الأدب الإيطالي
اللغة الإيطالية |
---|
أكاديميا دلا كروسكا الأبجدية اللهجات النحو الأدب النطق |
الأدب الإيطالي يشمل الأدب الإيطالي روائع عديدة كُتبت منذ بدايات القرن الثالث عشر الميلادي. كما أنه عزّْز حركات ثقافية مهمة كان لها أثر دائم على آداب قومية أخرى. ولم تصبح اللغة الإيطالية لغة قومية عامة إلاّ بعد عام 1870م. ومع ذلك فإن إحدى خصائص الأدب الإيطالي أن له لغة موحدة خلال تاريخه الطويل. وقد حدث هذا التوحيد لأن ثلاثة كُتّاب إيطاليين كبارٍ في القرن الرابع عشر الميلادي هم دانتي اليجيري وبترارك وجيوفاني بوكاتشيو كتبوا بلغة مبنيّة على اللهجة التسكانية التي كان يتحدث بها أهل فلورنسا. ولقد قُلِّدت لغتهم وأعمالهم لبضعة قرون في الوقت الذي درج فيه الإيطاليون على استعمال لهجات منطوقة عديدة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأدب اللاتيني في العصور الوسطى المبكرة
العصور الوسطى
عرفت إيطالية قبل الميلاد وبعده بسنوات ما يسمى بالأدب الروماني الذي استمر حتى زوال الامبراطورية الرومانية. تبعه أدب العصور الوسطى الخاص بالمجتمع الأوربي المسيحي الذي شمل دولاً أوربية أخرى مجاورة. ووقف الأديب الإيطالي إلى جانب نظرائه الفرنسي والألماني والإنكليزي يخاطب العالم المسيحي باللغة اللاتينية متناسياً المصالح القومية لكلّ دولة. وكان ينادي بوحدة الأدب مثلما كان ينادي بوحدة الثقافة والإيمان. وكانت لغة الشعر هي الأولى التي جمعت الأدباء في إيطالية وخارجها، وظل الشعر لغة المجتمع الأرستقراطي ذي المثل الخيالية حتى ظهور لغة العامة إلى جانب اللغة اللاتينية، عندئذ نشأت علاقة جديدة بين الأديب والقارئ، عندما بدأ الأديب يكتب بلغة العامة ويتحدث بلسان شعبه غير مبال بقارئه خارج الحدود الإيطالية. واكتسب الأدب صفة قومية وشعبية عندما بدأ الشاعر دانته ألگييري ينظم الشعر بلغة العامة. ووجد أنصار لغة العامة صعوبة في مواجهة علماء اللاهوت والصوفيين ورجال القانون والمؤرخين. ولم يكن من السهل التخلي عن اللغة اللاتينية وما يلازمها من أسس دينية وأخلاقية شكلت دعامة لمجتمع النبلاء وللثقافة الكهنوتية. ففي العصور السالفة كان التعليم العالي في إيطالية مقروناً بدراسة الحقوق والطب والبلاغة ولحقت الفلسفة بعلوم الطب. وأخّرت المكانة التي احتلتها اللغة اللاتينية رسمياً في الإدارات وفي لغة الوثائق منذ عام 960 ارتقاء لغة العامة إلى مصاف اللغة الأدبية حتى القرن الثالث عشر، عندما دافع القديس فرانتشيسكو داسيزي عن استخدام لغة العامة في كتابه «ترتيلة المخلوقات»، وهو من المؤلفات الإيطالية القديمة التي كتبت بنثر إيقاعي مقرون بسجع وقافية وفيه تسبيح من المخلوقات وسجود لخالق الكون.[1]
وشهد القرن الثالث عشر مدرسة شعرية حديثة استمدت اسمها «الأسلوب الجديد العذب» من عبارة لدانتي. وجمع مؤسس هذه المدرسة گويدو گوينيتزيلي حول الشاعرين دانته وگويدو كڤلكنتي مجموعة من الشعراء الشباب في توسكانة أمثال لاپو جاني وجاني ألفاني وتشينو دا پيستويا وتغنى هؤلاء الشعراء، الذين أرادوا أن تكون قصائدهم صفوة الشعر، بفداء الحبيبة.
واعتمد شعراء آخرون أمثال فولگوره دا سان جيمينيانو وروستيكو دي فيليپو وتشكو أنجولييري الشعر الهزلي في مغالاتهم في الكلام وإسرافهم في وصف الواقع وبحثهم عن المثل العليا وسط الطبقة البرجوازية، وكان الشعر الهزلي استمراراً لشعر العصور الوسطى لذا وقف دانتي بين القديم والجديد منتهجاً الأسلوبين.
ودعت حركة دينية في نهاية القرن الثالث عشر إلى تجديد الأسس الاجتماعية، وإحياء القيم الأخلاقية، متأثرة بالإصلاح الديني الذي نادت به الكنيسة. إلا أن هذه الحركة اتجهت نحو التحرر من النفوذ الكنسي وأدخلت في مبادئها موضوعات سياسية واجتماعية إلى جانب موضوعاتها الدينية التي تعود إلى الشعر القديم: نهاية العالم وعفة النفس وإغاثة الفقير ويقظة الضمير، وحتمية الموت، ومن أشهر روادها جاكوبوني دا تودي الذي عرف بتسابيحه وأشهرها «بكاء العذراء». ولم يكتسب الأدب الإيطالي في هذه الحقبة صبغة دينية فحسب بل أيضاً صبغة تعليمية هادفة، فكان الأدب وسيلة لنشر المبادئ والمذاهب التي تدعم حقيقة الإيمان؛ وساعد في ذلك وجود شريحة اجتماعية جديدة من القرّاء توّاقة إلى اكتساب المعرفة والعلم، كما ساهم عدد من الأدباء في شمالي إيطالية خاصةً في نشر هذه الحركة الأدبية التعليمية وكان أشهرهم برونيتو لاتيني وگويتوني داريتزو.
القرن الرابع عشر والخامس عشر
سجل القرن الرابع عشر ثلاثة أسماء كبار في الأدب الإيطالي: دانته وفرانتشيسكو بتراركا وجوفاني بوكاتشو. حاول بتراركا الارتقاء بالشعر إلى اللغة الأدبية المصفاة من شوائب لغة العامة والأسلوب الواقعي، واقترن شعره بالطبقة الأرستقراطية وبالبلاط، وكانت صقلية مهداً له في عهد فريدريك الثاني ثم أصبحت مدرسة صقلية الشعرية منهلاً للشعراء في جنوبي إيطالية وشماليها. ومن المؤكد أن الأدب لم يبلغ في القرن الرابع عشر المكانة التي كانت للرسم والنحت، والتي كان لها أثر يشبه أثر الشاشة الصغيرة في القرن العشرين؛ إذ بقي أدب البلاط قاصراً على شريحة من المثقفين حتى بداية عام 1470 عند طباعة النصوص الأولى لكبار الأدباء بلغة العامة: ديوان «الشعر الغنائي» لپتراركا (طبعة البندقية عام 1470) و«الديكاميرون» لبوكاتشو (طبعة البندقية 1471) و«الكوميديا (أو الملهاة) الإلهية» لدانتي (طبعات فولينيو ومانتوڤا والبندقية الثلاث 1472).
يضاف إلى ذلك أن النزعة الأدبية الإنسانية ساهمت في نشر لغة العامة مدافعة عن حرية الإنسان في التعبير. ومن أنصارها ليون باتيستا ألبرتي وليوناردو دافينشي الذي احتل المكانة الأولى في الفنون، إلا أنه ناظر بلغة الأدباء وآثر لنفسه التعبير التلقائي عند تدوين أفكاره حول لوحاته الفنية. ولمع في فلورنسة اسم أنجلو پوليتسيانو ولويجي پولچي وفي نابولي اسم ماسوتشو سالرنيتانو وياكوبو سناتزارو.
عصر پوليتيان
وأفاد أدباء فلورنس من عونه ومثلهن فأخذوا يزيدون في كل يوم ما يكتبونه باللغة الإيطالية، وأخرجوا على مهل اللغة التسكانية الأدبية التي أضحت نموذجاً ومثلاً تحتذيه شبه الجزيرة كلها. ويصفها ڤاركي المتحمس لوطنيته: » بأنها ليست أحلى واغنى لغات إيطاليا وأكثرها ثقافة فحسب، بل إنها تفوق في هذا كله جميع اللغات المعروفة في هذه الأيام(12)«.
