عن ثلاثين شركة لشق القنوات ، ولم يصل كثير من هذه الشركات مرحلة التخطيط وكان معظمها يفتقر إلى العزيمة اللازمة فلم تسع إلى مد الاجزاء الصالحة للملاحة في الأنهار من خلال حل مشكلات التيارات المائية والشلالات. كان جورج واشنطن من المتحمسين جدا لفكرة القنال وذلك حرصا منه على تطوير فرص الملاحة في نهر بوتوماك ، لكنه عجز عن تأمين التمويل اللازم من الكونجرس.
كانت ماساتشتوستس مسرحا لأول وأضخم مشروع لشق القونات بلغ مرحلة الإنشاء ، عندما رخصت الولاية لشركة قنال ميدلسكس بشق قنال بطول سبعة وعشرين ميلا بين بنوسطن ومدينة شيلمزفورد على نهر ميريماك ، وكان يؤمل من هذه القنال نقل منتجات هامشاير – الخشب والجرانيت وراتنج الصنوبر وحطب التدفئة – إلى بوسطن.
إن قرار شق القنال شيء ، وشقها شيء آخر تماما ، خصوصا أن الولايات المتحدة كانت تفتكر إلى كلية مهندسين مدربين آنذاك. وكلفت شركة قنال ميدلسكس لوامي بولدوين تنفيذ المشروع. ومع أن بولدوين اطلع على مراجع في شق القنوات ، لكنه لم ير قط هويسات القنال ، فأقنع الشركة على الفور بتكليف رجل انلجيزي يدعى ويليام وستون كانت لديه خبرة عملية في شق القنوات.
وأصدرت الشركة أسهما في العام 1794 لاقت اقبالا كبيرا من المستثمرين ، الذين كان يحدوهم الأمل بالامكانات الاقتصادية التي تبشر بها التقنية الجديدة ، وهم غير مدركين مدى الصعوبات العملية التي تترتب على إنشاء القنال وتشغيلها على نحو مربح. ومع البوادر الأولى – ولن تكون الأخيرة – لفاقعة الاستثمار التقني في الولايات المتحدة ارتفعت أسعار أسهم شركة قنال مديلسكس – التي بلغت حين إصدارها 225 دولارا – إلى مستوى كبير وصل إلى 475 دولارا ، وذلك بفعل المضاربين قبل أن تبدأ القنال عملها بعشر سنوات.
ولما وضعت قيد التشغيل ، لم تحقق القنال أي أرباح تذكر مع أنها شكلت داعما لاقتصاد بوسطن والمناطق التي خدمتها. وعندما حلت الشركة في العام 1860 ، لم يحصل المستثمرون إلى على 75 في المائة فقط من قيمة الأموال التي وظفوها في المشروع.
لقد كان ارتفاع التكلفة الرأسمالية للقنال ونقص الخبرات الهندسية في البلاد عاملا معيقا في السنوات الأولى ، وكان المضاربون – بعد أن ذاقوا وبال الخسارة – غير مستعدين للاستثمار في مشاريع القنوات الجديدة ، وقررت ولاية نيويورك إقامة مشروع قنال لم يكن الأكبر فقط ، في الولايات المتحدة ، وإنما تجاوز حجمه ضعف أكبر قنوات العالم ، وذلك بتكلفة تقديرية ضاهت الميزانية السنوية للحكومة الفدرالية. وستكون قنال إري الأولى في سلسلة المشاريع العملاقة التي لا تحصى ، ومنها الكيبل الأطلسي والسكك الحديد العابرة للقارة وبروج بروكلين وقنال بنما وجسر هوفر ونظام الطرقات الرئيسية بين الولايات ومشروع أبولو ، التي ستكون سمات مميزة للتجربة الأمريكية.
وبفصل أحد رموز السياسة الأمريكية – الذي لم يكن معروفا آنذاك – دويت كلينتون ، حقق المشروع نجاحات فاقت كل التصورات ، بل إنها لم تكن في حسبانه هو نفسه. وستثبت لاأيام أن قنال إري سيكون أهم مشرواعات الأشغال العامة في التاريخ الأمريكي وسيجعل نيويورك – الولاية والمدينة – عماد الاقتصاد الأمريكي لأكثر من قرن من الزمن.
ومنذ زمن المستعمرات الأولى عرفت الطريق التي تربط نهر هدسون إلى الشمال من ألباني والذي يتجه إلى الغرب عبر فتحة جبال آبالاشيان ، بين أديرونداكز وكاتسكيلز ، وصولا إلى البحيرات العظمى. فلقد سلكها الهنود وتجار الفرو دائما. وقد التقت مياه نهرموهاوك ، الذي ينحدر باتجاه هدسون عبر سلسلة من التيارات المائية الشديدة ، بمياه نهر وولف كريك الذي يتجه غربا ليصب في بحيرة أونيدا. ومن الجانب المقابل من البحيرة – التي امتدت بطول عشرين ميلا – يصب نهر أوسيوجو في بحيرة أونتاريو.
ومنذ العام 1724 اقترح كادوالدير كولدين – الايرلندي المولد – وهو من تجار نيويورك ، ومن العلماء الهواة الأفذاذ (ومن ثم سياسي في منصب نائب حاكم المستعمرة ، الذي أوشك أن ينتهي به قدره إلى الإعدام من دون محاكمة خلال أحداث أزمة قانون الدمغة) تحسين هذه الطريق بتعزيز إمكانماتها التجارية. وقدم بعد ذلك اقتراحا آخر بضرورة ربط القنال ببحيرة إري بدلا من وصلها ببحيرة أونتاريو. كان ثمة سببان لذلك ، الأول أنه سيلغي الحاجة إلى النقل البري عند بلوع شلالات نياجرا والوصول إلى البحيرات العظمى ما وراء بحيرة أونتاريو. وببلوغ بحيرة أونتاريو – كما ساد الاعتقاد فإن حركة النقل ستستمر عبر نهر سانت لورنس إلى مونريال والمحيط الأطلسي ، في الشهور المعتدلة على الأقل ، بدلا من استخدام القنال على نحو قد يهدد مكانتها الاقتصادية.
كانت الحجة في معارضة طريق بحيرة إري ، هي أنها بالطبع ستزيد من طول القنال وتعمق الصعوبات الهندسية التي لابد من التغلب عليها. فبحيرة إري تبعد عن نهر هدسون 563 قدما فقد. ويصل مستوى هذا النهر إلى مستوى سطح البحر في ألباني (وهدسون في الحقيقة هو مصر نهر وليس نهرا على الإطلاق). أما غربي بحيرة أونيدا ، فكان لابد للقنال من المرور عبر نهري أيروديكويت وجينيسي اللذين يصبان في بحيرة أونتاريو ، والمرور بأراضي سبخة كثيرة وأن تشق طريقها عبر الحرف الصخري الذي يمتد شمالا وجنوبا من الجهة الشرقية لبحيرة إري.
وبعد الثورة أسس فيليب شويلر – وهو حمو ألكساند هاملتون – وآخرون شركة الهويسات الداخلية الغربية لدعم حركة الملاحة في نهر موهاوك ، وشرع بتبني فكرة القنال. كما لاقت الفكرة قبول الحام صاحب المال والنفوذ (موريس) لكنه كان يخشى أن "عقولنا لا تدرك بعد حجم هذا المشروع العظيم". لكن دويت كلينتون أدرك على الفور أهمية المشروع. لقد تخرج كلينتون ، الذي ولد في العام 1792 ، لعائلة ثرية وذات نفوذ – سيصبح عمه جورج كلينتون حاكم نيويورك ونائب الرئيس جيمس ماديسون – في جامعة كولومبيا وكان له من العمر سبعة عشر عاما فقط – وقد ألقى كلمة باللغة اللاتينية في حفل التخرج – وانتخبت بعد مدة وجيزة عضوا في مجلس شيوخ الولاية ، وعين عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي في العام 1802 ، لكنه استقال في العام التالي ليتبوأ منصب عمدة مدينة نيويورك. وبقي في منصبه هذا في معظم فترة الإثنى عشر عاما التالية. وفي العام 1810 عينه المجلس التشريعي في الولايات في مفوضية القنال التي شكلت من فورها. وأصبح على الفور القوة المحركة لهذه الفكرة.
كان المخطط النهائي ينم عن مشروع عملاق. إذ ستمر القنال على طول 363 ميلا عبر أراضي تشبه الفلاة وستتطلب ما لا يقبل عن ثلاثة وثمانين هويسا. كما ستحتاج القنال – عرضها أرعبون قدما وعمقها أربع أقدام – إلى أعمال حفر وتنظيف لما يقل عن 11.4 مليون ياردة مربعة من التراب ولاصخور – أي أكثر من ثلاثة أضعاف كتلة الهرم الأكبر في مصر – وأغلبتلك الأعمال كانت تتم يدويا. وقدرت تكلفة مشروع القنال بستة ملايين دولار أمريكي أي ما يعادل ثلاثة أرباع الميزانية الفدرالية في العام 1810.
كان يؤمل في أن تتحمل الحكومة الفدرالية نسبة كبيرة من تكاليف أكبر مشروعات الأشعال العامة في العالم الغربي ، منذ زمن الهرم الأكبر. لكن كلينتون لم يلق تشجيعا يذكر. ورأى توماس جيفرسون – الذي لم يكن يفتقر إلى الخبرة الهندسية ، وكان متعاظفا مع ما سمي آنذاك "التحسينات الداخلية" والتوسع نحو الغرب – أن الفكرة سخيفة. وبين لكلينتون أن جورج واشنطن عجز عن تأمين مبلغ 200 ألف دولار لشق قنال بطول ثلاثين ميلا عبر أرياف فرجينيا المأهولة بالسكان. وأضاف "إنك تتحدث عن إنشاء قنال بطول ثلاثمائية وخمسين ميلا عبر البرية! إنه مشروع ضخم وقد يتطلب إنجازه قرنا من الزمن . إنه لمن ضروب الجنون التفكير في هذا المشروع اليوم".
ولم تجلب حرب العام 1812 بارقة أمل بأن المشروع سيوضع موضع التنفيذ ، لكن الدافع وراء شق القنال أحيي من جديد بعد نهاية الحرب. وفي العام 1817 ، وعلى الرغم من أن خصوم كلينتون كانوا يسمونها "بحفرة كلينتون" ، كان الرأي العام في الولاية يتحول سريعا إلى تأييد القنال ، ووفع مائة ألف شخص على عريضة رفعت إلى المجلس التشريعي تطالب بشق القنال. أما من جانب المشكلاة التقنية التي لابد من تخطيطيها ، فإن الموقف الجماعي للولايات يمكن تلخيصه في عبارة الحاكم موريس اللاتينية الرشيقة: " بالكد تتحقق المعجزات".
وفي 15 ابريل 1817 أصدرالمجلس التشريعي قراره فسن قانون القنال الذي أعلن بموجبه أن القنال "ستعزز الزراعة والصناعة والتجارة وسترفع ويلات الحرب وترسخ فضائل السلام ، وتقوي عرى الاتحاد ، وتدفع الازدهار قدما ترفع من مكانة الولايات المتحدة.
كان الأمل لايزال قائما بأن الحكومة الفدرالية والولايات الاخرى التي هي المستفيد المباشر من المشروع – اوهايو على سبيل المثال – ستساهم فيه ، لكن نيويورك أبدت رغبتها آنذاك في تحمل أعبائه بمفردها. وارتأت الحكومة الفدرالية والولايات الأخرى – ولا عجب في ذلك – أن تترك لها أمر القيام به. ونقض الرئيس جيمس ماديسون مشروع قانون كان كفيلا بتقديم التمويل اللازم.
يمكن تلمس ضخامة مشروع قنال إري بالنسبة إلى ولاية نيويورك إذا علمنا أن التكلفة التقديرية النهائية – والتي بلغت سبعة ملايين دولار – تتجاوز أكثر من ثلث راسمال المصارف وشركات التأمين العاملة في الولاية. وفرضت نيويورك ضريبة على السفر بالمراكب البخارية ، وعلى الملح وعلى الأراضي التي تقع داخل حزام لا يزيد على خمسة وعشرين ميلا حول القنال لحدمة السندات التي أصدربتها ، واستثمرت شركتا تأمين لندنيتان أمولا طائلة في هذه السندات ، لكن معظم الأموال جائت من أبناء نيويورك ، وجلهم من أصحاب الثروات الكيرة. فمن أصل المكتتبين التسعة الستين في سندات العام 1818 استثمر واحد وخمسون منهم 2000 دولار أو مايقل ، واستثمر سبعة وعشريون مكتتبا أقل من 1000 دولار للمكتتب الواحد.
وفي 4 يوليو 1817 قلب دويت كلينتون – الذي عين حاكما للتو – أول رفش من التراب في منطقة قرب روما بنيويورك ، وتعهد بإتمام العمل في عشر سنوات ، وأكمل العمل في ثماني سنوات.
ولاستدرار سلسلة العوائد المتوقعة من المشروع في اقل زمن ممكن ، بدأت أولى العمليات في القسم الأطول المتمثل في ال69.5 مي الفاصلة بين سيراكوس وهيركمير ، التي لم يكن فيها ثمة حاجة لإقامة هويسات نهرية ، وأراد لها كلينتون أن تنتهي في عام واحد. وقد كان له ذلك.
وعمل آلاف العمال في شق القنال ، فبلغ عددهم في ذروة العمل خمسين ألفا ، كثير منهم من أنباء المنطقة ، وبعضهم من المهاجرين الايرلنديين والويلزيين الذين استؤجروا من على أرصفة ميناء مدينة نيويورك مباشرة. ومع أن القنال شقت بالعمل اليدوي فقط ، لكن فطنة اليانكي سهلت العمل وقلصت تكلفته إلى ما دون التكلفة المتوقعة. واعتمدت طريقة جديدة لقطع الأشجار بواسطة اسقاطها أرضا باستخدام البراغي والكابلات. وبفضل آلة أخرى ابتكرت في أثناء سير العمل. تمكن سبعة رجال ومجموعة من الثيران من اقتلاع أربعين شجرة في اليوم الواحدة.
كان كانفاس وايت واحدا من المهندسين الذي تعلموا أصول الهندسة بالدراسة الذاتية – هؤلاء المهندسين سيعرفون فيما بعد الثمن من اوروبا ، بحث عن مورد محلي للطراس وعثر عليه. والطراس هو ضرب من النسفة ، المكون الرئيسي للأسمنت المائي.
وفي العام 1821 اكتمل نحو 220 ميلا من القنال وبدأت حركة النقل تزداد ، وتستقطب اهتماما من الخارج. وبدأ سوق النقد في لندن بتوظيف استثمارات ضخمة في المشروع ، وستشتري شركة بارينج براذرزر وحدها سندات في القنال بأكثر من 300 ألف دولار.
واستغرق الأمر أربع سنوات لشق سبعة أميال من الحرف الصهري قرب لوكبورت – شرق بوفالو – وبناء سلسلة من خمسة هويسات مزدوجة. هذه الهويسات والقناة العظيمة فوق نهر جينيسي – حيث مدينة روشستر اليوم – والهويسات السبعة والعشرون اللازم إنشاؤها في الأميال الخمسة عشر الأولى على نهر هدسون كانت مشاريعا هندسية فاق بحجمها كل المشاريع السابقة في الولايات المتحدة.
لكنها انجزت في خريف العام 1825 ، وفي 26 اكتوبر وفد الحاكم كلينتون وعدد من كبار الشخصيات على متن البارجة سينيكا شيف التي غادرت بوفالو متوجهة عبر القنال ومن ثم عبرت نهر هدسون باتجاه مدينة نيويورك ، التي كانت الاحتفالات فيها قائمة على مسافة خمسمائة ميل. وفي نهاية هذه القنال عند ساندي هوك في نيوجيرسي ، وتحديدا في بوابة الخليج الادنة لمرفأ نيويورك صب الحاكم كلينتون قربة من ماء بحيرة إري في المحيط الأطلسي. والتقى الماء بالماء إحياء لذكرى الروابط الملاحية بين بحرنا المتوسط والمحيط الأطلسي. على حد تعبير كلينتون ووصف أحد خطباء ذلك العصر المشروع بأنه "أطول قنال حفرت في اقصر زمن وباقل الخبرات المتاحة وبادنة تكلفة ممكنة لتحقق أعظم المصالح العامة".
وحققت قنال إري نجاحااقتصاديا سريعا وباهرا. فكتب أحد المراقبين الأوائل "أن تأخذ لك موقعا على أحد الجسور الكثيرة ، وأن تجول بعينيك إلى أعلى القنال وأسفلها لهو مشهد مؤثر". ففي كل الاتجاهات وعلى مد النظر تقع العين على صفوف طويلة من القوارب. وفي الليل يخيل على الناظر من ومضات أضوائها الأمامية أنه يرى جماعات من الحباحب".
وفي العام 1825 عبر 13.100 مركب القنال وجببيت رسوم عبور بلغت نصف مليون دولار ، وهذا يتجاوز المبلغ اللازم لتمويل الدين الذي ترتب على بناء القنال. وفي أقل من عقد سددت الديون واستخدم فائض الأموال في توسيع القنوات الرافدة لها. وعبرت في العام الأول اثنتان وأربعون بارجة يوميا – بالمتوسط – عبر اوتيكا ، وحملت في ذلك العام 221 ألف برميل من الطحين و435 ألف جالون من الوسكي و562 ألف شوال من القمح. وشحن عبر القنال 334.605 أطنان من الحمولات المختلفة في ذلك العام. وتضاعف عدد سكان الأقاليم التي مرت بها القنال ثلاثة أضعاف في بضع سنين فقط ، حيث تحولت القرى إلى بلدات وأضحت البلدات مدنا.
والأهم من ذلك أن القنال استخدمتها ألوف للانتقال من الحقول الصخرية في نيوإنجلاند إلى الأراضي الخصبة في الغرب الأوسط ، وأرسلوا نتاج عملهم ثانية عبر القنال مع التراجع الشديد في تكلفة نقل البضائع غربا. قبل القنال ، كان الأمر يستغرف ثلاثة أسابيع وبتكلفة بلغت 120 دولارا لارسال طن من القمح هبطت التكلفة إلى ستة دولارات ولم يعد شحنها يستغرق اكثر من ثمانية أيام.
يصطلح الاقتصاديون على تسمية النقل ب"تكلفة إنجاز الصفقة" ، أي التكلفة التي تضاف إلى ثمن السلعة من دون أن تزيد من قيمتها الذاتية ، ومن أمثلة تكلفة إنجاز الصفقة أيضا الإعلان والمبيعات والتغليف. وكلما انخفضت هذه التكاليف انخفض السعر النهائي وارتفع الطلب. وعندما تنخفض تكاليف انجاز الصفقة كثيرا – مثلما خفضت قنال إري تلفة نقل الإنتاج من الغرب الأوسط غلى مدينة نيويورك – فإن العواقب تصبح دائما بالغة الأثر.
في هذه الحالة تحولت المدينة من مجرد أكبر المدن الأمريكية إلى مدينة عالمية "كوزوموبوليتان" ، عاصمة العالم الغربيز وحتى قبل استكمال العمل في قنال إري في العام 1822 رأت صحيفة التايمز اللندنية أن القنال أوشكت على الإنتهاء ، وكتبت في ذلك العام أنها ستجعل مدينة نيويورك "لندن العالم الجديد". وكانت التايمز محقة ، فقد كانت قنال إري هي ما أكسب الإمباير ستيت مركزها التجاري وجعلت نيويورك عاصمة الأمة الإمبراطورية.
لقد بلغ عدد سكان مدينة نيويورك في العام 1820 نحو 123.700 نسمة ، أي خمسة أضعاف ما كان عليه عند إندلاع الثورة ، لكن فيلادلفيا التي تجاوز عدد سكانها في العام 1776 عدد سكان نيويورك كان عدد سكانها أقل آنذاك نحو 112 ألف نسمة. وقد حولت قنال إري نيويورك – مع ذلك – إلى أكثر مدن العالم ازدهارات على الاطلاق. وارتفع عدد سكان مانهاتن إلى 202 ألف في العام 1830 و313 ألفا في لاعام 1840 و516 ألفا في العام 1850 و 814 ألفا في العام 1860. لقد كان سكان ما يعرف الآن بالأقسام الإدارية الخمسة لمدينة نيويورك أكثر من ضعفي عدد سكان فيلادلفيا عند إندلاع الحرب الأهلية. وفي العام 1800 عبر 9 في المائة من صادرات البلاد ميناء نيويورك. وبحلول العام 1860 ارتفعت هذه النسبة إلى 62 في المائة مع تحول المدينة إلى ما وصفه شاعر بوسطن الطبيب أوليفر ويندل هولنمز (والد قاضي المحكمة العليا) ، بنبرة يغلب عليها لواعج الشكوى ، بأنه "اللسان الذي لعث زبدة التجارة والمال في قارة بأكملها".
وزحفت المدينة سريعا على جزيرة مانهاتن فكانت تضيف في العام الواحد عشرة أميال من واجهات الشوارع الجديدة في ربع القرن الذي تلا افتتاح القنال. ولاعجب أن روي عن جون جاكون أستور – وهو من كبار المستثمرين في القنال – قوله ، وهو على فراش الموت في العام 1898 ، إن الشيئ الوحيد الذي يأسف عليه في الحياة أنه لم شتر مانهاتن كلها ، لكنه اشترى منها ما يكفي لجعله أغنى رجل في البلاد ولتتمع عائلته بثراء عن نظيره في الأجيال المقبلة.
كان العام 1817 عاما فارقا في تاريخ مدينة نيويورك ، إذ لم يشهد فقط بدء أعمال الإنشاء في قنال إري ، بل شهد أيضا حدثين بالغي الأثر ، أحدهما كان تأسيس خط بلاك بول وهو مرسى للسفن المغادرة في رحلات منتظمة. فقبل العام 1718 كان على كل راغب في السفر إلى اوروبا أن يحجز مكانا له على سفينة شحن من دون أن ينتظر إلى حين تستعد السفينة للإبحار ، وذلك عندما يشعر قباطانها أن لديه حمولة تكفي لتحقيق مكاسب من الرحلة ، وبأن الريح والحالة الجوية مواتيتان. ولا عجب آنذاك أن ينتظر المرء أسبوعا أو أسبوعين قبل إعلان موعد إبحار السفينة ومغادرتها.
وعلى مستوردي النسيج وتجار القطن في نيويورك السفر من حين إلى آخر إلى بريطانيا لغرض التجارة ، وكثير منهم كانوا بريطانيي المولدز وقد كانوا يأسفون على الزمن الضائع بانتظار إبحار السفينة ، وخرج أحدهم ، كان اسمه جيرميا طومبسون ، بفكرة غير مسبوقة للحد من الزمن الضائع ، إذا اقترح تنظيم طابور للسفن تحت إدارة موحدة تلتزم ببرنامج زمني منتظم تبحر بموجبه في تواريخ تعلن مسبقا.
وغادرت أول السفن نيويورك في 6 يناير 1818 حاملة صورة كرة سوداء كبيرة على شراعها الأمامي تمييزا لها. وأثبتت الفكرة على الفور نجاعتها الاقتصادية ، فهي لم تنتشر فقط على الموانئ الأخرى وإنما طبقت في وسائل النقل الأخرى التي كانت في طور تشكلها ، على سبيل المثال ، السكك الحديد . وتبدو في يومنا الحالي رحلات السفر المنتظمة – على أساس جدول زمني منظم – أمرا بديهيا بحيث يصعب أن نتصور عالمنا من دونها. لكنها كانت تعد – في ذلك الحين – من العجائب. إذ كتبت صحيفة نايلز ويكلي ريجستر في العام 1820 أن "هذه الدقة وتلك السرعة شيئان غاية في العجب .. ولو أنهما عرفا في عصور سابقة لكانتا عصيتين على التصديق". وساعد خط بلاك بول كثيرا على ترسيخ سمعة نيويورك بصفتها الميناء الأول للسمافرين والشحن معا في البلاد.
الحدث المهم الآخر في تاريخ نيويورك وقع في العام 1817 ، عندما أعلن التأسيس الرسمي لسروق الأوراق المالية (البورصة). لقد حققت وول ستريت نموا سريعا منذ أن تعافت المدينة من ويلات الثورة ، لكنها كانت لاتزال في حاجة إلى سوق للأوراق المالية كتلك التي كانت في فيلادلفيا منذ العام 1792 ، فمع نمو الدين القومي بنحو ثلاثة أضعاف بسبب حرب العام 1812 ارتفع حجم التداول في بورصات البلاد بصورة ملحوظة. لكن معظم هذا التداول تحول إلى فيلادلفيا بفضل مصارفها الكبيرة.
وأرسل سماسرة نيويورك – الذين مازالوا يعملون باتفاقية باتون وودز – سمسارا اسمه ويليام لامب إلى فيلادلفيا لدراسة سوق الأوراق المالية فيها. وفي 25 فبراير 1817 اجتمع في مكتب صموئيل بيب مجموعة من كبار سماسرة نيويورك ووضعوا نظاما مشابها لنظام بورصة فيلادلفيا. كان ثمة ثمانية وعشرون عضوا أصليا فقط من أصل سبع شركان ، وقد شكل هؤلاء مجلس السماسرة ليصبح بعد مدة وجيزة مجلس الأوراق المالية والبورصة في نيويورك. واستأجروا الطابق الثاني من المقر الرئيسي لمصرف نيويورك في شارع 40 وول ستريت نظير 200 دولار سنويا ، واشتمل السعر على خدمة التدفئة أيضا. كانت تلك بداية متواضع لمؤسسة ستغير اسمها في العام 1863 هذه المرة إلى "بورصة نيويورك".
وبعد تراجح حاد – لكن قصير الأجل – في العام 1819 شهدت سوق وول ستريت للأوراق المالية رواجا ترافق مع ازدهار عم البلاد. وشرع السماسرة ، الذين عملوا في السابق في حق التأمين وتجارة القطن وبطاقات الياناصيب والأسهم والسندان ، بالتخصص في أوراق مالية بعينها. وكان مجلس الاوراق المالية والبورصة في نيويورك واحدة من البورصات التي انتشرت في المدن الرئيسية في البلاد مثل بوسطن وفيلادلفيا وسينسيناتي ولم يعد له قصب السبق عليها.لا بل إن هذا المجلس لم يكن موضع التداول الوحيد في وول ستريت. فقد جرى تداول كثير من الأسهم في الشارع نفسه تحت أعمدة الإنارة ، حيث كانت أوراق مالية بعينها تتداول من دون ضوابط أو أنظمة.
ولم يكن التداول نشطا في معظم الأحيان ، إذ كانت يقل عن مائة سهم في اليوم الواحد أحيانا. وفي 16 مارس 1830 بلغ حجم التداول في مجلس الأوراق المالية والبورصة بنيويورك مالايزيد على واحد وثلاثين سهما في الجلسات الصباحية والمسائية ، وهو أدنة مستوى عرفه حجم التداول على الإطلاق.
لكن تلك الحال لن تدون طويلا ، فقد كانت الطرقات والقنوات – مع كل التحسينات التي جلبتها للحياة اليومية والتجارة – لاتزال تقنية قديمة ، ترجع إلى زمن الرومان. لكن تقنية البخار الجديدة – عند توظيفها في النقل – ستبرز تلك التقنيات من حيث دورها وأهميتها وستساهم في خلق العالم الجديد. وسيجعل تمويل وول ستريت للنقر بالبخار – وكان مجرد تقنية كمالية في العام 1830 – من وول ستريت نفسها عنصرا لا غنى عنه في الاقتصاد الأمريكي.
الفصل السابع: صنائع جيفرسون الهدامة
مضى على صدور ترخيص مصرف الولايات المتحدة عشرون عاما ، وأوشك أن ينتهي في العام 1811 ، وقد وصل عدد المصارف المرخصة من سلطات الولايات – في ذلك الحين – إلى أكثر من مائة مصر تزاول أعمال الصيرفة ، وتسعى كلها إلى الكسب في هذا القطاع التجاري الفريد. فالمصارف تزال نشاطا السلعة المتداولة فيه هي المال نفسه ، فهي تحفظ المال وتقرضه، كما أنها – والأهم من ذلك – تخلقه.
لقد أخذت النقود شكل العملة المعدنية في فترة ألفي السنة التي انقضت منذ ظهورها أول مرة. وكان ضرب النقد حكرا على الحكومات. لكن التدفق العظيم للذهب والفضة في القرن السادس عشر لم يحدث فقط تضخما كبيرا ، لكنه أدى أيضا إلى نشوء شكل جديد من النقد. فقد كان الناس يودعون معادنهم الثمنية عند صاغة الذهب لحفظها ويأخذون في المقابل ايصالات تسلم بقيمتها. ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الناس استخدام الايصالات لأغراض التداول التجاري. وبفضل سمعة صاعة الذهب ، كانت ايصالاتهم بمنزلة المعدن الثمني نفسه – الذي يحفظونة في خزائنهم – الذي تمثله هذه الايصالات ، كما كانت تلك الايصالات أسهل حملا. وما كاد القانون يجيز تداولها (في بريطانيا في العام 1704) وصالت بالتالي ملكية مطلقة لحاملها ، حتى تحولت الأوراق النقدية المصرفية (البنكنوت) إلى نقود.
كان صاغة الذهب يزاولون أعمال الإقراض منذ أقدم الأزمنة ، وقد شرعوا الآن في تحرير ايصالات بالقروض بدلا من إعطاء المقترض المعدن نفسه. وعلى الفور وسعيا وراء تعظيم الربح بدأ الصاغة إصدار المزيد من الايصالات بشكل يتجاوز قيمة المعدن الموجود في خزائنهم واللازم لمقابلة تلك الايصالات ، وبفضل السمعة الحسنة لصاغة الذهب لم يكن في ذلك أي حرج ، على اعتبار أنه من غير المتصور أن يسعى حملة الايصالات كلهم – وفي وقت واحد – على استردادها.
