ابن رشد والرشدية
هذا الموضوع مبني على مقالة لابراهيم العريس بعنوان مقالة. |
إنه كتاب عرف في الوقت نفسه كيف ينزع الطابع الأسطوري عن مادة بحثه، ثم كيف يفرض أساطير جديدة على كل أولئك الذين استأنفوا دراسة الملفات المتعلقة بالموضوع. وهو أيضاً كتاب وإن كان يبدي شيئاً من الرفض لجوهر الموضوع الذي يطرحه، عرف كيف يُخرج من وهاد النسيان لحظةً أساسية من لحظات تاريخ الفلسفة والثقافة». في شيء من الاختصار،هذا هو الحكم المفصّل والمبرر، عبر نص طويل، الذي يطلقه باحث فرنسي ينتمي الى أيامنا هذه على واحد من أشهر كتب مواطِن فرنسي عاش في القرن التاسع عشر. هذا الأخير هو أرنست رينان، الباحث والمفكر الفرنسي الذي يجابهه ويجابه أفكارَه في العالم العربي نقدٌ كبير يطاول عادة نظرته الاستعلائية الى العرب وحضارتهم. أما المتحدث عنه في زمننا هذا، فهو ألان دي ليبيرا، أحد كبار الباحثين في فلسفة العصور الوسطى في فرنسا، والذي ينفق منذ سنوات كثيرة وقته وجهده لدراسة الفيلسوف الأندلسي ابن رشد وفلسفته. أما الكتاب الذي يعنيه دي ليبيرا في حديثه، فهو تحديداً «ابن رشد والرشدية»، الذي وضعه رينان للمرة الأولى في العام 1852، ثم عاد وعدّله وأضاف إليه بعد ذلك بثلاثة عقود لكي يصدر في حلته النهائية.
والحال أن كتاب «ابن رشد والرشدية» كان واحداً من الكتب الغربية (والشرقية أيضاً) الأولى التي تناولت ليس فقط حياة ابن رشد ومؤلفاته، بل كذلك وفي شكل خاص، تأثير فلسفته في أوروبا، وبالتالي دوره الكبير في توصيل الفكر اليوناني (ولا سيما فكر أرسطو) الى العالم اللاتيني المعاصر له. كان رينان في هذا الكتاب، من أوائل الذين تحدثوا بدقة وإنصاف عن المدارس الرشدية في الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وعن غلبة التفكير العقلاني على تلك المدارس، حتى وان كنا نراه في كتابه هذا، لا يتوقف عن التأكيد على ان العالم الأوروبي-اللاتيني عرف وجهين فقط من وجوه ابن رشد: وجه الشارح والمعلِّق على كتابات أرسطو من ناحية، ووجه الطبيب من ناحية أخرى. أما بالنسبة الى ابن رشد كفيلسوف، فلا يبدو رينان على كبير حماسة للحديث عن هذا الأمر، هو الذي سيظل الفكر العربي يأخذ عليه تأكيداته، على رغم كل شيء، بأن ليس ثمة وجود لفلسفة عربية... وهو الحكم نفسه الذي لا يزال يثير جدلاً واسعاً حتى أيامنا هذه (وتكفي مراجعة مئات الدراسات التي كتبت حول هذا الموضوع للتيقن من هذا، وأيضاً من أن رينان حين طرح المسألة لم يكن يغمس خارج الصحن، غير ان هذه مسألة أخرى بالطبع). المهم هنا هو هذا الكتاب الذي (وهو أقل ما يمكن أن يقال فيه) أعاد «فيلسوف» قرطبة الكبير إلى الواجهة والى ساحة الجدال. وكان هذا مفيداً لرينان، للفكر العربي، وللفكر الإنساني في شكل عام.
قسّم أرنست رينان كتابه «ابن رشد والرشدية» الى قسمين رئيسين، تناول في أولهما حياة ابن رشد وأعماله، ثم نظريته الفكرية، فيما انصرف في القسم الثاني -وهو الأهم- الى دراسة «الرشدية» كما تجلت في القرون الأوروبية الوسطى، فدرس في فصل أول «الرشدية لدى اليهود»، وفي فصل ثان «الرشدية عند الفلسفة السكولائية»، وأخيراً في فصل ثالث «الرشدية في مدرسة بادوفا». والحال أنه إذا كان القسم الأول يبدو عادياً بالنسبة الى دارسي ابن رشد ومتابعي سيرته وحياته، التي تناقلتها عشرات الكتب والموسوعات، فإن القسم الثاني يبدو حافلاً بالجِدّة والمفاجآت، حيث يتعمق رينان في دراسة التأثير الكبير لجهود ابن رشد لدى عدد كبير من المفكرين، ما جعل الكنيسة الكاثوليكية تسعى جهدها لمحاربته وتحريم دراسته، ولا سيما على يد توما الأكويني، الذي كان الأكثر هجومية وعنفاً في نقده للفكر الرشدي وللمفكرين الأوروبيين الذين تأثّروا -ولو قليلاً- بذلك الفكر. إن من الواضح هنا، أن الأكويني حين هاجم ابن رشد والرشدية، إنما كان يحاول التصدي لانبعاث العقلانية الإغريقية ذات النزعة الإنسانية، والتي كانت -بوصولها عبر شروح ابن رشد وترجماته- تهدد الفكر الكنسي المحافظ، وليس التصدي، كما يحاول كتّاب عرب ومسلمون القول بين الحين والآخر، للفكر الإسلامي الذي كان ابن رشد أحد أبنائه، ويعزون ذلك إلى الجدل القديم «بدايات الصراع الفكري بين المسيحية والإسلام». في نهاية الأمر، وهذا ما يوضحه رينان بشكل جيّد في كتابه، كان ابن رشد يُعتبر في أوروبا في ذلك الحين مكمّلاً وباعثاً للفكر اليوناني-الأرسطي، وحول هذا الموضوع كانت المعركة.