وبنما كان لورندسو يحيي الأدب الإيطالي، كان في الوقت عينه يواصل في جد وحماسة مشروعا جده فيجمع كا ما يستطيع من الكتب الأدبية اليونانية والرومانية القديمة ليفيد منها العلماء في فلورنسا. من ذلك أنه بعث بوليتيان وجون لاسكارس إلى كثير من المدن في إيطاليا وخارجها لشراء المخطوطات القديمة، وقد جاء لاسكارس من دير واحد عند جبل آثوس بمائتي مخطوط، منها عشرون لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في أوربا الغربية. ويقول بوليتيان إن لورندسو كان يود لو سمح له بأن ينفق كل ثروته، بل ويرهن أثاث بيته ليبتاع الكتب. وكان يستأجر النساخين لينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات، ويجيز في نظره ذلك لغيره من المولعين بجمع الكتب أمثال ماثياس كورڤينوس ملك المجر وفدريگو دوق أربينو أن يرسلوا نساخين من عندهم ليعيدوا نسخ ما في مكتبة آل ميديتشي من مخطوطات.. وقد ضمت هذه المجموعة بعد موت لورندسو إلى المجموعة الأخرى التي وضعها كوزيمو من قبل في دير سان ماركو، وكانت المجموعتان تضمان في عام 1495 تسعة وثلاثين والف مجلد منها ستون وأربعمائة باللغة اليونانية. وخطط ميكل أنجلو فيما بعد داراً فخمة لهذه الكتب، وأطلق عليها الخلف أسم لورندسو فسماها المكتبة اللورنتيانية. ولما أنشأ برناردو تشنيني مطبعة في فلورنسا (1471)، لم يسخر لورندسو من الفن الجديد، كما سخر منه صديقه بوليتيان أو فدريگو دوق أربينو، بل يبدو أن ما سوف يتمخض عنه نظام الحروف المتنقلة من إمكانيات، واستخدم العلماء لمقابلة النصوص المختلفة حتى تطبع الكتب القديمة بأعظم الدقة المستطاعة في ذلك الوقت. وشجع ذلك بارتولوميو دي لبري فطبع النسخة الأصلية من مؤلفات هومر (1488) برعاية العالم المدقق دمتريوس كالكونديلس، وكذلك أصدر جون لاسكارس النسخة الأصلية من مؤلفات يورپيدز (1494)، والمختارات الشعرية اليونانية، ومؤلفات لوتشيان، وطبع كرستوفورو لندينو أشعار هوراس (1482)، وڤرجيل، وپلني الأكبر، ودانتي، وكانت لغة هؤلاء الثلاثة وإشاراتهم تحتاج في هذا الوقت إلى شيء من الإيضاح. وفي وسعنا أن نستشف روح ذلك العصر إذا عرفنا أن فلورنسا كافأت كرتوفورو على أعماله العلمية بأن أهدت إليه بيتاً فخماً.
وهرع العلماء إلى فلورنس بعد أن أغراهم بذلك اشتهار آل ميديتشي وغيرهم من أهل فلورنس بما يغدقونه عليهم من الهبات، واتخذوا هذه المدينة عاصمة الثقافة الأدبية. وكان من هؤلاء العلماء ڤسپازيانو دا بستتشي الذي كان يعمل بائعاً للكتب وأميناً للمكتبات في فلورنسا، وإربينو، وروما، ثم ألف سلسلة بليغة محكمة في سير أعيان الرجال خلد فيها أسماء كتاب ذلك العصر وأنصار العلم فيه. وأراد لورندسو أن ينمي التراث الذهني للوع البشري وينقله إلى الأجيال القادمة فأعاد إلى الوجود الجامعة القديمة في بيزا والمجمع العلمي الأفلاطوني في فلورنس ووسع نطاقهما. ولم يكن مجمع فلورنس العلمي كلية رسمية بل كان هيئة من العلماء المولعين بفلسفة أفلاطون، يجتمعون في فترات غير منتظمة في قصر لورندسو بمدينة فلورنس أو في قصر فتشينو الريفي في كارِگي، ويطعمون معاً، ويقرءون بصوت عال محاورة من محاورات أفلاطون أو أجزاء منها، ثم يتناقشون فيما تحتويه من آراء فلسفية. وكان المجمع يحتفل باليوم السابع من نوفمبر، وهو الذي يزعمون أن أفلاطون ولد ومات فيه، احتفالا لا يكاد يقل روعة ومهابة عن الاحتفالات الدينية، فكانوا يتوجون بالأزهار تمثالا نصفياً يعتقدون أنه تمثال أفلاطون، ويوقدون أمامه مصباحاً كما توقد المصابيح أما صور الآلهة. وقد اتخذ كرستوفورو من هذه الاجتماعات أساساً للحديث الخيالي الذي سماه جدل الكملدولينين (1468) وذكر فيه كيف زار هو وأخوه دير الرهبان الكملدولينين، والتقى فيه بالشابين لورندسو وجوليانو ده مديتشي، وليون باتستا ألبرتي وستة آخرين من علية أهل فلورنس، وكيف كانوا يضطجعون على الكلأ قرب عين ماء جارية، ويوازنون بين حياة المدينة المسرعة القلقة، وسكنى الريف الصحي الجميل، وبين حياة النشاط وحياة التأمل والتفكير، وكيف كان ألبرتي يمتدح حياة التفكير الريفي، بينما كان لورندسو يقول إن العقل الناضج يؤدي أكمل وظيفته ويجد أعظم ما يرضيه في خدمة الدولة وفي تجارة العالم(13).وكان بين من يحضرون مناقشات المجمع العلمي الأفلاطوني بوليتيان، وپيكو دلا ميراندولا ومرسيليو فيتشينو وقد بلغ من إخلاص مرسيليو للمهمة التي ندبه لها كوزيمو أن خصص حياته كلها تقريباً لترجمة أفلاطون إلى اللغة اللاتينية، ولدراسة الأفلاطونية، وتعليمها، والكتابة عنها. وكان في شبابه وسيم الخلق إلى درجة جعلت عذارى فلورنس يشغفن به حباً. ولكن عنايته بهن كانت أقل من عنايته بكتبه، وقد ضل عن دينه وقتاً ما، وخيل إليه أن الأفلاطونية أسمى من الدين قدراً، وكان يلقب طلابه »بأحبائه في أفلاطون« بدل »أحبائه في المسيح«(14)، وكان يحرق الشموع أمام تمثال نصفي لهذا الفيلسوف، ويمجده كما يمجد القديسين(15)، ولم تكن المسيحية وهو في هذه النشوة تبدو له إلا أنها أحد الأديان الكثيرة التي تخفي كثيراً من عناصر الحق في طيات عقائدها المجازية وطقوسها الرمزية، وظل كذلك حتى ردته كتابات القديس أوغسطين، وشكر الله على شفائه من مرض خطير، إلى الإيمان بالدين المسيحي، وبلغ من شدة إيمانه أن أصبح قسيساً حين بلغ سن الأربعين، ولكنه ظل مع ذلك متحمساً للأفلاطونية، يقول إن سقراط وأفلاطون قد جاءا بعقيدة للتوحيد لا تقل نبلا عما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وأنهما هما أيضاً ق نزل عليهما الوحي نزولا مصغراً، كما نزل في الواقع على جميع الناس الذين يخضعون لحكم العقل. وحذا لورندسو وبعض الكتاب الإنسانيين حذوه فسعوا إلى تفسير الدين المسيحي تفسيراً يقبله الفيلسوف دون أن يعملوا على استبدال دين جديد بهذا الدين. وظلت الكنيسة جيلاً من الزمان أو جيلين (1447-1534) تبتسم لهذه المخاطرة وتتسامح مع لقائمين بها حتى جاء سفنرولا وشنع بها وقال إنها خداع وتضليل. وكانت الشخصية الساحرة الجذابة التي لا يعلو عليها إلا لورندسو نفسه هي شخصية الكونت جيوفني بيكو دلا ميرندولا. وكان مولده في البلدة (القريبة من ميدونا) التي أذاع اسمه شهرتها، ثم تلقى العلم في بولونيا وباريس، وكان يستقبل بأعظم مظاهر التكريم في بلاط الملوك والأمراء في أوربا كلها تقريباً، حتى أقنعه لورندسو آخر الأمر أن يتخذ فلورنس موطناً له. وكان عقله الحريص على العلم المتحمس له ينتقل من فرع منه إلى فرع- من الشعر، إلى الفلسفة، إلى العمارة، إلى الموسيقى،-وقد وصل في كل فرع منها إلى درجة غير قليلة من البراعة. حتى قال عنه بوليتيان إن الطبيعة قد كملته فجمعت فيه كل مواهبها: »كان طويل القامة، متناسب الأعضاء، يشع وجهه بشيء من النورانية الإلهية«، نافذ النظرات، لا يمل الدرس، قوي الذاكرة إلى حد الإعجاز، غزير المعرفة في كل فرع من فروع العلم، فصيح اللسان يجيد عدة لغات، تعجب به النساء ويحبه الفلاسفة، لا يقل جمال خُلقه عن وسامة خَلْقه، بلغ الدرجة العليا في جميع الصفات الذهنية. وكان عقله مفتوحاً لجميع الفلسفات والأديان، لا يسعه ولا يوائمه أن يرفض أي نظام أو أي إنسان، ومع أنه نبذ التنجيم في السنين الأخيرة من حياته، فإنه رحب بالتصوف وبالسحر ولقيا منه من القبول ما لقيه أفلاطون والمسيح. ولم يظن بكلمة طيبة على الفلاسفة المدرسين، الذين رماهم معظم من عداه من الكتاب الإنسانيين بأنهم قوم همج ينطقون بالسخافات والأباطيل. وكان يجد في التفكير العربي واليهودي كثيراً مما يدعو إلى الإعجاب، وكان من بين أساتذته وأصدقائه المكرمين عدد كبير من اليهود(16). وكان من بين ما درسه أسرار القبلة اليهودية، واعترف في غير مماحكة، ولا تكلف بما يعزى إليها من قدم، وجهر بأنه وجد فيها أدلة تقطع بألوهية المسيح. وإذا كان من ألقابه الإقطاعية أنه »كونت كنكورديا« Count of Cpncordia فقد أخذ على عاتقه ذلك الواجب السامي واجب التوفيق بين ديانات الغرب العظمى -اليهودية، والمسيحية، والإسلام-ثم التوفيق بينها وبين أفلاطون، ثم بين أفلاطون وأرسطو. واكن كل من عرفه يتودد إليه ويتملقه، ولكنه ظل إلى آخر حياته القصيرة يحتفظ بتواضعه الساحر الفنان الذي لا تضارعه إلا ثقته القوية المخلصة بدقة علمه وبقوة العقل الإنساني.