وبعد إصدار ايصالات تتجاوز قيمتها قيمة الذهب اللازم لوفائها ، عمل صاغة الذهب – وقد بلغوا بذلك منزلة المصرفيين – على خلق النقود من العدم تقريبا. ولم يدرك كثير من المثقفين والمتعلمين جوهر عمل المصارف ، ومن ثم اعتبروا ذلك – بطبيعته – نوعا من الإحتيال أو قلة الأمانة. وكتب جون آدامز – ذات مرة – أن "كل دولار من الأوراق المصرفية يصدر زيادة على كمية الذهب والفضة في الخزائن لا يملك أي قيمة ، وبالتلاي فهو بمنزلة إحتيال على البعض".
لكن آدامز كان مخطئا ، فهذا العمل لم يمت بصلة إلى الإحتيال إطلاقا. إذا كانت القروض – بطبيعة الحال – مضمونة بأصول مقومة كالأراضي والأبنية. وإذا تخلف المقترض عن سداد التزاماته ، يحجز المقرض الضمان وبيبعه ليحصل على مستحقاته. والواقع أن عمل المصرفي يتمثل في تحويل رأس المال المعطل في الأصول الثابتة إلى رأسمال سائل يمكن توظيفه في أصول (موجودات) جديدة على نحو يضاعف ثروة المجتمع ويؤسس لاقتصاد أكثر ديناميكية. وهكذا فإن الأصول التي تدعم تلك الأموال ، التي خلقت لتقديم القروض ، تعود في الأساس إلى المقرض لا المقترض. أما المعدن الثمين المحفوظ في خزائن المصارف فكان عبارة فقط عن رأسمال المصرف أي الثروة التي يخاطر بها المصرف لحماية نزاهته ومكانته التجارية.
لكن المسألة كلها تتوقف على أولئك الذين لا يختارون استرداد قيمة ايصالاتهم – في الوقت نفسه – حيث أن المصرف لن يكون قادرات على استرداد قروضه أو استدعائها بالسرعة الكافية لتلبية الطلب على المعدن النفيس الذي تمثله الايصالات. في هذه لاحالة سيضطر المصرفي إلى تعليق عمله ، وحين يعود كل شيء إلى نصابه الصحيح سيكون المصرفي على شفا الإفلاس. إن الهلع – الذي يعد مصطلحا أساسه علم النفس لا علم الاقتصاد – ينتشر سريعا كالعودة. إذ يمكن أن ينتقل من مودع إلى آخر في المصرف نفسه ، ومن مودع إلى آخر لدى مصرف آخر وبوقع مخيف.
وعليه فإن سمعة المصرف في إدارة مصرف مستقر ماليا هي أثمن ما يملك من الأصولز وكما بين عالم السياسة البريطاني الكبير في القرن التاسع عشر والتر بيجوت: "يعلم كل مصرفي أنه عندما يضطر إلى أني ثبت سلامة وضعه الإئتماني – بغض النظر عن صحة الحجج التي يسوقها – فإن سمعته تكون بالفعل قد ولت من دون رجعة".
لكن ، وعلى الرغم من الحاجة الملحة إلى الحافظ على سمعة غير مشوبة ، فإن المصرفيين في آخر المطاف هم أيضا من البشر. إذ أنهم يميلون أحيانا إلى محاباة أصدقائهم ومعارفهم وإلى الإفراط في التفائل وأحيانا إلى الإنسياق وراء الجشع المفرط ، وعدم مراعاة الأمانة والإستقامة. وكما هي حال السياسيين تماما ، فحالما يستحوذ على المصرفي بريق القدرة على خلق النقود تتعاظم رغبته في خلق الكثير منها. ولهذا السبب تماما كان ألكساندر هاملتون يعتقد أن البلاد في حاجة إلى مصرف مركزي ، لتنظيم عمل مصارف الولايات والحيلولة دون الإفراط في خلق النقود . وهذا أيضا – بالطبع – سبب كراهية كثير من المصارف التجارية الجديدة في البلاد لمصرف الولايات المتحدة الذي حد من حرية حركتها.
ومع مطلع القرن التاسع عشر كان الحصول على رخصة لتأسيس مصرف يتطلب إصدار قانون من المجلس التشريعي في الولاية. وقد أضاف ذلك جرعة كبيرة من السياسة إلى هذا الإجراء وفتح الباب أمام ما صار يعرف اليوم بالفساد ، الذي كان يعد في ذلك الزمن من موجبات مزاولة العمل التجاري. وكان الند السياسي لهاملتون – والشخص الذي اغتاله في نهاية المطاف – آرون بر قادرا على تأسيس مصرف بإقحام فقرة في رخصة عمل شركة مانهالتن التي عملت على مد مدينة نيويورك بالماء النظيف. وقد أتاحت الفقرة الحميدة في ظاهرها للشركة استثمار فائض رأسمالها في أي مشروع يجيزه القانون. وفي غضون ستة أشهر من تأسيس الشركة ، وقبل أن تمد أنابيب المياه ، افتتحت مصرفا لها أطلق عليه "مصرف شركة مانهاتن" ، هذا المصرف لايزال قائما إلى اليوم تحت اسم "جي بي مورجان تشيس" ثاني أكبر مصارف الولايات المتحدة.
أما مصرف الولايات المتحدة ، الذي مقرف في فيلادلفيا ، فقد افتتح فروعات له في نيويورك وبوسطن وبالتيمور وتشارلستون – وهي أكبر المواني الأمريكية – في غضون عام واحدة من تأسيسه. وبحلول العام 1810 ، كان قد فتح له فروعا في واشنطن ونيوأورلينز وسافانا ونورفولك. وبفضل فروعه المنتشرة في الولايات واحتكاره إيداعات الحكومة الفدرالية صار أقوى مصرف في البلاد على الإطلاق. والمصرف الوحيد الذي كانت أوراقه النقدية (البنكنوت) مقبولة في التداول بقيمتها الاسمية في كل أنحاء البلاد.
هذه القدرة الفائقة أثارت بالطبع انتباه عدد من المناوئين خصوصا "الجمهوريين القدامى" – الذين كانوا ينظرون إلى توماس جيفرسون المتقاعد على أنه رمز القدرة السياسية- وأصحاب المصارف العاملة في الولايات. واراد المصرفيون الساخطون على الضوباط التي طبقها مصرف الولايات المتحدة الحصول على نصيبهم من الإيداعات الفدرالية التي ستساعدهم على توسعة قاعدة القروض. وكانت علاقاتهم السياسية في المجالس التشريعية في الولايات – والتي كانت حينها مسئولة عن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي – قد جعلت منهم قوة نفوذ هائلة. هذا كان واقع الولايات الغربية حديثة النشأة ، حيث كانت القوانين المصرفية متساهلة عموما ، وحيث كانت كراهية النفوذ المالي الذي تمارسه المناطق الشرقية على أشدها.وكان رهاب الانجليزي الأعلى درجة. وقلما أضاع سكان المناطق الغربية الفرصة للتلميح إلى أن جزءا كبيرا من أسهم المصارف كان بيد حملة أسهم بريطانيين. وقاد هنري كلاي – وكان آنذاك عضوا في مجلس الشيوخ في كنتكي – حملة المعارضة لإعادة النظر في رخصة المصرف.
وأيد تجار المدن الشرقية إعادة ترخيص المصرف ، بعد بلوغ البلاد مراتب الاستقرار المالي. وحتى جيمس ماديسون – الذي عارض في السابق تأسيس المصرف ، وكان حينها في منصب الرئيس – أدرك أهمية المصرف كوكيل عن الحكومة الفدرالية وكمصدر لعملة وطنية موحدة. ولقد مارس وزير الخزانة في حكومته – ألبرت جالاتين – كثيرا من الضغوط سعيا لتأمين الموافقة على تجديد رخصة المصرف.
كانت الرخصة على وشك الإنتهاء في 4 مارس 1811 ، وقدمت إدارة ماديسون وثيقة تدعو إلى تجديد الرخصة لمدة عشرين عاما في 24 يناير. لكن ماديسون – لسوء الطالع ، وعلى الرغم من أنه سيحقق له مكانا بين عظماء الأمة الأمريكية بوصفه "أبو الدستور" – كان يفتقر إلى الكفاءة التي يتطلبها منصب الرئيس. إذ لم يمارس ضغوطا كافية لتمرير المشروع أن حتى لتوحيد أعضاء إدارته على الأقل. إذ أن المشروع انتهى إلى فشل ذريع عندما عمل نائبه جورج كلينتون من نيويورك على ترجيح كفة المعارضين في مجلس الشيوخ لمشروع المصرف. لقد كان هذا أهم الأعمال السياسية المستقلة – وإذا جاز القول – الوحيد في تاريخ نيابة الرئاسة الأمريكية ، وستكون له عواقب وخيمة.
فقد أعيد ترخيص معظم فروع المصرف في الولايات التي عملت فياه ، وبيع مقر المصرف – البناء والأثاث والموجودات جميعا – إلى ستيفن جيرارد وهو تاجر من فيلادلفيا ولد في فرنسا. ودفع جيرارد 115 ألف دولار نظير ذلك ، وكان هذا مبلغا كبيرا جدا لتوظيفه في موجودات سائلة. وقد تبين أن تلك الأموال كان مصدرها ثروة طائرة. كان جيرارد – الذي كان يزاول التجارة في بقاع مختلفة من العالم – يعيد توطين أمواله القادمة من الخارج في وقت تدهورت فيه العلاقات بين بريطانيا وفرنسا في العقد الأول من القرن التاسع عشر.
وعمل جيرارد ، بعد أن اشترى مشروعات جاهزا ، على افتتاح مصرف خاص يملكه بنفسه ، حيث دعم المشروع بأوراق مالية قابلة للتداول بقيمة 1.2 مليون دولار ، وبمبلغ كبير قدره 71 ألف دولار. وفي وقت كانت فيه أثرياء البلد يعدون على أصابع اليد الواحدة ، أثبت ستيفن جيرارد أنه ميلياردير.
واستمرت الحالة الديبلوماسية في التدهور ، وكان كثيرون في الغرب يتطلعون إلى الحرب مغضبين أملا بفتح كندا في خضمها. وفي يونيو 1812 أرسل الرئيس ماديسون "خطابا تحذيريا" إلى مجلس الشيوخ أورد فيه بالتفصيل شكاوي الولايات المتحدة من بريطانيا العظمة. ولم يطلب في الخطاب صراحة إعلان الحرب ، بل إنه بما عرف عنه من حرص شديد على تجنب ارتكاب أي أخطاء دستورية ، عنون ذلك ب"مسألة عليا يأتمن عليها الدستور – بحكمة منه – الذراع التشريعي للحكومة".
لقد أيدت مناطق الغرب والجنوب الحرب كثيرا ، أما الشمال الشرقي ، الذي ستتعرض أساطيله التجارية العظيمة وتجارته الدولية للخطر بسببها ، فقد عارضها. وصوت المجلس لمصلحة الحرب بتسعة وسبعين صوتا مقابل تسعة وأربعين. ولم يعارضها من الجنوب والغرب إلا ثمانية أعضاء. وصوت مجلس الشيوخ بدوره على تأييد الحرب ، لكن بأصوات أكثر تقاربا بين المؤديين والمعارضين (تسعة عشر مقابل ثلاثة عشر). وفي 19 يونيو أعلن ماديسون الحرب على بريطانيا العظمى.
وبإعلان الحرب على القوة العظمى الوحيدة القادرة على مهاجمة الولايات المتحدة ، صوت الكونجرس على زيادة أجور الجيش للقوات الخاصة من 5 إلى 8 دولارات في الشهر ، وعلى منح علاوة تجنيد سخية قدرها 31 دولار و320 فدانا. ولم تكن تلك المبالغ بالشئ اليسير آنذاك ، حينما كان العامل غير المؤهل يعد ذا حظ عظيم إذا كسب 2.5 دولار في الأسبوع. لكن الكونجرس – الذي قرر انتهاج أكثر السياسات العامة تكلفة ، وهي الحرب ، ورفع تعويضات الجيس بنسب كبيرة – لم يتخذ أي إجراء يساعد على الوفاء بهذه الأعباء وعلق اجتماعاته في الشهر التالي. لقد كان هذا بلا شك ، أكثر الأعمال تهورا في تاريخ الكونجرس الأمريكي ، الذي ستكون عضويته محط منافسة ستزداد حدة مع مرور الزمن.
والأسوأ من ذلك ، ولأن الكونجرس عمد في السنة السابقة إلى إغلاق مصرف الولايات المتحدة ، فقد قضى على الآلية المؤسسية الوحيدة التي كانت بيد الحكومة لاقتراض المال اللازم للحرب. ولم يكون أمام وزير الخزانة أي خيار سوى الاعتماد على الاكتتاب العام لتسويق السندات.
وكان أثر من توافرت لديهم السيولة اللازمة لشراء تلك السندات ، من سكان المنطقة الشمالية الشرقية حيث كانت معارضة "حرب السيد ماديسون " على أشدها.
ولو أن النجاح العسكري في الأيام الأولى من الحرب تحقق لرفع من شعبيتها وسهل سبل التمويل. لكن ، وعلى الرغم من الانتصارات المتفرقة على البحرية الملكية ، فإنها لم تؤثر في نتيجة الحرب البتة ، وأحكمن بريطانيا حصارها على الموانئ الأمريكية بشدة ، مما أدى إلى هبوط حاد في عوائد التعريفات الجمركية وضرائب الوزن. وحلت الكارثة على الأرض في كل مكان. ولم يتسن للجنرال ويليام هل – الذي أصدر أوامره بغزو كندا العليا (أو ما يعرف اليوم باونتاريو) من ديترويت – إلا التوغل بضعة أميال في الأراضي الكندية قبل الانسحاب سريعا إلى ديترويت التي سلمها فيما بعد من دون إطلاق رصاصة واحدة. وعقعد لهل محاكمة ميدانية وحكم عليه بالاعدام لتخاذله وإهماله الواجب. لكن ماديسون ونظرا إلى دوره في الثورة (قاتل هل مع واشنطن في معركة ترينتون) عفا عنه واكتفى بتسريحه من الجيش ، وباءت محاولتنان آخريان للتوغل في الأراضي الكندية – مع جهة نياجرا وبحيرة شامبلين – بالفشل ، إن لم تقل بالفشل الذريع.
وفي مطلع ربيع العام 1812 بلغ الوضع المالي لحكومة الولايات المتحدة أدنى مستوياته. وفي مارس كتب وزير الخزانة إلى الرئيس ماديسون أنه "ليس لدينا المال الكافي لتلبية مصاريف الشهر". وفي الثامن من فبراير 1813 ، فوض الكونجرس إلى الخزانة اقتراض 16 مليون دولار ، اي ما يفوق كثيرا أكبر القروض في تاريخ الولايات المتحدة القصير. وعمل جالاتين ما بوسعه لتأمين مصادر القرض بشروط ميسرة. إذ أتيح للفرد الواحد الاكتتاب على 100 دولار فقط ، وأن يدفع قيمة استثماراته تلك في ثمانية أقساط شهرية. ورتب القرض على أن يغلق باب الإكتتاب في 13 مارس ، وأن يبقى باب الاكتتاب مفتوحا إلى آخر الشهر إذا لم يستقطب الاكتتاب ما يكفي من المال. وكان يجب ألا تقل قيمة السندات المكتتب بها عن 16 مليون دولار تماما وإلا فلن يقر القرض.
وكان الاكتتاب أقل من 4 ملايين دولار حتى 13 مارس ، فمدد جالاتين فترته. لكن ذلك لم يحدث فرقا يذكر ، ولم يكتت على كل الاصداراتن بسبب بطئ الاتصالات. وأدرك جالاتين أن القرض باء بالفشل فنقل إلى ماديسون فيما بعد أن "الخزينة استنفدت كثيرا في أول أيام هذا الشهر بحيث إن ما بقي فيها من رصيد – على الرغم من قلته ، وهو مبالغ متفرقة لدى أكثر من ثلاثين مصرفا – لا يكفي لأي نفقات إضافية". وهكذا ، أفلست الحكومة وأوشك المجهود الحربي على الانهيار ، ليس بسبب الهزيمة العسكرية ، بل بسبب نضوب الموارد المالية.
وأمهل جالاتين نفسه خمسة أيام إضافية للعثور على مقرض الملاذ الأخير إذا ما دعت الضرورة. وفي 5 ابريل مضي لمقابلة الرجل الوحيد في البلاد الذي يمكن أن يقدم المساعدة وهو ستيفن جيرارد.
وأبلغه جالاتين أن إجمالي مبلغ الاكتتابات قد بلغ 5.838.200 دولار ، وأن نقابة نيويوركية يرأسها جون جاكنب آستور مستعدة لتقديم 2.056.000 دولار إذا نجح القرض. وبالتالي كان لابد من تأمين الاكتتاب على 8.105.800 دولار حتى ذلك اليوم ليتسنى تجنب الكارثة الكبرى. لقد كان المبلغ كبيرا ، فالإيرادات الحكومية من مصادرها المختلفة لم تتجاوز في العام 1812 مبلغ 9.801.000 دولار.
وعلى الرغم من ثروة ستيفن جيرارد فإنها كانت أقل من 8 ملايين دولار. ومع ذلك ، فقد أعلن على الفور موافقته ، واكتتب خطيا "بباقي القرض المذكور". كان شرطه أن يودع المبلغ المتبقى في مصرفه إلى حين الطلب ، وأن يحصل على عمولة ربع من 1 في المائة على القرض لتغطية تكاليف بيع الحصص الأخرى إلى غيره من المكتتبين.
ولم تكن تلك الخطوة بالجرأة التي بدت عليها في الظاهر ، على الرغم من أنها كانت على حد كاف من الجرأة. وكان جيرارد يمتمتع بتصنيف ائتماني لا يشق له غبار ، لا بل يفوق وضع الحكومة الائتماني ، وكان يرجو أن يبيع حصصا كبيرة من ذلك القرض. ولتأمين المبلغ الكلي كان أمامه ثمانية أشهر.
لقد فاقت سمعته الائتمانية كثيرا سمعة الحكومة ، ذلك أنه في غضون عشرة أيام ، وحالما انتشرت الأخبار عن دور جيرارد كمشارك رئيس ، استطاع بيع حصص بقيمة 4.62.800 دولار إلى غيره من المستثمرين.
ومع امتلاء الخزانة بالمال من جديد شهدت الأوضاع العسكرية تحسنا فوريا. اذ استطاع ويليام هنري هاريسون استعادة ديترويت ، وحثث الجيش الأمريكي نصرا كبيرا في يورك (تورنتو اليوم) ، وألحق بالأسطول الانجليزي هزيمة ساحقة على ضفاف بحيرة إري. وتقدم البريطانيون – وقد تناهت إليهم أنباء الصعاب المالية التي تعانيها حكومة الولايات المتحدة – إلى روسيا للتوسط بينهما. وحينئ1 ، ورغبة من بريطانيا في إنهاء هذه الحرب الصغيرة المزعجة ، والتي لا توليها إهتماما كبيرا بالمقارنة بشئونها الأخرى في العالم ، اقترحت بريطانيا إجراء محادثات سلام في جينت فيما بات يعرف اليوم ببلجيكا. وأمكن للولايات المتحدة الهروب من شبح الكارثة المحيقة بها. ومع ذلك ، فقد عانت كثيرا إحراق العدو لعاصمتها.
ومع حل مصرف الولايات المتحدة ، ارتفع عدد مصارف الولاياات ليتضاعف في العامين ما بعد 1811 ، وأصدر أكثر تلك المصارف أوراقا نقدية (بنكنوت). وقدر آدم سميث ان بإمكان أي مصرف إصدار أوراق نقدية – من دون خشية أي عواقب – تعادل خمسة أضعاف رأس المال. لكن ولايات أخرى لم تضع مثل هذه الشروط. وفي العام 1809 أصدر مصرف في رود آيلاند – برأسمال لم يتجاوز 45 دولار – أوراقا نقدية بقيمة 800 ألف دولار ، أي أكثر من سبعة عشرة ألف ضعف من رأس المال. كان ذلك ، بالطبع ، من باب الاحتيال ، وليس ممارس العمل المصرفي ، لكنه كان الأول في سلسلة من آلاف حوادث فشل المصارف في الولايات المتحدة. وقد أصبحت هذه الحوادث – والفضل في ذلك لتوماس جيفرسون ومن سار على نهجه من السياسيين – ظاهرة أمريكية تماما ، مثلها مثل فطيرة التفاح.
ولم يقيد بعض الولايات عملية إصدار الأوراق النقدية من قبل المصارف ، وعلى الرغم من أنها كانت تسمى بالاصلاح التقني "سند إثبات مؤقت" ، وكانت الغاية منها سد النقص في كمية النقد المتداول ، فقد أصدرت العملات الورقية من قبل السلطات البلدية والاتحادات التجارية والمصانع وحتى بعض الأفراد. إذ أصدرت جهة أطلقت على نفسها اسم مجموعة من بقاليات فيلادلفيا ، سندات الإثبات المؤقت ، ومنها ورقة نقدية من فئة ستة سنتات وربع السنت (جزء من ستة عشر جزءا من الدولار أو نصف شلنج) كانت قابلة للاسترداد "عند الطلب في صورة سلع من البقاليات أو بالأوراق النقدية المصرفية في فيلادلفيا".
ورغبت إدارة ماديسون – التي لم تغب عن ذهنها كارثة العام 1813 – في تأسيس مصرف مركزي. واعترض ماديسون على مشروع قانون تأسيس هذا المصرف في العام 1815 لأسباب تقنية ، ولكنه أقر مشروعات رفع إليه في العام 1816 بترخيص المصرف الثاني للولايات المتحدة لمدة عشرين عاما. وقد شهدت الجوانب السياسية المتصلة بتأسيس المصرف المركزي تقلبات كبيرة. ففي العام 1811 عارض هنري كلاي ، من كنتكي ، إعادة ترخيص الصمرف الأول.وبات الآن يدعم تأسيسه شخصيات من مثل جون سي كالهون ، من كارولينا الجنوبية. أما دانييل ويبستر ، من ماسا تشوستس ، الذي كان ذات يوم مؤيدا بحماسة للمصرف الثاني في الولايات المتحدة ، فقد انقلب إلى معارض له.
وكانت المناطق التي مثلها كالهون وكلاي تعاني نقصا حادا في النقد المتداول. والسبب في ذلك هو أن نيو إنجلاند – التي شهدت صناعتها نموا سريعا كما تجارتها الخارجية ، وذلك بفضل حصتها الكبيرة في الأسطول التجاري للبلد – كانت تحقق فائضا تجاريا كبيرا مقارنة بالولايات الأخرى ، مما أدى إلى استنزاف النقد من الغرب والجنوب وتحوله نحو الشمال الشرقي. وشعر كالهون بأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو تأسيس مصرف وطني. أما ويبستر ، الذي لم يرغب في إيجاد حل للمشكلة ، فقد سعري جاهدا للابقاء على الوضع الراهن.
صحيح أن المصرف الثاني للولايات المتحدة ، ومقره فيلادلفيا ، سيجلب – كما فعل المصرف الأول ، بعد بداية متعثرة – الاستقرار للنظام النقدي الأمريكي – لكن لن يتمكن من السيطرة على هذا النظام كما فعل المصرف الأول. فقد كانت البلاد تشهد نموا اقتصاديا سريعا ، وقد انتشرت مصارف الولايات على نظام واسع في فترة السنوات الخمس الفاصلة بين تأسيس المصرفين.
وقد طبقت بعض الولايات قوانين مصرفية ناجعة. إذ كان لدى ميسوري – التي انضمت إلى الاتحاد في العام 1821 ، وانديانا التي انضمت في العام 1816 – مصرف مركزي ، تملكه للولاية ، ويعمل عبر عدد من الفروع.
وقد حقق هذا النظام أداءا حسنا. أما لويزيانا (التي انضمت إلى الاتحاد في العام 1812) ، فقد أحكمت رقابتها على مصارفها التجارية واشتهرت بنظامها المصرفي الراسخ. ومن ناحية أخرى ، اشتهرت إلينوي أيضا (وقد انضمت إلى الاتحاد في العام 1818) بحوادث الاحتيال والفساد وفشل المصارف. وبغض النظر عن الولايات ذات الأنظمة المصرفية الفعالة ، فإن فشل المصارف صار ظاهرة شائعة في تلك الحقبة. فقد أعلن نصف المصارف التي أسست بين العامين 1810 و1820 فشلها بحلول العام 1825.
وظهرت إلى حيز الوجود مئات المصارف الأخرى ، وأصدر كثير منها أوراقا نقدية مصرفية (بنكنوت). وطبع كثير من الأشخاص ، من دون أن يكونوا أصحاب مصارف خاصة ، هذه الأوراق النقدية وسعوا إلى وضعها في التداول. وبدأت المطابع تنتشر "كاشفات الأوراق النقدية" التي أحصت إصدارات الأوراق النقدية قيد التداول في أنحاء شتى في البلاد وقيمتها. لقد قدر عدد إصدارات النقد الورقي المتداول – مع حلول منتصف القرن التاسع عشر – بالآلاف ، وهذا ما خلق تنافرا "نقديا" ترك أثرا سيئا ، كالأثر الذي خلفه ذلك الخليط العجيب من قطع النقد الأجنبي وشهادات المصانع وكمبيالات الدين في الأقاليم.
لم يكن لأحد ، ولا حتى توماس جيفرسون ، القدرة على صياعة صورة الحزب الديموقراطي وفلسفته الاقتصادية قبل فرانكلين روزفلت سوى اندرو جاكسون. إن الحزب الديموقراطي الحالي ملتف حول الشخصية السياسية الفذة لجاكسون. فقد اعتقد جاكسون وجيفرسون بضرورة دفع مركز النفوذ إلى مستوى أدنى في السلم الاجتماعي. إذ كان كلاهما يحمل كرها عميقا للامتيازات الموروثة وما أسماه جاكسون "قوة المال" ، وقصد المصارف خصوصا الكبية منها والضاربة جذورها والمتنفذة. لكن الرجلين كانا يتكشفان أيضا عن فروق عظيمة واختلافات جذرية ، فقد حقق جيفرسون فلسفته بالوسائل الفكرية ، فهو كان أولا وأخيرا رجل فكر. أما جيفرسون فكان رجل فعل وعمل. إن من الصعب تصور توماس جيفرسون وقد انخرط في مبارزة أو نزال. لكن جاسكون شهد ثلاثة نزالات على الأقل – وقتل نده في أحدها وتجنب كثيرا من النزالات الأخرى لمجرد أن أنداده أذعنوا له. ولم يرتد جيفرسون لباسا رسميا طوال حياته ، أما جاسكون فكان جنرالا مبرزا حقق لنفسه شهرة قومية لانتصاراته الكاسحة على البريطانيين في معركة أورلينز في العام 1815 ، (على الرغم من أن هذا الانتصار كان غير ذي شأن ، بعد توقيع معاهدة السلام آنذاك). والأهم من هذا هو أن جيفرسون كان سليل أسرة غنية وكان يباهي كثيرا بالمال والثروة. أما جاكسون فينحدر من أسرة فقيرة جدا. لكنه لم يشأ أن يموت فقيرا ، وبالفعل لم يمت فقيرا.
لقد مثل أندرو جاكسون ثورة في عالم السياسة الأمريكية ، وهذا ما حمل مؤرخ القرن التاسع عشر الشهير جورج بانكروفت على اعتباره آخر الآباء المؤسسين. وكتب بانكروفت: "كان آخر الأسماء العظيمة التي تحشد حولها غلالات يبنى علهيا مجد أمريكا". وكان جاكسون أول رئيس لم يأت من ماساتشوستس أو فرجينيا. وهكذا فقد دفع مركز الثقل السياسي في البلاد سريعا نحو الغرب.وكان أيضا أول رئيس لم ينحدر من أسرة تنتمي إلى الطبقة الكولينالية لاعليا. إذ أن مسقط راسه كان في منطقة التخوم في كارولينا الجنوبية ، حيث ولد في العام 1767 لأب اسكتلندي وأم أيرلندية هاجرا إلى أمريكا ، وعرف اليتم ولم يزل طفلات ، بعد أن توفيت أمه وشقيقاه بسبب الغزو البريطاني لكارولينا في زمن الثورة الأمريكية . ولذلك حمل جاكسون كرها لبريطانيا العظمى لازمه طوال حياته.
ولم ينل جاكسون قسطا كبيرا من التعليم الرسمي لكنه درس القانون في مكتب محاماة في ساليزبيري بكارولينا الشمالية ، وقبل عضوا في جمعية المحاماة في العام 1787. وانتقل بعد مدة وجيزة إلى ناشفيل في ولاية تينيسي التي لم تكن آنذاك سوى تجمع من الأكواخ الخشبية. وزاول جاكسون المحاماة وضارب في الأراضي ، وذاك هو أسرع – وأخطر – الطرق إلى الثروة. وفي الوقت الذي أضحت فيه تينيسي ولاية في العام 196 ، أصبح جاكسون رجلا ثريا بمعايير الزمان والمكان ، وانتخبوه أول عضو في الكونجرس عن تينيسي وصار عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي فترة قصيرة في السنة التالية.
