أنساب
الحمد لله خالق السموات والأرضين , وموجد الأولين والآخرين , والصلاة والسلام على أشرف السفراء المقربين ,ومقدام الأنبياء والمرسلين , سيدنا وقرة أعيننا , وحبيب قلوبنا , وشفيع ذنوبنا , محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم .
أما بعد : اعلم رحمك الله , أن علم المعارف والأنساب من أجل العلوم التي وضعها الباري عز وجل بين الناس , ومعرفة الأنساب من أعظم النعم التي أكرم الله بها عباده لأن تشعب الأنساب على افتراق القبائل والطوائف أحد الأسباب الممهدة لحصول الائتلاف والتراحم والتعارف بين الأمة , ولقد بذل علماء النسب من الجهود المباركة في تنقية الأنساب , وتحرير الأعقاب , وتمييز المشتبه من الأنساب , ولقد اهتم العرب من قديم الأزمان بهذا العلم أشد الاهتمام , ولما جاء دور الإسلام أكّد على رعاية الأنساب ومعرفتها, و بنى على ذلك كثيراً من أحكامه , ليهتم المسلم بحفظها في حدود حاجاته الشرعية , فلولا علم الأنساب لانقطع حكم المواريث, مع أنه ركن من أركان الشّرع , وأكد الإسلام على حفظ الرّحم , وحذر من تضييعه . وأوجب معرفة نسب النبي صلى الله عليه وسلم , ليتحقق به معرفة قربى النبي صلى الله عليه وسلم , قال الباري عزّ وجل ( قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى )(1) .
قال الفخر في تفسيره معلقا : والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حبّ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم , وحب أصحابه , وهذا المنصب لا يسلم إلا على قول أصحابنا أهل السنة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة(2) .
قلت : ولم يكن هذا العلم للتفاخر والتناحر والتعالي بين الناس . قال الباري عزّ وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (3) .
قال الزمخشري في كشّافه مفسِّراً: (ذَكَرٍ وَأُنثَى ) من آدم وحواء . وقيل خلقنا كل واحد منكم من أب وأم , فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء, فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب, وقال ايضاً: أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض , فلا يعتزي إلى غير آبائه , لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد , وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب , وأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم (4).
وأخرج الترمذي في جامعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: ((قد أذهب الله عنكم عُبيَّة (5) , الجاهلية وفخرها بالآباء , مؤمن تقي , وفاجر شقي ,والنّاس بنو آدم , وآدم من تراب )) وقال : هذا حديث حسن صحيح (6) .
ولما كان نسب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأنساب , فكان لزاماً على أهل هذا العلم تدوين نسب عترته أهل بيته , والمحافظة عليه وتدوين الأعقاب وتحريرها , خاصة بعد ما حصل لهم من خصومهم من إسرافهم في تقتيلهم وتشريدهم عاملهم الله بما يستحقونه , مما أدي إلى تواريهم وستر أخبارهم, والله العالم .
قال الباري عز وجل: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )(7) .
المصادر :
- (1) سورة الشورى-23
- (2) فخر الرازي : التفسير الكبير ,27/168
- (3) سورة الحجرات - 13.
- (4) الزمخشري: الكشاف ,4/377.
- (5) قال ابن الأثير في النهاية : عبية: الكِبر , وتضم عينها وتكسر , 2/149 .
- (6) أخرجه الترمذي (3956) من طريق أبي سعيد وقال الالباني : حسن , وأبو داود (5116) , وابن حبان في صحيحه ( 3828) من طريق عبدالله بن دينار وقال شعيب : إسناده صحيح .
- (7) سورة الإسراء – الآية :36.