إقطاعية
الإقطاع Feudalism هو نظام من العلاقات الإقتصادية الزراعية، حيث تكون وسيلة الإنتاج الرئيسية وهي الأرض، ملك لشخص واحد ويعمل الفلاحون في أرض هذا الشخص، الذي يسمى الإقطاعي.
وفي المنطقة العربية كان الإقطاعي يملك الأرض والمنازل، والفلاح عليه أن يعطي ربع محصول الأرض للإقطاعي، وقد سمي الفلاح ب المرابع نسبة لحصة الربع التي يأخذها الإقطاعي، وقد سميت هذه العلاقات الإقتصادية بالإقطاعية نسبة للإقطاعات فكان الإقطاع عبارة عن عدة قرى أو مساحات شاسعة من الأرض وزالت العلاقات الإقطاعية، في أوروبا بعد الثورة البرجوازية وظهور المعامل الصغير وبدء التصنيع.
وفي البلاد العربية تم القضاء على الإقطاعية على يد حركات التحرر والثورات العربية ، ففي مصر قام الرئيس العربي جمال عبد الناصر بتأميم الأرض و توزيعها على الفلاحين، وفي سوريا تم توزيع الأرض من قبل ثورة الثامن من أذار عام 1963.
وحسب الفلسفة الماركسية الإقطاعية هي النفي الذي نفى المرحلة العبودية الذي قضى على تركيبة السياد والعبيد ليحل مكانها الملاك و الفلاحين، ومن أبرز سمات هذه المرحلة إجتماعيا، التماسك الأسري، حيث أن الأسرة كانت مجتمعة بشكل دائم، وبدء تفكك الأسرة مع دخول المرحلة البرجوازية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطبقية الإقطاعية
الطبقة الإقطاعية هي طبقة كبار ملاكي الأراضي، ارتبط الفلاحون بالعمل في أراضي النبلاء و كبار الملاكين ضمن أعمال القنانة (العبودية) تطورت لاحقا بأعمال سخرة جماعية لكل من يسكن من الفلاحين ضمن إطار ممتلكات هذا الإقطاعي أو ذاك، يلتزم الفلاح بالدفاع عن المالك الذي يعيش الفلاح ضمن ممتلكاته فضلا عن إلتزامه بضريبة سنوية تكاد تجهز عن كل ماينتجه الفلاحون طوال العام، أقامت الكنيسة تحالفا مع الإقطاعيين لأنها أيضا كانت تجبي عوائدها من الجميع سواء كان ذلك على شكل عشور ( عشر الدخل ) يدفع لها من رعاياها أو على شكل صكوك غفران لمن يدفع الثمن و صكوك حرمان لمن يعترض على سلطتها الروحية، شكل هروب الفلاحين المتزايد من القرى إلى المدن بؤر جديدة من العمال و تحالفت البرجوازية في بداياتها عندما كانت صغيرة مع العمال ضد الإقطاع و الكنيسة فيما يعرف بعصر التنوير المدعم بمفكرين و فلاسفة طالبوا بفصل الدين عن الدولة ، سرعان ما انقلبت البرجوازية على مؤيديها لتظهر بشكلها الحديث من أرباب عمل و ملاكي مصانع عملت على تشغيل الأطفال و النساء بشكل مكثف كأيدي عاملة رخيصة، عملت الحركات الإصلاحية الإشتراكية و الماركسية الراديكالية على حصول مكاسب عمالية و لكن بطرق مختلفة من حيث القناعات النظرية ، تمثلت هذه المطالب بحق العمال بتمثيلهم داخل نقابات و بتحديد ساعات العمل و الحصول على بدل عمل إضافي و حق العامل بالحصول على عطلة أسبوعية و إجازة سنوية ، استطاعت المسيرة العمالية في العالم من تحقيق هذه المكتسبات لتصبح موثقة باتفاقيات دولية.
نشأة الإقطاع
في أوروبا
قالب:English Feudalism تجمعت في الستة قرون التي أعقبت موت جستنيان ظروف عجيبة كان لها أثر بطيء في التغير الأساسي الذي حدث فيه الحياة الاقتصادية في عالم أوربا الغربية.
فقد اجتمعت بعض الظروف التي أشرنا إليها من قبل ومهدت السبيل إلى عهد الإقطاع. ذلك أنه لما أصبحت مدن إيطاليا وغالة غير آمنة على نفسها أثناء الغارات الألمانية، انتقل أعيان هذه المدن إلى قصورهم الريفية وأحاطوا أنفسهم بأتباعهم من الزراع، وأسر من "الموالي". وأعوان عسكريين. وزاد حركة التفرق التي تهدف إلى تكوين وحدات اقتصادية شبه مستقلة في بلاد الريف قيام الأديرة التي كان رهبانها يفلحون الأرض ويشتغلون ببعض الصناعات اليدوية؛ ولم تعد الطرق صالحة للاحتفاظ بوسائل النقل وتبادل المتاجر لما أصابها من التخريب بسبب الحروب والإهمال من جرّاء الفقر. ونقصت إيرادات الدولة بسبب كساد التجارة واضمحلال الصناعة، وعجزت الحكومات الفقيرة عن حماية الحياة والملك والتجارة. واضطرت قصور الأعيان في الريف بسبب العقبات القائمة في سبيل التجارة أن تسعى للاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية، فأضحى الكثير من الأدوات التي كانت تشترى من المدن تصنع في الضياع الكبيرة منذ القرن الثالث الميلادي. وتصف لنا رسائل سيدونيوس أبولينارس في القرن الخامس سادة الريف وهم يعيشون عيشة الترف وسط ضياع رحبة يفلحها مستأجرون نصف مستعبدين، وقد أضحوا من ذلك الوقت البعيد يكونون أرستقراطية إقطاعية لها محاكمها الخاصة(1) وجيوشها(2) ولا يختلفون عن البارونات في العهود المقبلة إلا في قدرتهم على القيادة.