وصف جيمس بارتون – وهو من أوائل من كتب السيرة الذاتية لجاكسون – ما أسماه "سر ثرائه". وكان ذلك أيضا سر أولى الثروات المكتسبة في مناطق التخوم. فكتب بارتون: "اشترى جاكسون إقطاعات واسعة من الأرض بثمن بخس (جرس حصان أو بقرة) ، واحتفظ بها حتى ارتفع ثمنها بعد تدفق المهاجرين إليها. وانخرط جاكسون – مثله مثل أكثر المضاربين في الأراضي – أحيانا في صفقات معقدة دخل فيها عنصر الدين. وباع في العام 1795 – رغبة منه في أن يؤسس لنفسه تجارة يزاولها – 68 ألف فدان من الأرض إلى دافيد أليسون ، وقبل منه كمبيالات نظير ثمنها. واستخدم الكمبيالات ضمانا لشراء البضائع اللازمة لتجارته. لكن أليسون انتهى إلى الإفلاس ، وعاد جاكسون صفر اليدين.
وستسغرق منه تسوية هذه المسألة نهائيا خمسة عشر عاما ، وقد خلف ذلك في نفسه خوفا من الدين وأساليبه لازمه طوال حياته. كان أندرون جاكسون يرى النقد الحقيقي يتجسد في المسكوكات – القطع الذهبية والفضية – أما النقد الورقي وماعرف آنذاك بالأوراق التجارية – الكمبيالات والسندات الأذنية والشيكات المصرفية وما شابهها – فكان في نظره ، كما كان يراه جون آدامز في الجيل السابق ، ضربا من الإحتيال.
لقد كان واضحا منذ البدء في إدارة جاكسون لن تكون كسابقاتها ، إذ أن إحتفالات التنصيب السابقة كانت تتم بأسلوب توجيه الدعوات ـ، بهرج المجتمع النبيل. أما حفل الإستقبال لدى تنصيب الرئيس جاكسون فحضره كل من أتيح له ولوج باب البيت الأبيض. ووصلت قيمة الأضرار الناتجة عما تحطم من زجاجد وخزف وأثاث إلى عدة آلاف من الدولارات. وكان حشد الحضور كبيرا مما عرض سلامة جاكسون إلى الخطر ، فهرب من إحدى النوافذ ، بينما حمل الخدم زجاجات الشراب خارجا إلى حديقة البيت الأبيض لحمل الحشود على الخروج.
وكان أول عمل يقدم عليه جاكسون لدعم النظام المالي بعد وصوله إلى البيت الأبيض بسيطا هو سداد الدين القومي. فلقد قلص الدين القومي – الذي بلغ أكثر من 80 مليون دولار في العام 192 – إلى 45 مليون دولار فقط في العام 1811 ، وأدت حرب العام 1812 إلى إرتفاع حاد في قيمة الدين ليتجاوز 125 مليون دولار في العام 1815 ، وحققت التعريفات الحكومية المرتفعة فوائض ضخمة بعد الحرب ، وفي الوقت الذي وصل فيه جاكسون إلى سدة الرئاسة بلغت قيمة الفوائض 48.565.000 دولار.
كان جاكسون بنشد غايتين من تخليص البلاد من عبئ الديون . الأولى – طبعا – اعتقاده الشخصي أن الدين أمر غير محبذ بذاته ولذاته . وقد أسماه "وبالا على الأمة" ، وذلك في حملته الرئاسية الأولى في العام 1824 ، لكنه رأى أيضا أن المؤسسات والأشخاص الذين أفادوا من ذلك الدين كانوا "وبالا على الأمة" أيضا. وروري عنه أنه قال: "أتعهد بسداد الدين القومي وأن أحول دون تنامي الطبقة الأرستقراطية الثرية حول إدارتنا وتوجيه تلك الإدارة لخدمة مصالحها وتقويض حرية بلدنا". وفي سبيل هذه الغاية ، رغب جاكسون كثيرا في التضحية بما أطلق عليه "التحسينات الداخلية" ، كالطرق التي كانت أثيرة على قلوب أبناء جلدته في المناطق الغربية ، إذ أكد أنه بعد سداد الدين القومي ستكون ثمة وفرة من الأموال تكفي لشاريع التطوير. وعندما توسل أحد أعضاء الكونجرس عن كنتاكي لجاكسون بعد اللجوء إلى نقض مشروع التحسينات ، وعده جاكسون بدراسة وافية للمسألة ، لكن عضو الكونجرس نقل إلى زملائه أن "لا شيء سوى صوت من السماء سيردع الرجل العجوز عن معارض المشروع ، وأنا أشك حتى في أن هذا سينفع".
ومع نهاية العام 1834 استطاع جاكسون أن يخطر الكونجرس في "خطاب حالة الاتحاد" أن البلد سيكون قد تخلص من ديونه في الأول من يناير 1835 ، وسيكون ثمة فائض بقيمة 440 ألف دولار. ورأى جاكسون في هذا أعظم إنجازاته ووافقه الرأس كثيرون في الولايات المتحدة. وكتبت صحيفة واشنطن جلوب – مذكرة بأن سداد الدين يتزامن مع الذكرى العشرين لمعركسة نيوأوريلينز – أن "نيوأوريلنز والدين القومي – في الأولى دفعنا بأرواح كثيرة إلى أعدائنا ، وفي الثانية دفعنا آخر سنت إلى أصدقائنا".
وأشار كبير القضاة روجر بي تيني إلى أنها "كانت المرة الأولى في تاريخ الأمم التي يسدد فيها دين عام بهذا الحجم دفعة واحدة". ولا تزال تلك الحادثة الأولى والأخيرة إلى يومنا هذا.
وعلى لارغم من أن دافع جاكسون الأساسي لسداد الدين كان مستمدا من فكرة بسيطة – وهي كذلك بالنسبة إلى الحكومات السيادية – مفاداها أن "على المرء ألا يقترض إلا إذا دعته الحاجة فقط". فقد كان منساقا أيضا بدافع آخر. ففي ذلك الحين كانت المصارف تستخدم السندات الفدرالية ضمانات على إصداراتها من الأوراق النقدية المصرفية (بنكنوت) ، وبسبب رغبة جاكسون في التخلص من النقد الورقي ، فقد سعي إلى ذلك عبر التخلص من الضمانات.
ولم يخش جاكسون سوى معقل "الأرستقراطية المثرية" ممثلا في المصرف الثاني للولايات المتحدة ورئيسة الأرستقراطي الفيلادلفي نيوكلاس بيدل.
كان بيدل على وجه النقيض تماما من جاكسون ، فقد ولد لأسرة مرموقة ، ونال قسطا وافرا من التعليم وأكثر من السفر والتجوال ، وكان يتمتع بالملاءة المالية. ولأنه تدرب على المحاماة ، فقد أنفق ثلاث سنوات في اوروبا عمل فياه سكرتيرا لجيمس مونرو حين كان الأخير وزيرا في حكومة بريطانيا العظمى. وبعد أن تزوج جين كريج – وريثة عائلة ثرية – تخلى عن عمله في المحاماة واصبح محرر مجلة أدبية اسمها بورتفوليو ، ولم ينقض وقت طويل حتى شيد منزلا فارها في الولايات المتحدة بأندوالوسيا على شاطئ نهر ديلور شمالي فيلادلفيا ، حيث لا تزال عائلة بيدل تقطن إلى اليوم.
وفي العام 1819 عين الرئيس مونرو بيدل في مجلس إدارة المصرف الثاني للولايات المتحدة. وأصبح بيدل رئيسا للمصرف في العام 1823 ، ذلك أن المصرف الثاني شهد بداية متعثرة مع أول رئيس له ، وليام جونز ، الذي ضارب على أسهم المصرف وانخرط في ممارسات مريبة. واستقال جونز بعد تحقيق أجراه الكونجرس وخلفه لانجدون شيفر الذي سعي إلى معالجة الفوضى التي خلفها جونز. لكن هذا – ولسوء الطالع – ساعد كثيرا على إطلاق موجة الهلع في العام 1819 وما أعقبها من تدهور قصير الأجل في حركة التجارة.
وعندما تبوأ بيدل منصب رئيس المصرف كانت حالة العداء تجاه المصرف قد زالت تقريبا. وذلك بفضل تعافي الاقتصاد والسياسات القويمة التي انتهجها المصرف. ولم يكن ذلك بمسألة ذات بال في الحملة الرئاسية للعام 1824 – عندما كسب جاكسون أغلبية أصوات الناخبية – مع أنه خسر انتخابات مجلس النواب أمام جون كوينزي آدامز ، عندما حقق جاكسون نصرا كاسحا على آدامز الذي لم يمتلك الشعبية اللازمة. وصوت بيدل لمصلحة جاكسون في حملتي الانتخابات تلك.
ولم يطل بجاكسون المقام في البيت الأبيض حتى أظهر مقته الشديد للمصارف – وعلى وجه الخصوص تلك الكبرى والمتنفذة منها – في أول خطاب له بوصفه رئيسا أمام الكونجرس. وقد أثار مسألة إعادة ترخيص المصرف الثاني للولايات المتحدة قبل سبع سنوات من انتهاء الرخصة. وفي العام 1832 ترشح جاكسون لفترة رئاسية ثانية ، وبدا أنه كان عازما على التخلص من ذلك المصرف.
وقاوم بيدل بكل ما أوتي من قوة ، لقد كان كثير من أعضاء الكونجرس يتمتع بعلاقات طيبة مع المصرف (وقد استفاد كثير منهم من قروضه الميسرة ، وهذا أيضا من مبررات المصلحة في تلك الأيام ، ولا ينم عن أي شكل من أشكال الفساد) ، وضغط عليهم بيدل لإقرار مشروع إعادة ترخيص المصرف خمس عشرة سنة أخرى قبل أن تعلق اجتماعات الكونجرس في عطلة صيف العام 1832 ، وأمل جاكسون في أني ضع ذلك ضمن قائمة المسائل التي سيطرحها في حملته الانتخابية. وفي خضم السياسة الصريحة اليت ميزت ذلك العصر عندما كانت الصحف تجاهز بانتمائها الحزبي وتتحيز في تغطيتها الصحافية انقلب النزاع على المصرف إلى مواجهة علنية.
وأخيرا أجاز الكونجرس مشروع إعادة الترخيص وبدأت الاستعداد لتعليق اجتماعاته. لكن عندما تبين أن جاكسون كان يعتزم استخدام فيتو الجيب لابطال المشروع ، أقنع هنري كلاي الكونجرس بمتابعة الانعقاد إلى أن يرغم جاكسون على توقيع المشروع أو استخدام حق النقض (الفيتو) وعرض أسبابه الموجبة لذلك. وكان جاكسون - وهو رجل اعتاد أن يولي دبره في أي مواجهة – سعيدا جدا بقبول التحدي. فأصدر بيانا لاذعا بمعارضة المشروع. وكان هذا البيان يحفل بروح الخطاب الانتخابي بقدر ما كان عملا صدارا عن رجل دولة محنك. وحاجج بأن المصرف كان يمثل احتكارا محابيا للأغنياء ومجحفغا بحق المواطن العادي. كما أنه على الرغم من أحكام المحكمة العليا التي قضت بخلاف ذلك ، فقد أعلن جاكسون عدم دستورية تلك الأحكام. ولم يستن للكونجرس إبطال النقض (الفيتو).
وبعد النصر الساحق الذي حققه جاكسون في نوفمبر من ذلك العام ، أصبح المصرف الثاني للولايات المتحدة – على الرغم من أن رخصته بقي على انتهائها أربعة أعوم – كميت يمشي على قدمين. ولم يكن جاكسون قانعا بأن ينتظر انتهاء رخصة المصرف فقط ، بل بدأ أيضا يسحب الايداعات الفدرالية منه وتحويلها إلى ما دأب مناوئوه على تسميته "المصارف المدللة". وع نضوب إيداعات المصرف تراجعت قدرته على إصدار النقد الورقي والرقابة على العدد المتزايد من المصارف المرخصة على مستوى الولايات. وعملت "المصارف المدللة" على الفور – وقد امتلأت خزائنها بالايداعات الفدرالية – على زيادة كمية النقد الورقي المطروحة في التداول. وتحولت الرقابة على عرض النقد في البلاد من مؤسسة واحدة ذات بعد وطني طويل الأجل إلى عدد من المؤسسات المحلية. وكانت كل مؤسسة من تلك المؤسسات معنية فقط بمصالحها الخاصة قصيرة الأجل.
وعلى الرغم من أن العام 1834 شهد تراجعا محدودا في الأداء الاقتصادي ، بعد أن استدعى المصرف الثاني للولايات المتحدة قروضه ، فإن مطلع الثلاثينيات من القرن التاسع عشر تميز بازدهار واسع النطاق بفضل الارتفاع السريع في أسعار القطن في مناطق الجنوب الذي أدى بدوره إلى تسارع حركة التصنيع في الشمال وتحسين شبكة النقل. وقد ساهم هذا كله في زيادة الانتاج المحلي الإجمالي بمعدلات سريعة وزاد عدد المصارف في البلاد من 329 في العام 1829 إلى 788 في العام 1837 ، لكن القيمة الاسمية للنقد الورقي المصرفي قيد التداول ارتفعت ثلاثة أضعاف ، كما زادت قيمة القروض الممنوحة أربعة أضعاف في تلك الفترة.
وكما هو شأن فترات الإزدهار ، تصاعدت حدة المضاربة بوقع سريع أيضا. كما ارتفع كثيرا التداول بالأسهم في بورصة وول ستريت إلى درجة أن اسم وول ستريت بات يطلق لأول مرة كناية عن المنظومة المالية الأمريكية.
ولم تكن المضاربة على أشدها كما كانت في المناطق الغربية ، حيث كانت الأرض – وليس الأوراق المالية – محط الاهتمام. فقد اشترى أولئك الذين لم تكن لديهم نية الاستقرار إقطاعات واسعة من الأرض من الحكومة الفدرالية ، وأدوا أثمانها نقودا ورقية اقترضت من المصارف المحلية – عبر مكتب الأراضي العامة التابع للحكومة – 2.5 ملوين دولار في العام 1832 ، ووصلت إلى ما يقارب 25 مليون دولار في العام 1836 ، ليصل في مطلع صيف ذلك العام إلى 5 ملايين دولار شهريا. هذا الاندفاع على شراء الأراضي من الحكومة الفدرالية هو أصل العبارة "إنجاز عمل مكتب الأراضي". وقد روع جاكسون ، الذي ربما لم يستوعب إطلاقا كيف أدت سياساته الخاصة إلى إرتفاع أبغض الأشياء إليه: المضاربة والنقد الورقي.
لكنه كان يعي تماما ما كان يجري ، فكتب لاحقا "إن ايصالات الأراضي العامة ما هي إلا قيود ائتمانية على المصرف". لقد أتاحت المصارف نقودها الورقية للمضاربين فدفعت إلى مستحقيها وعادت على الفور إلى المصارف لتقرضها مرة أخرى وأخرى، فلم تكن إلا أدوات وضعت بيد المضاربين أثمن الأراضي العامة. وبالفعل فقد وضعت كل موجة مضاربية الأساس للموجة التالية.
وكما هي ردة الفعل المألوفة عن جاكسون ، فقد صمم أن يفعل شيئا حيال ذلك ، وفي ربيع ذلك العام اقترح على مجلس الوزراء أني صدر تعليمات إلى مكتب الأراضي بألا يقبل إلا الذهب والفضة ثمنا للأراضي ، مع استثناء المستوطنين الحقيقيين الذين يحق لكل منه شراء 320 فدانا على الأكثر ، ويقبل النقد الورقي المصرفي في أداء الثمن حتى الخامس عشر من ديسمبر من ذلك العام. وعارض أكثر الوزراء – وكان كثير منهم ضالعا في المضاربة على الأراضي – هذه الخطة ، وكان واضحا أن الكونجرس – الذي أيضا كان كثير من أعضائه ضالعين في المضاربة بالدرجة نفساه – لن يدعم تلك الخطة.
لذلك انتظر جاكسون حتى علق الكونجسر اجتماعاته (للعطلة الصيفية) وأصدر في 11 يوليو أمرا تنفيذيا عرب ب"تعميم النقد المعندي" ، ومن نافلة القول تأكيد أن الغاية من ذلك إنما كانت وقف حركة المضاربة في الأراضي الغربية على الفور. لكن ذلك أدى أيضا إلى ارتفاع كبير في الطلب على النقد في المناطق الغربية ، مما استنزف المصارف الشرقية ذهبها وفضتها وفتح الباب أمام الاكتناز. ووجد كثير من المصارف في المناطق الغربية نفسه في ضائقة مالية – خصوصا "المصارف المدللة" – وذلك بفضل جزء آخر من برنامج جاكسون المالي.
وبسداد الدين القومي وتحقيق الحكومة فوائض مالية ضخمة (ارتفعت الايرادات الحكومية بنسبة 150 في المائة بين العام 1834 و1836 ، ومن أسباب ذلك الارتفاع الكبير في مبيعات الأراضي). وصارت مسألة تحديد الإجراء اللازم اتخاذه بشأن النقد ملحة جدا. وقد أقنع جاكسون الكونجرس بأن يعهد بذلك إلى حكومات الولايات المحلية بدءا من الأول من يناير 1837 ، وبدأت المصارف "المدللة". وقد واجهتها مشكلة استنزاف كثير من الايداعات الحكومية ، استدعاء قروضها.
ومع تخلف المقترضين الذين لم تتوافر لديهم السيولة اللازمة لسداد قروضهم ، عمت المناطق الغربية موجة من إفلاسات المصارف وبدأت تمتد إلى المناطق الشرقية. وبدار مصرف انجلترا ، للحيلولة دون خروج الذهب من لابلاد ، إلى رفع أسعار الفائدة وتراجعت الاستثمارات البريطانية في الأوراق المالية الأمريكية ع تراجع مشتريات بريطانيا من القطن. وترجاعت وول ستريت ، وفي الثاني من يناير 1837 أوردت صحيفة هيرالد نيويورك أن أسعار الفائدة التي كانت في السابق 7 في المائة قد أضحت الآن 2 في المائة أو حتى 3 في المائة شهريا.
وبدأ الاقتصاد الأمريكي ينحدر في مهاوي الكساد. وانخفض سعر القطن إلى النصف في مارس. وارتفع حجم التداول كثيرا في خضم موجة الهلع (وبلغ أحيانا مستوى غير مسبوق آنذاك: عشرة آلاف سهم في اليوم). وفي ابريل كتب فيليب هون – وهو عمدة نيويورك الأسبق – وقد اكتوى هو نفسه بنار الكساد ، في مذكراته أن "الثروات الفاحشة التي سمعنا عنها كثيرا في أيام المضاربة قد ذابت كالثلح تحت شمس ابريل. ولا يمكن للمرء أن ينأى بنفسه عن الكارثة إلا ان كان لا يملك المال أصلا ، إنه لسعيد ذلك الذي لم تثقل كاهله الديون أو كان حرا منها. وفي مطلع الخريف أغلقت 90 في المائة من مصانع البلاد ، وتراجعت الايرادات الفدرالية إلى النصف في العام 1837.
وفي مايو علقت مصارف نيويورك علميات السداد بالنقد المعدني (الذهب والفضة) وتبعتها في ذلك المصارف التي تقع في المدن الشرقية الرئيسة. وكانت مصارف فيلادلفها الكبرى هي الأكثر تضررا من جراء ذلك. وعجزت بنسلفانيا – وكانت ترزح تحت أعباء دين قدره 20 مليون دولار ، وتعاني تراجعا حادا في إيرادتها الضريبية – عن الوفاء بأقساط أصل القرض وفوائده ، وأعلنت أنها ستتخلف عن أداء التزاماتها. أما نيويورك – وكانت ديونها لا تتجاوز مليوني دولار – فكانت في وضع أفضل كثيرا. وهكذا لم تعد فيلادلفيا منافسا لوول ستريت.
واستقال أندرو جاكسون – وهو في أوج حياته السياسية – من منصب الرئاسة في الرابع من مارس. وسيخلفه مارت فان بيرن الذي سيعاني العواقب السياسية لسياسات جاكسون المالية. وعانت البلاد أيضا من أطول فترات الكساد الاقتصادي في تاريخ الأمة. ولم يصل الكساد نقطة الحضيض حتى فبراير 1843 بعد 72 شهرا من بدايته. كما عانت سمعة البلاد المالية أيضا. ففي السنة التي بدأ فيها الكساد في الانحسار آخر المطاف – 1843 – نشر تشارلز ديكنز روايته "ترنيمة عيد الميلاد" ، ووصف فيها ديكنز شعور الراحة الذي ساور ابنز سكروج عندما تأكد أن العالم لم ينته – وكان يخشى ذلك – بعد أن زاره طيف عيد الميلاد. وقد غمره شعور بالارتياح عندما علم أن كمبيالة تستحق له بعد ثلاثة أيام لم تكن عديمة القيمة بقدر ما كانت كذلك "ورقة مالية صادرة في الولايات المتحدة".
الفصل الثامن: نيوجيرسي يجب أن تحرر!
كان المحرك البخاري – الذي طوره جيمس واط وسجل براءة اختراعه في العام 1769 – شيئا غير مسبوق ، فهو أول مصدر للطاقة المنتجة منذ طواحين الهواء التي ظهرت في بلاد فارس في القرن السابع. لكن واط لم يخترح المحرك البخاري ، فقد سجل توما سنيوكومون براءة اختراع بأول محرك بخاري عملي في العام 1712 ، ومع ذلك فقد ساعدت التحسينات التي أدلها واط عليه على زيادة كفاءة استهلاك الوقود في محرك نيوكومن بأربعة أضعاف ، مما زاد كثيرا من استخدماته المتاحة. وعندما طور واط المحرك الباخري الدوار الذي ساعد على تحويل الحركة التبادلية للأسفل والأعلى في محرك نيو كومن إلى حركة دورانية قادرة على إدارة مقبض الحركة ، صارت الإمكانات الاقتصادية للمحرك البخاري مفتوحة على مصراعيها.
وقبل ظهور المحرك البخاري ، استخدمت حيوانات الجر والمياه الساقطة وطواحين الهواء في أداء العمل. واعترت هذه الوسائل أوجه قصور كبيرة. إذ كان لابد من إقامة طواحين الماء والهواء حيثما توافرت المياه والرياح وهذا يفسر لنا سبب اتخاذ المصانع في مطلع القرن الثامن عشر مواقعها في الأرياف ، وليس في المناطق الحضرية. كما أن قدرة البشر وحيوانات الجر محدودة ولا يمكن الجمع بينهم بصورة ناجعة إلا في حدود ضيفة. أما المحرك البخاري فيمكن تصميمه بحجوم كافية لإنتاج قدر كبير من الطاقة ، ويمكن أن يحول تلك الطاقة لإنجاز كل أنواع الأعمال تقريبا ، وبفضل المحرك البخاري صار أداء العديد من الأعمال – التي كانت تعتبر شاقة في الماضي ، ومكلفة بطبيعة الحالة – سهلا وأقل تكلفة. كمان أن الأعمال التي كانت عصبية على الأداء صارت ممكنة الآن. كان المحرك البخاري تقنية جديدة غيرت وجه العالم تماما كالمطبعة في القرن الخامس عشر.
وبفضل صناعة الحديد المتطورة في انجلترا ، ولما كانت احتياطياتها من الفحم الحجري توفر لها مصدرا للوقود الرخيص ، فقد شاع استخدام المحرك البخاري سريعا في قطاعات الاقتصاد البريطاني المختلفة. أما في الولايات المتحدة ، ولما كانت صناعتها متركزة أساسا في نيوإنجلاند ، حيث كانت قوة الماء متوافرة بكثرة ، فلم يستخدم البخار لأغراض الصناعة إلا بوقع بطئ. وفي العام 1832 أظهر إحصاء شمل 249 مصنعا شرقي الأبالاشيان أن أربعة منها فقط كانت تستخدم طاقة البخار.
على الرغم من ذلك فقد انكب الناس منذ لحظة تسجيل جيمس واط براءة اختراع المحرك البخاري الدوار على محاولة توظيفه في تحريك القوارب في الماء. وكانت فوائد المحرك البخاري جلية لا تخفي على أحد. فالمراكب الصغيرة يمكن تحريكها بالمجاديف – بمختلف أشكالها – التي تحركها قوة الإسنان ، أما المراكب الكبيرة فلم يمكن تحريكها إلا بقوة الرياح التي تهب على الأشرعة فتدفعها.
وهكذا كان "وقود" السفن الشراعية لا يتطلب أي تكاليف مادامت تلك السفن – في النهاية – تعمل بقوة الرياح ، لكن السفينة الشراعية لا تمضي إلا حيثما – تحملها قوة الرياح. ولم تكن السفن التجارية المنتفخة ، التي عرفها القرن الثامن عشر ، قادرة إلا بصعوبة ، على أن تشق طريقها عكس الرياح القادمة من مقدمتها ، وكانت أحيانا تقطع مئات الأميال – وأحيانا ألوف الأميال – خارج خط ميرها إلى أن تجد رياحا مواتية. كانت الرياح الغربية التي تنشأ في شمال الأطلسي السبب الرئيسي الذي جعل الطريق البحرية من أمريكا إلى اوروبا أشق وأصعب من طريق العودة (من اوروبا إلى أمريكا).
المشكلة الأساسية في توظيف البخار في الملاحة كانت تتمثل في الطريقة التي يمكن بها نقل الطاقة التي يولدها المحرك البخاري إلى الماء وبالتالي تحريك المركب. وجربت كل الطرائق الممكنة . وجرب جيمس رمزي نظاما لشفط الماء من جهة مقدمة السفينة وطرحه عند مؤخرتها ، لكن هذا النظام المعقد جعله بعيدا عن امكانية التطبيق العملي. وبذلت محاولة أخرى لمحاكات قدم البط لكنها باءت بالفشل أيضا.
وجرب نظام آخر كان يتمثل في سلسلة من المجاذيف مبروطة أفقيا بمعارض خشبية. وكان مركز العارضة يحرك في مسار دائري غامرا المجاذيف في الماء تارة ورافعها من المارة تارة أخرى وآخذها إلى الأمام ليبدأ حركة التجذيف (الخطفة) التالية. كان جون فيتش – المولود في ويندسور بكونيكتيكت – يقطن بوكز كاونتي شمال فيلادلفيا عندما انكب على دراسة المشكلة. فبنى مركبا يعمل بهذه الآلية ووضعه في العمل في نهر ديلوير في العام 1787 ، ونجحت الفكرة ، لكن فيتش – كغيره من المبتكرين الرواد – لم يلف بالا إلى الدافع التجاري وكسب المال ، ومع أنه وضع مركبه قيد التشغيل لبعض الوقت وبصورة منتظمة فإنه لم يحقق أرباحا منه فطواه النسيان سريعا.
أما الوسيلة التي اقترنت بأكثر بشائر النجاح فكانت عجلة المجذاف. وقد جاءت فكرتها من طاحونة المياه (الناعورة) ، حيث كان الماء يدفع الدولاب ليحرك الآلة. أما دولاب المجذاف فعكس الآية: كانت الآلة تحرك الدولاب ليدفع الماء ويحرك القارب. لكن ثمة مشكلة كبيرة كانت لا تزال قائمة. فقد كانت عجلات التجذيف في أول عهدها توضع في مكان خفيض من القارب بحيث يغمر نصفها السفلي بالماء. لكن معظم الطاقة التي كانت تنتقل من المحرك إلى الماء كانت تضيع هدرا لأن المجاذيف كانت تشق الماء في وضعية مائلة على الأفق فتدفع الماء إلى الأسفل بدلا من دفعه إلى الخلف. وعلى العكس من ذلك كان الوضع عند نهاية نوبة التجذيف عندما يدفع المجذاف الماء نحو الأعلى. وبالتالي فإن العمل الفعلي كان يتم فقط في الجزء الأسفل من نوبة التجذيف (الخطفة).
من حل هذه المشكلة كان رجلا اسكتلنديا يدعى ويليام سيمنجتون ، وذلك برفع العجلة إلى الأعلى ، حيث لا يدخل في الماء إلا أطراف المجاذيف ، وعند مستوى يجعلها تستطيع دفع الماء على نحو يكفي لتحريك القارب بكفاءة. وفي يناير 1803 قطرت سفينة تشارلوت دونداس مركبا زنته مائة طن من ستوكيننجفيلد إلى بورت دونداس على قنال فورث وكلايد بسرعة ثلاثة أميال في الساعة.
وقد سارت سفينة سيجمنتون بسرعة لا بأس بها ، ولكن ليس في القنال إذ لم تكن أحسن حالا – من حيث التكلفة – من الأحصنة التي تقطر البارجات ، وفقد سيجمنتون حماسه للفكرة تقريبا ، لكن أمريكيا يدعى روبرت فلتون كان لديه الحماس الكافي. ولد فلتون في بنسلفانيا وأبدى منذ نعومة أظافره ميلا كبيرا إلى الميكانيكا (علم الحركة) ، وأصبح ذا خبرة ومهارة في صناعة الأسلحة النارية ، مع أنه لم يمتهن الصنعة على يد معلم ، وكانت تلك الطريقة الشائعة في تعلم هذه المهارات في القرن الثامن عشر ، وعندما بلغ الرابعة عشرة صنع مركبا صغيرا بدولاب تجذيف يدوي. وقد انتقل فورا – وهو الذي امتهن على يد جواهري فيلادلفي – إلى رسم اللوحات الصغيرة وحلي الشعر. وقصد إلى انجلترا في العام 1786 للدراسة على يد الرسام الأمريكي الكبير بنجامين ويست ، لكنه هجر الفنون واتجه إلى الهندسة في مطلع تسعينيات القرن الثامن عشر. وفي العام 1797 انتقل إلى فرنسا.
