البلعمي (أسرة)
البلعمي نسب لاثنين من كبار رجال الإدارة والسياسة في الدولة السامانية التي سيطرت على ما وراء النهر وجزء من خراسان بين القرنين الثالث والرابع الهجريين/القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وهما أبو الفضل محمد بن عبيد الله، وابنه أبو علي محمد بن محمد بن عبيد الله.
ينسب السمعاني وياقوت الحموي الأسرة البلعمية إلى قبيلة تميم العربية، ويرى السمعاني أن لقب البلعمي منسوب إلى «بلعم» وهي بلد في ديار الروم ورد إليها أحد أجداد أبي الفضل هو «رجاء بن معبد» في جيش مسلمة بن عبد الملك وأقام فيها، فنسب أبناؤه وحفدته إليها، وينسب إلى قرية بلعمان الواقعة إلى جوار مدينة مرو في خراسان، وكان قد بلغها أحد أجداد البلعمي مع جيش قتيبة بن مسلم الباهلي، ويرجح الرأي الثاني أن أسرة البلعمي كانت تقيم في مرو.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أبو الفضل محمد بن عبيد الله البلعمي (ت329هـ/940م)
نشأ في مرو ودرس فيها علومه الأولى على عدد من العلماء، منهم الإمام محمد بن نصر المروزي الذي كان له أثر في آرائه. وكان لأبي الفضل، كما يقول الإصطخري، عدد من الدور هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى سمرقند لمتابعة دراسته في علوم العربية والفقه والحديث.
ويذكر ابن الأثير أن أبا الفضل انتقل إلى بخارى، عاصمة السامانيين، واتصل بالأسرة الحاكمة فيها منذ أيام الأمير إسماعيل بن أحمد (279- 295هـ/892- 907م)، ثالث أمراء الأسرة، وغدا واحداً من رجال الحاشية الذين توكل إليهم بعض المهام بين حين وآخر، وبدءاً من عام 308هـ/920م اقترن اسمه بالنشاط الحربي للسامانيين. فكان في عداد الجيش الذي أنفذه الأمير نصر بن أحمد الساماني (301- 331هـ) إلى «طوس» في خراسان لقتال بعض العصاة. وكان ثبات أبي الفضل في المعركة سبباً في تحولها من هزيمة إلى انتصار. وفي قدومه الثاني إلى خراسان بعد عامين واحداً من قواد الجيش. ظهرت حنكته السياسية، إضافة إلى شجاعته في القتال عندما استولى على جرجان (جنوب شرقي بحر قزوين).وانتهت مراسلاته مع حاكم «أستراباذ» المجاورة إلى قبول صاحبها دفع إتاوة إلى الأمير نصر في مقابل بقائه عليها.
يبدو أن ما أدركه أبو الفضل من نجاح عسكري وسياسي في خراسان كان سبباً لأن يسند إليه الأمير نصر منصب الوزارة عام 310هـ/922م. وكانت الإمارة السامانية في ذلك الوقت مضطربة الأحوال بسبب ثورة أحد أقرباء الأمير نصر عليه. وظهرت حنكة أبي الفضل البلعمي مرة أخرى عام 318هـ/930م حين نشبت ثورة ثانية اشترك فيها ثلاثة من إخوة الأمير نصر مستغلين خروجه من العاصمة بخارى في رحلة إلى نيسابور، إذ تمكن أبو الفضل، بعد مراسلات، من الإيقاع بين الثوار، فقتل بعضهم بعضاً وانتهت ثورتهم بالإخفاق.
اشتهر الوزير أبو الفضل ببراعته في التراسل، وقد استغل هذه المقدرة عام 321 هـ/933م في ثني حاكم الري مرداويج بن زيار عن غزو جرجان وإجباره على دفع مال لتبقى له الري، إذ كتب إليه يقول: «أنا أعلم أنك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد (يقصد الأمير نصر) وأنك إنما حملك على قصد جرجان وزيرك... وأنا لا أرى لك مناصبة ملك يطيف به مئة ألف رجل من غلمانه ومواليه وموالي أبيه. والصواب أنك تترك جرجان له وتبذل عن الري مالاً تصالحه عليه».