وكانت العوامل التي مهدت السبيل إلى قيام الإقطاع بين القرنين الثالث والسادس هي بعينها التي أقامته بين القرنين السادس والتاسع: ذلك أن الملوك المروفنجيين والكارلونجيين أخذوا يؤجرون قوادهم وموظفيهم الإداريين بمنحهم مساحات من الأرض؛ وأضحت هذه الاقطاعات في القرن التاسع وراثية وشبه مستقلة بسبب ما طرأ من ضغط على ملوك الأسرة الكارولنجية. وأعادت غارات المسلمين، والشماليين، والمجر في القرن الثامن والتاسع والعاشر نتائج الغارات الألمانية التي حدثت قبلها بستة قرون وزادتها قوة: فقد عجزت الحكومات المركزية عن حماية الأجزاء النائية عن عواصمها، وأقام الأسقف أو البارون المحلي نظاماً في مقاطعته وهيئة للدفاع عنها، وظل محتفظاً بقوته ومحاكمه الخاصة. وإذا كان معظم المغيرين فرساناً فقد كان الطلب يكثر على المدافعين الذين يملك كل منهم جواداً، وأضحى الفرسان لهذا السبب أهم من المشاة، وهكذا نشأ في فرنسا، وإنجلترا في عهد النورمان، وفي أسبانيا المسيحية، طبقة من الفرسان بين الدوق والبارون من جهة والفلاحين من جهة أخرى، كما نشأت في روما القديمة طبقة من الفرسان بين الأشراف والعامة. ولم ير الشعب حرجاً في هذه التطورات، فقد كانوا يتطلعون إلى وجود نظام عسكري يتولى حمايتهم بما يحيط بهم من الرعب، ومن الهجمات التي قد تنقض عليهم في أي وقت كان، ولهذا الغرض كانوا يبنون بيوتهم أقرب ما تكون إلى قصر البارون المنيع أو الدير الحصين، ولم يترددوا في قديم ولائهم وخدماتهم إلى سيد يبسط عليهم حمايته القانونية أو دوق يستطيع قيادتهم. وخليق بنا أن ندرك ما عساه يتولاهم من الرعب لو أنه فهموا خضوعهم هذا؛ فها هم أولاء رجال أحرار لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم، يعرضون أرضهم وجهودهم على رجل قوي ويطلبون إليه في نظير ذلك أن يحميهم ويطعمهم؛ وكان من عادة البارون في هذه الأحوال أن يقطع "رجُلَه" مساحة من الأرض يحتفظ بها يعتقد يستطع واهبها أن يلغيه في أي وقت يشاء. وقد أضحى هذا التملك المزعزع الصورة المألوفة لامتلاك رقيق الأرض إياها، فكان الإقطاع بمقتضاه هو خضوع الرجل من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى رجل أسمى منه منزلة في مقابل تنظيم اقتصادي وحماية عسكرية.
وليس من المستطاع تعريف الإقطاع تعريفاً جامعاً مانعاً، فقد كانت له صورة تبلغ المائة عدا في مختلف الأزمنة والأمكنة. وكان منشأه في إيطاليا وألمانيا، ولكن تطوره الخاص به إنما حدث في فرنسا. ولعله بدأ في بريطانيا بتحويل البريطانيين إلى أرقاء أرض على أيدي الفاتحين الأنجليسكسون(3)، ولكن معظم خواصه في تلك البلاد قد جاء بها الغاليون من نورمندية، ولم ينضج هذا النظام الكامل في شمالي إيطاليا أو في أسبانيا المسيحية، ولذلك لم يستطع كبار الملوك في الإمبراطورية الشرقية أن يثبتوا دعائم استقلالهم العسكري والقضائي، أو إقامة نظام الولاء المتدرج الذي بدا في الغرب كأنه من مستلزمات الإقطاع. وبقيت أصقاع كبيرة من أوربا الزراعية خارج نطاق النظام الإقطاعي: كالرعاة وأصحاب الضياع الخاصة بتربية الماشية في بلاد البلقان، وشرقي إيطاليا، وأسبانيا؛ وزراع الكروم في غربي ألمانيا، وجنوبي فرنسا؛ والزراع الأشداء في السويد والنرويج؛ وطلائع التيوتون فيما وراء نهر الإلب؛ وأهل جبال الكريات، والألب، والأبنين، والبرانس. ذلك أنه لم يكن يتوقع لتكون قارة كأوربا، تختلف أجزاؤها بعضها عن بعض أشد الاختلاف في طبيعة أرضها وأحوالها الاقتصادية، نظام اقتصادي موحد. وحتى في داخل نظام الإقطاع نفسه كانت ظروف التعاقد ومنزلة المتقاعدين تختلف باختلاف الأمم والملاك، والأزمنة المختلفة؛ ولهذا فإن البحث التحليلي الذي سنصفه فيما بعد ينطبق أكثر ما ينطبق على فرنسا وإنجلترا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
في العالم الإسلامي
أما في صدر الإسلام، فإن أنظار القبائل العربية لم تتجه أول الأمر نحو تملك الأرض الزراعية، لانصرافهم إلى الجهاد وانشغالهم بالفتوح. وقد رفض الخليفة عمر بن الخطاب إقطاع أرض السواد لقادة الفتح ضماناً لحق الأجيال التالية في الأرض، وتجنباً لما قد يؤديه التقسيم الإقطاعي من تنافس وانقسام، فضلاً عن التفاوت الاجتماعي.
كما رفض علي بن أبي طالب ذلك، وقد أُثر عنه قوله: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم». وقد حذر علي واليه على مصر، الأشتر النخعي، من اتباع أسلوب الإقطاع في كتاب قال فيه: «إن للوالي خاصة وبطانة وفيهم استئثار وتطاول... لا تقطعن لأحد من حاميتك وحاشيتك قطيعة». بيد أن الأمر لم يدم على ذلك، فقد توسع الأمويون، باستثناء عمر بن عبد العزيز، في منح الإقطاعات بالمفهوم الإسلامي والذي يؤدي إلى ملكية تامة للأرض مع دفع العشر. وتعزز هذا الاتجاه بعد قيام الدولة العباسية فقد استولى العباسيون على ضياع الأمراء الأمويين وأحدثوا ديواناً خاصاً لضياع الخلافة التي وسعت بحفر الأنهار والترع واستصلاح الأراضي وبالشراء والمصادرة. وكانت تلك الضياع واسعة وغنية وموزعة في أرجاء بلاد الخلافة. والجدير بالذكر أن ثمة فرقاً كبيراً وأساسياً بين الإقطاع الذي عرفه الإسلام والنظام الإقطاعي الأوربي، إذ إن الفلاحين في ظل الخلافة العربية الإسلامية لم يكونوا ملكاً للمُقطع بل للأرض ولم يكونوا يقطعون معها، إضافة إلى أن صاحب الإقطاع لم يكن يورثه.