لم يكن فلتون مبتكرا أصيلا ، وإنما كان يقتبس أفكار الآخرين ويطورها ويجمعها في توليفة جديدة أكثر نفعا. وقد طور الغواصة ديفيد بوشنيل التي صممها في العام 1776 لمحاربة الأسطول البريطاني في مرفأ نيويورك ، وحاول بيعها – وما أفلح في ذلك – إلى الفرنسيين. (وقد أطلع البريطانيين على تفاصيل مفاوضاتها مع الفرنسيين في هذه الأثناء – أملا في تحقيق مكاسب مزدوجة).
كان فلتون موهوبا – وأيضا رجل أعمال كثير الشكوك والوساوس – وكان بارعا بمصادقة المتنفذين وأصحاب السلطة . وكان أكثر أصدقائه تنفذا روبرت ليفنجستون الذي عينه توماس جيفرسون سفيرا للولايات المتحدة في فرنسا ، وكان ينتمي إلى عائلة ليفنجستون النيويوركية الشهيرة التي أدت دورا كبيرا في سياسات الدولة.
وكان لليفنجستون أملاك واسعة في كليرمونت التي تبعد 110 أميال أعالي نهر هدسون عن مدينة نيويورك – لذلك سعي إلى تسريع حركة النقل بينهما . وحاول – كسمكري هاو – تطوير مركب بخاير بجهوده الخاصة ، لكن من دون طائل. ومع ذلك فقد تيسر له أن يقنع ولاية نيويورك بمنحه احتكارا للملاحة بالمراكب البخارية في مياه نيويورك شريطة أن يصنع في عام واحد قاربا له القدرة على قطع أربعة أميال في الساعة. ولم يتسن له الانتهاء في الموعد المضروب ، لكن المجلس التشريعي مدد آخر موعد إلى العام 1803 حيث أجاز مذكرة القانون وسط نوبة من الضحك ، إذ اعتقد أكثر الأعضاء أن الشروط الموضوعة تتجاوز مقدرته.
وعندما التقى فلتون في باريس ، قرر ليفنجستون المساعدة على تمويل تجارب فلتون على المركب البخاري ، ووقع الاثنان عقدا لبناء مركب بخاري يشغل في نهر هدسون في الولايات المتحدة . وقضت الاتفاقية بأن يضطلع فلتون بأعمال التصميم وأن يقدم ليفنجستون المال اللازم والوضع الاحتكاري الذي يضمن ربحية المشروع. وتحول فلتون باهتمامه إلى آلية تعمل بالسلسلة وهي تشبه قليلا جنزير الدبابة. وهي مزودة بمجاذيف لنقل الطاقة من المحرك إلى الماء. وحاول ليفنجستون جاهدا استخدام دولاب التجذيف لكن فلتون عارض الفكرة ، وأذعن ليفنجستون في نهاية المطاف. ويذر سيمنجستون أن فلتون زاره في اسكتلندا وصعد مركب تشارلوت دونداس وأبدى إعجابة الكبير به.
لقد أكد فلتون دائما أن مركبه البخاري كان من تصميمه بالكامل. لكن فلتون كان معروفات بمواربته للحقيقة وكذبه الصريح في كثير من المسائل الأخرى ، وبالتالي فمن المرجح أن يكون اقتبس أفكارا مهمة في مخططات سيمنجتون من دون الإشارة إليها ، وبخاصة رفع محور دولاب التجذيف إلى مستوى أعلى . وقد تخلي بالتأكيد عن فكرة التحريك بالسلسلة بعد أن عاد إلى فرنسا.
ولدى عودته إلى الولايات المتحدة بعد نحو عشرين عاما متصلة في العام 1806 ، استقر فلتون في نيويورك ، وشرع في صناعة مركب بخاري لتشغيله في نهر هدسون . كان طول المركب بعد اكتماله 146 قدما وعرضه 12 قدما ، بقعر عريض وحواف مستوية. وصنعت آلية دولاب التجذيف – وهي من الحديد المطاوع – والمرجل النحاسي محليا ، أما المحرك البخاري بقوة أربعة وعشرين حصانا فقد أنتجته شركة جيمس في انجلترا.
وفي صباح الأول من اغسطس 1807 أقلع مركب نورث ريفر – كما أطلق عليه فلتون ، على نحو تعوزه البراعة اللغوية (ذلك أنه بعد وفاة فلتون صار يعرف باسم كليرمونت) – من رصيف شارع كريستوفر . واحتشد جمع غفير لمشاهدة انطلاق المركب ، وكان كثير منهم يعتقدون – ولم يكونوا مجانين الصواب – أن المركب الذي شبهه أحدهم بمنشرة قائمة على طوف تشتغل بالنيران سيغرق أن ينفجر.
لكن شيئا من ذلك لم يقع ، فقد شق المركب طريقه بثبات نحو الشمال ، متخطيا السفن الشراعية في طريقه ، ليبلغ أراضي ليفنجستون في كليرمونت صبيحة اليوم التالي. وظهر ليفنسجتون على متن المركب ، واستأنف الشريكان رحلتها إلى ألباني فلبغاها في صباح اليوم التالي. لقد استغرق المركب 32.5 ساعة لقطع مسافة مائة وخمسين ميلا بين نيويورك وألباني ، أي بسرعة أربعة أميال ونصف في الساعة وسطيا. وصار الاحتكار المشروط للملاحة بالمركب البخاري في مياه نيويورك – الذي صدر في العام 1803 – حقا الآن لليفنجستون وفلتون.
وأعلن فلتون للمسافرين تنظيم رحلة إياب ، لكن مسافرين اثنين فقط كان مستعدين لدفع سبعة دولارات ثمنا للرحلة ، أي ما يتجاوز ضعفي ثمن السفر بالمركب العادي إلى نيويورك. ومع ذلك فقد كانت شواطئ هدسون – في رحلة الإياب – محتشدة بالناس ، وخصوصا الصبيان في ويست بوينت مهللين لقدوم المركب. وعلى الفور اعتمدت خدمة النقل المنتظم بين مدينة نيويورك والمناطق الشمالية. وفي العام 1812 أصبح لد ى فلتون وليفنجستون ستة مراكب بخارية تمخر عباب المياه الداخلية.
لقد كان ليفنجستون – الذي فاوض على شراء لوزيانا من نابليون – مدركا تماما الفرصة الكامنة في تشغيل المراكب البخارية في نهر المسيسيبي وروافده ، فلقد وفرت هذه الأنهار ما لا يقل عن ستة عر ألف ميل من المياه الصالحة للملاحة وشغلت مساحة تتجاوز مليون ميل مربع من نيويورك ومونتانا. وكان أكثر تلك المساحات من أخصل الأراضي الزراعية في العالم ، مما جعل إمكاناتها الاقتصادية غير محدودة تقريبا. كما كان الكثير منها غنيا بالمعادن أيضا.
لكن استخدام البخار سبقته مشكلة : إن هذه المجاري المائية الطموية كانت إذا جاز القول ، وحيدة الإتجاه. فلقد كانت الجرادل (مراكب مسطحة) – وهي ليست إلا أطوافا كبيرة تربطا معا – قادرة على حمل ما بين ثلاثين وأربعين طنا من الشحنات دفعة واحدة ، ليجرفها التيار أسفل النهر باتجاه نيوأرلينز . وقد سلك هذه الرحلة ابراهام لنكولن في شبابه مرتين. وكانت الشحنة تباع – لدى وصولها نيوأورلينز – أما الجرادل تفك ويباع خشبها.
أما السبيل الوحدية للملاحة عكس التيار (إلى أعالي النهر) فكانت مراكب الكلب (مسطحة القعر) التي كانت تستقر على ضفة النهر بعد انحسار التيار وكانت تجر إلى أعلى النهر بجهد الإنسان . كانت الرحلة بالجردل من وادي اوهايو إلى نيوأرليانز تستغرق شهرا واحدا من دون إنفاق جهاد برش يذكر. أما رحلة العودة بمركب الكلبت فكانت تستغرق ثلاثة أشهر من الجهد المتواصل. ومعظم تلك المراكب لم يحاول إنجاز تلك الرحلة ، فكانت تمضي إلى مواطنها بدلا من ذلك. وكانت طريق نهر ناتشيز تريس ، التي تصل بين روافد المسيسيبي في نانتشيز وناشفيل في تينيسي على كمبرلاند ، من الطرق الرئيسية حتى ظهور البخار.
وفي العام 1811 أرسل ليسفنجستون وفلتون بناء السفن (السفان) نيكولاس روزفلت إلى بتسبره لبناء مركب بخاري هناك ، وضع تصميمه فلتون. وقد حاول ليفنجستون في هذه الأثناء الحصول على ميزة احتكارية مماثلة لتلك التي منحت له في نيويورك ، وقد رفضت أكثر الولايات والمناطق ربيب منظومة المنطقة الشمالية هذا بشكل قاطع. حيث هاجمت صحيفة "سينسيناتي ويسترن سباي" هذه الفكرة من اساسها فكتبت: "يجب أن تظل – وسوف تظل – الطريق إلى الأسواق خالية من العوائق . إن هذه النزعة الاحتكارية الفردية ستحرض مواطني المناطق الغربية على التأكيد على حق العبور ذهابا وإيابا من دون مضايقات على الطرق الرئيسية العامة في المناطق الغربية".
وعلى الرغم من أنه لم يفلح في الحصول على الاحتكار في مناطق أخرى ، فإنه أصاب نجاحا حيث كان للنجاح أهميته ، وذلك في أراضي نيوأورلينز. إذ منحه الحاكم الاقليمي هناك – الذي كان من دون أي وجه مصادفة شقيق إدوارد عمدة نيويورك الأسبق وعضو الكونجرس – حقا احتكاريا في مياه لويزيانا. وحيث إن نيوأورليانز كانت النقطة الفاصلة بين النهر وحركة العبور القادمة من المحيط ، فقد كان ذلك احتكارا لنهر المسيسيبي برمته.
ومع ذلك فقد قوبل هذا الاحتكار بالتجاهل ، أو لنكن أكثر دقة بالتحدي ، فقد رفع أحد أصحاب القوارب ويدعى هنري شرف القضية إلى المحكمة الفدرالية ونجح في آخر المطاف في استصدار حكم ينكر على حاكم الاقليم أي صلاحيات بمنح مثل هذا الاحتكار. لكن ليفنجستون وفلتون كانا قد رحلا عن هذه الحياة. ولم يقدم أي استئناف على الدعوىز وبالتالي شهد عدد من المراكب البخارية في نظام الملاحة عبر المسيسيبي ارتفاعا كبيرا.
وبفضل هنري شريف – في المقام الأول – الذي كان ذا موهبة في فن تصميم هياكل السفن والمراكب من جملة مواهبه الأخرى ، فقد انتقلت تلك المراكب سريعا إلى أشكال جديدة منها المراكب متعددة الدكات الأكثر عرضا والأقل تقعرا والقادرة على أن تطفو على "طبقة كثيفة من الندى". كان هذه المراكب ملائمة تماما للأنهار التي تتخللها مرتفعات رملية ومنبسطات طموية. ومع انتشار هذه المراكب الأنيقة المتبذلة في أنهار المناطق الداخلية ، فقد تغلغلت سريعا في ذاكرة الشعب ، وأصبحت رمزا باقيا لأمريكا القرن التاسع عشر ، بفضل أشخاص مثل كوريير وايفز ومارك توين وجيروم كيرون وأوسكا هامرشتاين الثاني.
وانكب هنري شريف على حل معضلة أخرى اقترنت بالملاحة في نهر المسيسيبي وروافده ، ألا وهي جذوع الأشجار وأغصانها. فقد طغت مياه النهر على الضفاف جارفة أشجارا ضخمة في النهر لتحملها إلى المصب. وكانت الجذوع الطافية السائمة تسمى "المناشرط لشبهها بشفرات المنشار الدوار ، حيث كانت تنتقل منسابة مع التيار. أما ما هو أخطر من ذلك فكان "المنزرعة" وهي الأشجار التي استقرت في قاع النهر . ولأنها لم تكن ترى بالعين ، فقد كانت تشق قعر المراكب البخارية وتغرفها في ثوان. كان ذلك يحدث فجأة صدعا في المركب فيتدفق الماء الراشح إلى المركب وتقرع الأجراس وتنطلق صرخات الرعب ، ويخلف التيار مأساة أخرى.
وفي العشرينيات من القرن التاسع عشر ، أشارت التقديرات إلى أنه في نهر المسيسيبي وروافده تراكم خمسون ألف جذع على الأقل منذ عصر الجليد ، وكان أكثر الناس لا يرون أن ثمة حلا لذلك. لكن هنري شريف لم يكن من هذا الرأي. فقد صنع هيكلين لمركب بخاري طول الواحد منهما 125 قدما ويستمدان الطاقة الحركية من مجذاف على أحد طرفي المركب. وقد ربط هذه الهيكلين مع بعارض المركب التي ثبت عليها وتد خشبي ضخم مغلف بغمد من المحديد لالتقاط الجذوع والأغصان ، ونظام بكرات ورافعة لسحبها من قاع النهر.
وفي 19 اغسطس 1829 انطلق مركب إزالة الجذوع الذي ابتكره شريف – وقد أسماه هليوبوليس – لمباشرة العمل في بلوم بوينت بتينيسي ، أكثر المواقع ابتلاء بالجذوع النهرية على امتداد النهر. كان شريف يوجهها إلى شجرة أصلها قاع النهر وأغصانها بارزة من مياهه. ثم يدير الرافعة. وكان المدك يفلق الجذع إلى شقين ، ثم يسحب الطاقم الشجرة لأعلى بنظام البكرات والحبال ، لتنشر إلى أجزاء صغيرة لا خطر منها. وفي ذلك المساء نظفت القنال الواقعة في بلوم بوينت. وفي العالم التالي نشرت إحدى الصحف تقريرا أفاد بأن "القبطان شريف نجح في إزالة الأخطار الكامنة على امتداد 300 ميل من مجرى النهر ، وبات النهر آمنا كبركة الطاحونة".
أما أعظم ما صنعه شريف لإزالة الجذوع من مياه النهر فكان شق طريق عبر الطرف العظيم ، وهو كتلة من الأخشاب الطافية المتشابكة بطول 150 ميلا على النهر الأحمر. وبذلك فقد انفتحت المناطق الشمالية الغربية في لوزيانا أمام حركة التجارة وباتت اليوم أكبر مدن تلك المنطقة من الولاية تحمل اسم شريفبورت (ميناء شريف).
كان محرك واط البخاري – كما أثبت فلتون – كافيا لتوفير الطاقة اللازمة للمراكب. لكنه في المقابل كان كبير الحكم ولم يولد ضغطه المتدني وحركته البطئية – نحو إثتنتي عشرة دورة في الدقيقة فقط – إلا قدرا قليلا من الطاقة لوحدة الوزن. لذا كان ثمة ضرورة إلى تعديل جذري في تصميم المحرك البخاري إذا ما أريد تسويق المركب البخاري كفكرة تجارية رابحة. هذا المركب طوره أوليفر إيفانز في الولايات المتحدة وريتشارد تروفيثيك من بريطانيا ، كلا على حدة.
كان البخار في محرك واط يدفع المكبس إلى أسفل الإسطوانة ثم يسحب ويكاثف لينشأ عن ذلك فراغ يضغط المكبس إلى الأعلى. أما في محركي تريفيثيك وإيفانز ، لم يكن البخار يدفع المكبس إلى الأسفل فقط ، بل يدفعه في الإتجاه المعاكس إلى الأعلى أيضا ، مما ألغى الحاجة إلى المكثفة. (ولأن البخار كان يطرد ما يعادل ضعفي حجم الأسطوانة بدلا من ضغطها ، فقد باتت تلك المحركات تعرف باسم المحركات النفاثة ، وذلك للدوي الحاد الذي يصدر عنها).
ولقد ساعد هذا على زيادة عدد الدورات في الدقيقة وتوليد مستوى أكبر من الطاقة لوحدة الوزن. وقد صنع إيفانز – وهو صاحب أول محرك بخاري من طراز واط يصنع في الولايات المتحدة العام 1800 – محركا جديدا وفق محططه الجديد في العام 1803 ، كان لهذا المحرك اسطوانة قطرها ست بوصات فقط وطولها ثماني عشرة بوصة. وقد ولد المحرك طاقة قدرت بنحو خمسة أحصنة. وكان لكل من المحركات المماثلة لمحرك واط – والتي صنعت في انجلترا ، ووضعت قيد الاستخدام قبل فترة قصيرة في الساحة المركزية في فيلادلفيا كجزء من الشبكة المائية للمدينة – اسطوانات بقطر 32 بوصة وطول ست أقدام ، لكنها لم تنتج إلا ما يقرب من 12 حصانا.
ولم يصنع أوليفر إيفانز مركبا بخاريا ، ولكنه صنع أول سيارة تعمل بالبخار في الولايات المتحدة ، وربما إذا جاز القول في العالم. وبعد تكليفه إنشاء كراءة في مياء فيلادلفيا ، فقد صنع مركبة طولها ثلاثين قديما وعرضها اثنتي عشرة قدما ، وبلغ وزنها سبعة عشر طنا. وزود المركبة بمحرك جديد أصغر حجما وأقل وزنا وأكثر كفاءة أيضا من النموذج الأول ، وذلك في ورشته التي كانت تقع على بعد ميل تقريبا عبر شارع ماركت ستريت من نهر شويكل . ومن ثم وضع تلك المركبة على عجلات وربط المحرك بأحد المحاور بأداة تدوير متصلة بسلسلة. وبعد أن أطلق على هذه البعدة الغريبة اسم أوركتر أمفيبولس ، انطلق عبر شارع ماركت ستريت باتجاه النهر متأنقا مختالا.
وعندما بلغ إيفانز الساحة المركزية دار حول محطات المياه مرات عدة ، ودار حقيقة ومجازا في حلقات حول نموذج لمحرك واط ذي الضغط المنخفض قبل أن يكمل طريفه باتجاه نهر شويكل حيث أزال العجلات وخرجت أروكتر أمفيبولس من صفحات لاتاريخ لتباشر عملها ككراءة.
وعلى الرغم من أنه ساعد على إطلاق شرارة الثورة لاصناعية وكان أكثر الابتكارات التقنية أهمية منذ ظهور المطبعة قبل ثلاثمائة عام خلت ، أصبح محرك واط بعد ثلاثة عقود فقط عتيق الطراز ، لقد أطلق وقع التغيير تسارعا جامحا في حركة الابتكار لايزال مستمرا إلى يومنا هذا.
والتفت إيفانز إلى تصنيع المراكب البخارية في مصنعه "ورشة مارس للحدادة" في فيلادلفا . ومن ثم افتحح فرعا – بإدارة ابنه – في بتسبره لتوريد المحركات البخارية ، لأسطول المراكب البخارية المتزايد عددا في وادي المسيسيبي؟
لقد غيرت قنال إري – والمراكب البخارية – جذريا من عامل الجذب الاقتصادي في حوض نهر المسيسبي الأعلى. إذ كانت أكثر محاصيل تلك المنطقة المتزايدة باطراد تنقل بحكم الظروف عبر المسيسبي إلى نبوأرلينز ، أما الآن فقد بدأ يتوجه شرقا. وفي العام 1830 كانت التجارة في اوهايو قد تحولت بمعظمها نحو الشرق. وتبعتها سريعا أنديانا (1835) ومشيجان (1836) والينوي (1838) وويسكنسن (1841). حتى أن سينسيناي الواقعة على نهر اوهايو ، صارت معظم تجاتها تجري مع المدن الشرقية بحلول العام 1860.
كما أن هذا التغير في التوجه الاقتصادي – الذي ساعد كثيرا على نمو مدن مثل نيويورك وفيلادلفيا وبالتيمور – قد عمق الروابط بين المنطقة الغربية الوسطى العليا – وأكثر سكانها من المهاجرين من نيوإنجلاند وشمال ولاية نيويورك – ومنطقة الشمال الشرقي ، كما أثبت هذا التغير الالتزام بمصالح الاتحاد في أثناء الحرب الأهلية.
لكن نيوإورلينز – بحكم موقعها عند قاعدة هذه الشبكة التجارية الواسعة – واصلت ازدهارها فتفوقت على كل الموانئ الجنوبية. إذ لم يزد حجم صادرات نيوأورلينز في العام 1810 على 15 ألف طن فقط. لكنه وصل في العام 1860 إلى 4.690 مليون طن بزيادة قدرها اثنان وسبعون ضعفا في غضون خمسين عاما فقط.
لقد دام احتكار عمل المراكب البخارية في مياه نيويورك طويلا حتى بعد تعليق العمل به في نيوأورلينز ، وخلف نتائج أكثر عمقا.
وقد صعدت كل من نيوجيرسي وكنيكتيكت موقفها – بقدر ما أمكن لها – من نيويورك ، وذلك بحظر مرور المراكب النيويوركية في مياهها ردا على الحظر الذي طبقته نيويورك على مراكبها. ولم يكن الاحتاكر ، بالطبع ، مستساغا اطلاقا لأي جهة باستثناء المنتفعين المباشرين منه ، وخصوصا أبناء نيويورك الذين كان عليهم لهذا السبب أن يتكبدوا أسعار أكثر ارتفاعا. وقرر رجل من نيويجرسي واسمه توماس جيبونز أن يقاتل في المحكمة وفي السوق. كان يملك مركبا بخاريا أطلق عليه اسم ستودنجر ، ولصغر حجمه كان يعرف باسم الفأر أيضا ، فشغله ما بين نيويورك ونيويرنسويك وهوواحدة من أقصر طريقين إلى فيلادلفيا ، واستأجر للمركب قبطانا شابا من ستاتين آيلاند يدعى كورنيليسو فاندربيلت.
كان لدى فاندربيلت – وهو لم يزل في العشرينيات من العمر – أسطول صغير من السفن الشراعية ، لكنه أدرك آنذاك أن المستقبل سيكون للمراكب البخارية ، فتحول إلى العمل لحساب جيبونز كي يكسب الخبرة اللازمة وينمي رأسماله. وأقنه جيوبنز على الفنور ببنا مركب أكبر وضعه تصميمه فاندربيلت بنفسه ، وأطلق عليه جيبونز اسم "بيلونا" ، تيمنا باسم آلهة الحرب عند الرومان. ومان مضمون الاسم غير خاف على أحد ، وبخاصة في ذلك العصر المغرق بروح الكلاسيكية.
وأبحر فاندربيلت – تحت راية رفعها على المركب حملت الكلمات التالية "نيوجيرسي يجب أن تحرر!" – إلى نيويورك من دون تردد ليرسوا في موضع لا تحرسه سلطات ولاية نيويورك ، وليذوب على الفور في قلب المدينة. ولم تجرؤ السلطان على احتجاز المركب نفسه وهي تعلم أن نيوجيرسي ستصعد موقفها باحتجاز أول مركب بخاري احتكاري تضع يدها عليه. وعندما أزف موعد العودة انسل فاندربيلت خلسة إلى أقرب نقطة من المركب وهرع مسرعا إليه وما إن بلغعه حتى شرع الطاقم برفع المرساة.
وحاولت السلطات اعتقال فاندربيلت بأن صعدت المركب في منصف مرفأ نيويورك ، ولم تجد عند دفة القيادة إلا واحدة من الركاب – تغلب عليها سيما ، البراءة بشرائطها الزينية وقبعتها البونية بينما اختبأ فاندربيلت في حجرة سرية كان قد أقامها تحت دكة المركب تحسبا لأي طارئ. وأطلق الركاب صيحات الاستهجان والسخرية من الشرطة على سوء طالعها.
وقد حاولت الشركة الاحتكارية استقطاب فندرربيلت بأن عرضت عليه مرتبا ضخما قدره 5000 دولار في العام ، لكنه رفض على نحو قاطع قائلا: "يجب أن أفي بالتزامي للسيد جيبونز حتى يتجاوز الصعاب التي تواجهه ، وفي كل مراحل حياته المهنية الحافلة ، من صبي في مزرعة إلى أغنى رجل في أمريكا ، كان فاندربيلت دائما أهلا للثقة والوفاء بعهوده والتزاماته في كل معاملاته منذ اللحظة الأولى.
ومع أن الاحتكار لم ينجح كثيرا في الحد من المنافسة الفعلية ، لكنه ظل – ولا عجب في ذلك – يبز جيبونز في محاكم ولاية نيويورك. وبعد خمس سنوات انتهت القضية في آخر المطاف في المحكمة العليا في الولايات المتحدة ، وعين جيبونز اثنين من المحامين في البلاد لتمثيله أمام المحكمة – دانييل وبيستر ، وكان عضوا في الكونجرس آنذاك عن ولاية ماساتشوستس وويليام بيرت ، المعدعي العام للولايات المتحدة ، الذي كان يمثله هنا بصفة شخصية لا كمدعي عام.
وتحدث ويليام بيرت – وغيره من محامي ليفنجستون: توماس جي أوكلي وتوماس أديس ايميت – باطناب وبلاغة كما ذكر كل من كان حاضرا ، وكان الكل يترقب قرار المحكمة ، ليس في نيويورك وحدها ، بل في الولايات الأخرى كلها. وأوردت صحيفة نيويورك في 14 فبراير 1824 أن "ثمة قلقا عظيما في هذه المدينة بانتظار الحكم بقضية المركب البخاري التي كانت مثار جدل مستفيض في واشنطن أخيرا".
وأرجئئت القضايا المنظورة عندما سقط كبير القضاة مارشال بعد ترجله من مركبته وانخلع كتفه ، وكان عائدا من زيارة إلى البيت الأبيض في 19 فبراير. وعلى الرغم من ذلك فقد تلا مارشال الحكم بصوت واهن خفيض في 2 مارس ، بعد ثلاثة أسابيع من سماع المحكمة ادعاءات الخصوم. وكتب مارشال إلى محكمة لم يفصح عن اسمها (وكتب القاضي جونسون من كارولينا الجنوبية عن حكم اتفاقي أكثر إطلاقا في قراءته من خطاب مارشال) قائلا: "التجارة حركة تبادل بلا ريب ، لكنها لا تقتصر على ذلك ، إنها ضرب من التفاعل .. تنظمها أحكام لازمة لانجازه". ومع أن الدستور منح الحكومة الفدرالية صلاحية "تنظيم التجارة بين الولايات" ، فقد كانت الحكومة الفدرالية وحدها مخولة بصياغة تلك الأحكام والضوابط.
كان هذا بالطبع رأي ويبستر بحذافيره. (وبعد أن ربت ظهره – كما كان دأبه – كتب ويبستر: "لم يكن حكم المحكمة – كما تلاه رئيس القضاة – يختلف كثيرا عن قراءتي الخاصة). لكنه شكل أيضا دعما جديدا ولافتا للسلطة الفدرالية. لقد كتب الرئيس مونرو في العام 1822 في خطاب نقص (فيتو) إلى الكونجرس بأن الدستور الذي منح تلك السلطة لتنظيم التجارة بين الولايات المتحدة لم يقصد بها تجاوز صلاحيات فرض التعريفات الجمركية على التجارة الخارجية والحيلولوة دون فرض الرسوم الجمركية على التجارة بين الولايات ، وهذا ما كان يحظره الدستور علنا".
وقوبل الحكم بترحيب كبير في كل الولايات ، وأعادت كثير من الصحف نشر نص الحكم كاملا. وكتبت صحيفة من ميسوري : "أبدى بعض أبناء نيويورك تملما بعد صدور الحكم الأخير عن المحكمة العليا للولايات المتحدة الخاص باحتكار المراكب البخارية. ويمكن طمأنتهم بالقول إنه حكم أقر في الولايات الشقيقة ، وهم قد يرون ما ينافي أصول اللياقية في ادعاء نيويورك استئثارها بالمعابر المائية التي تعد سبيل التفاعل بين تلك الولاية والولايات الأخرى وحتى الاستئثاؤ التام بذلك التفاعل التجاري نفسه".
لكن الواقع هو أ، أكثر أهالي نيويورك أبدوا موافقتهم بحماس ، وفور صدور الحكم دخل المركب البخاري يونايتد ستيتس ، بقيادة القبطان بانكر نيوهافن ، (نيويورك) بزهو المنتصرين ، وأثنت حشود كبيرة من المسافرين على قرار المحكمة الأمريكية العليا المعارض لاحتكار نيويورك. وأطلقت عبارات نارية تحية للحشود. وقوبلت بهتافات مدوية من رصيف الميناء. وترددت الهتافات في كل أنحاء البلاد. وأوردت صحيفة جوريجيا جورنال أن المركبيت التجاريين الراسيين في أوجستا قد استقبلا بهتافات تقول: "فلتسقط كل احتكارات التجارة واحتكارات المصانع .. فلكل منها شرور تفوق شرور الآخر. اعطونا تجارة حرة وحقوق البحارة". وقد يشك المرء في أن الصحافي – الذي أغفل اسمه – كان ينقل بأمانة الهتافات التي انطلق في رصيف الميناء ، لكنه نجح في تصوير مجريات الأحداث. وقد وصف أحد القضاة القرار بعد مرور عشرين عاما بأنه "أنقذ كل جدول ونهر وبحيرة ومرفأ في بلادنا من تدخل الاحتكارات".
وتجسدت سريعا الآثار الاقتصادية بما أطلق عليه تشارلز وارين مؤلف العمل الكلاسيكي "المحكمة العليا في تاريخ الولايات المتجحدة". ، "إعلان تحرير التجارة الأمريكية". فلقد تراجعت أسعار النقل ما بين نيوهافن ونيويورك بنسبة 40 في المائة بفضل المنافسة ، وارتفع عدد المراكب البخارية التي عملت في مياه نيويورك في أقل من سنتين من ستة مراكب إلى ثلاثة وأربعين.