ولما قدم إلى روما في الرابعة والعشرين من عمره (1486)، أذهل القساوسة. والعلماء بأن نشر مجموعة مكونة من تسعمائة قضية تشمل المنطق، وما بعد الطبيعة، واللاهوت، وعلم الأخلاق، والرياضيات، والطبيعة، والسحر، والقبلة، وتضم فوق ذلك البدعة الدينية السمحة القائلة بأنه ما دامت أعظم خطيئة ارتكبها الإنسان محدودة غير أبدية، فإنها لا يمكن أن تستحق العقاب الأبدي. وجهر بيكو باستعداده للدفاع عن أية قضية من هذه القضايا وعنها جميعاً في أية مناقشة عامة ضد أي إنسان، وعرض أن يقوم بأداء جميع نفقات السفر لمن يريد أن يتحداه أيا كان البلد الذي يأتي منه. وقد مهد لهذه المباراة الفلسفية المقترحة بإعداد رسالة ذائعة الصيت عرفت فيما بعد باسم: (في كرامة الإنسان De hominis dignitale) عبر فيها بحماسة الشباب عن آراء الكتاب الإنسانيين في النوع الإنساني وهي الآراء التي تناقض معظم ما يراه أهل العصور الوسطى. وقد كتب بيكو في ذلك يقول: »من الأقوال المألوفة في المدارس أن الإنسان عالم صغير نتبين فيه جسماً امتزجت فيه العناصر الأرضية، بالروح السماوية، والنفس النباتية بحواس الحيوانات الدنيا والعقل الإنساني، وعقل الملائكة، وصورة الإله«(17)، ثم قال على لسان الله نفسه تلك العبارة التي قالها لآدم وعدها دليلا من قبل الله على ما للإنسان من إمكانيات لا حد لها: »لقد خلقتك كائناً لست سماوياً ولا أرضياً... لكي تكون حراً في أن تشكل نفسك وتتغلب عليها ... في مقدورك أن تنحط فتكون حيواناً، أو أن تولد من جديد في صورة الله«. وأضاف بيكو إلى هذه عبارة تنم عن الروح العليا الممثلة في النهضة الفنية:
»تلك هي العطية الإلهية التي لا تعلو عليها خطيئة ما، تلك هي سعادة الإنسان العظمى ليس بعدها سعادة... وهي انه يستطيع أن يكون ما يريد أن يكون. أن الحيوانات لتحمل معها من أجسام امهاتها من اللحظة التي تولد فيها كل ما هو مقدر لها أن تكونه، والأرواح العليا (الملائكة) هي منذ البداية... ما سوف تكونه إلى أبد الدهر، لكن الله أبا الكون قد وهب الإنسان منذ مولده أصول كل الإمكانيات وكل نوع من أنواع الحياة(18).
ولم يجرؤ أحد على أن يقبل تحدي بيكو فيناقشه في قضاياه المتعددة الأنواع، ولكن البابا إنوسنت الثامن وسم ثلاثاً من هذه القضايا بالإلحاد، وإذا لم تكن هذه القضايا الثلاث إلا جزءاً صغيراً من مجموع قضاياه، فإن بيكو كان يسعه أن ينتظر من البابا الرأفة به، وفي الحق أن إنوسنت لم يقف من هذه المسألة موقف الإصرار والمعاندة، ولكن بيكو أصدر تصريحاً رجع فيه عن أقواله فيها وإن يكن رجوعاً تكتنفه الحيطة والحذر، وسافر إلى باريس حيث عرضت عليه جامعتها أن تحميه من البابا، فلما كان عام 1496 أبلغ البابا إسكندر السادس المعروف بظرفه ودماثة خلقه بيكو أنه قد نسي كل شيء، فعاد بيكو من فوره إلى فلورنس، وأصبح من أخلص أتباع سفنرولا، وتخلى عن سعيه وراء التبحر في العلوم عامة، وأحرق مجلداته الخمسة في الغزل. وخرج عن ماله لأداء بائنات الفتيات الفقيرات، وعاش هو نفسه كما يعيش الرهبان، وفكر يوماً ما في الانضمام إلى طائفة الرهبان الدمنيكيين، ولكنه مات قبل أن يكوّن رأيه في هذا الموضوع-وكان عند وفاته لا يزال شاباً في الحادية والثلاثين من عمره. ولم يمنح نفوذه بعد انقضاء حياته القصيرة، وكان هو الملهم لرتشلين Reuchlin أن يواصل في ألمانيا تلك الدراسات العبرية التي كان يشغف بها بيكو طوال حياته.
وكان بوليتيان يعجب ببيكو إعجابا نبيلا كريماً، ويصحح شعره بعد أن يقدم لذلك أجمل اعتذار. على أن نجمه لم يلمع بالقوة والسرعة اللتين لمع بهما نجم بيكو، وإن كان أكثر منه نفاذاً إلى بواطن الأمور، وأعظم منه ثقافة وتهذيباً. واتخذ أنجيلس باسوس كما كان يسمى نفسه أول الأمر-أو أنجيلو أمبروجيني كما كان يسميه بعضهم-اتخذ اسمه الذي اشتهر به اكثر من غيره من الأسماء من مونتي بولدسيانو في مؤخرة مدينة فلورنسا. ودرس اللاتينية بعد أن قدم إلى فلورنس على كرستوفورو لندينو كما درس اللغة اليونانية على أندرونكوس سالونيكا ، والأفلاطونية على فتشينو، وفلسفة أرسطو على أرگيروپولوس. وبدأ وهو في السادسة عسرة من عمره يترجم هومروس إلى لغة يونانية قوية مليئة بالمصطلحات اللغوية إلى حد بدت معه وكأنها من أعمال العهد الفضي للشعر الروماني إن لم تكن من عهده الذهبي. ولما أتم ترجمة الكتابين الأولين بعث بالترجمة إلى لورندسو، فشجعه هذا الأمير- أمير أنصار الأدب والفن، اليقظ لكل ما يجده من جودة وامتياز-على الاستمرار في عمله، وأقامه في بيته واتخذه معلماً خاصاً لأبنه بيرو، وأمده بكل ما يحتاجه. ولما تحرر بوليتيان بفضل هذا العون من كل عوز أحذ ينشر النصوص القديمة ومن بينها قوانين جسفتيان وأظهر فيها من غزارة العلم واصالة الحكم ما أكسبه ثناء العالم الأدبي كله. ولما نشر لندينو أشعار هوراس قدم لها بوليتيان بقصيدة تضارع في لغتها اللاتينية، وتركيب جملها، وأوزانها الشعرية المعقدة قصائد هوراس نفسه. وكان يستمع إلى محاضراته في الأدب القديم آل ميديتشي، وبيكو دلا مير ندولا، وطلبة من الأجانب- روتشلن، وجروسين وغيرهما- بعد أن ترددت فيما وراء الألب أصداء شهرته في العالم، والشعر، والخطابة بلغات ثلاثة. وكان من عادته في كثير من الأحيان أن يبدأ محاضرته بقصيدة لاتينية طويلة يقرضها لتلك المناسبة خاصة، وكان من هذه القصائد قصيدة جزلة جميلة النغم سداسية الأوتاد تروي تاريخ الشعر من هوميروس إلى بوكاتشيو. وكشفت هذه القصيدة هي وغيرها من القصائد التي نشرها بوليتيان بعنوان السلفيات عن اسلوب لاتيني سهل، سلس، فياض، قوي الخيال إلى حد جعل الكتاب الإنسانيين ينادون به أميراً عليهم على الرغم من صغر سنه، وسرهم أن اللغة النبيلة التي كانوا يأملون إعادتها قد علمها بوليتيان تعليما بعث فيها الحياة من جديد. وقد جعل بوليتيان من نفسه كاتباً لاتينياً من طراز الكتاب اللاتين الأقدمين، غير أنه مع ذلك أصدر في يسر وخصب إنتاج طائفة متتابعة من القصائد باللغة الإيطالية لا نجد لها نظيرا في كل ما كتب بين بترارك وأريستو، فلما أن فاز جوليانو أخو لورندسو في مثاقفة أقيمت عام 1475 وصف بوليتيان هذه المثاقفة في قصيدة مثمنة الأوتاد، رخيمة النغم، رشيقة العبارة، ثم امتدح في قصيدته سيمونتا الحسناء جمال حبيبة جوليانو الأرستقراطي بشعر بليغ عذب جعل شعر الغزل الإيطالي من ذلك الوقت ينمو نمواً جديداً في رقة اللفظ وقوة الشعور. ويصف بوليتيان على لسان جوليانو خروجه إلى الصيد والتقائه بسيمونتا وغيرها من الفتيات يرقصن في الحقل فيقول:
وجدت الحورية الحسناء التي ألهبت قلبي بنار الحب ذات مزاج لطيف، نقي، فطين تقف وقفة رشيقة، يشع منها الحب والأدب، والقداسة، والحكمة، والظرف، وجهها القدسي حلو رقيق. تفيض منه البهجة وتتمثل في عينيها السماويتين جنات الخلد؛ وكل ما نتمناه نحن الخلائق الفانين المساكين من نعيم؛ وقد أرسلت من رأسها الملكي وجبينها الوضاء غدائر ذهبية تساقط مسترسلة في بهجة وحبور؛ وأخذت الحسناء تسير بين المغنيين، وقد انتظمت خطاها ونسقت على وقع الأنغام الشجية وأرسلت إلىَّ من عينيها خلسة، وهما لا تكادان ترتفعان عن بساط الحقل، شعاعاً قدسياً مختلساً وكأن شعرها قد دبت فيه الغيرة مني، فسد طريق هذا الشعاع الوضاء وحجبه عن ناظري ولكنها، وهي التي ولدت ونشأت في السموات العالي لتثني عليها الملائكة الكرام، لم تكد ترى هذا الظلم حتى رفعت بأنقى يد وأنصعها غدائرها العاصية، وتبدت لي بطلعتها الرقيقة الحلوة، ثم أرسلت من عينيها نظرة حادة ملتهبة من نظرات الحب القوية، وقعت على عيني فألهبتها، حتى لم أدر كيف نجوت من الاحتراق بذلك اللهيب(19) |
وأنشأ بوليتيان في حب معشوقته إبوليتا ليونتشينا أغاني غرامية أوفت على الغاية في الرقة والحنان، ثم أطلق العنان للأنغام التي كان يفيض بها قلبه فأنشأ أغاني مثلها يتخذ منها أصدقاؤه رقى يتخلصون بها من حيائهم. ولم يفته حفظ أقاصيص الفلاحين الشعرية، فلما حفظها صاغها من جديد في صورة أدبية مصقولة، ثم انتقلت في صورتها الجديدة إلى الشعب وذاعت بين أفراده، ولا تزال لها أصداء تتردد في تسكانيا إلى يومنا هذا، وقد وصف في قصيدته حبيبتي السمراء فتاة ريفية حسناء تغسل وجهها وصدرها عند ماء، وتتوج شعرها بالأزهار» وكان ثدياها كورد الربيع، وشفتاها حمراوين كالورد«، وذلك بوصف قديم لا يمل الإنسان سماعه. وأراد بوليتيان أن يؤلف من جديد بين التمثيل، والشعر، والموسيقى والغناء، كما حدث في مسرح اليونان الديونيسي، فوضع في يومين أثنين، كما يؤكد هو ويقسم، مسرحية غنائية في 434 بيتاً غنيت للكردنال فرانتشسكو گونزاگا في مانتوا (1472). وقد سماها قصة أورفيوس وتحدث فيها عن موت يوريديچه زوج اورفيوس، وكيف ماتت من عضة ثعبان، حين كانت تحاول الهرب من راع هام بحبها، وكيف اتخذ أورفيوس البائس المسكين طريقه إلى الجحيم، وسحر بلوتو بقيثارته فلم يسمع إله العالم السفلي إلا أن يعيد له يوريديس على شريطة ألا ينظر إليها حتى يخرج من الجحيم كله، فاختطفت منه وأعيدت من فورها إلى الجحيم، وحيل بينه وبين تعقب خطاها. وأثر ذلك في أورفيوس وتملكته نوبة من الجنون فكره النساء كلهن، وأوصى الرجال بأن يغفلوا النساء، ويشبعوا أنفسهم بالغلمان كما أشبعها زيوس بگانيميد. واستشاطت مينادات (أرواح) الغاب غضباً من احتقاره النساء، فانهلن عليه ضرباً حتى فارق الحياة، وسلخن جلده، ومزقن أطرافه من جسمه، وأخذن يغنين وهن مبتهجات لانتقامهن منه. وقد ضاعت الموسيقى التي كانت تصاحب الشعر، ولكن في وسعنا أن نضع ونحن آمنون مسرحية أورفيوس بين أولى المسرحيات التي تبشر بظهور المسرحيات الغنائية الإيطالية.
وكاد بوليتيان أن يصبح من الشعراء العظام، ولكنه لم يبلغ من هذه المرتبة لأنه تجنب مساقط العواطف الثائرة، ولم يتعمق أغوار الحياة أو الحب، فهو ساحر على الدوام غير عميق على الإطلاق، وكان حبه للورندسو أقوى ما عرف من المشاعر، وكان يقف إلى جانب راعيه ونصيره عند مقتل جوليانو في الكنيسة، وكان هو الذي أنقذ حياة لورندسو بإغلاق أبواب غرفة المقدسات وإحكام مزاليجها في وجه المتآمرين، ولما عاد لورندسو من رحلته الخطرة إلى نابلي حياه يوليتيان بأبيات من الشعر تشف عن حب يكاد يزري به وبسيده، ولما مات لورندسو حزن عليه يوليتيان حزناً يجل عن العزاء، ثم أخذ غصنه يذبل شيئاً فشيئاً حتى مات بعد عامين من وفاته في ذلك العام المشئوم الذي مات فيه بيكو عام 1494 عندما كشف الفرنسيون إيطاليا.
ولم يكن لورندسو ليبلغ ما بلغه من مرتبة الرجل المكمل، لم يكن له بعض الهوى بالفلسفة، وبعض الشك في الدين، وبعض الانطلاق في الحب، وكان أمير فلورنس المصرفي يدعو إلى صحبته ومائدته لويجي پولچي Luigi Pulci ويلذ له سماع الهجاء الفظ في قصيدته مرجنتي الأعظم. فقد كانت هذه القصيدة الشهيرة التي يعجب بها بيرون تقرأ للورندسو وضيوف بيته بصوت عال فقرة فقرة. وكان لويجي رجلاً قوي الفكاهة منطلقاً فيها، هز مشاعر القصر والأمة كلها باستخدام لغة الطبقات الوسطى، ومصطلحاتها، وأفكارها، في قصص الفروسية الغرامية. وكانت القصص الخيالية التي تصف مغامرات شارلمان في فرنسا، واسبانيا، وفلسطين قد دخلت إيطاليا في القرن الثاني عشر أو قبله، ونشرها في شبه الجزيرة المغنون الجوالون، والشعراء المرتجلون، فتدخل البهجة والسرور على كافة الطبقات. ولكن الذكور العاديين من بني الإنسان كان يوجد فيهم على الدوام نزعة من الواقعية المخادعة، الفتية، الساخرة من نفسها، تصاحب وتكبح جماح الروح الغرامية التي يحبو بها النساء والشباب الأدب والفن. وقد جمع بلتشي هذه الصفات كلها، وألف من القصص الشعبية الخرافية، ومن المخطوطات المحفوظة في مكتبة لورندسو، ومما كان يدور من الحديث حول مائدة لورندسو نفسه- ألف من هذا كله ملحمة تسخر من المردة، والشياطين، والوقائع الحربية التي تفعم بها قصص الفروسية، وتقص من جديد في شعر جدي تارة، وساخرة تارة أخرى، مغامرات الفارس المسيحي أورلندو والمارد العربي الجبار الذي يكون اسمه نصف أسم القصيدة . وخلاصتها أن أورلندو يهاجم مورجنتي، فينقذ هذا حياته بأن يعلن فجأة اعتناقه الدين المسيحي، ويعلمه اورلاندو اللاهوت، ويقول له إن أخويه اللذين قتلا تواً يقيمان وقتئذ في الجحيم لأنهما من الكفار، ويبشره بالجنة إذا أخلص لدين المسيح، ولكنه ينذره بأن لابد له وهو في الجنة أن ينظر إلى أهله الذين يحترقون بشيء من الرحمة. ويقول له الفارس المسيحي: »إن علماء ديننا مجمعون على أنه إذا شعر المنعمون في السماء بالرحمة على الأشقياء من أقاربهم، الذين يتردون في أطباق الجحيم المروعة مختلطين بعضهم ببعض، فإن سعادتهم تنتهي إلى لاشيء«. ولا يضطرب مورجنتي لهذا، بل يقول لأورلندو مؤكداً: »سنرى هل أحزن على أبنائي، وهل أرضى بحكم الله، وأسلك مسلك الملائكة، أو لا أرضى بحكمه ولا أسلك مسلكهم... سأقطع أيدي أخوي وآخذها إلى أولئك الرهبان الصالحين حتى يوقنوا بأن عدويهم قد هلكا«.