ولعل من أهم أساليب تحول ملكية الأرض إلى ملكية إقطاعية هو أسلوب الإلجاء، وأساسه لجوء الفلاحين وأهل القرى والضياع إلى التعزز بأمير قوي أو بمتنفذ معروف للاحتماء به من ظلم الولاة وعسف الجباة واعتداء الصعاليك، فيصير له نوع من «حق الحماية» عليهم ويتحولون إلى أتباع له وفلاحين في الأرض التي غدت أرضه، أو يتسلمها بعضهم منه ثانية على سبيل الإقطاع فيصيرون تنَّاء (مفردها تانئ ويقابلها الدهقان بالفارسية) وهم المستوطنون المستقرون في الأرض من أصحاب الضياع. وهذا الأسلوب نفسه كان من أساليب نشوء الملكية الإقطاعية في الغرب أيضاً، لاسيما أنه كان معمولاً به في الامبراطورية الرومانية وفي العالم البيزنطي، وقد عرف بحق الحماية autopragia الذي كان يحصل عليه النبلاء البيزنطيون.
وفي القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي لجأ القائمون على شؤون الخلافة إلى إقطاع أنصارهم وحواشيهم البلاد والقرى وحقوق بيت مال المسلمين. وأول من بدأ ذلك البويهيون (320 - 447هـ/932 - 1055)، وتسلم معز الدولة البويهي وجنوده من الديلم وغيرهم أعمال العراق ولاية وإقطاعاً، فأقطع قادته وأصحابه وأهل عصبيته وخواصه من الأتراك جميع ما امتدت إليه يده. وقد أهمل كثير من هؤلاء المقطعين عمارة ما أقطعوا، وبات من السهل عليهم أن يخربوا إقطاعاتهم ويردوها، فيعتاضوا عنها حيث يختارون. وزاد الأمر سوءاً حين اعتمد هؤلاء على وكلائهم الذين عمدوا إلى الظلم والمصادرة، مما أدى إلى خراب البلاد وإقصاء سكانها من العرب عنها بالتدريج.
وجاء السلاجقة بعد البويهيين ففرضوا أنفسهم على ممتلكات الخلافة كلها، وتقاسموها إقطاعات، ويذكر المؤرخون أن أول من فرق الإقطاعات في بني سلجوق هو نظام الملك (408 - 485 هـ) وزير السلطان ألب أرسلان ووزير ابنه ملكشاه؛ إذ عمد نظام الملك إلى روك الأراضي (وهو مسح الأرض وإعادة توزيعها) ليمكن المقطعين من الأرض الخصبة والأقل خصوبة والرديئة على السواء، فحلت الإقطاعات محل العطاء (الرواتب). وزاد السلاجقة في ذلك فجعلوا الإقطاع ضرباً من تقسيم البلاد بين أمراء البيت السلجوقي الذين أرسوا أسس الإقطاع الحربي أو العسكري، وأخذه عنهم من جاء بعدهم من الزنكيين والأيوبيين. وبلغ هذا النظام ذروة تطوره في عهد المماليك.
المجتمع الاقطاعي
الإقطاع العسكري المملوكي
وفيه يقول المقريزي: «وأما منذ كانت أيام صلاح الدين بن يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا فإن أراضي مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده». وإلى جانب هذا النوع من الإقطاع نشأ ما يسمى «الملك الحر»، وهو ما كان يشتريه السلطان من أطيان وعقارات من بيت المال أو من ماله الخاص، وتسمى هذه الأملاك «الأملاك الشريفية». على أن هذا الملك الحر لم يكن يسلم من الإقطاع، ومثله الأوقاف الإسلامية.
وقد طور سلاطين المماليك في مصر وبلاد الشام نظاماً إقطاعياً دقيقاً، وجاراهم في ذلك بقية حكام الأقاليم الإسلامية الأخرى. ولم يكن للمقطع أيام المماليك سوى حق الاستغلال والارتفاق. وإذا ورث جندي أباه لم يكن له سوى ما كان لأبيه من هذا الحق فلا يملك الرقبة، وكثيراً ما كان حائز الإقطاع ينقل عن إقطاعه إلى إقطاع آخر بأمر السلطان أو يُعزل فيصير «بطالاً»، أو يصادر إقطاعه أو تُوقع الحيطة على «موجوده». وكان يحدث أن يحل مُقطع محل غيره في داره وأثاثه، وقد يتزوج زوجته، ويضاف تابعوه من المماليك والأجناد إلى السلطان. وقد غدا هؤلاء وأمثالهم إحدى فرق المماليك السلطانية.
أما التزامات التابعين من أصحاب الإقطاعات إزاء متبوعهم فيحدده يمين الولاء الذي ينص على أن يضع المقطع نفسه وعدداً من أجناده بعدتهم وعتادهم في خدمة السلطان عند الحرب، أو انعدام الأمن، وعلى هؤلاء، بحكم العرف، أداء «التقادم» أي الهدايا بانتظام في جميع المناسبات. والمُقطع ملزم دفع الخراج المقرر على إقطاعه، إضافة إلى الالتزامات المالية في أوقات الحرب والأزمات الداخلية والأوبئة.
والطابع العسكري هو الطابع الغالب على النظام الإقطاعي بوجه عام مع فارق في شدة تطبيقه من زمن إلى زمن ومن دولة إلى أخرى. ويلازمه ويرتبط به الإقطاع المدني والإقطاع الديني، فالطابع العسكري الذي غلب على دولة السلاجقة تزامن مع النظام الإقطاعي الحربي الذي أقامه الصليبيون في الشرق. وكان العهد المملوكي نموذجاً مكتملاً للإقطاع العسكري، فقد تركزت معظم الإقطاعات في أيدي «رجال السيف» وأولهم السلطان، ويسمى إقطاعه «الخاص السلطاني» أو «بلاد الخاص» أو «الخاص الشريف». وكان السلطان يستصفي لنفسه ما يشاء من الأرض الخصبة القريبة ومن المكوس المربحة وما إليها من أبواب الإيراد الوفيرة. و«الخاص السلطاني» غير الأملاك الشريفية التي كان السلطان يشتريها بماله الخاص. ويقدر إقطاعه بسدس مساحة الأرض التي يدير شؤونها ويجمع خراجها، ولكنه لا يملك رقبتها. ويعد أبناء السلاطين من رجال السيف، ونصيب كل منهم نصيب أمير مئة، وإن لم يزاولوا الإمرة أو الوظيفة، ويمنحون الجوامك (الرواتب والعطاءات) علاوة على ذلك. ويلي أبناء السلاطين في الترتيب أمراء العسكر، وفيهم أمير الألف وأمير المئة ثم أمير الطبلخانة وأمير العشرة إلى أمير ثلاثة.