لكن الآثار بعيدة الأجل كانت أكثر عمقا ، فقد توقفت الولايات المتحدة عن منح امتيازات الاحتكار بكل صورها للمواطنين المتنفذين الساعين وراء ريع الاحتكار بعد أن بتاتت كل تلك الاحتكارات مخالفة للدستور منذ تلك الحادثة. كما سقطت العوائق الأخرى التي اعترضت التجارة بين الولايات المتحدة بعد أن قامت على مصالح ضيقة. وهكذا ، وبفضل دعوة جيبونز على أوجدين ، صارت الولايات المتحدة أكبر سوق مشتركة بالمعنى الحقيقي للكلمة. في وقت بدأت فيه ثورة البخار ، التي وظفت في نقل البضائع بتكلفة متدنية لمسافات بعيدة – متمقلة في المركب البخاري – تشهد انتشارا متعاظما. وسيتبين فيما بعد أن السكك الحديدية ستكون ابتكارات حاسما في القرن التاسع عشر وستؤسس للاقتصاد الحديث الذي هيأت قضية أوجدي ضد جيبونز الولايات المتحدة لتحقيقه.
ومثل كثير من ابتكارات القرن التاسع عشر (وكثير أيضا من ابتكارات القرن العشرين) ، لم تكن السكك الحديد ابتكارا منفردا جادت به عبقرية فرد واحد. بل لقد كانت نظاما ابتكرت أجزاؤه كل على حدة ثم دمجت معا على أيدي أرباب مهنة جديدة هي الهندسة المدنية (وإنما دعيت كذلك لأن كلمة "مهندس" كانت تستخدم فقط في المجال العسكري حتى منتصف القرن التاسع عشر).
كان معلوما منذ القرن السادس عشر ، أن باستطاعة حيوانات الجر (وحتى البشر) – وبخاصة في أعمال المناجم – جر أحمال كبيرة جدا إذا وضعت في عربة على سكة من الحديد. ذلك أن العجلات ذات الشفاة المعدنية المثبتة على سكة معدنية لا تخلف احتكاكا دورانيا يذكر. إن قاطرة زنتها أربعون رطلا بتسارع تبلع به ستين ميلا في الساعة ستجري إلى مسافة تعادل خمسة أضعاف المسافة التي تقطعها شاحنة تعادلها في الوزن على طريق رئيسية مستوية. وهذا ما يجعل السكك الحديد – حتى في يومنا هذا – أوفر وسائط الشحن على الإطلاق.
ولم يمر وقت طويل على ظهور المحرك البخاري حتى جال بخاطر الإنسان إمكان المزاوجة بين التقنيتين. وبالطبع فقد تنبأ أوليفر إيفانز بظهور السكة الحديدية بصورتها التي باتت عليها ، وذلك قبل زمن طويل من تحولها إلى حقيقة ناجزة. إذ كتب في العام 1813 – أي قبل خمسة عشر عاما من أول نجاح تجاري للسكك الحديد ، "سيأتي اليوم الذي يسافر فيه الناس في عربات تجرها المحركات البخارية من مدينة إلى أخرى وبسرعة الطائر تقريبا. وستنطلق العربات من واشنطن في الصباح ويتناول المسافرون فطورهم في بالتيمور وغدائهم في فيلادلفها .. ويجلسون إلى عشائهم في نيويورك في اليوم نفسه .. ولكي يتحقق ذلك يجب مد مجموعتين من السكك الحديد لجر العربات .. فتمر العربات بعضها ببعض باتجاهين مختلفين .. وتنتقل ليلا نهارا".
ولم يعدل إيفانز محركه ليتناسب وفكرة السكك الحديد ، لكن تريفيتشيك فعل ذلك عندما صنع أول قاطرة في العالم باستخدام المحرك البخاري عالي الضغط. وجرب تلك القاطرة على طريق الترام فوق الدعامات الحديد التي مدها صامويل همفراي في جلامنور جلامشاير بويلز. وفي 21 فبراير 1804 جرت أول القاطرات مجموعة من عربات الشخن ، وولدت السكة الحديد.
ولن تحل المشكلات الجمة التي اعترضت الاستخدام العملي للسكك الحديد إلا بعد خمس وعشرين سنة أخرى. وأنشأ جورج ستيفنسون – الذي خرج بحلول لكثير من المشكلات – أول سكة حديد في العالم تعمل بقوة البخار وتصيب نجاحا تجاريا ، وهي سكة حديد ليفربول ومانشستر ، وقد افتتحت في 15 سبتمبر 1830 ، بحضور دوق ويلنجتون. وحقق المشروع نجاحا ماليا سريعا بعد أن ربط مانشستر المدينة الصناعية الكبرى ، بليفربول ، المرفأ البحري الكبير.
لكن مشاريع السكك الحديد في الولايات المتحدة كانت تجري على قدم وساق آنذاك. فلقد منح جون ستيفنس – مؤسس معهد ستيفنس في هوبوكين بنيوجيرسي – رخصة لانشاء سكة حديد تربط نهري ديلوير واراريتان ، لكن هذه السكة لم تر النور قط. ومع ذلك فقد صنع ستيفنس أول قاطرة في هذه البلاد في العام 1825 لكنها لم تجر إلى سكة دائرة أقامة في مسكنة في هوبوكين.
لكن ابنه - روبرت ليفنجستون ستيفنس – وكان مهندسا بارعا ، أضاف إسهاما ثوريا إلى تقنية السكك الحديد. كان ستيفنس الابن هو من طور السكك الحديد التي أخذت شكل حرف "تي" بالانجليزية (T) ، ذات المقطع العرضي. وكان هذا أول تطور جوهري يطرأ على خطوط السكك الحديد منذ ذلك الحين. كما وجد أن خطوط السكك الحديد الممدودة على دعامات عرضية خشبية يتخللها العصى كانت أفضل الأشكال التي يمكن أن يأخذها بدن طريق السكك الحديد. وقد ابتكر أيضا "رزات" السكة الحديد التي استخدمت لجمع أجزائها معا.
وقد حفز نجاح قنال إري فكر رجال الأعمال في المدن الساحلية لاشرقية. وسعت بالتيمور ، وكانت تشهد نموا سريعا ، إلى تعزيز هذا النمو من خلال الوصول إلى الأسواق العربية الرائجة التي ساهمت قنال إري في ربطها بنيويورك. لكن الطبيعة الجغرافية لأنهار الأبالاتشياتن جعت الارتباط بالمناطق العربية إنطلاقا من بالتيمور مستحيلا نظرا إلى تكاليفه الباهظة. لذلك تقرر استخدام التنقية الوليدة – أي السكك الحديد – اعتمادا على الجياد مصدرا للطاقة الحركية.
وفي 4 يوليو 1828 قلب تشارلز كارول ، من كاولتون وهو آخر من ظل على قيد الحياة من موقعي إعلان الإستقلال ، أول مساحة من التراب في مشروع السكة الحديد بين بالتيمور وأوهايو. كانت مراسم استهلال العمل في المشروع مزيجا غريبا جمع بين الماضي والحاضر . إذ كان كارول نفسه قد بلغ الحادية والتسعين وأصر على أن يرتدي سروالا إلى الركبة من عهد الشباب ، مع أنه عتيق الطراز منذ ثلاثة عقود خلت. وعلى الرغم من أن السكة التي تصل بين بالتيمور وأوهايو كانت ستمول من مصادر خاصة ، فقد أقيم إحتفال عام بإطلاق المشروع ، ونظم الموكب العريض المفضى إلى موقع المراسم على أيدي الحرفيين وأصحاب المهن ، على النحو الذي كانت تجرى عليه الاستعراضات النقابية في المدن الانجليزية في العصور الوسطى. غير أن المشروع التكنولوجي المحتفى به كان الأول من نوعه ، ويسفتح عالما اقتصاديا جديدا في فترة لن تتعدى جيلا واحدا.
وقد عبر كارول عن رأيه في المشروع أمام الحشد الذي قدرته الصحف بخمسين ألفا ، بقوله: "اعتبر ما انجز اليوم من أهم الأعمال التي أديتها في حياتي ، ولا يضارعه سوى توقيعي إعلان الإستقلال ، إن كان ثمة بالفعل ما يضارعه".
ولم تكد سكك الحديد في ليفربول ومانشستر تتبين "عمليتها" حتى بدأت مشروعات السكك الحديد تنتشر في كثير من أنحاء البلاد ، حيث كانت ثمة خطة لربط القرى بجزء من نظام النقل المائي القائمة آنذاك عبر خطوط محلية قصيرة. وحولت كثير من مشاريع القنوات إلى مشاريع للسكك الحديد ، التي كان لها كثير من المزايا على القنوات. فقد كانت أسهل إنشاء ويمكن أن تقام في أي بقعة بعض النظر عن طبيعة تضاريس المنطقة في كل فصول السنة. وانتشتر هذه المشاريع بمعدلات سريعة. وبعد أن كان طول خط السكك الحديد في العام 1830 لا يتجاوز 23 ميلا في طول البلاد وعرضها ، فقد وصل طولها في العام 1840 إلى 2818 ميلا ، وفي العام 1850 إلى 9021 ميلا. وفي زمن الحرب الأهلية ربطت 30626 ميلا – أي ثلثا عدد الأميال في الشمال – الببلاد معا بوقع سريع جاعلة منها نسيجا اقتصاديا واحدا. لكن ذلك اقترن بعواقب فادحة ، إذ ربطت لاسكة الحديد ما كان في القرن الثامن عشر مجموعة متناثرة من الأسواق المحلية في سوق وطنية متكاملة. لقد تساءل آرثر في هادلي في مؤلفة الاقتصادي الكلاسيكي "النقل بالسكك الحديد" المنشور في العام 1886 قائلا: "قبل جيلين كانت تلفة النقل بالكارة تحتم استهلاك القم في دائرة لا يتجاوز نصف قطرها مائتني ميل من موطن زراعته. واليوم ثمة منافسة مباشرة بين قمح داكوتا والقمح الروسي والقمح الهندي. إن العرض في أوديسا عامل مهم جدا في تحديد سعر القمح في شيكاغو".
وبفضل الأسواق الكبيرة التي فتحتها السكك الحديد ظهرت المشاريع الصناعية الكبرة. لكنها خلفت عواقب تعدت الآثار الاقتصادية المباشرة. حيثما حلت ، خلقت السكك الحديد نشاطا اقتصاديا وتكاثرت المدن والقرى على طول خطوط السكك الحديد وبخاصة في تقاطعاتها. وفي اوروبا ربطت السكك الحديد المدن القائمة آنذاك ، وفي أمريكا كانت تلك السكك سببا اساسيا في ظهور المدن الجديدة.
وكانت السكك الحديد تتطلب كثافة كبيرة في راس المال حيث كانت تكلفتها في أول عهدها لا تقل عن 36 ألف دولار للميل الواحد وسطيا في وقت كان فيه ملبغ 1000 دولار دخلا سنويا للفرد من الطبقة الوسطى. لقد تكبد تكاليف أول السكك الحديد السكان القاطنون على جانبيها ، والذي آلت إليهم حقوق الطريق فكانوا الأكثر حظا في الإفادة من هذه الحقوق قبل غيرها ، وبالآلية نفسها أيضا مولت ليفربول ومانشستر من قبل.
لكن الأوراق المالية المحلية (المصدرة محليا) وجدت طريقها على الفور إلى أسواق رأس المال ، وبخاصة إلى ما بات أكبر تلك الأسواق ، وول ستريت. ولما بدأ التفكير في مد سكك حديد تتجاوز سابقاتها حجما – وهذا ما باتت عليه في الحال – فقد عرضت الأوراق المالية للتداول العام في تلك الأسواق أول الأمر. وفي العام 1835 لم تكن الصحف تعلن أسعار الأوراق المالية لمشاريع السكك الحديد ، باستثماء ثلاث منها فقط . وفي العام 1850 وصل عدد مشاريع السكك الحديد المعلنة إلى ثمانية وثلاثين. وفي منتصف ذلك العقد بلغت نسبة أسهم وسندات مشاريع السكك الحديد أكثر من نصف الأوراق المالية المطروح في التداول على مستوى البلد كله ، بينما ارتفع حجم التداول في وول ستريت بعشرة أضعاف.
كانت السكك الحديد تتطلب كمية هائلة من المنتجات الصناعية ، القاطرات وعربات الشحن والركاب والخطوط المعدنية والدعامات العرضية والرزات والقناطر ، على سبيل الذكر لا الحصر . في بادئ الأمر ، كانت تلك المنتجات الصناعية تستورد من انجلترا. غير أ، تصاعد الطلب الأمريكي عليها استقطت مزيدا من الوسطاء الأمريكيين للعمل على توريد تلك السلع الصناعية ، مما كان له الدور الأكبر في رفد الثورة الصناعية في الولايات المتحدة.
وفي العام 1828 ، وهو العام الذي شهد مراسم تدشين الخط الأول من نوعه ، والذي يصل بين بالتيمور وأوهايو ، اشترى صناعي ناشئ من نيويورك – واسمه بيتر كوبر – واثنان من مشاريكه ثلاثمائة فدان من أراضي بالتيمور وأنشأو عليها ورشات كانتون للحديد. كان كوبر يأمل أن يكون طريق بالتيمور – أوهايو مصدرا لا ينقطع لحركة التجارة والأ‘مال ، وأيضا وسيلة لتوريد المواد الخام كالوقود وفلز الحديد. ومع ذلك لم ينقض وقت طويل حتى انتهى مشروع طريق بالتيمور – أوهايو إلى شفير الإفلاس. فقد تبينت استحالة تحقيق الربح باستخدام الأحصن ، غير أن جزءا من الطريق وطوله ثلاثة عشر ميلا كانت تكتنفه منعرجات حادة ، وأعلن جورج ستفنسون – لدى اطلاعه على خريطته – أن المنعرجات كانت حادة بحيث يتعذر على القاطرات البخارية أن تجر المقطورات فيها.
وقد دار بخلد كوبر – وهو ميكانيكي بارع ورجل أعمال من الطراز الأول – أن المهندس القدير جانب الصواب. وكان أن قال: "سأصنع محركا في ستة أسابيع. وسيكون هذا المحرك قادرا على جر العربات بسرعة عشرة أميال في الساعة".
ووقع على بعض الإطارات القديمة المناسبة التي يمكن جمعها معا إلى هيكل القاطرة. وبالإضافة إلى ذلك ان لديه محرك بخاري صنعه لمشروع سابق أرسل به من نيويورك .. فضمه إلى القاطرة التي زودها أيضا بمرجل. لكن عملية ربط المرجل بالمحرك أثارت مشكلة ينبغي حلها. إذا كانت وسائط التوصيل (الأ،ابيب) المتاحة في أمريكا آنذاك تصنع من الرصاص الذي لا يقاوم ضغط المحرك البخاري وحرارته. وعليه فقد اتخذ كوبر بندقيتين عتيقتين ونشر سبطانتيهما واستخدمهما أنابيب في التوصيل.
أما النتيجة فكانت أول قاطرة تجارية تصنع في الولايات المتحدة. ولأنها كانت صغيرة جدا بمعايير السنوات اللاحقة فقد أطلق عليها تندرا اسم "عقلة الإصبع" ، القزم الشهير الذي قدمه بي تي بارنوم. وعلى الرغم من صغر حجم القاطرة ، فقد أبلت بلاء حسنا وجرت في أول إنطلاقة لها عربة تحمل أربعين شخصا بسرعة بلغت ثمانية عشر ميلا في الساعة ، وهي سرعة باهرة في ذلك الحين. (أحضر بعض المسافرين ورقة وقلما رصاصا وخطوا عبارات دامعة تنفي الاعتقاد الشائع آنذاك بأن أدمغة البشر تتوقع عن العمل عند تلك السرعة).
وبدأ خط بالتيمور – أوهايو البخاري يحقق ازدهارا ورواجا . فكانت أعمال توسيعه لا تتوقف حتى بلغ هاربرزفيري على نهر بوتوماك في العام 1834 ، ونهر أوهايو في العام 1852. وأصابت أيضا ورش حديد بيتر كوبر ازدهارا بالتزامن مع ذاك الذي شهدته مدينة بالتيمور. وعندما باع كوبر ورشته بعد سنوات اشترى أسهم خط بالتيمور – أوهايو بسعر 45 دولار للسهم الواحد ، وباعه فيما بعد بسعر 335 دولار للسهم. وليس ثمة مثال أبرز عن حالة الآزر الاقتصادي التي تخلقها أي تقنية أساسية محدثة ، خصوصا عندما تنتشر آثاراها في كل قطاعات الاقتصاد. وقد سهلت لاسكك الحديد السفر غلى مسافات بعيدة وبتكلفة أقل من قبل. ففي السابق استغرق أندرو جاكسون شهرا واحدة للسفر بعربة الجياد من ناشفيل إلى واشنطن كي ينصب رئيسيا في العام 1829 ، وبعد ثلاثين عاما من ذلك التاريخ ، صار القيام بتلك الرحلة – وقد باتت أسهل وأكثر راحة للمسافر – لا يستغرق أكثر من ثلاثة أيام.
غير أن السكك الحديد حفزت كثيرا الصناعة وأعمال المناجم والسفر والتجارة بوجه عام. كما أن السكك الحديد كانت مصدر متعة وإثارة للناس في تلك الأيام ، وقد أدركوا أنهم باتوا على مشارف عصر جديد لم يجب بخيال الأجيال السابقة. فكتب جورج تمبلتون سترونج – وكان له من العمل 19 عاما – في مذكرته لعام 1829: "إنه لمشهد عظيم أن ترى قطارا عملاقا يتحرك ، ليس ثمة ما هو أكثر إثارة بالنسبة إلى أجدادنا من فكرة أن يرتقي أحفادهم سلم التقدم العلمي .. لنتخيل فقط أن هذه الفكرة تولد فجأة من شيء غير مألوف في عالم الابتكار في ليلة حالكة يملأها الأزيز والصخب والصياح ، شيء ذي فرن متقد يلتمع في مقدمته وتنفذ مدخنته دخانا ناريا متصاعدا ، ويندفع ساحبا خلفه سلسلة من العربات الطويلة كتنين عملاق يجر ذيله – أو فنقل كالشيطان نفسه – مندفعا بأقصى سرعة إلى الأمام سالكا نحو عشرين ميلا في الساعة ، يله من مشهد!".
لكن ذلك أثار أيضا حسا من التوجس والقلق ، وخصوصا في أوساط الشيوح. إذ كتب فيليب هون في العام 1844 ، وكان يكبر سترونج بأربعين عاما : "هذا العالم يمضي بوقع سريع جدا ، فالتحسينات والسياسة والإصلاح والدين – كله تشهد تطورات كبيرة. وتتسابق السكك الحديد والباخرات والسفن الصغيرة مع الزمن وتسبقه. يا حسرة على الأيام الخوالي لمركبات البريد الثقيلة التي لم تتجاوز سرعتها ستة أميال في الساعة.
إن استخدام فيليب هو عبارة "الأيام الخوالي" كان أو تسجيل لاستخدامها. لقد ولد هون في العام 1871 في زمن كن لا يختلف كثيرا في حالته التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية عن الزمن الذي ترعرع فيه والداه ، لا بل حتى عن ذلك الذي عاش فيه أجداد أجداده . لكن بفضل المحرك البخاري والثورة الصناعية فقد امتد به العمر ليرى عالما اقتصاديا جديدا. وشهد كل جيل منذ ذلك الحين تجربة مماثلة ، وصار من الشائع أن يحيا المرء طويلا ليرى العالم التقني الذي ألفه في ريعان شبابه يتلاشى رويدا مع تقدمه في السن. لكن بالنسبة إلى جيل فيليب هون كانت تلك التجربة جديدة باهرة ، وأحيانا مروعة.
وقد أفادت مطابع مثل كرير وإيفز من حنين الناس إلى الأيام الخوالي ، فنشرت صورا رومانسية لعالم ما قبل الصناعة ، عالم ثر وجذاب ما كان له وجود في الواقع . وكتب الروائيون أيضا عن عالم مفقود يشبع في الأمان والطمأنينة ، عالم خيالي. ولم يتطرق ديكنز الذي ولد في العام 1812 ، وكان أشهر روائيي عصره - إلى السكك الحديد والتلغراف (البرق) ، التقنينتين اللتين طبعتها كثيرا وجه العالم الاقتصادي الجديد الذي عاش بين ظهرانيه.
الفصل التاسع: قهر المستحيل
لم يكن السفر وحده هو الذي شهد زيادة مطردة مع مطلع القرن التاسع عشر. فقد حققت سرعة الاتصالات قفزات مماثلة. ومن الصعب اليوم – في عصر الأقمار الصناعية والكيبلات تحت البحرية التي تربط كل أنحاء الكوكب في حالة اتصال دائم – أن نتصور بطء انتشار الأخبار في القرن الثامن عشر. لقد اندلعت معركتا ليكسنجتون وكونكورد – اللتان أطلقتا شرارة الثورة الأمريكية – يوم الأربعاء 19 ابريل 1775. لكن أنباء المعارك لم تصل نيويورك إلا يوم الأحد 23 ابريل ، ولم تبلغ فيلادلفيا إلا في اليوم التالي 24 ابريل. وفي وقت متأخر من ليلة 28 ابريل نقل فارس البريد السريع الخبر لويليامسبرج في فرجينيا. وفي 28 مايو ، بعد انقضاء خمسة أسابيع ونص الأسبوع تناهى إلى علم مجلس الوزراء البريطاني في لندن خبر مروع هو اشتعال الأزمة الكامنة تحت الرماد في أمريكا حربا مفتوحة.
كان ثمة طرق لنقل الأخبار على نحو أسرع من نقلها على متن الجياد. لكن تلك الطرق لم تكن قابلة للتطبيق عموما. ذلك أن الملكة اليزابيث الأولى أمرت بنصب نيران في الهواء الطلق على طول الساحل الجنوبي لانجلترا لاستخدامها كإشارة لدى تبين أثر الأسطول الأسباني . وفي نهاية القرن الثامن عشر نصب الفرنسي كلاود تشابي سلسلة من محطات الإشارة (الملوحات) عبر البر الفرنسي مزودة بأسلحة كانت ترفع وتخفض بالبكرات وتتبادل الإشارة بينها بالأعلام – على غرار ما يفعل الكشافة بالملاوحة – وتنقل في ساعات رسائل ربما استغرق نقلها على متن الجياد أياما.
واستخدم الفرنسيون هذا النظام – الذي أطلق عليه تشابي اسم التلغراف – أي المراسلة عن بعد – على نظام واسع ، لكن استخدمامه لم يشع في الولايات المتحدة الناشئة حديثا. واحد من هذه الأنظمة وضع بين منطقتي مارثافين يارد وبوسطن في العام 1800 ، ولكن في معظم الاحوال كانت المسافات شاسعة والتمويل المتوافر محدودا جدا.
كانت الحاجة إلى الاتصلات في الولايات المتحدة ملحة جدا ، كما كانت عليه الحال في اوروبا. ومع ذلك فقد طرقت خيارات أقل تكلفة. ففي العقد الثالث من القرن التاسع عشر كان ثمة رجل يصعد كل يوم عمل إلى قمة قبة بورصة التجارة في وول ستريت ، حيث كانت تعقد مناقصات بورصة نيويورك ومخجلس البورصة ، وهناك كان هذا الرجل يبرق أسعار افتتاح التداول إلى رجل آخر في مدينة جيرسي عبر نهر هدسون. ويرسل ذلك الأخير إشارة مقابلة إلى رجل آخر على الهضبة أو البرج التاليين. وهكذا كانت الأسعار تصل إلى فيلادلفيا في نحو ثلاثين دقيقة. كان هذا النظام غير ناجع في أفضل صوره ، ولم يؤد ما هو مقصود منه في الحالات الجوية السيئة.
ومع تعاظم أهمية وول ستريت كسوق مالية وتفاقهم الحاجة الماسة إلى التقارير الأخبارية عن أسعارها ، فقد طبقت كل الوسائل الممكنة ، وحتى في وول ستريت نفسها كان ثمة ضغط متواصل للحصول على التقارير الأخبارية بصورة فورية. وهذا يفسر تسمية المراسلين آنذاك بالعدائين . وفي الأيام الأولى اعتمدت وول ستريت على الصبية الصغار للسعي ذهابا وايابا بين السماسرة ومكاتب العملاء من جهة والبورصة من جهة أخرى ناقلين أوامر التداور وآخر الأسعار ، (واليوم لاتزال قلة المراسلية الباقية تسمي "بالعدائين" ، لكن أغلبهم من كبار السن وقد شارفوا على التقاعد ، أما حركتهم فهي مشي الهويني).
كان حل مشكلة الاتصالات وشيكا. فقد كان معلوما منذ القرن الثامن عشر أن التيار الالكتروني يمكن أن ينتقل مسافات بعيدة بالأسلاك ، واذا تسنى ابتكار وسيلة للتحكم بانتظام في شدة التيار فسيمكن نقل المعلومات عبر تلك التقنية.
وجرت محاولات عدة للافادة من هذه الحقيقة. وفي العام 1774 ابتكر نظام في جنيف بسويسرا باستخدام سلك واحد لكل حرف من الأبجدية. وتشحن الكهرباء المارة في السلك كرة البلسان التي تجذب جرسا فتقرعه. هذه المصلصلة الأبجدية أدت دور وسيلة الايضاح لكنها كانت تعاني قصورا كبيرا في التطبيق العملي.
ولم تبدأ رحلة ابتكار التلغراف (البرق) الكهربائي فعلا حتى أمكن زيادة فعالية المدخرات (البطاريات) والمغناطيس الكهربائي (الكهرطيس) في مطلع القرن التاسع عشر وانخفضت تكاليف الأسلاك بفضل الآلات الجديدة المصنعة للأسلاك. وعلى الغرم من أن ويليام فوثيرجيل كوك وتشارلز ويتستون في انجلترا قد وضعا نظاما عمليا للاستخدام التجاري فإن الأمريكي صمويل مورس خرج بنظام لاقى قبولا عاما على مستوى العالم.
لقد تمرس مورس – وهو ابن جيديا مورس ، وزير وكاتب من نيوإنجلاند – في مجال الفن. لكن موهبته المحدودة في رسم الوجوه (البورتريهات) ، صب جل اهتمامه على رسم اللوحات الكبيرة و"الفارقة" التي لم تكن موهبته فيها8 – مع ذلك – إلا موهبة عابرة في أفضل الحالات.
ولأنه لم يكن ثمة من يقصده طالبا فنه ، بأنه بات يعاني طوال الوقت الفراع ، فانكب على التفكير في الكهرباء بعد أن التقى ، على متن احدى السفن ، تشارلز جاكسون الذي كان يجري أبحاثا في هذا الحقل في اوروبا. ووسريعا ثارت في مخيلة مورس فكرة التلغراف. إذ قال حينها : "إذا أمكن إظهار أثر الكهرباء في أي جزء من الدارة فأنا لا أرى ما يمنع نقل المعلومات آنيا باستخدام الكهرباء".
لقد بدا أن مورس – الذي كان يجهل التقنية اللازمة لتنفيذ تلك الفكرة وحتى خلفيتها العلمية – اعتقد أنه صاحب الفضل في الابتكار ولم يعلم ان هذه الفكرة إنما ظهرت قبل ثمانين عاما. إن الفضل الوحيد الذي يمكن أن يعزى لمورس في نظام التلغراف هو شيفرته عالية الكفاءة التي تعطي النقاط والقاطعات وفق تواتر الحروف باللغة الانجليزية (إذ كان يرمز للحرف E بنقطة واحدة "." أما الحرف X فقد أعطى الرمز "-..-").
وبمساعدة من واحد من العلماء الأمريكيين البارزين – جوزيف هنري ، وكان أستاذا في جامعة برنستون (ومن ثم أول مدير لمؤسسة سميثسونيان) ، صنع موسر أول نموذ عملي للتلغراف في قاعة في جامعة نيويورك. كان هذا النموذج مكونا من مدخرات وألف وسبعامة قدم من الأسلاك الملفوفة في وشيعة حول القاعة ، موصولة بكهرطيسيات ومفاتيح في نهايتها. وعند الضغظ على المفتاح عند أحد الطرفين ، تغلق الدارة ما يسمح بالكهرباء بالإنتقال عبر السلك وتفعيل المغناطيس في الناحية المقابلة فينضغط ذلك المفتاح نتيجة لذلك.
لقد بذل مورس جهادا دئوبا في ابتكار أداة تسجيل يمكن بها "رؤية" الكهرباء ، لكنه تبين أن شيفرته تلك انت في غاية البساطة يحيث كان يمكن التعرف عليها بالأذن ، وبالتالي كتابة الحرف بيد عام تلغراف مدرب.
واتخذ مورس شركاء له – ليونارد جيل ، الأستاذ في جامعة نيويورك ، وألفريد فيل ، وهو ميكانيكي بارع كان والده صاحب ورشة حديد مزدهرة – لمساعدته على تحسين نموذجه. وتقدموا بطلب قرض من الحكومة لبناء نظام له من الحجم ما يكفي للإفادة من إمكاناته التكنولوجية. لكن الحكومة كدأبها لم تتبين الإمكانات التكنولوجية الكامنة في هذا النموذج ، وفي ست سنوات لم يتقدم المشروع قيد أنملة ، إلى أن اتخذوا لهم مشاركا آخر هو إف أو جي سميث (الذي عرف بين أصدقائه باسم فوج) ، وكان ذلك لأن سميث ما كان فقط عضوا في الكونجرس وإنما رئيس لجنة البيت الأبيض لشئون التجارة أيضا.