وفي مقابل الجد والحزم اللذين عرف بهما أبو الفضل في السياسة، أتى أعمالاً في داخل الإمارة السامانية تنم على حس إنساني ورأفة بالرعية، إذ كان يسعى إلى تخفيف ثورات الغضب التي عرف بها الأمير نصر، فأقنعه ألا يأمر بتنفيذ أي عقوبة شديدة إلا بعد مضي ثلاثة أيام من صدور مثل هذا الأمر، ليكون باستطاعة الأمير أن يراجع نفسه بعد أن يهدأ غضبه. وأفلح أبو الفضل في تعيين ثلاثة من الفضلاء، انتقاهم من سبعين رجلاً بعد فحص وتمحيص دقيقين، ليسند إليهم مهمة الشفاعة لدى الأمير.
تعدّت أعمال الوزير البلعمي إصلاح الإدارة إلى العمران، إذ يذكر الإصطخري أن في بخارى محلة وباباً في سورها يحملان اسم الشيخ أبي الفضل.
ويبدو أن عودة أحد أقرباء الأمير نصر إلى الثورة عام 326هـ/938م، بعد أن حصل له أبو الفضل على عفو من الأمير إثر ثورته الأولى عام 322هـ/934م، قد دفعت نصراً للاستغناء عن خدمات وزيره غير مبال بما حاق بإدارة الدولة من خلل بعد تنحيته.
أطرى سيرة أبي الفضل كل من أتى على ذكره، فقال فيه البيهقي إنه «من نوادر عصره علماً وفضلاً»، ونعته ياقوت «بوزير آل سامان»، وأورد له، كما ذكر في معجم البلدان، ترجمة في كتابه «أخبار الوزراء» الذي لم يصل إلينا. ووصفه ابن الأثير بأنه «من عقلاء الرجال». وقال عنه الذهبي إنه «الوزير الكامل الذي فاق أهل زمانه» وعدّه إماماً فقيهاً ونسب إليه آراء في مسائل الإيمان والعقائد. وكان عند ابن العماد الحنبلي «أحد رجال الدهر عقلاً وبلاغة». ورأى فيه بارتولد رجلاً من ألمع رجال السياسة في الدولة السامانية، وردّ الجوانب المشرقة في عهد الأمير نصر إلى جهود الوزير أبي الفضل البلعمي وجهود سلفه أبي عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني الذي شغل المنصب في الحقبة الأولى من حكم الأمير نصر.
ينُسب إلى أبي الفضل كتابان مفقودان هما «تلقيح البلاغة» و«كتاب المقالات». وكانت وفاته في بخارى بعد مبارحته منصب الوزارة بثلاث سنوات.
أبو علي محمد بن أبي الفضل محمد بن عبيد الله (ت363هـ/975م)
وزير الأمير عبد الملك بن نوح (343-350هـ/954- 961م) من الأسرة السامانية. وكان وصول أبي علي إلى الوزارة بعد وفاة أبيه بإحدى وعشرين سنة أي نحو مطلع عام 350هـ /961م. وكان ذلك بتوصية من قائد الجيش «ألب تكين». ولم تنقض عشرة أشهر على استقرار أبي علي في منصبه حتى قضى الأمير عبد الملك نحبه فجأة عندما سقط عن ظهر جواده، وتدخل قائد الجيش ليفرض ابناً صغيراً للمتوفى أميراً على البلاد، لم يدم عهده إلا يوماً واحداً، إذ وقفت الأسرة السامانية ومعها قادة آخرون وفيهم أبو علي الوزير إلى جانب الأمير منصور، شقيق عبد الملك، وانتهى الأمر بتثبيت منصور خلفاً لأخيه، في شوال 350هـ/تشرين الثاني 961م، فضمن أبو علي بذلك منصبه في الوزارة إلى حين وفاته، ولكن الأمير منصوراً لم يلبث أن أشرك معه في هذا المنصب عام 351هـ/962م وزيراً سابقاً هو أبو جعفر العتبي إلا أن هذه المشاركة لم تدم طويلاً. ويورد نظام الملك في مؤلفه «سياسة نامه» خبر مؤامرة دبرها لأبي علي في أول عهده بالوزارة من دعاهم نظام الملك بالقرامطة حين وشوا به إلى الأمير منصور، فأمر بسجن أبي علي مصفداً في ربض بخارى إلى أن توسط له ألب تكين، وكان ما يزال ذا نفوذ قبل أن يغادر الإمارة إلى غزنة، فأطلع الأمير منصوراً على حقيقة ما جرى، فأفرج عن البلعمي وأعاده إلى منصبه، وأطلق يده في القضاء على المتآمرين.