ومن الأساليب المعروفة في الإقطاع المملوكي «عرض الجند»، أي قطع العاجز والمشكوك في ولائه من أصحاب الإقطاعات أو «الأخبار» واستخدام غيرهم. وكل سلطان جديد يعيد توزيع الإقطاعات بحسب قاعدة الولاء والعداوة.
وقد عد النظام الإقطاعي المملوكي زعماء العرب والتركمان والأكراد الداخلين في طاعة الدولة من رجال السيف المقطعين، وكانوا يسمون «أرباب الأدراك» أو «المثاغرين»، ويقومون بحماية الثغور وتأمين طريق الحج وجمع الزكاة و«العداد» المقرر على الماشية. كذلك منحت الإقطاعات لـ «رجال القلم» من النقباء والأشراف والسادة والمعممين، وأول من أُقطِع من هؤلاء الخليفة العباسي بالقاهرة. كما منحت للمتنفذين من أهل البلاد وللمغنين والنساء. ومن دراسة أساليب الإدارة الإقطاعية في ذلك العصر يتبين ما يلي:
ـ ظهور كثير من الفتاوى والاجتهادات والجدل الفقهي في كيفية تسليم الأرض، مقاسمة أو إيجاراً أو غير ذلك، وفي كيفية قسمة المحصول وروك الأرض وتقرير عبرتها.
ـ إن أساس هذا النظام هو استغلال الأرض وجهود العاملين فيها، ولا يختلف هذا الاستغلال في إقطاع السلطان عنه في إقطاع الأمير، فالخاص السلطاني يشرف عليه ديوان الخاص أو ديوان الخواص الشريفة.
ـ لم يكن الأمراء المقطَعون يقيمون في إقطاعاتهم ليديروا شؤونها، كما في الإقطاع الغربي، ولابد للسفر إليها من الحصول على إذن أو «دستور» من السلطان. وربما كان السلاطين يحرصون على ألا يقيم الأمراء في إقطاعاتهم كيلا تكون لهم عصبية. أما أجناد الأمراء فكانوا يقيمون في إقطاعاتهم ويتولون شؤونها الإدارية.
ـ كان استثمار الأرض يخضع لتدخل السلطان في جميع مراحل العملية الزراعية، وذلك حرصاً على استيفاء حقوق السلطان من المقطعين. وهذا ما وسم الإقطاع الشرقي بالمركزية وعدم اقتسام السلطة تبعاً لاقتسام الأرض، بخلاف الإقطاع الغربي.
وكان الأمير يتسلم إقطاعه من السلطان بعد أداء اليمين، ويُشهِد على نفسه بحضرة الموقعين من ديوان الإنشاء. ويقوم الأمير أو وكيله بتسليم الأرض للفلاحين مقاسمة أو إيجاراً. وتصرف لهم التقاوى (البذار) من مخازن السلطان، وتوزع بنسبة ما سجل من الأرض لفلحها. ويقسم المحصول بحسب نوع الأرض ونوع ريها: فتكون مناصفة أو مثالثة أو مرابعة أو مخامسة. وكانت هذه القواعد موضع جدل دائم بين الفقهاء، على أن ينفسخ العقد بموت صاحب الإقطاع؛ لأن الإقطاع لا يورث. ويختلف الإيجار أيضاً بحسب نوع الأرض وطريقة ريها ونوع المحصول. ويدخل في الإيجار أو ما يشبهه ما عرف باسم الأرض المضمّنة أو المفصولة عن أربابها بشيء معلوم من المال يؤخذ منهم عند إدراك المحصول. وهذا أقرب إلى نظام القبالة الذي عرف منذ القرن الأول الهجري.
ويلتزم الفلاحون خراج الأرض بحسب نوعها ونوع المحصول الذي تغله وبحسب نوع ريها، ويلتزمون العشر أيضاً، وقد يضاعف الخراج في أوقات الحرب أو الغلاء. وثمة رسوم أخرى يدفعها الفلاح القراري (المقيم) تعرف باسم «الحقوق» تسجل عند تسلمه الأرض مقدرة بالدراهم. ويدفعون ما أخذوه من بذار وقروض بالكيل المتعارف عليه في الناحية. ويستوفى ما يخص الديوان من المحصول بحضور شهود يتقاضون أجرهم، فضلا عن «مقرر الأتبان»، وهو ثلثا ما ينتج من التبن أو العلف عيناً، أو يقدر ثمنه نقداً. وإذا أراد الفلاح أن يرعى ماشيته في المراعي والمروج دفع مقابل ذلك رسماً. وهناك التزامات أخرى يؤديها الفلاح بحكم العرف والعادة، كالضيافة والتقادم، وكانت تجبى مع الخراج.
انفرد النظام الإقطاعي في مصر والشام بانتقال الإقطاع الواحد من يد إلى أخرى بحسب مشيئة السلطان؛ وذلك لارتباط الإقطاع بالوظائف والخدمات التي يؤديها المقطعون للدولة في شخصه. وما المقطعون على اختلافهم سوى موظفين في حكومة مركزية رأسها السلطان، بخلاف الإقطاع الغربي. وأهم انتقالات الإقطاع انتقاله من سلطان إلى آخر، فلم تكن السلطنة وراثية، فإذا تربع المرشح للسلطنة على عرشها انتقل إقطاعه إلى أمير آخر، وانتقل إليه إقطاع السلطان. وهناك انتقالات أخرى ومناقلات بين المقطعين أنفسهم كأن يكون الإقطاع في يد أحدهم ثم يصير ملكاً حراً أو وقفاً أو العكس. وقد ينقص الإقطاع عقاباً أو يزيد ثواباً، وقد يرافق نقصه نفي أو سجن أو مصادرة لأسباب أدناها الوشايات وأقصاها الخروج على الطاعة. وقد يعزل المقطع فيغدو«بطالاً» يتساوى مع «الطرخان» أي المتقاعد، إلا أن الأخير يظل محتفظاً بمكانته الأدبية. والبطال والطرخان غالباً من رجال السيف ونادراً من رجال القلم. وبوفاة المقطع أو عزله تحين الفرصة لترقية المقطعين أو إقطاع المرشحين أو لإعادة البطال إلى إقطاعه أو إلى إقطاع آخر جديد. وكثيراً ما تسبب إقطاع البطالين بالفتن، كما كانت تقوم مشاحنات وفتن للحصول على إقطاع شاغر. وتسمى الإقطاعات الشاغرة بالمحلولات أو المرتجعات، يشرف عليها «ديوان المرتجعات»، وقد ألغي هذا الديوان في عهد سلاطين المماليك الجراكسة فصار أمر المرتجع إلى موظف يعرف باسم «مستوفي ديوان المرتجع». أما منح الإقطاع المحلول لصاحبه أو لأحد ورثته أو لغيره فهو من اختصاص السلطان. ولم يكن للنواب خارج مصر، باستثناء نائبي دمشق وحماة، سلطة في استخدام أمير بدل آخر أو تأمير أمير جديد أو في القيام بأي مناقلات إقطاعية أو في ملء الشاغر والمحلول من الإقطاعات إلا في ما يتعلق بأجناد الحلقة.