غير ان قولنا هذا لا ينبغي في الوقت نفسه أن يدفعنا الى الاعتقاد بأن رينان لم يتوقف عند كون ابن رشد مفكراً عربياً في الوقت نفسه، ذلك أن ازدواجية الفكر الريناني تلاقت هنا مع ازدواجية انتماء ابن رشد، لتنتج نصاً جدلياً لا يزال، في عرفنا، بحاجة الى أن يُقرأ في شكل جيد وموضوعي، ولا سيما من جانب الباحثين العرب، الذين طالما استنكفوا عن قراءته إلا في شكله السطحي السردي، ما أدى بهم دائماً الى الانتقاص من شأنه، كما أدى بهم، وبغيرهم أيضاً، الى عدم التقاط ما لم يقصده رينان بوعي، في المسكوت عنه في هذا النص، فالحال انه إذا كان كثر من الباحثين الدارسين لهذا الكتاب يطلعون باستنتاج -غير بعيد من الصحة- يقول إن هذا الكتاب لا يقول في نهاية الأمر شيئاً، فإن ألان دي ليبيرا، الذي قدم في اعتقادنا أفضلَ مدخل حتى اليوم لولوج هذا الكتاب، يبدو على حق تماماً حين يقول إن «ابن رشد والرشدية» هو في الواقع «كتاب تناقضي»، انطلاقاً من كونه مكرّساً بأكمله للبحث في تناقض فكري واضح، فرينان لا يعزو، في نهاية الأمر، أيَّ أهمية نظرية للرشدية بوصفها فلسفة... ويمكن المرء في كل بساطة ان يلاحظ هذا التقويم وصحته من خلال قراءته للكتاب (...) حيث تلوح بسرعة نظرية رينان، التي تقول إن الرشدية «التي لا تحوز أي أهمية بوصفها فلسفة، سرعان ما تحوز أهمية تاريخية حقيقية حين ندرك انها كانت في حقيقتها ذريعة لانبعاث الاستقلال الفكري». وفي هذا الإطار، إذ يؤكد دي ليبيرا هذا الأمر، يصل الى القول بأن «التناقض يكمن ها هنا... والتناقض يبدو من خلال كونه تناقضاً ظاهراً كان رينان في الواقع أولَ من أدركه وعبَّر عنه في تلك المقارنة المهمة: تماماً كما ان البندقية كانت بالنسبة الى ايطاليا ما كانته هولندا -في زمنها- بالنسبة الى أوروبا الشمالية، فإن الرشدية هي بالنسبة الى عالم الجنوب ما كانته الجانسينية (وهي الأكثر انحساراً بين الطوائف والشيع) بالنسبة الى عالم الشمال، أي ان الرشدية تمثل، وعلى طريقتها الخاصة، قضية الحرية في عالم الجنوب». ويرى دي ليبيرا هنا، أن رينان قد تمكَّن من أن يضع أصبعه على أهم ما في الرشدية... واصِلاً هنا الى الحديث عن عدوى الحرية كما انتشرت -ثم حوربت- في اوروبا من طريق الرشديين اللاتين الذين نقلوها من عالم الجنوب الى عالم الشمال.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إرنست رينان
(1823-1892) مفكر وفيلسوف فرنسي، كما انه - في زمنه- كان يعتبر من كبار مؤرخي الأديان... وهو كان عند بداياته قد درس اللاهوت لكي يصبح رجل دين... لكنه انصرف عن ذلك لاحقاً لينخرط في فكر ثورة 1848 الفرنسية، التي رأى فيها رسالة سماوية وبداية دين بشري جديد. ولقد قاده ذلك الى الغوص في تاريخ الأديان. ولقد عاش سنتين في روما جمع خلالهما وثائق للحكومة الفرنسية قبل أن يعود الى باريس ليبدأ في نشر كتبه، ثم بعثته حكومته في مهام الى لبنان وفلسطين عرّفته على الشرق الأدنى وتاريخه وفكره... وكان من نتيجة ذلك ان وضع كتابه الأشهر «حياة يسوع». وهو انتخب في العام 1878 عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وحظيت كتبه بشعبية كبيرة، ومن بينها دراسات لغوية وتاريخية وفكرية.