ويدخل بلتشي في المقطوعة الثامنة عشرة مارداً جديداً يدعى مرجوتي، وهو لص مرح، وقاتل رقيق، يعزو إلى نفسه كل رذيلة إلا الغدر بالصديق. وسأله مورجنتي هل يؤمن بالمسيح أو يؤثر عليه محمداَ فيجيب مرجوت بقوله:
إني لا أومن بالأسود أكثر مما أومن بالأزرق وكل ما أومن به هو الديكة السمينة مسلوقة أو قد تكون محمرة، وأومن أحياناً بالزبد أيضاً، وبالجعة وبالخمر الفطير الذي يطفو على وجهه قطع التفاح الحميص،... أما الذي أؤمن به أشد الأيمان فهو النبيذ المعتق، واعتقد أن الذي يثق به أشد الثقة هو الذي تكتب له النجاة... إن الأيمان كالحرب معد،... والإيمان يتشكل بالصورة التي يدركه بها الإنسان- هذه أو تلك، أو غيرها من الصور. فإذا شئت إذن أن تعلم أي نوع من العقائد أنا مرغم على اعتناقه! فأعلم أن أمي كانت راهبة يونانية، وأن أبي كان من بين الأتراك في بروصه ملا(21) |
ويموت مرجوتي من الضحك بعد أن يظل يختال ويستهتر في مقطوعتين، ويموت بلتشي دمعة واحدة يذرفها عليه، بل يجتذب من خياله السحري شيطاناً من الطراز الأول يدعى عشتروت هو الذي اشترك في العصيان مع إبليس، يستدعيه الساحر ملاجيجي ليأتي برينلدو بسرعة من مصر إلى رنتشسفاليز، فيقوم بهذه المهمة في مهارة ويكسب من حزق رينلدو ما يجعل هذا الفارس المسيحي يقترح أن يرجو الله أن يطلق عشتروت من الجحيم. ولكن الشيطان الظريف شديد التفقه في الدين، ومن أجل ذلك يقول إن التمرد على العدالة اللانهائية جريمة لا نهائية تستحق عقاباً سرمدياً. ويعجب ملاجيجي من أن الله الذي سبق كل شيء في علمه بما في ذلك عصيان إبليس واللعنة الأبدية قد خلقه، فيعترف عشتروت بأن هذا من الأسرار الخفية التي لا يعرف أحد حتى الحكماء أنفسهم كنهها(22).
ولقد كان في الحقيقة شيطاناً عاقلاً، لأن بلتشي وهو يكتب في عام 1483 ينطقه بأقوال مدهشة يستبق بها كولمبس، فيقول عشتروت لرينالدو وهو يشير إلى التحذير القديم القائم عند أعمدة هرقل (جبل طارق) والذي يقال فيه »لا تسر إلى ما بعد هذا ne plus ultra:
أعلم أن هذه النظرية خاطئة، وأن سفينة الملاح الجريء ستخوض عباب الأمواج الغربية وتتوغل فيها إلى مدى بعيد. والأرض، وإن بدت سهلا أملس منبسطا، قد خلقت في صورة عجلة مستديرة ولقد كان الإنسان في الأيام الخالية أفظع صورة مما هو، وإن كان من شأن هرقل نفسه أن يعتريه الخجل إذا عرف إلى أي مدى سينطلق بعد قليل أضعف قالب بحري وراء الحدود التي حاول عبثاً أن يضعها له. سوف يكشف الإنسان بلا شك عن نصف عالم آخر لأن الأشياء جميعها تنزع نحو مركز مشترك عام والأرض المتزنة اتزاناً عجيباً بقدرة الله العجيبة الخفية معلقة بين أبراج النجوم وفي الجهات المقابلة لنا من الأرض مدن ودوا وأقطار غاصة بالسكان لم تعرف حقيقتها قبل الآن وها هي ذي الشمس تشق طريقها الغربي مسرعة لتدخل البهجة على قلوب الأمم بما تتوقعه من ضياء |
وقد سار بلتشي على سنة ابتداء كل مقطوعة، مهما يكن فيها من السخرية والتهريج، بتضرع وابتهال إلى الله وإلى الأولياء الصالحين، وكلما زاد ما في مادته من دنس زادت المقدمة جداً ووقاراً. وتختم القصيدة بالجهر بإيمانه بأن الأديان كلها خير وبركة-وهو تصريح يغضب بلا شك كل مؤمن حق. ويجيز بلتشي لنفسه بعض عبارات من الكتاب المقدس ليؤيد بها قوله إن علم المسيح السابق لم يكن يعدل علم الله الأب، وحين يجيز لنفسه أن يأمل بأن تنجو جميع الأرواح في آخر الأمر بما فيها روح إبليس نفسه. ولكنه بقي كما بقي كل فلورنسي صالح، وكما بقي غيره من أفراد الدائرة الملتفة حول لورندسو، مؤمناً في ظاهر الأمر بكنيسة مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له بالحياة الإيطالية. ولم ينخدع رجال الدين بخضوعه هذا وولائه، ولما توفي (1484) لم يسمحوا بأن تدفن جثته في أرض مكرسة.
وإذا كانت جماعة لورندسو قد استطاعت أن تنتج هذه الآداب المتنوعة في جيل واحد، فإن من حقنا أن نظن-وسنجد في واقع الأمر- أن يقظة مثل هذه اليقظة قد وجدت في مدن أخرى غير فلورنس-في ميلانو، وفرارا، ونابلي، وروما. والحق أن إيطاليا كانت قد أتمت المرحلة الأولى من نهضتها وتجاوزتها إلى المرحلة التالية، فقد أعادت كشف بلاد اليونان القديمة، ووضعت المبادئ الأساسية للدراسات القديمة، وجعلت اللاتينية مرة أخرى لغة ذات بهاء وجلال، وقوة وعنفوان. ثم فعلت أكثر من هذا: فقد كشفت إيطاليا من جديد الذي بين موت كوزيمو ولورندسو لغتها هي وروحها، وطبقت مقاييس اللفظ والأسلوب على اللغة القومية، وأنشأت شعراً قديماً في رومة، ولكنه أصيل و »حديث« في لغته وتفكيره، متأصل في شئونها ومشاكلها اليومية أو في مناظر الريف وأشخاصه. يضاف إلى هذا أن إيطاليا قد نهضت في جيل واحد، وبفضل بلتشي، بالمسلاة الفكهة فجعلتها أدباً راقياً، ومهدت الطريق إلى بوراردو وأريوستو، بل إنها قد استبقت بسمات سرڤانتس من خيلاء الفروسية وتنطعها وادعاءاتها، وأخذ عهد الدراسة يختنق تدريجياً، وحل بالخلق والإبداع محل المحاكاة، وبعث الأدب الإيطالي بعثاً جديداً بعد أن ذبل على أثر اختيار بترارك اللغة اللاتينية ليكتب بها ملحمته. ولم يمض بعد هذا الوقت الذي نتحدث عنه زمن طويل حتى كاد إحياء الأدب القديم أن ينسى في نضرة الثقافة الإيطالية وغزارتها، وهي الثقافة التي تزعمت العالم في الأدب وغمرته بفيض من الفن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النزعة الإنسانية وعصر النهضة
شجَّع بترارك على نشر أفكار ومواقف جديدة في الأدب الإيطالي في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وساعد على تأسيس النزعة الإنسانية وهي حركة سعت إلى إحياء الثقافات الكلاسيكيّة وتأكيد أهمية الفرد. انظر: النزعة الإنسانية. كتب بترارك معظم مؤلفاته باللاتينية. إِلا أنه في كانزونير (كتاب الأغاني)، وهو مجموعة من القصائد باللغة الإيطالية، تحدث عن حبه لامرأة تُسمى لورا بلغة جميلة أصبحت نموذجًا يُحتذى لعدّة قرون.
أما صديق بترارك الحميم جيوفاني بوكاتشيو فقد كتب هو الآخر بعض مؤلفاته باللاتينية، إلاّ أنه ألَّف رائعته الديكاميرون (حوالي 1349-1353م) باللغة الإيطالية. وتُصوِّر هذه المجموعة المؤلفة من مائة قصة قصيرة شخصيات ومشاهد العصر بكثير من الواقعية والفكاهة.
استمرت سيطرة الأدب الإنساني المكتوب باللاتينية على الأدب الإيطالي حتى النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي. وتركَّز إحياء الأدب باللغات الدارجة في فلورنسا إذ ظهرت مجموعة رائعة من الكُتَّاب في بلاط الشاعر والسياسي لورنزو دي مديتشي.
ومن بين هؤلاء الكُتَّاب برز أنجيلو بوليزيانو الذي مزج التقاليد الكلاسيكية بالدارجة في مؤلفه مقاطع شعرية للمناظرة كما سَخِر لويجي بولتشي من القصائد البطولية في عصره في ملحمته السّاخرة الثانية مور جانت ماجيور (1478- 1483م).