واستمر النظام الإقطاعي في العهد العثماني، إذ قام السلاطين العثمانيون، بعد أن استتب لهم الأمر في البلاد المفتوحة، بتوزيع الأرض إقطاعات على أبناء جلدتهم، وأسبغوا على مقطعيهم ألقاب الباشا والأمير والآغا والبيك، وأطلقوا أيديهم وأيدي أمراء الجند من الانكشارية والسباهية في المدن والأرياف. وأقاموا نظاماً مراتبياً صارماً يتربع على قمته السلاطين وأولادهم وأنسباؤهم وحواشيهم، ويليهم الإقطاعيون الكبار وأتباعهم من رجال السيف والقلم. وقسموا المجتمع إلى ملل ومذاهب وطوائف وجماعات مغلقة. واستمر ذلك حتى صدور قانون الملكية (الطابو) عام 1856 م. وقد تزامن ظهور الإقطاع العسكري في شرق المتوسط مع ظهوره في أوربة، كما سيأتي تفصيله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بعض سمات المجتمع الإقطاعي
يتسم المجتمع الإقطاعي في الشرق وفي الغرب بالركود أو التخثر فإيقاع الحياة الاجتماعية رتيب، وتتسم الأعراف والعادات والتقاليد بالثبات وقوة النفوذ. وينقسم غالباً إلى عالمين: عالم الريف وعالم المدن والحواضر. وتختلف حقوق الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع الإقطاعي باختلاف الفئات التي ينتمون إليها، وتتباين العلاقات بين الفئات الاجتماعية بحسب موقع كل منها في الهرم الاجتماعي الذي تحتل الأرستقراطية المحاربة قمته. وتقوم العلاقات الاجتماعية بوجه عام على مبدأ القرابة والعصبية والانتماءات العشائرية والمذهبية والدينية والحرفية. وقد صنف المقريزي فئات المجتمع الإقطاعي، بحسب الأوضاع الاقتصادية في سبعة أصناف هي: أهل الدولة وأهل اليسار وأولو النعمة، ويلحق بهم أصحاب المعاش وهم: السوقة وأهل الفلح والفقراء وأخيراً ذوو الحاجة والمسكنة. وانتقال الفرد من فئة إلى أخرى يكون غالباً بنعمة من السلطان أو الأمير.
وللأشراف، وهم من نسل آل البيت، مكانة مرموقة في المجتمع الإقطاعي، ويصنفون في «رجال القلم»، وقد اقتصرت أعمالهم على شؤون الدين والعبادة والتعليم وتولى بعضهم مناصب إدارية كبيرة، كما كان لبعضهم إقطاعات. وتضم طبقة أرباب الحرف طوائف مختلفة تبعاً لما يزاولون من أعمال، وربما أطلق لقب العامة على أصحاب الحرف الصغيرة. ولرجال السيف زي خاص يتسم بالفخامة والترف. ويمتاز رجال القلم من غيرهم بلبس العمائم. وللفلاحين زي خاص أيضاً.
أما على صعيد الحكم والسياسة، فعُرف عصر الإقطاع بكثرة الفتن والحروب، في ظل عدم وجود مبدأ ثابت لتداول السلطة غير القوة والاغتصاب.
وفي مجال القضاء، عرف النظام الإقطاعي نوعين من القضاء: القضاء الشرعي والقضاء المدني الذي كان يعرف باسم «حكم السياسة». ويتألف القضاء الشرعي من قضاة القضاة وهم ممثلو المذاهب الإسلامية الأربعة، ومن القضاة الذين كان منهم قاضٍ للفلاحين وقضاة العسكر. وأما القضاء المدني فينظر في ما لا يخص الأحوال الشخصية من قضايا الاعتداء والظلم والضرب وما إليها، ويسمى «النظر في المظالم»، ويتولى السلاطين والأمراء هذه المهمة.
يتسم الإقطاع الشرقي بسمات خاصة أهمها:
ـ المركزية المفرطة في توزيع الإقطاعات والعطاءات وكذلك تقييد سلطة الأمراء والمقطعين في إقطاعاتهم ونزعها منهم وتفريق إقطاعة الأمير الواحد في أماكن عدة، كي لا تكون له شوكة أو عصبية.
ـ اقتصار الإقطاع على الاستغلال والارتفاق، وعدم توريثه إلا بموافقة السلطان وبشروط خاصة.
ـ يقوم الإقطاع الشرقي كغيره على الملكية شبه الجماعية للأرض التي تُراك (تمسح) بين الحين والآخر وتوزع بحسب درجة الخصوبة وطريقة الري. فملكية الفلاح القراري في جميع الأحوال ليست على رقبة الأرض، وإن كان أولاده يرثون عمله وأعباءه وتبعيته وموقعه الاجتماعي، وهي خاضعة للعرف والعادة في كل ناحية. وكل ما عدا الأرض الممسوحة المقيدة في الجرائد ملك للدولة في شخص السلطان يتصرف بها كأملاكه الخاصة.
ـ الإقطاعة الشرقية منظومة استهلاك، فخراج الأرض والمرافق وغيره من الضرائب والرسوم تحددها حاجات أولي الأمر وعلى المنظومة الإنتاجية أن تستجيب لها. ـ تتشابك الحقوق على الأرض وتتعارض، فحق الفلاح يعلوه حق التانئ وحق التانئ يعلوه حق الإقطاعي الأكبر فالأكبر وفوقها جميعاً حق السلطان.