وفي العام 1743 نجح في الحصول على 30 ألف دلاور خصصها له الكونجسر بعد أن أدرجه في مشروع قانون قبل أن ترفع جلسة كثر فيها اللغط والتجاذبات الكلامية. ومن ثم منح نفسه عقد إنشاء خط التلغراف الذي يصل واشنطن ببالتيمور ، وأنفق معظم المال في شراء أسلاك رديئة الصنعة وأعمال دفن الأسلاك. واستهل العمل بالمشروع مجددا ، فمدت الأسلاك على أعمدة ، وفي 24 مايو 1844 بعث ثموئيل مورس من مبنى الكابيتول رسالة مشفرة نصها "ذلك صنع الله!". وكرر ألفريد فيل في بالتيمور الرسالة نفسها بحذافيرها.
وحالما تأكدت الفائدة العملية للتلغراف شاع استخدامه بسرعة باهرة. ومع نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر كانت كل المدن الأمريكية تقريبا متصلة بعضها ببعض بواسطة التلغراف ، ووصل خط التلغراف سان فرانسيسكو في العام 1861. وعم التلغراف القارة في أقل من عقدين من الزمن من رسالة مورس الشهيرة. وفي العام 1866 نجح سيرس فيلد أخيرا في مد كيبل عبر المحيط الأطلسي يربط اوروبا وأمريكا باتصال فوري مباشر. وانقضى زمن عزلة أمريكا عن قلب العالم الغربي بعد ما ينوف عن 250 عاما.
وعندما توفي مورس في العام 1872 – وقد ذاعت شهرته وحقق ثروة كبيرة – كان يمكن بعث رسالة تلغراف من سان فرانسيسكو إلى الهند في بضع ساعات. وقد كان ايصال هذه الرسالة تستغرف في العام 1844 ستة أشهر.
ويعود أحد أسباب انتشار التلغراف السريع جدا إلى إمكان استخدام خطوط السكك الحديد التي شهدت انتشارا سريعا أيضا. وساهم التلغراف بدوره كثيرا في زيادة كفاءة السكك الحديد. لقد كانت أكثر خطوط التلغراف الأولى وحيدة الإتجاه. ذلك أنه إذا كانت ثمة توقعات بوصول قطار ما فإن على القطار الذي لا يملك حق العبور الانتظار على سكة جانبية إلى أن يحصل على حق العبور. فإذا انقضى الوقت المحدد من دور ظهور القطار الآخر – خصوصا أن حالات كهذه كانت شائعة في أول عهد السكك الحديد ، وكذلك كانت الحوادث أيضا – فكان على المرشد السير بضع مئات من الياردات في مقدمة القطار حاملا قنديلا للحيلولة من دون الإصطدام. وهذا ما حد سرعة القطار إلى ما دون سرعة المرشد.
وفي العام 1851 لاحظ أحد المهندسين على خط حديد إري – وقد غمره الإستياء في انتظار القطار المقب ل- خط التلغراف الممتد على طول السكة وفكر في الأمر. إذ يمكن إرسال أنباء تأخر القطارات والحوادث الواقعة بالتلغراف مباشرة للحد من تأخر القطارات الأخرى على ذلك الخط. وفي بضع سنوات ابتكر نظام إشارة محكم يسمح للسكك الحديد بتسريع رحلاتها وتحسين مستوى الأمان.
ولم يستفد قطاع في الاقتصاد الأمريكي النامي من التلغراف بقدر ما استفادت وول ستريت. ذلك أن السوق تبلغ أعظم إمكانات التوسع والكفاءة مع توفر تقنية الاتصال الآنية ، وهكذا فقد حافظت بورصة فيلادلفيا وغيرها على مكانتها في الأسواق المالية . لكن التلغراف أدى سريعا إلى تهميشها.
فمنذ أن أتاح التلغراف الاتصلات الآنية صار في وسع تجار فيلادلفا وما سواها مزاولة عملياتهم في سوق نيويورك باليسر نفسه الذي كانوا ينجزونها به في السوق المحلية ، وشرعوا على الفور في ذلك بسبب وجيه هو أن أفضل الأسعار للباعة والمشترين هي تلك التي توفرها السوق الكبيرة.
كن ثمة إدراك تام لهذه الحقيقة آنذاك . وكتب جيمس كي ميديري في العام 1870: "ينزع المال دائما إلى التراكم" ، كما أن الأسهم والسندات والذهب تحتشد بمعدلات سريعة في تلك المواطن التي تسودها أعظم صور النشاط المالي. وكلما تعاظمت الثروة المتداولة صارت هذه السمة أكثر وضوحا. وسيرا على ذلك فقد أصبحت نيويورك تمثل للولايات المتحدة ما كانت تمثله لندن للعالم أجمع. وقد تبوأت هذه المدينة العالمية الكبرة – وكانت قد حققت لنفسها مكانة بارزة – وهي التي تقع على لاساحل ، مكانة مالية لا تضاهي على الإطلاق. لقد خلقت نقائضها التي جمعت بين الازدهار والكساد نقائض مماثلة في كل ولاية ومدينة وقرية على وجه البسيطة.
كما أثر التلغراف جذريا في وسيلة اتصال أخرى كانت في طول التشكل في الثلث الأوسط من القرن التاسع عشر ، الصحيفة بشكلها المعاصر. كانت ثمة صحف في المستعمرات الأمريكية نحو العام 1690 حين نشر أحد اللندنيين – ويدعى بنجامين هاريس – والذي فر من انجلترا بعد سجنه بتهمة نشر مواد إباحية – أول عدد من صحيفة تحمل عنوانا تعوزه اللياق "الوقائع العامة: الأجنبية والمحلية" في 25 سبتمبر 1690 في بوسطن. وتعهد هاريس بإصدارها "مرة في الشهير (هكذا). أو أن تصدر أكثر من مرة إذا وقعت أحداث تتطلب ذلك". لكن العدد الأول – مع ذلك – كان العدد الأخير ، لأن حاكم ماسا تشوستس ومجلسها أوقفا الحصيفة. ومع ذلك فقد ظهرت الصحف ثانية في بوسطن وغيرها على الفور ، وفي زمن الثورة انتشرت في كل مدن المستعمرات الرئيسة.
هذه الصحف الأولى من نوعها لم تكن تشترك مع لاحقاتها بكثير من السمات . فمن ناحية أولى ، كانت الأخبار تستقصي بالوقع البطئ نفسه الذي كانت تنتقل به في القرن الثامن عشر ، من دون أي صبغة من السرعة في نقل الخبر ، باستثناء معظم الأنباء المهمة. وكانت تلك الصحف من نحاية أخرى باهظة الثمن. ولم تكن المطبعة المسطحة التي عرفها بنجامين فرانكلين (جتنبرج بتعبير أكثل صلة بالموضوع) تنتج إلا عددا محدودا جدا من النسخ إذا لزم ذلك في عجالة ، وقد ذهبت أغلب أعمال الطباعة – بأسلوب التعاقد – إلى إعلانات محامص القهوة والمكتبات.
إن أبرز ما يميز صحف عالم ما قبل الثورة الصناعية عن صحف اليوم هو السياسة . فقد كانت معظم الصحف ذات الطرح العام أدوات تغذي التحزب السياسي. فتكيل المديح لحزب ما وتصب جام صخطها على الأحزاب الأخرى. وهي لم تكن في الواقع إلى مجرد صفحة الأفتتاحية منسوجة بطائفة من الأخبار التي ضمت إلى الأنباء الأخرى التي تغلب عليها درجة كبيرة من التحيز.
لكن أحد المهاجرين الإسكتلنديين إلى نيويورك – ويعدى جيمس جوردون بينيت – أحدث تغييرا جذريا في هذا لامجال. كان بينيت – الذي ولد في العام 1795 لإحدى العائلات الكاثوليكية القلائل في إسكتلندا – شخصا مميزا يتمتع بموهبة العمل الصحافي. وكان أيضا رجلا دميما جدا ذا عينين حولاوين. وعندما أجرى معه أحد الصحافيين لقاء في خمسينيات القرن التاسع عشر في مكتبه ، المقابل لسيتي هول في نيويورك ، ذكر أن بينيت "نظر إلي بعين واحدة ونظر بالأخرى إلى ستي هول".
لقد دارت أولى مقالاته الصحافية حول معركة واترلو ، كان حينها في سن العشرين ، وقد حصل على قسد جيد من التعليم في أبردين – وبعد أربع سنوات هاجر إلى الولايات المتحدة بعد أن تبينت له الفرص الكبيرة المتاحة هناك. وعمل في عدد من الصحف بين بوسطن وتشارلستون قبل أن يستقر به المطاف في نيويورك حيث بذل ثلاث محاولات لتأسيس صحيفة تدافع عن مبادئ جاكسون. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. وكان البخار في هذه الأثناء يغير أيضا وجه قطاع الصحافة كغيره من كل نواحي الحياة الأخرى التي أصبتها يد التغيير في العقد الثالث من القرن التاسع عشر. فلقد استطاعت المطابع الدوارة الجديدة – وقد عملت بقوة البخار – أن تنتج آلاف النسخ من الصحيفة في الليلة الواحدة وبسعر أقل كثيرا من قبل. وارتأى بينيت أن يجرب شيئا جديدا. فشرع في 6 مايو 1835 – وكان لا يملك سوى رأسمال من 500 دولار وقبو رطب وقوة عمله فقط – بنشر صحيفة نيويورك هيرالد.
ونأى بهذه الصحيفة عن التحيز إلى أي حزب من الأحزاب في مقالاتها ، وسعي إلى جعلها صحيفة رائدة في تقديم الخبر. وقد نجح في تسويقها إلى أعداد غفيرة من القراء وذلك بالمناداة علهيا في الشوارع بثمن قدره سنت واحد للنسخة ، وذلك على يد جيش من باعة الصحف المتجولين ، وسيصبح ذلك خاصة مميزة لحياة المدن الأمريكية في الأعوام المائة المقبلة زلم يكن بينيت هو من أبدع هذه الأفكار في الأصل. لكنه كان أول من حشدها معا وأفاد منها. كما أنه خرج بعدد من الابتكارات الصحافية الأخرى الرائعة. فقد كان أول من نشر تقريرا عن حالة الطقس وأول من تابع أخبار الرياضة بانتظام. كما كان أول من أولى اهتماما لأخبار الأعمال والتجارة وأسعار الأسهم في صحيفة ذات توجه عام. وبينما لم يكن يجمل بالصحف "الراقية" أن تتطرق إلى هذه المواضيع ، فقد عمد بينيت عندما قتلت بنت هوى حسناء في أحد بيوت البغاء الراقية في نيويورك إلى نشر تفاصيل الحادثة بكل جوانبها.
وارتفعت مبيعات صحيفة هيرالد كثيرا ، واضطرت الصحف الأخرى إلى مجاراتها خصوصا أن المدينة وأنحاء البلاد الأخرى قد ذهلت بقصة الخبر. وفي بضع سنوات أصبحت الهيرالد من أنجح صحف المدينة. وقصد بينيت إلى اوروبا حيث تعاقد مع مراسلين في لندن وروما وباريس لتزويد الهيرالد بتقارير اخبارية حصرية. كان أولئك أول مراسلين أجانب يعرفهم العالم. وقد سعي جاهدا في الكونجرس إلى اهتماد مبدأ إعداء الصحف من خارج المدينة حقا أكبر في دخول القاعات الصحافية للكونجرس على غرار الصحف المحلية ، وهذا من آذن بولادة مؤسسات الصحافة في واشنطن. وكان بينيت أول من استخدم كلمة "تسريبات صحافية" في وصف الأخبار التي يسربها السياسيون إلى المراسلين لأغراضهم الخاصة.
ومع بدء انتشار التلغراف في أنحاء البلاد ، أفاد منه بينيت على الوجه الأمثل ، ذلك أنه عندما اندلعت حرب المكسيك بعد عامين تماما من نجاح تجربة مورس ، أسس بينيت "كونسورتيوم" من الصحف لتمويل خدمة الاحصنة السريعة بين نيوأوريلينز وتشارلستون التي كانت متصلة بينويورك عبر التلغراف. كانت التقارير الصحافية المنشورة في صحف نيويورك تسبق وصول التقارير الرسمية إلى واشنطن بأيام.
وفي زمن الحرب الأهلية ، كانت الهيرالد أكبر صحيفة في البلاد وأكثرها تأثيرا وإنتشارا ، لا تضاهيها بذلك أي صحيفة أخرى ، وسارت كل الصحف الكبرى على خطاها ، مما غير وجه قطاع الصحافة ، ووصل حجم توزيعها اليومي إلى أربعمائة ألف نسخة أي ما يتجاوز بأضعاف توزيع الصحف الأمريكية مجتمعة لخمسين عاما خلت.
واليوم يعتمد ملايين الناس على الصحف للاطلاع على آخر أخبار هذا لاعالم المطرد نموا ، لقد كتبت نورث أمريكان ريفيو في العام 1866 – أ يقبل ثلاثة عقود فقط من إنشاء بينيت لصحيفة الهيرالد: "أن الصحيفة اليومية تعد عنصرا متجذرا في متطلبات الحضارة المعاصرة ، إذ ليس المحرك البخاري أكثر أهمية منها في حياتنا. فالصحيفة تربط الفرد بمحيطه العام في الحياة اليومية للجنس البشري".
ولم يكن تأثير الصحف في مجال الإعلان أقل درجة من ذلك. ففي عصر ما قبل الصناعة كانت أعمال تجارة التجزئة – في واقع الحال – محدودة جدا ، وتقتصر على بيع السلع محلية لاصنع . لقد ساهمت السكك الحديد والتلغراف والصحف في توسيع نطاق التجارة والأعمال. وبدأ تجار المدن سريعا بالإفادة من الفرص الجديدة. وفي العام 1846 افتتح اي تي ستيوارت ، وهو مهاج من أصل اسكتلندي – ايرلندي "قصر الرخام" في شارع 280 برودواي في مدينة نيويورك. كان هذا القصر ، الذي يقع إلى الشمال من ستي هول ، أول بناء تجاير ذي واجهة رخامية ورواق مقبب ومرافق فارهة.
كانت الأسعار في مخزن سيتورات متهاودة ومحددة ، كما كانت ثمة تنزيلات تعلن في الصحف. كما تميزت تلك المخازن ما عرف "الدخول من دون مراقبة" و"حرية الحركة" حيث سمح للزبائن بأنفسهم من دون أن يصحبهم عمال المخزن أينما تحركوا داخله. لقد جعل ستيوارت من التسوق – للمرة الأولى – بفضل رفاهية المكان وحرية الحركة داخل المخزن ، تجربة ممتعة في التسرية عن النفس لمن توافر لديهم المال ووقت الفراغ للاستمتاع بها ، وليس بحكم الضرورة والحاجة فقط ، كانت مخازن الأقسام الجديدة تلك تقدم كل المستلزمات الجاهزة الملائمة لأسلوب حياة الطبقة الوسطى – الأثاث والستائر والسجاد والخزف الصيني والمطبوعات. وكانت الطبقة الوسطى الجديدة تشتري تلك السلع بكميات كبيرة لتزين منازلها على الطراز الفيكتوري الرفيع – حيث تحتشد العناص وتتلاص – وهو الطراز الذي بلغ أوج شعبيته في منتصف القرن.
وفي عقد الستينيات من القرن التاسع عشر – عندما افتتح ستيوارت "القصر الحديدي" – وهو من كبرى المنشآت الحديدية في العالم – على بعد ميل من مركز المدينة في برودواي والشارع التاسع ، كان ستيوارت أكبر دافعي الضرائب الجمركية في البلاد ، بعد أن ازدهرت أعماله في تجارة الجملة مع التجار المنتشرين في كل أرجاء البلاد.
وحتى في المناطق الريفية التي لم تكن قد بلغتها السكك الحديد بعد ، فقد ساعدت التقنيات التجارية الجديدة على فتح أسواق جديدة. وأفاد الباعة الجوالون رويدا رويدا من الطرقات ، بعد تجديدها ، لبيع كل أنواع السلع المصنعة المتوافرة كالدلاء والأحواض والملابس والعدد والأدوات الخفيفة والنثريات لربات البيوت وهن ماضيات لبعض شأنهن. مما حد من الانعزالية التي ذربت أطنابها في المناطق الريفية الأمريكية في القرن التاسع عشر.
كما ساعد التجار الجدد أيضا على الترويج لعيد الميلاد (الكريسماس) كعطلة تتجاوز طابعها الديني في هذا البلد. ذلك أن أكثر البروتوستانت الأمريكين (غير الأنجليكانيين) لم يعرفوا الإحتفال بعيد الميلاد أيام المستعمرات. ولكن مع الحراك الجديد الذي أدى إلى احتكاك العائلات البروتوستانتية مع العائلات التي دأب على الاحتفال بعيد الميلاد فقد بدأت كثير من الأسر الاحتفال بهذا اليوم بدافع من رغبة أطفالهم بذلك. وشرع الكتاب – من أمثال النيويوركي كلمنت كلارك مور (صاحب كتاب "زيارة القديس نيقولا" ، واتفق أن كان القديس الرعائي لمدينة نيويورك ، وقد نشره أول مرة في العام 1823) وتشارلز ديكنز بالاحتفال بالجوانب غير الدينية لعيد الميلاد (كشجرة الميلاد ، وقد جلبها إلى العالم الناطق بالانجليزية الأمير ألبرت ، ولاقت شيوعا منذ ذلك الحين) ، كما ركز التجار – وهذا ديدنهم – جل اهتمامهم على العادة القديمة التي تمثلت في تبادل الهدايا في ذلك الوقت من السنة.
وفي منتصف القرن بدأ عيد الميلاد يتحول إلى أهم العطلات غير الدينية كحاله اليوم – ليكون أعظم محفزات تجارة التجزئة وغيرها.
وكانت في السنوات السابقة للحرب الأهلية أيضا أن بدأت الثورة الصناعية تكسب الحياة اليومية شكلا طاغيا من الحداثة. وإلى جانب النقل السريع – بفضل السكك الحديد والمراكب البخارية ، والاتصالات بفضل التلغراف والصحف – فقد انتشرت وسائل الراحة المنزلية أيضا بصورة ملحوظة.
وكان آخر التطورات التي طرأت على التقنيات المنزلية قبل الثورة الصناعية استخدام المدخنة في أوج القرون الوسطى . كانت المواقد وسيلة التدفئة المستخدمة في المنازل حتى عشرينيات القرن التاسع عشر ، وكانت الشموع تستخدم في الإنارة ليلا . وكانت المياه تنضح بالدلاء من الآبار أو الينابيع أو الأحواض ، أما الطهو فكان يتم على مواقد مفتوحة.
وفي العقد العاشر من القرن الثامن عشر وجد بريطاني يدعى ويليام مردوك أن الفحم بعد أن يسخن يعطي غازا يطلق باحتراقه لهبا أصفر فاقعا. وظهر مصباح الغاز في فيلادلفيا في العام 1796. وأصدرت بالتيمور تعميما في العام 1816 يشجع على استخدام مصباح الغاز في إنارة الشوارع ، وعمت الفكرة سريعا المدن الأمريكي الأخرى. وفي العقد الرابع من القرن التاسع عشر أنيرت الشوارع والطرقات الرئيسية في المدن الأمريكية بفضل شبكة من الأنابيب الممدودة تحت الأرض ، والتي وفرت الغاز من محطات الغاز المحلية. ومع بدء انقشاع الظلام الدامس الذي غرقت فيه المدن ، شرعت النشاطات الليلية في الانتشار كثيرا في المدن.
ومع أن الناس رحبوا بمصدر الإنارة الجديد في الشوارع ، فقد كانوا أكثر حذرا في إدخاله إلى منازلهم خشية الإحتراق والإنفجار. كانت مخاوفهم لا أساس لها إطلاقا ، لكن مزايا الإنارة بالغاز مقارنة بضوء الشموع ، تغلبت على تلك المخاوف. وفي الخمسينيات من القرن التاسع عشر ملأ حسيها الخافت ورائحتها الرطبة غير المألوفة منازل الطبقتين الوسطى والعليا. وقد ذكر أحد أبناء نيويورك في عام 1851 أن "الغااز يعتبر اليوم من أساسيات الحياة التي لا غنى للمدينة عنها . . بحيث إنه لم يكن يقام منزل للسكن المريح من دون وجود أساليب الإنارة بالغاز".
ولأول مرة في التاريخ ، صارت الإضاءة الداخلية رخيصة الثمن ، فأمكن استخدامها على نطاق واسع وبدأ الناس يطيلون السهر والمطالعة لساعات متأخرة في الليل ، وارتفعت كثيرا مبيعات الكتب والمجلات والصحف جميعا في ذلك الوقت ، تماما كما كانت حال الموسيقى الصحائفية.
كما زاد من النشاط الليلي انتشار وسائل التدفئة المركزية. وجعل انخفاض أسعار تمديدات الأنابيب وقنوات التدفئة تلك الوسائل في متناول الناس ، وبدأت أنظمة تسخين الهواء بالظهور في المنازل في الثلاثينيات في القرن التاسع عشر.
وفي ستينيات ذلك القرن كانت المشعات البخارية تحل سريعا مكان أفران تسخين الهواء البدائية ،وبدأت تتوطد العلاقة الحميمية بين الأمريكيين والتدفئة المركزية. وغالبا ما أصاب الهلع الزوار الأجانب. فقد كتب توماس جولي جراتان – وكان قنصل بريطانيا في بوسطن – "كانت وسائل التدفئة في كثير من البيوت الفارهة مصدر قلق عظيم للأشخاص الذين لم يألفوها ، ومحنة قاضية لكل من ألفها ، فالفرن الكبير يطلق في اليوم والليلة تيارات من الهواء الساخن عبر الفتحات والأنابيب ، فهي تلفح المرء لحظة يفتح الباب له بالدخول ، وتندفع خلفه عندما يدلف ثنية ، وهو يتصبب عرقا وعليه آثار أشعة الشمس الحارقة إلى الهواء البارد المنعش". وقد تبين أيضا تفوق أفران الطهي الجديد على الأفران (الوجاقات) العادية ، فسهلت حياة الناس وانتشرت على نطاق واسع.
وعلى الرغم من كل هذه التحسينات ، فإن تدبير شئون المنزل ظل يتطلب كثير جهد ، وكانت المنازل الكبيرة تتطلب كثيرا من الخدم لتدبير شئونها كما يرام ، كان هناك في السابق "نقص في الخدم" في مطلع القرن وذلك مع زيادة عدد العائلات الراغبة في تشغيلهم إلى مستويات فاقت أعدادهم. لكن مع مغادرة الشابات مزرعة العائلة قاصدات المدن ، وزيادة معدلات الهجرة الداخلية ، خصوصا في الأربعينيات من القرن التاسع عشر ، بدأت أجور خدم المنازل تتراجع بصورة حادة . وأصبح في وسع العائلات متوسطة الدخل تشغيل الخدم لمساعدة ربة المنزل.
وفي منتصف القرن كان يعمل لدى العائلة النموذجية من الطبقة الوسطى العليا طاه وساق يؤدي كثير من الأعمال المجهدة مثل جرف الفحم ، إلى جانب وقوفه بالقرب من المائدة في أوقات الطعام ، وخادمة لتنظيف المنزل. أما الطبقة الأكثر ثراء فكانت تشغل خادمة تعمل في الغرف العلوية للمنزل وعاملة غسل وشغال كان يؤدي الأعمال المجهدة ، وحوزذي ومربية للأطفال . وكان العامل المنزلي الماهر – كالطباخ الجيد – يكسب ما بين 6 و7 دولارت في الأسبوع ، بالإضافة إلى ما يخصص له من سكن وطعام ، ويعتبر هذا أجرا ممتازا في ذلك الوقت.
وكان الخدم الأكفاء – في كثير من المنازل – يعدون من أفراد العائلة الذين لا يمكن الاستغناء عنهم ، ويلقون احتراما ومودة عظيمين. وفي ظل هذه الظروف كانت الخدمة في المنازل – خصوصا للنساء غير المتزوجات – تعد من ضروب الحياة المنعمة بالمقارنة من البديل المتاح ، العمل في أحد المصانع المحدثة والسكن في حجرة أو بعض حجرة في الأحياء الفقيرة المكتظة والصاخبة التي كانت تزحف بسرعة في المدن الشمالية في تلك الفترة. وعلى الرغم من الانتشار الواسع للصناعة في الفترة اللاحقة من القرن التاسع عشر ، فقد كانت الخدمة المنزلية في العام 1900 لا تزال أكبر فئات العمالة وفق مكتب الاحصاء الأمريكي.
ومع توسع المدن المتفاوت في العقود الأولى من القرن التاسع عشر زادت حدة مشكلة توفير المياه لقاطنيها وتصريف مياه الصرف الصحي. وفي السنوات الأولى من القرن كان لدى العائلات المقتدرة براميل وخزانات لمياه المطر تغذيها المياه النازلة من سطوح المنازل ، أما العائلات الأخرى فكانت مضطرة إلى نضج المياه من أقرب الآبار. هذه المياه كانت في أغلب الأحيان ملوثة إلى درجة كبيرة بمياه الصرف الصحي المتسربة من دورات المياه ومن القلل الموضوعة في الحجرات وكانت تفرغ في الشوارع . ومع عدم وعي الناس بذلك آنذاك ، فقد تحول هذا إلى مصدر لأوبئة متعاقبة من أمراض كالحمى الصفراء والكوليرا التي ضربت المدن الأمريكية حينذاك.
وكانت فيلادلفيا أول مدينة تنشئ خزانا حديثا للمياه أمكن توصيله عبر أنابيب إلى المنازل وتصريف المياه القذرة عبر قنوات الصرف الصحي . وفي العام 1832 زودت بهذا النظام أول أنواع المنازل المزودة بحمامات. أما نيويورك – وهي محاظة بمياه البحر – فكانت تعني مشكلة تكنولوجية أشد . ومع ذلك فقد دشنت نظام كروتون في 4 يوليو 1842 بعد إنشاء قناطر مائية بطول خمسة وأربعين ميلا لجر المياه من هر كروتون في إقليم وستشستر.
كان فيليب هون مشدوها ، فكتب بعد شهور عدة في مذكراته أن "ليس من حديث يشغل التفكير في نيويورك إلا نهر كروتون. فالنوافير والقناطر المائية والصنابير وخراطيم المياه تشد إنتباهنا وتعيق سيرنا في الشوارع. الماء ! الماء ! هو الكلمة الشائعة التي تترد في كل أنحاء المدينة . وتطلق في الحشود شعورا من السعادة والإبتهاج".
وقد اعترى جورج تمبلتون شرونج شعور بالحماس عندما أوصل والده مياه نهر كروتون إلى منزله في شارع جرينتش في العام 1843. ولم يعد الاستحمام بتطلب تسخين الماء على موقعد وصبه في حوض الحمام الذي يبلغ الخصر طولا ، والذي كان يوضع في المطبخ لهذا الغرض. فكتب تغمره السعادة في مفكرته: "لقد عشت حياة كائن برمائي في الأسبوع المنصرم" .. "فكنت أخفق في حوض الاستحمام كل ليلة وأخرك باكتشافات جديدة في فن الاستحمام وأسراره" . وكان الاستحمام "بالدش" (المشن) رأسا على عقب أحدث تلك الفنون.
أما بوسطن ، التي كانت تحرص على قطع السبيل على الناس بالانغماس في هذه المتع يوم العطلة الدينية ، فقد حظرت الاستحمام في أيام الآحاد.
وقبل مطلع القرن التاسع عشر قلما كان الناس في الولايات المتحدة – وحتى أولئك الذين عرف عنهم ولعهم بالترحال – يمضون أبعد من خمسين ميلا عن مسقط رأسهم ، وهم ان فعلوا فإنهم ما كانوا يعودوا إلى مسقط رأسهم ثانية ، وحينذاك ، وفي أقل من جيل واحد أصبح ممكنا السفر مئات الأميال في اليوم وتسلم مكالمات فورية من قوم على مبعدة ألف ميل ، وقراءة أخبار ما يجري من أحداث حول العالم ، لقد صار متيسرا الحصول على الماء الساخن من الصنبور ، والهواء الدافي في الليالي الباردة ، وقراءة كتاب في الليل من دون ألم في العين.
هذه المعجزات تحققت في حياة البشر اليومية وبدأت تتراكم بعضها فوق بعض في العقود الأولى من القرن التاسع عشر – السكك الحديد والتلغراف والصحف والتفدئة والإنارة والماء الجاري – وأشاعت حسا من التفاؤل والإيمان بالتقدم البشري لم يشعر به أحد من قبل. إن الإعتقاد أن كل شيء صار ممكنا طبع ما سيعرف فيما بعد بالعصر الفيكتوري في عموما العالم الغربي. لكن في الولايات المتحدة التي كانت لاتزال آنذاك في طول التشكل ، وبفضل نموها الاقتصادي الذي فاق سرعة النمو الاقتصادي في أي من بلدان العالم المتقدم ، فإن هذا الشعور كان في اسمى صوره. ولم نفقد هذا الشعور إطلاقا ، حتى في أحلك الظروف التي يخبئها المستقبل.
الفصل العاشر: الحيتان والخشب والجليد والذهب
على الرغم من أن مصباح الغاز كان ينشر نوره في المدن مع مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر ، فإنه لم يكن معروفا في الأرياف ، حيث النسبة الأغلب من الأمريكيين. كان غاز الفحم يتطلب معالجة صناعية مكثفة ، إلى جانب ما يكتنفها من فوضى وما تطلقه من رائحة وما يترتب عليها من مخاطر. وكان الغاز يمرر عبر أنابيب من محطات الغاز مباشرة إلى المستخدمين. وبسبب ارتفاع تكلفة البنية الأساسية اللازمة ، فلم تتسن إفاقة محطات الغاز إلى في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة ، لكن الاقبال على المطالعة والأنشطة المسائية الأخرى اقترن بزيادة الطلب على الإنارة الصناعية في المناطق الريفية أيضا ، وكان زيت الحيتان كفيلا بتلبية هذا الطلب على الرغم من زيادته المطردة
لقد دأب الإنسان على صيد الحيتان منذ العصر الحجري الحديث ، كما مارست صيد الحيتان شعوب الباسك والنرويج والأراضي الواطئة (هولندا) واسكتلندا جميعا. وفي غابر الأيام ، كان الصيد يجري قبالة السواحل وتقطر الحيتان بعد صيدها إلى اليابسة لمعالجتها. لكنه مع تنقاص الحيتان في المناطق المقابلة للسواحل توغل الاوروبيون ابعد في عرض البحر بحثا عن الحيتان.