حدث أيضًا نشاط أدبي مهم في أجزاء أخرى من إيطاليا. إذ نظم ماتيو ماريا بولاردو، الذي كان يعمل في بلاط فرارا الشمالي، قصيدة الفروسية غير التامة بعنوان أورلاندو العاشق (1487م). وفي نابولي كتب جاكوبو سانازارو مؤلفه أركاديا (1501- 1504م). ضم هذا المؤلَّف شعرًا رعويًّا ونثريًّا وأثَّر على مؤلفين أوروبيين عديدين. ومع أن النزعة الإنسانية استمرت حتى أوائل القرن السادس عشرالميلادي، إلاّ أن أهمية الأدب المكتوب باللغة الدارجة ازدادت باطراد. واعْـتُبِر كتاب نيقولو مكيافيللي الأمير (كُتب عام 1513م طبع عام 1532م) أحد أشهر المؤلفات العالمية في العلوم السياسية. وهناك عمل مهم آخر لهذه الفترة هو أورلاندو فيوريوسو للكاتب لودوفيكو أريوستو (1516م)، (روجع عام 1521م وعام 1532م). ولربما كانت هذه القصيدة أعظم ما كُتِبَ من قصائد في الفروسية. وهي في حبكتها استمرار لاورلندو أناموراتو للشاعر بوياردو، إلاّ أنها مليئة بالسّخرية وعلى شكل حوار. يصف بلدساره كاستليونه في مؤلفه كتاب رجل البلاط (1518م، نشر عام 1528م) المثل الأعلى لرجل البلاط المهذّب والجمال الروحي.
وخلال أوائل القرن السادس عشر الميلادي بدأ الكُتَّاب الإيطاليون ينسجون لغتهم على منوال لغة بترارك وبوكاتشيو. وقد حدث هذا التطوُّر بشكل رئيسي بسبب المؤلفات الخلاّقة والنظرية لبيترو بمبو. وأصبح شعر بترارك النموذج الذى احتذته قصائد عديدة في الحب الروحي.
عصر النهضة
يدهش المرء حين يرى إيطاليا جياشة بالعبقرية في كل ميدان، حتى في فترة الاضمحلال المزعوم هذه. لقد كان عصراً مثمراً في الأدب الإيطالي كما وتوقدا، ولا يحول بيننا وبين انصافه هنا سوى الافتقار إلى الوقت والحيز والمعرفة. كان طبيعياً أن يضمحل العلم الإيطالي بعد ما لحق الهام النهضة من كلال؛ فما كان في الإمكان أن يمضي الناس في الكشف من جديد عن اليونان والرومان إلى ما شاء الله. لذلك ترك الاهتمام بالآداب إلى الأكاديميات الأدبية، التي كانت محافظة بحكم نظامها. وكان لكل مدينة تقريباً في إيطاليا معهد أو جماعة منقطعة لبث الآداب وتبادل الشعر في حماسة. وقد سبقت أكاديمية كروسكا (أي الهيثم) التي أنشأت بفلورنسة عام 1572، الأكاديمية الفرنسية إذ صنفت قاموساً للغة (1612 وما بعدها) وحاولت تنظيم الأسلوب والذوق الأدبيين.
أما المؤرخون الإيطاليون فكانوا خيرة مؤرخي العصر. وقد رأينا كتاب ساربي الناري »تاريخ مجمع ترنت«. كذلك أخرج الكردينال جويدو بنتيفوليو تاريخاً للثورة في الأراضي المنخفضة مشرباً بروح التعاطف الشديد. وكان من الجائز أن ينتج المزيد، لولا أنه مات في مجمع الكرادلة في اللحظة التي بدأ اختياره للبابوية قاب قوسين. وقد أفضى إلى موته، كما يقول نيكيوس اريتراوس، شخير كردينال في الحجرة المجاورة حرمه النوم إحدى عشرة ليلية متعاقبة(65). ومؤرخ آخر هو الكردينال شيزاري بارونيوس صنف تاريخاً ضخماً للكنيسة (الحوليات الكنسية 1588-1607) يقع في اثني عشر مجلداً من القطع الكبير زاده العلماء بعد ذلك إلى ثمانية عشر. وكان حكم رانكيه عليها أنها عاطلة من التشويق (66)، ولكن جيبون وجد فيها عونا له، وقد بذل الكردينال جهداً مشكوراً ليكون منصفاً، فقال »سأشعر بالحب الصادق للرجل الذي يصحح أخطائي بكل صرامة وقسوة(67)«، وتكفل إسحاق كازوبن بهذه المهمة، ولكنه اقلع عنها بعد أن كتب مقدمة ناقصة في ثمانمائة صفحة من القطع الكبير.
وأما المسرح فقد زكا، ولكن الدراما اضمحلت. فقل من التمثيليات الباقية الذكر ما ألف، ولكن كثر ما أخرج منها، وأخرج بسخاء في المناظر وبراعة في التمثيل جعلت اينيجو جونز يعجب ويتعلم. واشتد الطلب على الممثلين الإيطاليين في القارة طولا وعرضا. وبينما كانت أدوار النساء يقوم بها الغلمان في المسرح الإنجليزي، كانت النساء يؤدينها في إيطاليا. كان الناس يعبدون الممثلات؛ وقد كتب تاسو سونيتة لأيزابللا أندريني، التي لم تكن ممثلة جميلة فحسب، بل شاعرة لا بأس بها وزوجة فاضلة كذلك.
وتطالعنا في هذا العصر تمثيليتان ممتازتان؛ من جهة لأنهما أرستا لوناً جديداً على المسرح-وهو الدراما الرعوية. وقد أعطاها تاسو دفعة بتمثيليته »أمينتا« (1573)، أما جوفاني باتيستا جواريني فقد أخرج مثلها الكلاسيكي في درامته »الباستور فيدو« (الراعي الوفي) (1585). قال تاسو »إذا لم يكن قرأ أمينتا فهو لم يبزها(68)« وقد وبخه الكردينال بللارميني لما في التمثيلية من إباحية، وقال أنها ألحقت بالعالم المسيحي من الضرر فوق ما ألحقته كل هرطقات لوثر وكلفن؛ على أن البحث الدءوب لم يعثر على منظر أكثر وقاحة من منظر كورسيكا الجميلة وهي تقدم »تفاحتي« صدرها لسيلفيو الذي لا يقدرهما، وهو صياد »يفرح بحيوان واحد يصيده ... أكثر من فرحته بكل حوريات البحر(69)« وإذا أستثنينا سيلفيو هذا وجدنا في المسرحية - ككل شعر هذه الفترة الإيطالي تقريباً - حرارة في الحس تصهر الحياة كلها في الحب. وتتجلى الحركة في ضرب من »الأركاديا« الرعوية، في ذلك »العصر الذهبي الجميل، حين كان اللين غذاء الناس الأوحد«، فلا رذيلة، ولا حزن يلوث الإنسان ، أما الحب فخلو من كل لوم وقيد(70). وتضافرت »أمينتا« ودرامة »الراعي الوفي« هذه ، وتمثيلية مونتيمايور »ديانا العاشقة«، وتمثيلية سدني »أركاديا« وتمثيلية فلتشر »الراعية الوفية« لتطلق نصف جمهور القراء الأوربيين ليسرحوا في المراعي.
وقد عد كرستشمبيني من ناظمي السونيتة 661 في إيطاليا لم يعيهم العثور على قواف رنانة لقصائدهم المغايرة قليلا لسونيتات بترارك(71). ومن أروع سونيتات العصر ما كتبه كامبانللا وبرونو، وكأنه شرار نفثه نار فلسفتهما. وقد هجا الساندرو تاسوني كتاب السونيته وعشاق بترارك وماريني وتاسو في قصيدة من عيون الشعر الإيطالي تدعى »الدلو المسروق«. وأبى الناشرون أن ينشروها لأن ضحيتها كان نبيلا ذا سطوة، ولكن الطلب عليها اشتد حتى لقد أثرى النساخ بنسخها وبيعها بسعر ثمانية كراونات للمخطوطة، وأخيراً طبعت في فرنسا وهربت إلى إيطاليا. ولم يفتتن القراء الإيطاليون بما في تعليقاتها اللاذعة من ذكاء وحدة فحسب، بل بفواصل من الشعر المصفى تخللت ذلك المرح الصاخب - قصة غرام أنديميون مروية جنباً إلى جنب تقريباً مع صورة لعضو في مجلس الشيوخ يسافر إلى الجنة على كرسي مرحاض. ولم يبز تاسوني فيما حظي به من استحسان في هذه الحقبة سوى شاعرين إيطاليين - هما تاسو وجوفانيباتيستا ماريني. أما جيوفاني فقد ولد في نابلي ونشئ ليكون محامياً، ولكنه هجر المرافعات إلى القوافي، واستمع حيناً بحياة التشرد. ثم منحه المركيز مانسو حجرة في قصره مغتفراً له إباحية شعره الغنائي، وهناك استطاع الفتى أن يشهد، على بعد خاشع، تاسو المحزون المشرف على الفناء. ثم القى به السجن لأنه ساعد صديقاً على خطف فتاة، ولما افرج عنه مضى إلى روما، حيث عينه الكردينال السمح بيتترو ألدوبر اندينو سكرتيراً خاصاً له. ثم اصطحبه الكردينال إلى تورين وهناك أخذه منه شارل ايمانويل دوق سافوا. وراح ماريني يرشف حيناً ما في حياة البلاط من خمر وخل.