استمرت الإقطاعية الشرقية حتى أواسط القرن التاسع عشر، إذ بدأ هذا النظام يترنح إثر محاولات إصلاح الدولة العثمانية التي شهدها «عصر التنظيمات» وإثر إصلاحات محمد علي باشا في مصر خاصة، والنهضة الفكرية السياسية التي شهدها العالم العربي عامة، وتزامنت مع يقظة معظم شعوب الشرق. وكان للتوسع الرأسمالي في طوره التجاري الباكر، ثم في طوره الصناعي، أثر مهم في تفكيك البنى الإقطاعية. بيد أن الملكية الإقطاعية لم تزل نهائياً إلا بعد قيام الثورات الوطنية الحديثة، والإصلاح الزراعي [ر] الذي رافقها.
الإقطاع الصليبي في الشرق
نقل الصليبيون أسس نظامهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى المناطق التي احتلوها في المشرق العربي فأقاموا كيانات إقطاعية عسكرية تتمثل في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها وكونتية طرابلس. وكانت هذه الدول تعتمد تسلسلاً مراتبياً إقطاعياً من الأسياد من مختلف المراتب والمراكز يشبه التسلسل القائم في الغرب الأوربي. ومع أن مملكة بيت المقدس كانت أهم تلك الدول فإن ملوكها لم يكن لهم سوى سلطة اسمية تتمثل في رئاسة مجلس الوزراء ولم يكن لهم مزايا وأفضليات على الأمراء الذين يدينون لهم بالتبعية. وقد أصدروا في عام 1120م ما سمي مجموعة قوانين ملك القدس assise de Jerusalem، وهي مجموعة التقاليد والأعراف والقواعد الإقطاعية التي تنظم العلاقات بين الإمارات، وجرى تطويرها فيما بعد بإضافة قواعد لاحقة إليها.
كانت هذه الدول الإقطاعية تنقسم إلى وحدات أصغر من الحيازات الإقطاعية (البارونيات) التي تنقسم أيضاً إلى وحدات أصغر هي إقطاعات الفرسان feod/fief التي تختلف مساحتها وتتناسب مع قوة السيد الإقطاعي وعدد تابعيه. وتحدد القوانين المذكورة نظام الخدمة العسكرية الإقطاعية وحقوق السادة وواجبات الأتباع المُقطعين، وتنظم العلاقات المتبادلة فيما بينهم وتحدد الشروط التي يقدم الأتباع بموجبها الخدمة العسكرية للسيد وحق السيد في ملاحقة الأقنان الهاربين، والحالات التي يحق فيها للملك أو الأمير أن يحرم التابع من إقطاعيته ودور المحكمة الإقطاعية في هذه الأمور. وهكذا فإنه لم يكن بمقدور ملك القدس أن يتخذ أي قرار بلا موافقة البارونات، مثلما لم يكن بمقدورهم أيضاً اتخاذ قرار بلا موافقة أتباعهم. وكل هذا يعكس وضع التجزؤ الإقطاعي في أكمل صوره.
لم ينته النظام الإقطاعي في الغرب دفعة واحدة، فقد مهدت لنهايته عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية أهمها: نمو الطبقة الوسطى وتطور التجارة بعيدة المدى بالكماليات والضروريات وظهور بوادر الرأسمالية التجارية (الميركنتيلية)، والنهضة الثقافية التي شملت الأدب والفن والعلوم الدينية والوضعية، وقيام ثورات الفلاحين وحركات الإصلاح الديني، واستعادة الدولة سلطتها المركزية في سياق الثورة البورجوازية التي كان من أهم منجزاتها حل مسألة الأرض وإلغاء القنانة وإرساء أسس الثورة الصناعية والدولة القومية الحديثة. ولعل عصر التنوير الذي توجته الثورة الفرنسية كان انعطافاً حاسماً لدخول العصر الحديث وزوال الإقطاعية.
شريعة الإقطاع
كانت العادات والشرائع في الغالب شيئاً واحداً في نظام الحكم الإقطاعي حيث كان القضاة والقائمون بتنفيذ القانون المدني عادة أميين. فإذا ما ثارت مشكلة خاصة بالقانون أو العقاب، سئل أكبر أعضاء المجتمع سناً عما جرت به العادة في هذه المشكلة أيام شبابهم، ولهذا كان المجتمع نفسه المصدر الرئيسي للقوانين. نعم إنه كان في مقدور الشريف أو الملك أن يصدر الأوامر، ولكن هذه الأوامر لم تكن قوانين، وإذا ما طلب إلى الناس أكثر مما تجيزه العادات حالت بينه وبين مطالبه مقاومة الشعب عامة جهرة أو صمتاً(43). وكان لفرنسا الجنوبية قانون مكتوب ورثته عن الرومان، أما فرنسا الشمالية حيث كان الإقطاع أكثر تغلغلاً منه في الجنوب، فقد احتفظت في الأغلب الأعم بشرائع الفرنجة، ولما أن دونت هذه القوانين أيضاً في القرن الثالث عشر، أضحى تغييرها، الذي كان من قبل صعباً، أشد صعوبة مما كان، ونشأت مائة قصة قضائية للتوفيق بين هذه القوانين وبين الحقيقة الواقعة.
وكان قانون الملكية الإقطاعي قانوناً فذاً معقداً، يقر ثلاثة أشكال للملكية العقارية: (1) لملكية المطلقة غير المشروطة بشرط ما. (2) الالتزام وهو منح غلة الأرض لا ملكيتها لتابع إقطاعي بشرط أداء الخدمة المفروضة على الشريف و(3) الإيجار-وهو الذي تعطي به غلة الأرض لرقيق الأرض أو مستأجرها على شريطة أن يقوم بأداء الالتزامات الإقطاعية. وكان الملك وحده حسب النظرية الإقطاعية هو الذي يستمتع بالملكية المطلقة، أما كل من عداه، ومنهم أسمى الأشراف مقاماً، فكانوا مستأجرين يمتلكون الأرض على شريطة أن يؤدوا عنها الخدمة الواجبة. كذلك م تكن ملكية السيد الإقطاعي للأرض مقصورة عليه وحده، بل كان لكل واحد من أبنائه حق موروث في أرض الآباء، وكان له أن يحول دون بيعها(44). وكانت العادة المألوفة أن نؤول الأرض إلى أكبر الأبناء الذكور، ذلك بأن هذه العادة التي لم تكن معروفة في القانون الروماني أو قوانين الأمم المتبربرة أصبحت موائمة لظروف النظام الإقطاعي، لأنها تضع شئون الحماية العسكرية والإشراف الاقتصادي في يد رئيس واحد، يفترض فيه أن أنضج أبناء الأسرة عقلاً. أما الذكور الأصغر منه سناً فكانوا يشجعون على المغامرة لتملك ضياع أخرى في أراضي غير أرض آبائهم، وكان القانون الإقطاعي، رغم ما فرضه على الملكية من قيود، لا يقل عن أي قانون سواه احتراماً للملكية وقسوة في عقاب من يعتدون على حقوقها. مثال ذلك أن أحد القوانين الألمانية كان ينص على أن من يزيل لحاء إحدى أشجار الصفصاف التي تمسك أحد الجسور "يشق بطنه، وتنتزع أمعاؤه، وتلف حول القطع الذي أحدثته"، وكان في وستفاليا قانون ظل معمولاً به حتى عام 1454 يقضي بأن من يرتكب جريمة إزالة أحد معالم حدود أرض جاره، يدفن في الأرض إلى ما تحت رأسه، ثم تسلط عليه أثوار ورجال لم يسبق لهم أن حرثوا أرضاً يحرثون رأسه؛ "وللرجل الدفين أن ينقذ نفسه بخير وسيلة يستطيعها"(46).