عُرف أبو علي بقوة الشكيمة، وقد بدت عليه مخايلها في الأيام الأولى لتسلمه الوزارة حين رفض الوقوف إلى جانب القائد ألب تكين، وهو الذي يدين له بمنصبه، والتزم الجانب المعارض له. وتتأكد كفاية أبي علي الإدارية في أن استيزاره كان بعد استيزار ثلاثة سبقوه إلى شغل هذا المنصب في عهد الأمير عبد الملك. ولم يستطع أي من هؤلاء البقاء في المنصب أكثر من عامين، وكان نصيبهم جميعاً العزل، إما لعدم ثقة الأمير بهم، وإما لعدم كفايتهم.
وتتجلى مناقب أبي علي في الصفات التي أسبغها عليه شعراء عصره الذين كانوا على صلة به، فوصفوه في قصائدهم بالحزم والكفاية والشجاعة والكرم، فضلاً عما اتسمت به سيرته من التواضع. وكانت له يد طولى في الأمن الذي نعمت به بلاد ما وراء النهر طوال عهده في الوزارة حتى وفاته، وفي الحروب الناجحة التي خاضها السامانيون في خراسان في مواجهة العصاة من جهة، ومع البويهيين من جهة أخرى، والتي انتهت إلى صلح عام 361هـ/971م. وقد توافر لأبي علي، إبان انشغاله في الإدارة والسياسة متسع من الوقت لأن ينجز عملاً ثقافياً مهماً، إذ نقل من العربية إلى الفارسية كتابي «جامع البيان في تأويل آي القرآن» و«تاريخ الرسل والملوك» لمحمد بن جرير الطبري. وكانت ترجمة أبي علي لتاريخ الطبري أول كتاب في التاريخ باللغة الفارسية في العهود الإسلامية. وقد أنجز ذلك عام 352هـ /963م أي بعد اثنين وأربعين عاماً على وفاة الطبري. وترجم المستشرق الفرنسي زوتنبرگ Zotenberg عمل البلعمي إلى الفرنسية، وبدأ بنشره في باريس في عام 1284هـ/1867م، قبل أن تنشر النسخة العربية من كتاب الطبري في ليدن عام 1291هـ/1874م. فعرفت أوربة مؤلف الطبري بنسخته الفارسية قبل نشر النسخة العربية بمدة وجيزة. ولم تفقد ترجمة البلعمي لكتاب الطبري أهميتها بعد صدور النص العربي، لأن البلعمي اعتمد نسخة مكتملة من الكتاب وردت فيها أخبار لم ترد في النسخة العربية، كما أضاف إليها معلومات من مصادر أخرى. وكان هذا العمل أحد الأسباب في شهرة أبي علي البلعمي.
انظر أيضاً
للاستزادة
- الذهبي، تاريخ الإسلام: حوادث سنة 329 (دار الكتاب العربي، بيروت 1987م).
- بارتولد، تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم (الكويت 1981).