وتهكم بشاعر منافس يدعى جسبارو مورتولا، كمن له في الطريق، وأطلق عليه النار، ولكنه أخطأ وأصاب خادماً من خدم الدوق. وحكم على مورتولا بالإعدام، ولكن ماريني حصل له على العفو، وناله أشد النكران من غريمه. وبعد أن سجن ماريني عقاباً على هجائيات موجهة ضد أصحابها توجيهاً مكشوفاً، قبل دعوة من ماري مديتشي ليكون زينة بلاطها في باريس (1615).ورحب به الإيطاليون في حاشيتها باعتباره الصوت المعبر عنهم فرنسا، وكان محل الإعجاب الشديد، وتلقى وظائف شرفية دسمة، واجزل له النبلاء والنبيلات المال ثمناً لنسخ من ملحمته »أدوني« قبل نشرها, ووجدت نسخة منها طريقها إلى الكردينال بنتيفوليو، فناشد ماريني أن ينقي القصيدة من فقراتها الفاجرة، ولا ندري إلى أي حد حاول المؤلف ذلك. ونشرت أدوني بباريس في 1623، وأدرجت في قائمة الكتب التي تحرمها الكنيسة، واصبحت البدعة الفاشية في إيطاليا والموضوع الذي تلوكه الالسن. وحين عاد ماريني إلى نابلي (1624)، رمى قطاع الطرق عربته بالورد، وخرج النبلاء لمرافقته، وهفت الحسان إليه من شرفاتهن. ولم يمض عليه عام حتى مات غير متجاوز الثانية والخمسين وقد بلغ ذرى الثروة والشهرة. أما أدوني هذه فقصيدة من عيون الشعر حتى في بلد يكاد الشعر أن يكون فيه كالغناء سجية وطبعاً. وطولها يوقفنا - الف صفحة بها 45.000 بيت. أما أسلوبها فمستغرق في كل الاعيب الكلام التي أطربت لايلي في إنجلتره، وجويفاره وجونجورا في إسبانيا، وبعض »متحذلقات« الأوتيل درامبيوييه في فرنسا؛ لقد كان التأنق اللفظي جزءاً من وباء أوربي. وكان لهذا الإيطالي الماهر غرام بالألفاظ يكاد يكون شهوانياً، فراح يقذف بها في مفارقات رنانة، وأخيلة غريبة، وإطنابات بارعة، بل في نكت وتوريات رشيقة. ولكن الجمهور الإيطالي في القرن السادس عشر بما طبع عليه من تدفق بالحديث الحار، لم يسوءه هذا الولع بحيل الألفاظ وألاعيبها.
وأي بأس بهذه الألاعيب اللفظية في عصر كان انشودة تسبيح للجنس في شتى صوره - العادي منه والوحشي، والشاذ، والحرام ؟ هنا رويت اساطير هيلاس الغرامية في رقة وظرف، هنا يلهو مارس وفولكان مع أفروديت، وهنا زيوس يغوي جانيميد، ومفاتن جسم الرجل هي حديث القوم السائر. وحاسة اللمس يشاد بها لأنها المصدر المدهش لألذ مباهج الإنسان. وها تتغزل النساء والرجال والوحوش في أدونيس البطل الذي حبته الآلهة حسن الصبايا كله، وتتودد إليه فينوس بحيلها الناعمة، ويحاول زعيم عصابة أن يجعل منه محظيته، وينتهي أمر الفتى المحبوب حباً يوقفه موقف العاجز، بأن يجرح في أصل فخذه جرحاً مميتاً اصابه به خنزير بري مدفوعاً بأحر النيات الغرامية. ترى هل كان هذا التركيز المخنث على الجنس تفريجاً وملاذاً من الغلو في الدين والإفراط في تسلط الأسبان؟
بعد النهضة
وفي حوالي منتصف القرن السادس عشر الميلادي أحدثت حركة تجديدية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية عُرفت باسم الإصلاح المضاد تغييرات في الفنون. انظر: الإصلاح المضاد، فقد حلّ الاهتمام بالمظاهر الشكلية المبالغ فيها محل الانسجام الذي هو المثل الأعلى للنهضة، ونجم عن ذلك أسلوب عُرف باسم الأسلوب التكلفي وأدّى إحياء كتاب الشعر لأرسطوطاليس، الفيلسوف الإغريقي القديم، إلى فتح نقاش حول طبيعة الأدب. وهذا النقاش أمدّ النقد الأدبي الحديث بقاعدته و بفكرته القائلة إن الفن تقليد للواقع. وقد تطوّرت المسرحية الإيطالية أيضًا خلال القرن السادس عشر وبشكل خاص ما عُرِفَ باسم الكوميديا ديل أرت وهى كوميديا مبنية على الارتجال.
فترة الباروك وعصر العقل
حاولت الكنيسة الكاثوليكية، إثر انتصارها على البروتستنتية، أن ترسخ معالمها في الفنون والآداب. وولّد النفوذ الديني انقساماً لدى المثقفين. وظهرت طبقة منفتحة للنقد والتجديد وبقيت طبقة أخرى سجينة العلوم والمعرفة الأكاديمية المتوارثة. وساهم المسرح في تقديم صورة ساخرة للعلماء المنطوين على أنفسهم وسط كتبهم يتحدثون اللاتينية أكثر من الإيطالية؛ تبعتها صورة العالِم المتحجر العقل المؤيد للسلطة. وشهد عصر الباروك تحرراً من الأسلوب الاتباعي وتمجيداً للعاطفة والأخلاق؛ فتألقت الروحانية في الكتابات الفلسفية لجوردانو برونو وتوماسو كامپنيلا وفي كتابات المؤرخ پاولو سارپي. وكان للأدب العلمي نصيب وافر في هذا العصر. وقد أبرز گاليليو گاليلي في مقدمة كتابه حوارات العلوم الحديثة صورة جديدة للمثقف المنتمي إلى عصر النهضة.
وواكب الأدب العلمي التيار السياسي الهادف إلى بناء «إيطاليا جديدة» مستقلة وعلمانية في مواجهة مجتمع يخضع للكنيسة منذ مجمع ترينتو (1545-1563). وكان الأدباء يختارون لموضوعاتهم ما يثير الدهشة والغرابة ويخرج عن المألوف، فكان الاهتمام ينصب على أحداث الساعة (الآليات، الفنون المعمارية، الكوارث الطبيعية، وغيرها). كما واكبت الكتابات النثرية النهضة العلمية، وبتشجيع من أكاديمية لينشي الوطنية التي أسسها فدريكو شيزي عام 1603 وأكاديمية شيمنتو لمؤسسها ليوپولد دي ميديتشي عام 1657. ومن أشهر كتاب النثر فرانتشيسكو ريدي («ملاحظات حول سم الأفاعي» Osservazioni intorno alle vipere و«تجارب حول الحشرات» Esperienze intorno alla generazione degli insetti) ولورينزو ماغالوتي Lorenzo Magalotti («مقالات لتجارب طبيعية» Saggi di naturali esperienze و«رسائل علمية» Lettere scientifiche).
وحظيت الرواية بشعبية واسعة عندما مزجت بين السياسة ومختلف الأحداث. ويعد جوڤاني امبروزيو ماريني من أشهر الروائيين.
أما في المسرح فبرز اسم كل من فدريكو ديلاڤالي وكارلو دي دوتوري في المسرحيات المأساوية. وبرز في الملهاة اسم ميكل أنجلو بوناروتي الشاب.
وكان للشعر الإيطالي في أوائل القرن السابع عشر تأثير ملموس في شعراء فرنسة وإنكلترة. فالشعر الذي تميز بالتكلف والحشو والمغالاة والمجازات يرجع إلى المارينية نسبة إلى جامبتيستا مارينو الشاعر الإيطالي ناظم قصيدة أدونيس والملقب في فرنسة بالفارس الماريني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عصر التنوير Illuminismo (القرن 18)
شهد تأسيس أكاديمية أركاديا في رومة عام 1690 نهاية عصر الباروك. وكانت المجالس الأدبية لتلك الأكاديمية عامرة بكبار المفكرين أمثال جامبتيستا ڤيكو وكارلو گولدوني وجوزيپه پاريني وڤتوريو ألفييري وگوته. وأسهمت الحركة الأدبية الجديدة التي توافقت وعصر التنوير، في إحياء فكر جديد يعود إلى الوراء مقتدياً بثيوكريتس وڤرجيليوس بهدف التميز والابتعاد عن الباروك.
وبرز التيار الجديد في كتابات المؤرخين أولاً: لودوڤكو أنطونيو موراتوري «في حوليات إيطالية» وپبيترو في «التاريخ المدني في عهد نابولي».