وكانت الإجراءات القضائية في القانون الإقطاعي تنبع في الأغلب الأعم قوانين البلاد الهمجية، وتعمل لاستبدال العقوبات القانونية العامة بالثأر الفردي؛ وكانت الكنائس، والأسواق العامة، "ومدن الالتجاء" تمنع حق الأماكن الحرم؛ وكان من المستطاع بفضل هذه القيود أن يوقف الانتقام حتى يتدخل القانون في الأمر. وكانت محاكم الضياع تنظر القضايا التي تقوم بين مستأجر ومستأجر، أو بين مستأجر وسيد؛ أما المنازعات التي تثور بين سيد وتابع له، أو بين سيد وسيد، فكانت تعرض على محلفين "من أعيان البارونية" وهم رجال يجب ألا يقلوا منزلة عن الشاكي نفسه(47)، وأن يكونوا تابعين للإقطاعية نفسها، وممن يجلسون معه في بهو إقطاعي واحد. وكانت محاكم الأسقفيات أو الأديرة تنظر في قضايا رجال الدين، أما الاستئناف الأعلى فكان يرفع إلى المحكمة الملكية المؤلفة من أعيان الدولة، وكان يرأسها الملك نفسه أحياناً. وكان المدعي والمدعي عليه أمام محاكم الضياع يحبسان حتى يصدر الحكم في قضيتهما. وكان المدعي الذي يخسر القضية المرفوعة أياً كان نوعها يعاقب بنفس العقوبة التي توقع على المدعي إليه إذا ثبتت عليه التهمة. وكانت الرشوة شائعة في جميع المحاكم(48).
وظل التحكيم الإلهي معمولاً به طوال عهد الإقطاع. وقد حدث في عام 1215 أن فرض الاختبار بالحديد المحمي على بعض الخارجين على الدين في كمبريه Cambrai، فلما أصيبوا بحروق سيقوا إلى القائمة التي يشد عليها من يحرقون، ولكن أحدهم أعفي من العقوبة، كما يقولون، لأنه أقر بذنبه، فشفيت يده من فوره، ولم يبق فيها أثر للحروق. وكان انتشار الفلسفة في خلال القرن الثاني، وإقبال الناس من جديد على دراسة القانون الروماني، من أسباب كراهية الناس لهذا "التحكيم الإلهي". واستطاع البابا إنوسنت الثالث أن يقنع مجلس لاتران الرابع في عام 1216 بإلغاء هذا النوع من المحاكمة إلغاءً تاماً، وأدخل هنري الثالث هذا الإلغاء في القانون الإنجليزي (1219)، كما أدخله فردريك الثاني في قانون نابلي (1213)، أما في ألمانيا فقد ظلت الاختبارات القديمة معمولاً بها حتى القرن الرابع عشر، وقاسى سفنرولا Savonarola التحكيم الإلهي بالنار عام 1489 في فلورنس، وعاد هذا التحكيم إلى الوجود في محاكمة الساحرات في القرن السادس عشر(49). وشجع نظام الإقطاع السنَّة الألمانية القديمة، سنة المحاكمة بالاقتتال، وكانت هذه السنة وسيلة للإثبات من ناحية، وبديلاً من الثأر الفردي من ناحية أخرى.
وأعاد النورمان هذه السنَّة إلى بريطانيا بعد أن أهملت في عهد الأنجليسكسون، ثم ظلت ثابتة في سجل القانون الإنجليزي حتى القرن التاسع عشر(50). ومما يذكر في هذا الصدد أن فارسياً يدعى هرمان Hermann اتهم فارساً آخر يدعى جاي Guy بالاشتراك في اغتيال تشارلس الصالح Charles the God ملك فلاندرز، فلما أنكر جاي التهمة دعاه هرمان إلى مبارزة قضائية، وظل الرجلان يتقاتلان عدة ساعات، حتى فقد كلاهما جواده وخسر سلاحه، فانتقلا من المبارزة إلى المصارعة، واستطاع هرمان أن يبرهن على عدالة التهمة بانتزاع خصيتي جاي من جسمه، ويموت جاي بتأثير هذا الانتزاع(51). ولعل الإقطاعيين قد استحوا من هذه العادات الهمجية ففرضوا قيوداً على حق المبارزة ظلت تتراكم على مدى الأجيال، فكان يطلب إلى المدعي إذا أراد أن يحصل على حق الدعوة إلى المبارزة أن يتقدم بقضية مرجحة الكسب، وكان من حق المدعي عليه أن يرفض القتال إذا أثبت أنه كان في غير مكان الجريمة حين وقوعها؛ ولم يكن لرقيق أرض أن يبارز حراً، أو مجذوم أن يبارز سليماً، أو ابن غير شرعي أن يبارز ابناً شرعياً، وقصارى القول أنه لم يكن يصح لشخص أن يبارز إلا شخصاً مساوياً له في مرتبته. وكانت قوانين بعض المجتمعات تمنح المحكمة حق منع أية مبارزة قضائية متى شاءت، وكان رجال الدين، والنساء، والمصابون بأية عاهة جسمية يعفون من المبارزة، ولكنهم كان لهم أن يختاروا "أبطالاً"-أي مبارزين بارعين-ينوبون عنهم في المبارزة. ولذلك نسمع منذ القرن العاشر عن أبطال مأجورين يحلون محل الذكور المبارزين وإن كانوا صحيحي الأجسام، ذلك بأنه إذا كان الله سيقضي في الأمر حسب عدالة التهمة فقد يبدو أن شخصية المقتتل لا شأن لها بهذا القضاء. وقد عرض أتو الأول مسألة عفة ابنته، والنزاع القائم حول وراثة بعض الضياع، ليفصل فيها أبطال مبارزون(52)، وكذلك لجأ الفنسو العاشر ملك قشتالة إلى هذا النوع من المبارزة ليقرر هي يعمل بالقانون الروماني في مملكته(53) وكانت السفارات تزود أحياناً بالأبطال المبارزين ليكونوا حاضرين إذا نشب نزاع دبلوماسي يجوز الفصل فيه بالمبارزة. وظل أبطال من هذا النوع يظهرون في الاحتفال بتتويج ملوك الإنجليز حتى عام 1821، وقد أصبحوا قبل ذلك التاريخ من مخلفات الماضي ذوات الشكل الجميل، ولكن هذا البطل المبارز كان يفترض فيه في العصور الوسطى أن يلقى قفازة على الأرض، ويعلن بصوت عال استعداده للمبارزة للدفاع عما للملك من حق إلهي في تاجه(54).