كانت الحيتان مصدرا للكثير من المنتجات ، فإلى جانب لحومها كان دهن الحيتان يعطي بعد معالجته زيتا يمكن استخدامه وقودا عالي الجودة في المصابيح ومادة تزييت للآلات. كما أن البلين وهو بنية لدنة ذات حواف – كان طولها يصل إلى 12 قدما ، كانت تقوم مقام الأسنان لدى معظم الحيتان العملاقة – وفرت مصدرا أساسيا لعظم الحوت الذي يجمع بين خصائص الصلابة والمرونة التي كانت عوامل مهمة في صناعة مشدات الخصر وسياط العربات وكثير من الاستخدامات الأخرىة.
وقد بدأ صيد الحيتان في نيوإنجلاند في العام 1645 ، حيث كان صيادو الحيتان الأوائل يسعون أساسا وراء ما يعرف بالحوت المثالي ، وقد أخذ اسمه هذا من وفرته وسهولة صيده مقارنة بالحيتان الأخرى ، كما أنه يطفوا على الماء بعد قتله. لذلك فقد كان صيده هو الخيار المثالي للصيادين. وذات يوم في العام 1712 جرفت رياح عاصفة بحرية أحد مراكب صيد الحيتان بعيدا عن الشواطئ إلى عرض البحر ، فتمكن طاقم المركب من اصطياد حوت عنبر والعودة به إلى الشاطئ بسلام.
ولم تكن حيتان العنبر كغيرها من الحيتان ، ذلك أنها ذات أسنان – لا بلين – وتقتات أساسا على الحبار العظيم الذي يكثر في الأعماق ، كما أن زيتها يفوق جودة زيت الحيتان الأخرى ولديها في رؤوسها الكبيرة – جزء من نظام الأمواج الصوتية – جيب واسع مملوء بالعنبر ، وهي مادة شمعية كانت تصنع منها أجود أنواع الشموع.
كانت حيتان العنبر تدر أرباحا طائرة ، لذلك سعي سكان نيوإنجلاند إلى التخصص في تجارتها وبناء سفن صيد الحيتان القادرة على بلوع المحيط سعيا ولااء تلك الحيتان في اللجة العميقة . وفي العام 1765 كانت سفن الصيد من نيوإنجلاند تمخر عباب المحيط ، وكانت تكثر قبالة ساحل البرازيل منذ ذلك الحين. وفي سبعينيات القرن الثامن عشر كانت نيو إنجلاند تصدر ما بين ثلاثمائية وأربعمائة ألف رطل سنويا من شموع العنبر.
وقد شجعت الحكومة البريطانية صيد الحيتان ، فكانت تقدم مكافآت لسفن الصيد التي يتجاوز وزنها مائتي طن. لكن الصناعة أصابت ازدهارا بعد الاستقلال أيضا. وفي القرن التاسع عشر كانت سفن صيد الحيتان تجوب محيطات العالم ، وكانت رحلات الصيد تستغرق سنتين ، وأحيانا أربع سنوات . وفي العام 1800 كان ثمة ثلاثمائة مركب صيد تعمل في تلك المرافئ في نيوإنجلاند وماربل هيد . وفي أربعينيات القرن التاسع عشر كان ثمة أكثر منم 700 سفينة صدي أمريكية تجوب البحار بحثا عن الحيتان وتجلب الازدهار الاقتصادي لموانئها ، حيث كانت السفينة الواحدة تقرع نحو مائتني ربميل من الزيت بعد أن تقفل عائدة من رحلاتها . وهكذا قمت كثير من ثروات نيوإنجلاند في مطلع القرن التاسع عشر على صيد الحيتان.
ولسوء الطالع ، كان أبناء نيوإنجلاند بارعين جدا في صيد الحيتان فاصطادوا منها أعداد فاقت معدلات كاثر تلك الكائنات الثديية العملاقة . ومع تراجع أعداد كثير من أصناع الكائنات الحية في العالم ، أصبحت رحلات الصيد تستغرق زمنا أطول ، ذلك أن سفينة صيد أمريكية كانت أول من عثر على البحارة المتمردين من طاقم باونتي على جيزرة بيتكرين في العام 1808. وارتفع سعر زيت الحيتان باطراد بسبب زيادة الطلب بمعدلات أكبر من العرض.
ومع ذلك فإن من مزايا اقتصاد السوق الحر التي لم تنل حظها من التقدير آلية تجاوبه الكفؤ مع حالات النقص والعجز. إذ ترتفع الأسعار عند زيادة الطلب على العرض ، وتحدث زيادة السعر بالنتيجة حرصا أكبر على الموارد النادرة على العرض ، وتحدث زيادة الأسعار بالنتيجة حرصا أكبر على الموارد النادرة وسعيا محموما إلى إيجاد موارد إضافية أو بدائب تسمح بالإفادة من ارتفاع الأسعار. لقد كتب أحد محرري الصحف آنذاك عن "الحماس الشديد الذي تقبل فيها الفطنة الأمريكية على كل فرع صناعي يبشر بأرباح معتبرة".
ومع ارتفاع سعر زيت الحوت – بلغ 2.5 دولار للجالون في خمسينيات القرن التاسع عشر ، عندما كانت خمسة دولارات أسبوعيا تعد أجرا جيدا للأيدي الماهرة – زادت الحاجة إلى زيوت الإنارة ومواد التزييت أيضا. ويعتبر الكامفين من مواد الإنارة عالية الجودة ، لكن من مثالبها قابليتها للانفجار. لقد استقطر قار الفحم – وهو يتخلف عن عملية استخلاص غازات الإنارة من الفحم – إلى كيروسين في خمسينيات القرن التاسع عشر ، لكن هذه العملية ليست سهلة إطلاقا كما أنها مكلفة جدا. ومع ذلك كان في آخر خمسينيات ذلك القرن أن أنتج أحد المعامل في مدينة نيويورك خمسة آلاف جالون من الكيروسين يوميا من قار الفحم ، وكانت الحاجة ماسة جدا ، وكان سعر زيت الحيتان مرتفعا جدا.
سيثبت أن قار الفحم – على الرغم من استخدامه فترة وجيزة مصدرا للكيروسين – سيشكل مصدرا غنيا للمواد الكيماوية ذات الاستخدامات الاقتصادية الأخرى ، خصوصا مبيدات الحشرات واللدائن (البلاسيتك) والأصباغ والأدوية. وسيكون أساسا لصناعة جديدة قائمة بذاتها – وهي المركبات الكيماوية – التي أصابت ازدهارات في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت أصباغ الأنيلين – التي اكتشفت في العام 1856 على يد الإنجليزية ويليام هنري بيركين ، وكان له من العمر آنذاك 18 عاما – أولى الكيماويات المشتقة من قار الفحم التي توضع في الاستخدام التجاري. وسرعان ما قوضت سوق الأصباغ النباتية المشتقة من نباتات من قبيل النيلة والفوة.
وقدم الحل لمشكلة توفير مصدر جيد ورخيص للإنارة مادة لم تخطر على البال اطلاقا ، ألا وهي زيت الصخر. فالبترول – ومعناه زيت لاصخر في اللاتينية – كان معروفا منذ أقدم الازمان ، لكنه كان مادة غريبة تثير الفضول وتلفت النظر. كانت تستخدم أساسا كعلاج لجميع الأمراض وقد ثبت لاحقا أن جميع أنواع الأدوية غير مستساعة الطعم – وهذا أيضا حال النفط الخام – والتي تفقد خصائصها السمية عندما تؤخذ بجرع صغيرة ولكنها تتمتع بخصائص علاجية في مرحلة زمنية أو أخرى. ففي كثير من مناطق العالم يندفع النفط خارجا من الأرض من تلقاء نفسه ويمكن قشطه من البركل المتشكلة أو نضحه بالخرق أو قطع الثياب.
وفي العام 1853 كان أحد خريجي جامعة دارتموث – ويدعى جورج بيسل – في زيارة إلى مدرسته التي تخرج فيها ، ولمح في مكتب أحد أساتذته قارورة من "زيت الصخور" أحضرت من بنسلفانيا الغربية. وقد علم أن تلك المادة كانت قابلة للاشتعال ، ففكر على الفور في تحويلها إلى مادة للإنارة. وشكل تجمعا صغيرا من المستثمرين وطلب إلى أحد أبرز كيميائي البلد وهو الأستاذ بين مين سيليمان الابن من جامعة بيل ، أن يدرس الفرص الكامنة. وأورد سيليمان أن زيت الصخور يمكن تفكيكه بسهولة إلى عدد من المركبات ومنها الكيروسين بعد تسخينه. ونقل عن سيليمان قوله: " أيها السادة ، لقد بدا لي أن ثمة ما يمكن منها تصنيع طائفة من المنتجات ذات القيمة العالية وذلك عبر معالجة بسيطة غير مكلفة".
لكن بينما بيسل ومشاركوه المستثمرون – وسينضم إليهم سيليمان نفسه بعد مدة قصيرة ، بعد أن يشتري لنفسه مائتي سهم في الشركة – يعلمون الآن أن في مقدوريهم تصنيع سلعة ستلقى رواجا كبيرا من زيت الصخر ، كانت مصادر زيت لاصخر لا تزال آنذاك محدودة جدا. إذ لا يمكن أن تقوم صناعة ما على الكميات التي تجمع من سطوح برك النفط. ومع ذلك فقد خطرت لبيسل فكرة مفاجئة أخرى. إذ بينما كان يتفيأ تحت ظلة أحد متاجر الادوية لدواء مرخص تجاريا (ببراءة اختراع) مصنوع من زيت الصخر (النفط) . وتبدو في الإعلان عدة حفارات كتلك التي تستخدم في استخراج الملح. وتصادف أن زيت الصخر المستخدم في الدواء إنما كان مصدره النفط الناتج ثانويا عن عملية التنقيب عن الملح. وتساءل بيسل إن كان بالإمكان استخدام تقنية الحفر للبحث عن النفط.
وأرسلت الشركة رجلا اسمه أدوين دريك إلى شمال غربي بنسلفانيا ، حيث كان مصدر معظم زيت الصفخر في الولايات المتحدة ، ووجد دريك أخيرا – وقد بذل جهدا غير يسير – رجالا يتقنون التنقيب عن الملح ولديهم الرغبة في التنقيب عن النفط ، وكانت فكرة التنقيب عن النفط آنذاك مستهجنة. وفي 2 اسغطس 1859 اندفع النفط من أول بئر في العالم ، بعمق ستة وستين مترا بالقرب من تيتو سفيل. لقد ثبت دريك مضخة على البئر وشرع بنضح ما كان يبدو كميات لا تنضب من زيت الصخر. لكن أكبر التحديات لم يكن العثور على النفط وإنما تأمين العدد الكافي من البراميل لتخزينه.
كان الأستاذ سيليمان محقا من دون أن يدرك ذلك ، ففي غضون قرن ، سيصبح النفط أساس عمل الاقتصاد وستجيش الجيوش والقوات العسكري لوضع اليد على مصادره أو حمايتها.
ومن المصادر الوفيرة الأخرى التي حفزت الاقتصاد الأمريكي في سنوات ما قبل الحرب الأهلية غابات البلاد التي لا تنضب. وقد تنبأ توماس جيفرسون أنه سينقضي ألف عام قبل أني نتهي زحف التخوم (البرية) إلى المحيط الهادئ. حتى في زمن جيفرسون اضوت كل الولايات المتحدة التي تقع شرقي المسيسيبي - ماعدا ثلاث منها – في الاتحاد وبدأت أعمال اقتلاع الغابات الشرقية بسرعة مذهلة. ولم يكن ممكنا الاستفادة من إنتاجية المزارع الخصبة في الغرب الأوسط إلا بعد إزالة الأشجار ، وارتفع الطلب على الخشب بمعدلات متزايدة مع نمو عدد الكسان بمقدار الثلث كل عشر سنوات وذلك من 5.3 مليون في العام 1800 إلى 31.4 في العام 1860.
كانت الأرقام المسجلة مذهلة ، ففي العام 1820 لم تكن متشجان – إذا كان القول – مأهولة بالأوروبيين . وفي العام 1897 بلغت صادراتها من خشب الصنوبر الأبيض 160 مليار قدم مسطحة. فلم يبق إلا 6 مليارات. وشهدت الولايات واحدة عقب الأخرى من عمليات مماثلت لإزالة الغابات.
لكن خشب الوقود لم يكن – في واقع الأمر – الاستخدام الوحيد لعمليات قطع الأخشاب الجارية على أساس تجاري في تلك السنوات . وبقي الخشب مصدر الوقود الأساسي في الولايات المتحدة الغنية بغاباتها حتى بعد سنوات طويلة من إبدال الفح به في اوروبا الفقيرة بالغابا. لقد زاد عدد المراكب البخارية وقاطرات السكك الحديد – بعد العام 1830 – كثيرا من الطلب علىالخشب كوقود. وقد صممت المداخن العملاقة التي ميزت القاطرات الأمريكية في تلك الفترة ، التي أخذت شكل مخاريط مقلوبة لإحتواء عاد اللهب المنطلق من الأفران حيث يحترق الخشب.
وكان لإنتاج خشب الوقود أثر سلبي على الأرض يتجاوز الأثر الذي خلفته أعمال قطع الأشجار للحصول على خشبها. فقد أدت أعمال القطع الأخيرة إلى تجريد نحو 25 ألف ميل مربع من الغابات ، أما أعمال القطع للحصول على خشب الوقود فقد عرت مائتي ألف ميل مربع كاملة بين العامي 1811و1867 ، أي ما يكفي لصناعة نحو خمسة مليارات كرد من خشب التدفئة. (لكي نتخيل مقدار تلك الأخشاب ، يمكن القول أن خمسة مليارات كرد – مرصوفة جيدا – تكفي لتغطية ولاية كونتيكتيكت بأكملها بطبقة عمقها أربعة أقدام).
لقد كان أثر القطع الجائر للغابات هذا – ولا داعي للقول – في النظام البيئي الطبيعي بالغا جدا. لكن الإنتاج الزرعي زاد بمعدلات عالية جدا مع تحول الغابات إلى حقول زراعية. ولم يجد معظم الناس غضاضة أيا كانت في عملية التحول تلك. وكتب زائر لأوهايو الجنوبية في العام 1823 ، وذلك بعد عشرين سنة فقط من اكتساب اوهايو صفة الولاية: "لم تقع عيناي على أبهج من هذا الحقل. ثلاثمائة فدان من الذرة المتماوجة .. وأولئك الرجال الخمسة عشر أو العشرون المنتشرون خلالها .. منكبين جميعا على العمل. أما الأكثر غرابة فهو أن يأتي ذلك كما كان الواقع من غابة طبيعية لا تتخللها إلا أكواخ متفرقة هنا وهناك وبقع صغيرة من الأرض المجردة من الأشجار التي حلت بها طلائع المستوطنين".
كان ثمة اعتقاد غالب آنذاك بأن هذا التغيير في المشهد الطبيعي إنما جاء بأمر إلهي ، ذلك أن سفر التكوين حث البشر على "إعمار الأرض وحرثها". وباستثناء بعض الأصوات القليلة الفردية ، مثل جورج بيركينز مارش الذي نشر كتاب "الإنسان والطبيعة" في العام 1864 ، فإن إنشاء حدائق المدن الكبرى في المدن المتسعة سريعا أو ما يسمى اليوم بالحركة البيئية لم يكن معروفا آنذاك.
لقد حرض إنتاج الذرة المتصاعد في أوهايو صناعة تعليب اللحوم ، التي تركزت في سينسيناتي إلى أن تفوقت عليها شيكاغو في العام 1860 ، وفي العام 1833 كانت سنسيناتي قد أنتجت لحوم خمسة وثمانين ألف خنزير. ووصل إنتاجها بعد خمسة عشر عاما إلى 500 ألف. إن نمو الإنتاج الزراعي الأمريكي في حقبة ما قبل الحرب الأهلية كان غير مسبوق في التاريخ الاقتصادي للعالم. على الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية قبل العام 1839 فقد ارتفع إنتاج لاذروة من 378 مليون شوال ذلك العام إلى 839 مليونا بعد عشرين عاما. أما إنتاج القمح فارتفع من 85 مليون شوال إلى 173 مليونا. لكن مع توسع مساحة الأراضي الزراعية المنتجة في الولايات المتحدة ، فإن تعهد الأمريكيين للأراضي الزراعية لم يشهد تحسنا يذكر ، وفق معايير العصر الاستيطاني ، لا بل إنه قد تراجع في الواقع.
في الأيام الأولى للاستطيان – عندما كان عدد السكان لا يزال قليلا جدا – جهزت أفضل أنواع الأراضي الزراعية ، بينما أهملت المنحدرات والأراضي السبخة فبقيت على حالها. ولم يكن الحث وإنجراف التربة مشكلة ظاهرة إلا في الجنوب ، حيث كثرت المزارع وهيمن محصول واحد على زراعة المنطقة. لقد رأى باتريك هنري – في فترة تعود إلى ثمانينات القرن الثامن عشر – أن المواطن الصالح هو ذاك الذي يردم العدد الأكبر من الأخاديد.
ولأن الأراضي كانت متوافرة بكثرة لا تعرف حدا ، فإن القيمة المخصصة لوحدة الأرض كانت متدنية. وهذا بديهي ، على الأقل في الأجل القصير ، وبناء على ملاحظة اللورد كينز فإننا جميعا في عداد الموتى على الأجل الطويل). إذ ينصب الأهتمام دائما على الاقتصاد في الموارد النادرة ، بينما تستخدم الموارد الوفيرة من دون حساب أو بإسراف. كانت رعاية الأرض عملا لا غنى عنه في اوروبا حيث لم يكن ثمة المزيد من الأراضي لاستغلاله. أما في أمريكا فإن الأراضي البكر الجديدة – التي كانت متوافرة من دون مقابل لمن شاء أن يضع يده عليها – لم تكن أبعد من مسير بضعة تلات أو وديان ، فكان المستوطنون دائما ينتقلون إلى هذه الأراضي . وكان هذا دابهم طوال ثلاثمائة عام وبإقبال مطرد.
أما العمل – ذلك المورد النادر والمكلف في أمريكا ما قبل الحرب الأهلية ، كحاله في الحقبة الاستيطانية – فكان موردا عليه الكثير من الطلب . وأوجدت روح الإبتكار الأمريكية كثيرا من الطرائق والوسائل لرفع إنتاجية الزراعة في الولايات المتحدة. ولم تختلف المحاريث التي تعود إلى أيام الحقبة الإستيطانية كثيرا عن تلك التي كانت تستخدم في اوروبا في القرون الوسطى ، وكانت تصنع من الخشب. وقد كان أداؤها جيدا في التربة السطحية في المناطق الشرقية في الولايات المتحدة ، لكنها كانت عديمة الفائدة في التربة العميقة الخصبة في المناطق النامية في الغرب الأوسط.
لقد درس توماس جيفرسون المحراث وحاول إبتكار محراث أفضل. وفي العام 19 بدا تشارلز نيوبولد تصنيع المحاريث من الحديد الصلب ، وفي العام 1814 صمم جيترود وود محراثا بأجزاء يمكن تعديل مواضعها ، مما جعل إصلاحه عملا أسهل من ذي قبل. لكن المحاريث الحديد نفسها كانت عديمة الفائدة في كثير من مناطق الغرب الاوسط ، لأنه لم يتسن قلب التربة التي كانت تعود إلى حالتها الأولى بعد أن يتجاوزها المحراث.
أحد الحدادين ويدعى جون دير كان من فيرمونت وانضم إلى النازحين إلى نيوإنجلاند واستقر في حاضرة ذات اسم غريب جراند ديتور بإيلينوي ، وهناك بينما كان منكبا على إصلاح محاريث عاطلة للفلاحين بدأ تجريب تصامين جديدة. وفي العام 1837 صنع محراثا باستخدام قطعة من نصل مناشري دائري فولاذي ، وقد أبلى بلاء حسنا في التربة القاسية في المنطقة الغربية الوسطى ، إذ شقت الشفرة الأرض بإتقان ولم ترتد التربة إلى سابق عهدها.
وعلى الفور انتقبل دير إلى أعمال التصنيع ، فأنشأ مصنعا في مولين بإلينوي ، لإنتاج المحاريث الجديدة التي ستنتشر سريعا عبر حزام المزارع المتنامي. وكان شعار الشركة الذي يتحدث عن مؤسسها : "ذاك الذي قدم للعالم المحراث الفولاذي" سيظل قيد الاستخدام حتى منتصف القرن العشرين ، بعد سنوات طويلة من انتهاء العمل بالمحراث الذي يجره حصان واحد في المزارع الأمريكية.
لكن ليس ثمة من بذل كثيرا في سبيل تطوير الزراعة الأمريكية من سايروس مكروميك. فالفطنة الأمريكية لم تكن حكرا على نيوإنجلاند ، حيث كان سايروس مكروميك من أبناء فيرجينيا ، إقليم روكبريدج في وادي شيناندوا الذي ناصر الجنوب ودافع عن السود المستعبدين حتى نهاية الحرب الأهلية. وعلى غرار والد إيلي ويتني ، كان والد مكروميك مزارعا وعامل ميكانيك ، يصنع المعدات للمزارعين ويصلحها, وكويتني كان مكروميك صفاحا (سمكريا) بالوراثة. وقد بدأ مكروميك – الذي كان يعمل في مزرعة والده ذات الألف ومائتي فدان – التفكير في وسائل حصاد القمح. كان الحصاد حتى ذلك الحين من المشكلات التي تعترض إنتاج القمح ، ذلك أن ثمة فترة محدودة جدا بعد نضج القمح يمكن خلالها حصاده بأحسن مايرام. إن العامل المزود بمنجل وهزازه لم يكن في استطاعته أن يحصد إلا فدانا واحدة من القمح يوميأز ولم يكن من المجدي – كما تبين – زراعة القمح بكميات لا تقدر الأيدي العاملة على حصادها.
لقد جزأ مكروميك عملية حصاد القمح إلى مراحلها المنفصلة ، وابتكر أداة ميكانيكية لأداء كل مرحلة. ومن ثم صمم آلة قادرة على إنجاز تلك المراحل جيمعها. وعندما بلغ الثانية والعشرين كان قد خرج بنموذج أولي عملي لحصادة آلية تستمد طاقتها من دولالب يعرف بدولاب التوجيه أو مقود الثور ، الذي ينتهي إلى ملامسة الأرض عندما تتحرك الآلة خلف الحصان. وفي الواقع كان المزارعون غير واثقين أول الأمر من نجاعته . ولم يبع مكروميك آلة واحدة في عشر سنين ، وفي العام 1742 لم يبع إلا سبعا. ولكن في أعقاب فضل أعمال الحصد في بريطانيا في العام 1845 عندما ألغا بريطانيا العظمى "قوانين الذرة" التي كانت تحمي المزارعين البريطانيين من المنافسة الدولية ، تصاعد الطلب على إنتاج القمح الأمريكي سريعا ، واقتنص مكروميك هذه الفرصة. وأنشأ مصنعا في شيكاغو – ولم يمض على تأسيسه آنذاك عشريون سنة – وبدأ إ،تاج الحصادات لسوق الاستهلاك الكبير . وفي خمس سنوات باع خمسة آلاف منها. وفي العام 1860 صار مكروميك رجلا عظيم الثراء ، وقدرت إحصاءات ذلك العام أملاكه الشخصية بنحو 278 ألف دولار وعقارات بقيمة 1.75 مليون دولار.
وبفضل حصادة مكورميك صار في الإمكان حصاد ثمانية أفدنة – وليس فدانا واحدا – يوميا ليصبح الغرب الأوسط في أمريكا سلة خبز العالم. وفي العام 1839 لم تصد رشيكاغو – التي كانت في أول عهدها ذلك الحين – أكثر من ثمانين شوالا فقط من القمح. وبعد عشر سنوات صدرت شيكاغو مليوني شوال من القمح.
ولم تزد حصادة مكورميمك فقط محاصيل الحبوب الأمريكية بنسبة كبيرة ولكنها غيرت أيضا من وسائل عيش الأمريكيين. ذلك أن ابتكار الحصادة وما تبعها من المعدات الزراعية الآلية التي لا تحصى ، أدى إلى تنقاص نسبة العمال الزراعيين الأمريكيين بمعدلات مطردة ، وفي المقابل كان الناتج الزرعي يشعد نموا مستمرا.
وهكذا ساعدت حصادة مكورميك كثيرا على تأمين العمالة اللازمة للتوسع الصناعي العظيم الذي شهدته أمريكا في أعقاب الحرب الأهلية.
وفي العام 1851 عرض مكورميك حصادته في المعرض الكبير في لندن ، وكان أول معرض عالمي ومن الأحداث المحورية التي شكلت وجهة القرن التاسع عشر. في البداية ساور الناس عشور من الشك والإرتياب. وأطلقت التايمز اللندندية – وهي معروفة بكرهها للأجانب – على آلة مكورميك الوصف التالي: "صليب وسط آلة طايرة وعربة يد ومركبة جياد .. اختراع أمريكي مبالغ فيه ، عظيم الحجم وغير عملي .. وغير مألوف وعصبي على الفهم".
وبعد تجريبها في أحد حقول القمح الانجليزية – مع ذلك عدلت التايمز عن رأيها تماما ، فكتبت يوم 9 يونيو 1851 أن "آلة الحصاد القادمة من الولايات المتحدة .. هي أفضل مساهمة تأتينا من الخارج وتضاف إلى حصيلة معرفتنا السابقة .. إن قيمتها لتعادل قيمة المعرض أجمع".
كما ذهلت الحشود المجتمعة في كريستال بالاس في لندن ذلك الصيف أيضا بالابتكارات الميكانيكية الأخرة ، وذهبت جوائز المعرض إلى المنتجات الأمريكية من محاريث ومسدسات كولت ومنتجات المطاط من شركة جوديير ، وآلة الخياطة من شركة إلياس هو.
لقد ساعد آخر تلك الابتكارات – بعد أن أعاد اسحق سينجر تصميمه لزيادة إمكاناته وقدراته على أداء مختلف المهما – على تحسين عمل ربات البيوت وخفض تكاليف الملابس الجاهزة. ذلك أن القميص المخيط يديوا كانت خياطته تستغر أكثر من أربع عشرة ساعة. وبفضل آلة الخياطة الجديدة صار في استطاعة الخياط الفروغ من قميص واحد في ساعة من الزمن.
وقد خشي كثير من عمال الملابس – كان ثمة أكثر من خمسة آلاف في مدينة نيويورك وحدها في العام 1853 – أن تقطع آلة الخياطة أرزاقهم ، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما. فمع تراجع أسعار الملابس الجاهزة بفضل آلة الخياطة عوض الطلب المتزايد عليها قدرا كبيرا من الانخفاضات السعرية . وهذا يبرر التحسن الهائل الذي أحدثته الآلة في مقدرات عمال العالم – إذا لم تقوضها على الأقل في الأجل الطويل. وفي الأجل القصير – بالطبع – حيث تدمر التقنية الجديدة أحيانا الفرص المتاحة للمهارات والخبرات القديمة ، إذ أن الأثر السلبي الاقتصادي قد يكون فادحا على كل فئات العمال . إن الأغنية الشعبية الشهيرة "كان جون هنري حفار طرق" ، التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر ، تلخص هذه المشكلة تماما في قالب فني.
في مطلع القرن التاسع عشر نشأت في البلد صناعة أخرى أساسية ساعدت على تحريض التجارة مع دول العالم أجمع وفرضت احتكارا كاملا تقريبا عليها ، وهي صناعة استمرت عقودا قبل أن تبطلها يد التقنية الحديثة : إنها تجارة الجليد.
لقد كان الجليد في نيوإنجلاند متوافرا مجانا لمن أراد أن يحصل عليه في أيام معينة من السنة ، وسلعة ثمينة في الأيام الأخرى وكذلك في المناطق الحارة من العالم. إن فطنة فريدريك تيويدور من ماساتشوستس ساعدته على إدراك فرصة تحقيق الأرباح من خلال توجيه عرض الجليد الذي لا ينضب في وقت الشتاء في نيوإنجلاند لمقابلة الطلب الهائل عليه في وقت الصيف وفي المناطق الاستوائية.
كانت تجارة الجليد - غير المألوفة – معروفة في روما القديمة حينما كان الثلح يستجلب من قمم جبال الأبيينن الشاهقة إلى موائد الأغنياء. وحفر مزارعو نيوإنجلاند حجرا من الجليد في الأرض حيث خزنوا قطع الجليد المأخوذة من سطوح البرك خلال فصل الشتاء. وكان يعزل بالقش لاستخدامه في فصل الصيف في حفظ الأغذية التي تفسد سريعا – كالحليب – مبردة. واعتقد تيودور أنه سيحقق أرباحا بجلب هذا الجليد إلى بقاع العالم التي لم تعرف الجليد. لقد كان – إذا جاز القول – الرجل الوحيد الذي فكر في عمل ذلك.