وكان الالتجاء إلى الأبطال مما يحط من شأن المحاكمة بالاقتتال، وبهذا حرمته الطبقات الوسطى الناشئة في التشريعات العامة، واستبدلت به في القرن الثالث عشر القانون الروماني في أوربا الجنوبية، وكثيراً ما نددت به الكنيسة، وحرمه إنوسنت الثالث تحريماً قاطعاً (1215)، ومنعه فردريك الثاني من أملاكه في نابلي، وألغاه لويس التاسع في الأقاليم الخاضعة لحكمه خضوعاً مباشراً (1260)، وحرمه فليب الجميل (1303) في جميع أنحاء فرنسا. هذا والمبارزة لا تستمد أكبر أسباب نشأتها من الاقتتال القضائي بقدر ما تستمده من حق الناس القديم في أن يثأروا لأنفسهم ممن يعتدون عليهم. وكانت العقوبات الإقطاعية قاسية قسوة وحشية، فكانت الغرامات لا يحصى لها عدد، وكان السجن يستخدم وسيلة لحجز المتقاضين أكثر مما يستخدم عقاباً للمذنبين، ولكن السجن كان في حد ذاته تعذيباً للمسجون لما كان ي حجراته من حشرات، وجرذان، وأفاع(55). وكان يحكم أحياناً على الرجال والنساء بالحِنَاك أو الصلب علناً، وأن يجعل المعاقب هدفاً لسخرية الجماهير، أو يقذف الطعام الفاسد أو يرجم بالحجارة، وكان كرسي الاعتراف يتخذ عقاباً لمن يرتكبون بعض الجرائم أو الثرثارين أو النساء الساقطات، فكان من يحكم عليهم بهذا العقاب يشدون إلى كرسي يربط برافعة طويلة ثم يغرق بهم الكرسي في مجرى مائي أو بركة. وكان الأشداء من المذنبين يحكم عليهم أحياناً بالعمل في السفن، فكانوا يساقون إليها عراة، ولا ينالون إلا القليل من الطعام الذي لا يغني من جوع، ويشدون إلى المقاعد ثم يرغمون على التجديف فيها حتى تخور قواهم، فإذا امتنعوا أو توانوا جلدوا أشد الجلد وأقساه. وكان الجلد بالسوط أو العصا من العقوبات العادية. وكان جسم المذنب ووجهه أحياناً-يكوي ليوسم. رف ما يرمز للجريمة. وكان الحنث في الإيمان والتجديف يعاقبان أحياناً بحرق اللسان بقطعة من الحديد المحمي. وكان بتر الأعضاء أمراً مألوفاً، فكانت اليدان، أو القدمان، الأذنان، أو الأنف تقطع، والعينان تسلمان وكان من الوسائل التي لجأ إليها وليم الفاتح لمكافحة الجرائم "ألا يقتل إنسان أو يشنق لجريمة ارتكبها، بل أن تفقأ عيناه، وأن تقطع يداه، وقدماه، وخصيتاه، حتى إذا ما بقي شيء من جسمه كان ذلك الشيء الباقي دليلاً على جميع جرائمه وجوره"(56). وقلّما كان التعذيب من العقوبات المعمول بها في العصور الوسطى، وإن كانت الشرائع الرومانية والكنسية قد أعادته إلى الوجود في القرن الثالث عشر. وكان القتل والسرقة يعاقب عليهما أحياناً بالنفي وكان أكثر ما يعاقبان به هو قطع الرأس أو الشنق، وكان عقاب القاتلات أن يدفن وهن على قيد الحياة(57). ويمكن عقاب الحيوان الذي يقتل آدمياً بدفنه حياً أو بشنقه. وكانت المسيحية تدعو إلى الرأفة، ولكن المحاكم الكنسية كانت تعاقب على الجرائم بنفس العقوبات التي توقعها المحاكم المدنية، من ذلك أن محكمة دير سانت جنفييف St, Genevi(ve حكمت بدفن سبع نساء وهن على قيد الحياة عقاباً لهن على السرقة(58). وبعد فلعل كبح جماح الخارجين على القانون في العصور الهمجية، كان يحتاج إلى تلك العقوبات الوحشية، ولكن هذه العقوبات الوحشية نفسها بقيت حتى القرن الثامن عشر، ولم تكن شر أنواع التعذيب هي التي يفرضها الأشراف على القتلة بل كانت هي التي يفرضها الرهبان المسيحيون على الأتقياء المارقين.
انظر أيضاً
العسكري:
غير أوروبي:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كتب عن الإقطاع
- العادات والتقاليد في العهود الإقطاعيه - الشيخ علي الزين العاملي
- الإقطاعية في مصر فلسطين سوريا لبنان - بولياك
المراجع
- إبراهيم علي طرخان، النظم الإقطاعية (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968).
- أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج (دار المعرفة للطباعة والنشر).
- عبد الرزاق الظاهر، الإقطاع والديوان في العراق (مطبعة السعادة، القاهرة 1946).
- عبد العزيز الدوري، «نشأة الإقطاع في المجتمعات الإسلامية»، مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد 1970 (بغداد).
- نور الدين حاطوم، تاريخ العصر الوسيط في أوربة (بيروت 1967).