وفي 13 فبراير 1806 أبحرت سفينة أستأجرها تيودور – واسمها فافوريت من مرفا بوسطن. وأوردت صحيفة بوسطن جازيت ما يلي: "ليس من باب الدعابة ، لقد أبحرت سفينة تحمل 80 طنا من الجليد من هذا الميناء قاصدة المارتينيك. نأمل ألا يتحول ذلك إلى مضاربة شكسة".
ولسوء حظ تيودور ، فقد انقلب ذلك إلى مضارب شكسة. إذ ل تكن هناك من غرف باردة في المارتينيك لحفظ ما تبقى من الجليد في هذه الرحلة ، ولم يكن تيودور يعلم آنذاك عزل الجليد كي لا يذوب على سطح السفينة ، كما أن سكان المارتينيك – الذين عاشوا من دون جليد طوال قرنين تقريبا – لم يعلموا ماذا يصنعون به ، لذلك نظروا إليه بدافع الفضول وحب الاستطلاع.
وفي العقود الثلاثة اللاحقة ، جاهد تيودور لتعلم فنون تجارة الجليد ، فأنشأ مخازن للجليد في الأسواق التي يتوقع أن يزدهر فيها الطلب على الجليد ، فأتقن فنون العزل وقدم النصح والإرشاد لزبائنه. وتحول جمع الجليد من برد وأنهار نيوإنجلاند آنذاك إلى عمل روتيني. فكان له أدواته الخاصة لقطع الجليد ونقله إلى مخازنه المتزايدة عددا على الشاطئ.
ومن الأمثلة الممتازة عن التآزر الاقتصادي في أفضل مواد عزل الجليد كانت تلك النواتج الكريهة المتخلفة عن صناعة الخشب ، أي نشارة الخشب. كانت هذه النشارة تطرح في الماضي في أقرب مجاري الأنهار لتحملها بعيدا – حيث سببت كثيرا انقطاع الأنهار والفيضانات – وصارت تباع اليوم إلى تجار الجليد بسعر 2.5 دولار للكرد الواحد.
وفي ثلاثينيات القرن الثامن عشر أصبح الجليد من الصادرات الأمريكية عالية الربح. وكان الجليد الأمريكي يشحن في العام 1833 إلى مناطق بعيدة وصولا إلى كلكتا ، حينما بلغت سفينة توسكاني التي أبحرت من بوسطن في 12 مايو إلى مصب نهر الجانج في 5 سبتمبر. إن كلكتا – وهي من أحر مدن العالم وأكثرها رطوبة – كانت حينذاك عاصمة الهند البريطانية ، وهي تبعد 90 ميلا من أعالي نهر هوجلي ، وانتظر السكان وصول الجليد بلهفة وترقب. كما طالبت صحيفة "إنديا جازيت" أن يدخل الجليد من دون تعريف جمركية ، وأن يجاز للسفينة تفريغ الجليد في برودة المساء. واستجابت السلطات سريعا لهذه المطالب. واستطاع فريدريك تيودور نقل مائة طن من الجليد إلى كلكتا وأقبل البريطانيون هناك ممتين فاشتروا الجليد كله ، مما أكسب المستثمرين الأمريكيين أرباحا قدرت بنحو 10 دولار.
وفي خمسينيات القرن التاسع عشر كان الجليد الأمريكي يصدر بانتظام إلى كل المرافئ الإستوائية ، ومنها ريو دي جانيرو وبومباي ومادراس وهونج كونج وباتافيا (واسمها اليوم جاكرتا). وفي العام 1847 نقل ثلاثة وعشرون ألف طن من الجليد من بوسطن إلى المرافئ الأجنبية على متن خمس وعشرين سفينة ، بينما شحن اثنان وخمسون ألف طن إلى مواني أمريكا الجنوبية.
وبدأت المدن الأخرى التي تهيأت لها سبل الحصول على الجليد تشهد ميلاد تجارة الجليد. وكان على ضفاف نهر هدسون 135 مخزن جليد يكفي كل منها لتخزين آلاف الأطنان. وأصبحت صناديق الجليد من الأدوات المنزلية الأساسية في مساكن الطبقتين الوسطى والعليا في الأربعينيات من القرن التاسع عشر ، وصار توزيع الجلدي اليومي جزءا من الحياة اليومية. وصار ولع الأمريكيين بالمشروبات المثلجة والحلويات المجمدة على أشده ، ولايزال ذلك هو ما يميز الأمريكيين في عيون الأوروبيين ، وخصوصا البريطانيين.
ولقد قدر حجم تجارة الجليد في العام 1880 بثمانية ملايين طن سنويا ، وكانت الشتاءات الدافئة تقابل بتحذيرات الحصف من "نقص حاد في الجليد" في الصيف التالي مما كان يدفع الأسعار إلى الإرتفاع سريعا. وقضى التبريد الآلي على هذه التجارة مع المدن الأجنبية النائية في ثمانينات القرن التاسع عشر ، حين لم تعد قادرة على منافسة الجليد المصنوع محليا. لكن تجارة الجليد المحلية ظلت في حالة توسع حتى القرن العشرين ، عندما بدأت الثلاجة المنزلية تأخذ مكان بائع الثلج.
إن الكساد العميق الذي بدأ في العام 1837 قد شرع في الإنحسار في منتصف الأربيعنيات من القرن التاسع عشر ، أما إيرادات الحكومة الفدرالية – وهو مؤشر للنشاط الاقتصادي – فقد بلغت مستوى جد متزن هو 8.3 مليون دولار في العام 1834 وهو أدنى مستوى منذ عقود. لكنها قفزت في العام التالي إلى 29 مليون دولار. ولقد حرضت "حرب المكسيك" آنذاك – وقد اندلعت في العام 1846 – وقد أضافت حرب المكسيك – بالطبع أراضي جديدة شاسعة للولايات المتحدة بعد أن تنازلت المكسيك عن مطالبتها بتكساس شمال ريوجراند ، كما تنازلت أيضا عن نحو مليون ميل مربع مما يعرف اليوم باريزونا وأوتاوه ونيفادا وكاليفورنيا وأجزاء من كلورادو ويومنيج ونيومكسيكو في مطلع العام 1848 مقابل 15 مليون دولار ، وإعفاء الولايات المتحدة لعدة ملايين من الدولارات كان المكسيك مدينة بها لمواطنين أمريكيين.
وفي السنة نفسها أبرم اتفاق مع بريطانيا العظمة على تقسيم أراضي أوريجون على حط الطول التاسع والأربعين وصارت للولايات المتحدة الآن شواطئ على المحيط الهادي بطول شواطئها على المحيط الأطلسي تقريبا. لكن كثيرا من الأراضي التي تقع غرب تكساس والولايات المتاخمة للمسيسبي كانت غير مأهولة وغير معروفة إطلاقا.
حتى قبل طرح المعاهدة التي أنهت حرب المكسيك على طاولة المفاوضات. وقع حادث سيؤثر كثيرا في الولايات المتحدة في منطقة كانت لا تزال حينها أرضا مكسيكية ذلك أ، الذهب اكتشف في سترز ميل في كاليفورنيا.
وفي 24 يناير 1848 كان رجل يدعى جيمس مارشال يعاين تدفق المياه إلى المنشرة التي فرغ من بنائها على الفور لرب عمله جون ستر على النهر الأمريكي ، غير بعدي عن ميدنة ساكرامانتوا الحالية. وقد حول المياه إلى مجرى القناة المائية في الليلة الماضية لتنظيفها من الركام والعوالق وقد شد انتباهه شيء "بشكل البرغوث وبنصف حجمه" . وتذكر فيما بعد قائلا: "لقد زاد ذلك خفاق قلبي لأني كنت واثقا بأنه الذهب". والتفت إلى عماله قائلا: "يا رفاق ، أقسم بالله أني وقعت على منجم ذهب".
لقد كان جنون الذهب في كاليفورنيا الأولى في سلسلة من موجات جنون الذهب في الولايات المتحدة ، لقد عثر شاب صغير اسمه كونراد ريد على شذرة كبيرة من الذهب – بلغ وزنها سبعة عشرة رطلا – في نهير في مزرعة والده في اقليم كاونتي بكارولينا الشمالية ، في العام 1799 ومع ذيوع الخبر انطلق الناس يبحثون عن الذهب في العقود اللاحقة ، ذلك أن أولى القطع النقدية الذهبية التي صدرت في أمريكا إنما سكت هناك في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، وذلك في دار سك خاصة أسسها كريستوفر بتشلر – وهو مهاجر ألماني – في غقليم روثفورد. لقد حظر الدستور على الولايات ضرب النقد ، لكنه لم يكن ينكر ذلك على الأفراد على الرغم من أن القطع النقدية ليست بالطبع نقدا قانونيا. وقد كانت القطع النقدية التي كسها بيشلر في فئات دولار و2.5 دولار و5 دولارات مضروبة بنزاهة وإتقان ، واكتسبت شعبية كبيرة في اقتصاد الجنوب ، المتعطش للعملة المعدنية ، في فترة ما قبل الحرب.
لكن جنون الذهب في كاليفورنيا كان يختلف بنطاقه كلية عن جنون الذهب الذي شهدته كارولينا الشمالية . ففي العام 1847 أنتجت الولايات المتحدة 43 ألف أوقية من الذهب ، كان معظمها ناتجا ثانويا لعمليات التنقيب عن المعادن الأساسية. وقد أنتج في العام 1848 أكثر من عشرة أضعاف ذلك بفضل إنتاج كاليفورنيا ، وفي العام 1849 وصل إنتاجها إلى 1.93.5 مليون أوقية. وفي العام 1853 أنتجت كاليفورنيا أكثر من 3 ملايين أوقية قدرت قيمتها بنحو 65 مليون دولار ، أي أكير من الإيرادات الفدرالية الإجمالية ذلك العام بنحو 4 ملايين دولار.
إن الذهب مادة عجيبة ، فهو يعد من العناصر الثقيلة من ناحية ، ذلك أن السنتمتر المربع من الماء يزن جراما واحدا. وبالتالي فإن القدم المربعة من الماء تزن 62.43 رطل. وأن القدم المربعة من الجرانيت تزن نحو 170 رطلا . أما وزن الذهب فهو 120 رطل للقدم المربعة. ومن ناحية أخرى ، يعد الذهب عنصرا كيماويا خاملا لا يتفاعل مع العناصر الأخرى ولذلك لا يفقد بريقه. لذلك يوجد الذهب في الطبيعة بحالته النقية وأحيانا على شكل قشور صغيرة أو تراب. ويكون في الأغلب مطمورا في الصخر كالوارتز ، وأحينا يتجمع في شذرات كبيرة الحجم من الذهب الخالص.
وعندما تنفصل شذرات الذهب وقشوره وترابه بفعل الحت عن حواق الهضاب فإنها تنجرف مع مياه الأنهار. لكن ثقل الذهب يجعله ينزع نحو الرسوب عند تباطؤ حركة التيار ، كما يحدث في الدوامات أو في داخل حنيات النهر ، حيث يأخذا لذهب في التجمع في تلك المواضع.
وبالتالي فإن الذهب – وعلى خلال كل المعادن الأخرى عموما – يمكن التنقيب عنه والعثور عليه من دون إنفاق كثير من المال. في الأيام الأولى من جنون الذهب لم يكن المنقبون في حاجة إلى إلى بضع أدوات ومجرفة والعزيمة على العمل الدؤوب. وفي العام 1848 لم تكن ثمة قلة من الرجال الراغبين في ذلك وخصوصا أولئك المستعدين لهجر أعمالهم الرتيبة – التي تؤمن لهم مع ذلك دخلا ثابتا – كمزارعين ومدرسين وموظفي مصارف وآلاف من الأعمال الأخرى ، والمضي بحثا عن الثراء السريع في حقول ذهب كاليفورنيا.
وكانت النتيجة واحدة من أكبر هجرات القرن التاسع عشر ، لا بل القرون جميعا. ومع ذيوع الخبر – بعد أنت باءت بفشل ذريع محاولة جيمس مارشال وجون ستر التكتم على الخبر ، بالطبع – هجرت مدن بأكملها حينما اندفع الرجال إلى الحقول. وقد خلت سان فرانسيسكو تماما من ساكنيها – وكانت آنذاك قرية لا يتجاوز عدد سكانها ألف نسة – وغص ميناؤها بالسفن الراسية التي هجرها ركابها ومضوا بحثا عن الذهب. ومع انتشار الخبر في ارجاء أخرى. وصلت الموجة ذاتها إلى هاواي وأريجون وأمريكا الجنوبية وأسترالية والصين فيمم الآلاف من الرجال وجوههم قبل كاليفورنيا.
وقد مر وقت طويل قبل أن يبلغ الخبر الساحل الشرقي ، ولم تصل شائعات الذهب الكاليفورني إلا في أواخر الصيف. ولم يذع الخبر رسميا إلى في 8 ديسمبر. وفي ذلك اليوم أرسل الرئيس جيمس تي بولك إلى الكونجرس خطابا يعلمه فيه بفورة الذهب ، وأرفق بالخطاب دليلا أرد به لفت إنتباه الجميع : شذرة من الذهب زنتها عشرون رطلا كاملة. وبما أن قيمة الرطل الواحد من الذهب كانت 20.66 دولار – وهو سعر التحويل الرسمي بين دولار الولايات المتحدة والذهب منذ العام 1837 – فقد بلغت قيمة تلك الشذرة نحو 4.800 دولار. وكان ذلك المبلغ في العام 1848 كافيا لأسرة كبيرة كي تعيش في رخاء الطبقة فوق الوسطى لعام كامل أو يزيد. وكانت النتيجة شيئا أقرب إلى السعار الجماعي. ففي العام 1849 توجه نحو تسعين ألف أمريكي إلى كاليفورنيا وتبعهم ما يقارب ذلك العدد أيضا في العام 1850. وهذا العدد يقل كثيرا عن 1 في المائة من عدد السكان. وكان معظمهم – ولا غرابة في ذك – من الرجال. وعندما أصبحت كاليفورنيا ولاية بعد أقل من ثلاث سنين من جنون الذهب ، كان عدد الذكور يشكل نسبة 92 في المائة من سكانها.
ولم تكن تلك رحلة سهلة ، ففي العام 1849 لم تكن ثمة إلا ثلاث طرق لبلوع كاليفورنيا من الجهة الشرقية للولايات المتحدة. وإحدى هذه الطرق كانت طريقا برية ، وكانت الرحلة تستغرق ستة أشهر عبر الأراضي غير المأهولية والخطرة أحيانا. وطرق أخرى كانت تستدعي الالتفاف حول رأس هورن بالسفينة ، وكانت الرحلة تستغرق نحو ستة أشهر أيضا . كان أنها كانت أقل مشقة وأكثر كلفة بالمقابل. أما الطريق الثالثة فكانت تمر عبر بنما. وبدأت السفن التجارية بالعبور إلى بنما بصورة منتظمة ، وكان حينها على المسافرين أن يشقوا طريقهم عبر برزخ بمياه الأمطار وتكثر فيه ناقلات الحمى إلى المحيط الهادي آملين بالعثور على ناقلة في الشمال تقلهم إلى كاليفورنيا ، كالسفينة البخارية كاليفورنيا التي كانت ترسوا في رحلات إلى رأس القرن ومنه لهذا الغرض.
إن الرحلة عبر بنما لا تستغرق أكثر من سبعين يوما – وهي مدة ليست بالطويلة – لكن التوقف في مدينة بنما كان يستغرق عدة أسابيع. وقد وجد أودجين ميلز – الذي سيحقق ثروة من العمل المصرفي في زمن جنون الذهب – كناك سفينة متجهة إلى الشمال إطلاقا. وفي آخر المطاف استقبل سفينة إلى الجنوب بحثا عن سفينة يستأجرها . وكان عليه أن يمضي بعيدا حتى كالارو في البيرو ليعثر على واحدة. وانتهت رحلته من نيويورك إلى كاليفروينا في ستة أشهر أيضا.
إذا تأملنا من منظور سياسي ، فإن جنون ذهب كاليفورنيا أدى إلى دفع مركز الثقل في البلاد بشدة نحو الغرب. ففي العام 1850 كانت نقطة تركز سكان الولايات المتحدة – شرقي بالتيمور في العام 1790 – تقع قرب بيراكرزبرج في فيرجينيا (هي اليوم فيرجينيا الغربية). لكن في العام 1851 عندما كان جنون الذهب لا يزال وباء متفشيا كتب جون إل بي سول في صحيفة تيرهوت إكسبرس: "يمموا وجوهكم غربا !". وهي عبارة اقتبسها هوراس جريلي على الفور وصارتنسب إليه منذ ذلك الحين.
وهكذا أصبحت روابط الولايات المتحدة مع ولايتها الجديدة النائية – التي تقع على بعد ألف منيل غرب الحدود الغربية مع تكساس – الشغل الشاغل آنذاك. لقد بدأ بناء سفن القلبر ، وكانت سرعتها ميزتها الأساسية ، (بينما كان عدم توافر مساحات الشحن من أوجه قصورنا الأساسية) في مسافن بوسطن ونيويورك بأعداد متزايدة لحمل الناس إلى كاليفورنيا وتقليص الزمن اللازم للالتفاف حول رأس القرن. وقد أنجزت سفينة فلايينج كلاود (الغيمة الطائرة) – وكانت بالفعل اسما على مسمى – الرحلة من نيويورك إلى سان فرانسيسكو في زمن قياسي بلغ تسعة وثمانين يوما ، وهي نصف المدة التي كانت تسغرفها السفن الشراعية العادية. وفي العام 1853 وضعت قيد الاستخدام نحو 120 سفينة قلبر. لكن مد السكك الحديد عبر بنما وتقديم خدمة السفن البخارية الأكثر كفاءة وأمانا في الشطر الباسيفيكي من مسار الرحلة ، جعل سفن القلبر عاجزة عن المنافسة ، وبدأت أعداد السفن قيد الإنشاء تتناقص سريعا ، حتى أن آخر سفينة سلكت هذه الطريق إنما شوهدت في العام 1859.
لقد ظهرت الحاجة الملحة أيضا إلى ضرورة شق طريق عبر الأراضي الأمريكية نفسها. وفي العام 1853 اشترت الولايات المتحدة 29 ألف ميل مربع من المكسيك فيما بات يعرف اليوم بأريزونا. لأنه كان ثمة اعتقاد حينذاك أن هذه الأراضي ستكون أفضل طريق تمر عبرها السكك الحديد في مناطق الجنوب. وفي العام 1860 قلل قطار بوني اكسبرس زمن الاتصال بكاليفورنيا بنحو عشرة أيام ، وفي العام 1861 قلصت خطوط التلغراف ذلك الزمن إلى دقائق معدودات.
لقد كان أثر جنون الذهب الذي شهدته كاليفورنيا في الاقتصاد الأمريكي كبيرا كأثره في السياسة الأمريكية.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ، كان الذهب يتداول كنقد ، وبعد انتهاء الحروب النبليونية في العام 1821 انتهجت المملكة العظمى معيار الذهب. وقد كان ذلك يعني أن مصرف انجلترا كان مستعدا لشراء او بيع كميات غير محدودة من الجنيه الاسترليني مقابل الذهب بسعر تبادل قدره 3 جنيهات و17 شلنا و10.5 بنس للأوقية الواحدة ، هذه النسبة وضعت قبل أكثر من قرن من ذلك التايرخ على يد السير اسحق نيوتن ، الذي أختير من بين الجميع ليشغل منصب "القائم على مسكوكات الملك". هذا المنصب كان يوفر لشاغله تعويضا حسنا ، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يتطلب حضورا يذكر من شاغله.
ولأن المملكة المتحدة كانت تهيمن على اقتصاد العالم وتجارته في القرن التاسع عشر ، ولأن مصر انجلترا – كان في واقع الحال – المصرف المركزي للعالم فإن معظم الدول التجارية الكبرى ربطت عملاتها بالذهب من دون تردد.
كانت التجارة العالمية تتم على أساس معدل الذهب أو الجنيه الاسترليني ، لكنه وبينما كانت الولايات المتحدة تعتمد في علاقاتها الخارجية على معيار الذهب ، فقد استمرت في الداخل الاضطرابات النقدية ، لا بل إنها تصاعدت . في خمسينيات القرن التاسع عشر كان ثمة أكثر من سبعة آلاف نوع من الأوراق النقدية المصرفية (البنكنوت) في التداول – بغض النظر عن درجة قبولها في التداول – وأكثر من خمسة آلاف منها كانت مزورة أولا تخلو من الاحتيال.
ومع حلول العام 1860 كان ثمة أكثر من مائتي مصرف تزاول عملها في الولايات المتحدة. كان بعضها كبيرا وينتهج سياسات محافظة ويتمتع بالاستقرار المالي ، وقد اتخذ مقره في المدن الشرقية الكبرى. ومعظمها مع ذلك كان يمارس عمله في المدن الصغيرة ويعتمد على الاقتصادات المحلية . كما ا، بعضها كان يعرف باسم "المصارف المريبة" لأن مقراتها الرئيسية – وهي الموضع الوحيد الذي فيه استردادها بالذهب والفضة – كانت واقعة في مناطقة مخالفة يصعب الوصول إليها ، عن قصد من أصحابها.
ومع تدفق ذهب كاليفورنيا إلى الاقتصاد الأمريكي ، ارتفع عرض النقد بصورة واضحة. وكثرت أعمال ضرب القطع النقدية على يد الحكومة الفدرالية ، كما ازداد إصدار الأوراق النقدية المصرفية (البنكنوت) على أساس احتياطيات الذهب . ولأنه لم يكن ثمة مصرف مركزي في البلد ، فلم تكن هناك آلية لتنظيم عرض النقد والرقابة عليه أو استخدام السياسة النقدية لضبط ما أطلق عليه آلان جرينسبان في عبارته الشهيرة: "الوفرة غير العقلانية". وكانت النتيجة طفرة هائلة ، لم تدم طويلا.
في العام 1850 لم يكن طول خطوط السكك الحديد مجتمعة يتجاوز 9 آلاف ميل ، لكن هذا الرقم وصل إلى 30.626 ألف ميل بعد عقد من الزمن. وارتفع إنتاج تماسيح الحديد من 63 ألف طن في العام 1850 إلى 883 ألف طن بعد ست سنوات فقط. وبدأت فلز الحديد يتدفق بكميات متزايدة من ماركيت آيرون رينج في شبه جزيرة متشجان العاليا ، وهي أول مكامن فلز الحديد التي تكتشف حول البحيرات العظمى ، والتي سيتبين في نصف القرن القادم أنها أكبر مكامن الحديد وأغناها في العالم أجمع.وتضاعف في تلك السنوات إنتاج الفحم ، الذي بدأ من فوره يحل محل الخشب كمصدر رئيسي للوقود في قطاعات النقل والصناعة الأمريكية.
وقد تدفق رأس المال - كما هي الحال دائما كلما أصاب الاقتصاد الأمريكي ازدهارا – من اوروبا تمويل التنمية. فلبغت قيمة الأوراق المالية بحيازة الأجانب في العام 1847 نحو 193.7 ملوين دولار.وارتفعت قيمة تلك الأوراق بعد عقد من الزمن إلى 383.3 مليون دولار.
كثير من رأس المال الجديد هذا كان يتداول في وول ستريت ، التي رسخت موقعها كمركز مالي للولايات المتحدة في خمسينيات القرن التاسع عشر. وكتب لويسفيل كوريرر في العام 185 "كل سكنة في هذا الكيان المالي العظيم كان أثرها يستشعر في كل أنحاء البلاد من مين إلى فلوريدا ، ومن ضفة الأطلسي إلى ضفة الهادي". وأودعت المصارف العاملة خارج ولاياتها الأصلية – على الفور – مبالغ طائلة في مصارف مدينة نيويورك لتسهيل الاحتياطيات التجارية لعملائها في نيويورك ، مع شروع المدينة في الهيمنة على تجارة القطن – في مناطق الجنوب وتجارة القمح في المنطقة الغربية الوسطى – مع اوروبا. وافتتح سبعة وعشرون مصرفا جديدا في نيويورك وحدها في الفترة ما بين 1851 و1853 فقط.
ومع التوسع السريع الذي أصابه الاقتصاد الأمريكي في مطلع الخمسينيات من القرن التاسع عشر ، كانت ذروة النشاط – كما الحال دائما – أكثر وضوحا في سوق نيويورك المالية . وافتتح بورصات جديدة لتنظيم تداول الأسهم الصغيرة التي لا تقبل بورصة نيويورك ومجلس البورصة العامل بها ، وقد بلغ عدد الشركات المؤسسة في الخمسينيات من القرن التاسع عشر ما يساوي عدد الشركات التي أسست في النصف الأول من القرن. ومع حلول العام 1856 كان ثمة 360 سهما لشركات السكك الحديد و985 سهما للمصارف و 5 سهما لشركات التأمين قيد التداول المنظم في وول ستريت ، مع ارتفاع وسطي حجم التداول في وول ستريت بعشرة أضعاف.
وفي العام 1857 بدأت الطفرة الاقتصادية تفقد زخمها. واستقر إنتاج الذهب في كاليفورنيا. كما أن حرب القرم وتراجع إنتاج المحاصيل الزراعية في اوروبا – التي طالما حرضت الطلب على الصادرات الأمريكية – قد انتهت. وصارت موانئ نيويورك آنذاك مكتظة بالسفن التي لا تجد حولة تنقها. وبقي ستة آلاف نول نسيج في نيوإنجلاند في ذلك الصيف بدون عمل.
وفي 27 يونيو من ذلك العام كتب جيمس جوردون بينيت في صحيفة الهيرالد "هل يمكن أن ينتهي كل هذا إلا بانهيار شامل كذلك الذي وقع في العام 183 ، باستثناء أن ذلك الإنهيار كان واسع النطاق؟". إن الفساد الإداري والإفلاس العام والفقاعات الورقية في كل صورها وملايين الدولاات – المخلقة أو المقترضة – التي ذهبت للإنفاق على بناء المساكن المترفة او شراء الأثاث المبهرج ، ومئات الألوف من قصص التفاخر المبتذل من محدثي النعمة المتأنقين في اقتناء الحرير والرباطات والماس وجميع ضروب الأناقة المتكلفة والمكلفة .. ليست إلا غيضا من فيض الشرور الصارخة التي ميزت ذلك العصر".
وفي أواخر الصيف بدأت الأسعار في وول ستريت تعكس واقع الاقتصاد الوطني الواهن. وشرعت المصارف وبيوت السمسرة الضعيفة بالإنهيار. وعندما غرقت السفينة التجارية "سنترال أمريكا" قبالة سواحل كارولينا الشمالية في إعصار ضربها في 12 ديسمبر ، أغرقت معها 400 مسافر. لكن مصدر القلق الأكبر الذي اعترى قطاع الأسواق كان غرق 1.6 مليون دولار من ذهب كاليفورنيا مع السفينة أيضا ، وعصب الرعب بوول ستريت . وفي الحال انتقلت موجة الهلع إلى اوروبا في أول حوادث انهيار الأسواق الحقيقية في العالم. وكان هذا إشارة دامعة إلى الأهمية المتعاظمة للاقتصاد الأمريكي بالنسبة إلى العالم أجمع. وفي منتصف اكتوبر علق معظم مصارف البلاد – وكل المصارف الكبرى في مدينة نيويورك – الدفع بالنقد المعدني (الذهب والفضة). وكان ذلك مؤقتا إلى أن استعادت المصارف احتياطياتها واستدعت قروضها فاستنأف معظمها الدفع بالذهب والفضة في ديسمبر ، لكن الاقتصاد سيتمرغ أيضا في كساد جديد في السنوات الثلاث التالية. كما تراجعت الإيرادات الفدرالية بمقدار الثلث بين العامين 1857-1858.
لقد أثبت الاقتصاد الأمريكي في العقود الستة الأولى من تبني الدستور أنه من عجائب العالم . فقد تضاعفت مساحته ثلاثة أضعاف ، وارتفع عدد سكانه ثمانية أضعاف. لكن حجم الاقتصاد ارتفع ثمانية عشر ضعفا أو يزيد. وتوسعت مجموعة من الولايات الصغيرة – التي غلبت على اقتصاداتها الصفة الزراعية – على مساحة غطت نصف القارة. ونمت الصناعات الأمريكية من العدم لتصبح من المراكز الصناعية الرائدة على مستوى العالم. ومدت شكبات الطرق والاتصالات ، فأصبحت الأكبر على وجه المعمورة.
لكن هذا الاقتصاد لم يصل الكمال بعد. صحيح أن خطوط السكك الحديد في الولايات المتحدة كانت تتجاوز طولا خطوط السكك الحديد في أي بلد آخر في العام 1860 ، على سبيل الثمال ، لكنها مازالت آنذاك تستورد كثيرا من السكك والعربات من انجلترا ، كما كانت تستورد معظم حاجتها من الفولاذ ، وهو معدن بدأ يحتل أهمية كبيرة منذ ذلك الحين.
إلى ما تقدم ، فإن القوى السياسية ذات المصالح الضيقة كانت تقسم البلاد إلى شطرين : شمالي وجنوبي ، على الرغم من التكامل غير المسبوق الذي حققه الاقتصاد القومي . وكما تبين لاحقا ، لم يتسن احتواء تلك القوى تماما بالوسائل السياسية ، على الرغم من جهود استغرقت عقوادا. وستبين أن ما نعته وينستون تشرشل بأكثر الصراعات حتمية بين الشعوب الناطقة بالانجليزية سيكون أشد الأحداث تأثيرا وأكثرها شأنا في التاريخ الأمريكي. ذلك أنه على الرغم من أن الاتحاد الأمريكي إنما ولد من رحم الثورة ، فإن الأمة الأمريكية لن تتشكل إلى على سندان الحرب الأهلية المروعة.
المصادر
- إمبراطورية الثروة، الجزء الأول