ويعد الفيلسوف ڤيكو من أشهر مفكري العصر. وقد تناول في كتابه «العلم الحديث» ثلاث مراحل انتقالية في تاريخ البشرية: المرحلة الإلهية والمرحلة البطولية والمرحلة الإنسانية.
وتميز القرن الثامن عشر بالنتاج المسرحي فقد اشتهر پيترو ميتازتازيو في المَشْجاة وكارلو غولدوني في المسرح الهزلي؛ وفتوريو ألفييري في المسرح المأسوي. وبرز في الشعر الغنائي التعليمي وشعر الهجاء جوسيبي باريني الذي مهد لعودة الاتباعية وصور في قصيدته الشهيرة «النهار» تبجح طبقة النبلاء من خلال يوميات شاب وشابة.
عصر اليقظة القومية (القرن 19)
اقتبس الأدب الإيطالي في القرن التاسع عشر مفهومه الوطني، بمدلوليه السياسي واللغوي، من المدرسة الإبداعية التي بدأت في فرنسة، وساهم في معركة التحرر القومي والاجتماعي. ودعا الشاعر ڤيتشنزو مونتي إلى أدب حديث يتناول موضوعات معاصرة مع الحفاظ على أسلوب اتباعي جديد. وهكذا اتخذ بعض الشعراء أساليب الشعر القديم نماذج يقتدون بها وينسجون على منوالها، فهم يقلدون الشعراء الأقدمين في أساليبهم ويعارضونهم في مشاعرهم. وكان إحياء التراث القديم من مظاهر النهضة القومية وفي إطار المدرسة الاتباعية الجديدة التي تزامنت وحقبة نفوذ نابليون. ومثّل أسلوب الشعراء في هذه المرحلة الشاعر الروائي أوگو فوسكولو الذي اشتهر بروايته «رسائل جاكوبو أورتِس الأخيرة.
واغتنى الأدب بروافد جديدة من المذاهب الأدبية كالإبداعية والواقعية والرمزية؛ وتعزز اتصال الأدب بالحياة فصار الأدباء يعنون بتصوير حياة الشعب تصويراً صادقاً ويعالجون مشكلاته وعلاقاته الإنسانية، ففتحوا نوافذ وعيه على واقعه وأضاؤوا جوانبه من زوايا رؤيتهم الفنية للحياة. ولقب الشعراء الذين نهجوا نهج الإبداعية بشعراء الوطن؛ وكان ممثلوهم في هذه المرحلة جوڤاني بركي وجوسيپه جوستي.
وتمثلت النزعة الإبداعية على نحو أوسع في مؤلفات ألساندرو منزوني وجاكومو ليوپاردي اللذين عُدَّا أكبر كاتبين إيطاليين في القرن التاسع عشر. ففي روايته التاريخية الخطيبان (1821) عالج منزوني أحداث الساعة السياسية بأسلوب يجمع بين التاريخ والإبداع الخيالي. أما ليوباردي فكانت مجموعاته الشعرية تنبض بالعاطفة والإنسانية.
إلى جانب هؤلاء يُذكر گوفريدو ماميلي واضع النشيد الوطني «أشقاء إيطالية» Fratelli d'Italia. ونتيجة ارتباط الإبداعية بواقع الشعب وأحواله التاريخية والسياسية والاجتماعية برزت كلمة الشعب في قصائد جوزيپه جوياكينو بيللي. وكان الأدباء المؤرخون يعمدون إلى استحضار التاريخ وينشرون صوراً مشرقة منه لتستثير العزة الوطنية. أما الروائيون فكانوا يستمدون من وقائع الأحداث مادة يصهرونها بخيالهم الفني وينسجون منها قصصاً تاريخية سياسية. وكان أبرز من كتب في هذا المجال توماسو گروسي وفرانتشيسكو دومينِكو گويراتزي الذي كتب «حصار فلورنسا» Assedio di Firenze. وبرز ايپوليتو نييڤو في الرواية الاجتماعية، ويعد كتابه «اعترافات إيطالي» Le Confessioni d'un Italiano الذي صدر بعد وفاته تحت عنوان «اعترافات رجل في الثمانين» Confessioni d'un Ottuagenario تجربة إنسانية يجسد بها نييفو فكرة تضيء تطور المجتمع الإيطالي الحديث. ويستخلص الكاتب هذا المعنى من معاناته وتجربته في الحياة وتأملها بمنظاره الخاص.
وقد شهد القرن التاسع عشر تفتحاً للوعي الاجتماعي جعل الثقافة تتجه نحو الديمقراطية. ووجد هذا الاتجاه تعبيراً مباشراً في السيرة الذاتية ذات الصبغة البطولية والتعليمية. يذكر من كتابها سيلڤيو پيللكو («سجوني») وماسيمو دازيليو («ذكرياتي») ولويجي ستمبريني («ذكريات حياتي»).
وعلى صعيد الشعر ظلت القصائد في بداية ذلك العصر في كنف الآلهة وأبطال العالم القديم أو مرتبطة بقمة المجتمع الحاكم. ولربما حاولت الإبداعية أن تقطع الشعر عن الواقع آخذة به إلى العالم الآخر. غير أن الشعراء لامسوا مأزق الحداثة عندما غدت الواقعية اتجاهاً استوعبه الأدباء جمالياً بوصفه مذهباً أدبياً فنياً من شأنه ضمان تصوير الحياة الواقعية تصويراً شاملاً اجتماعياً وتاريخياً وموضوعياً. وتقدم النثر على الشعر في وصف الحياة اليومية التي أخذت مكانها في القصة لتصبح مرآة المجتمع الجديد. ويأتي في هذا المجال أسماء كثيرة منها لويجي كاپوانا الذي كتب «مركيز روكا فردينا»، وأيضاً جوڤاني ڤيرگا. ونشأ أطفال البرجوازية على قراءة «پينوكيو» لكارلو كولوديا لاسم المستعار لكارلو لورنزيني. وأحيت قصة إدموندو دي أميتشس «القلب» عاطفة الطبقة البرجوازية وأيقظ ضميرها مؤلفات أنطونيو فوگاتزارو منها: «عالم قديم صغير» و«القديس». وتألقت الرواية المحلية في نابولي مع ماتيلد سيراو مؤلفة «الراقصة» و«أرض النعيم». وفي توسكانة كتب ريناتو فوتشيني «في الهواء الطلق» و«سهرات نيري». ومهد كل من فرانتشيسكو دي سانكتس وجوزوي كاردوتشي وگابرييلي دانونزيو وجوگاني پاسكولي لميلاد أدب القرن العشرين.
القرن 19: الرومانسية
كانت الرومانسية حركة رفعت العاطفة فوق العقل، والتاريخ القوميّ فوق الأساطير، والفردية فوق العالمية. وقد اعتنق الكتاب الإيطاليون الحركة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وتزامنت الحركة مع بعض أفكار الحركة الوطنية التي أدّت إلى توحيد إيطاليا سياسيًا والتحرُّر من السيطرة الأجنبية والتي أُطلق عليها بالإيطالية اسم ريزورجيمنتو. وكانت رواية المخطوب (1827- 1840-1842م) للكاتب ألساندرو مانزوني، أكبر كاتب إيطالي رومانسي، أول رواية إيطالية تاريخية تمجّد القيم الدينية كالعدل، والعون الإلهي. وكانت المسرحيات المأساوبة التي كتبها مانزوني مثل كونت كارماجنوولا (1820م) و أدلشي (1822م) أول مسرحيات تتحرر من المبادئ الكلاسيكية. وقدكتب أحد أكبر شعراء هذه الفترة وهو جياكومو ليوباردي مؤلفًا بعنوان أغان (1836م) وتُعبّر هذه القصائد عن نظرة شديدة التشاؤم نحو الطبيعة الإنسانية.
وقد صحب عملية توحيد إيطاليا عام 1870م عدم استقرار اجتماعي واضطراب سياسي. وتركّزت الاستجابات الأدبية للوضع إما في الحنين إلى أمجاد إيطاليا الغابرة أو في محاولة جعل إيطاليا الجديدة أمرًا مفهومًا. وجاءت أول استجابة من الشاعر جيوسو كاردوشي إذ أبدى احتقارًا للمبالغات العاطفية الرومانسية. وبدلاً من ذلك فضّل تمجيدًا كلاسيكيًا للقيم الوطنية. وجاءت الاستجابة الثانية على شكل حركة واقعية في الرواية عُرفت في إيطاليا باسم فاريسمو. وقد وُصف أعضاء هذه الحركة، بما أمكن من موضوعية، حياة وعاطفة الفقراء والمهاجرين. وقد صوّر جيوفاني ڤيرجا، أبرز كُتَّاب هذه الحركة، الفلاحين وصائدي السمك الصقليين في رواية البيت المحاذي لشجرة المَشْمَلَة (1881م) كما سار جابريلي دي أنونيزو على نهج كاردوتشي في تمجيد القيم التاريخية. ونظم جيوفاني ماسكولي شعرًا ذا صدىً صوفيّ أثّر في الكثير من الشعر اللاّحق.
الأدب السياسي يصبح أقل أهمية
بعد 1850 أصبح الأدب السياسي أقل أهمية.
القرن العشرون
حالت الفاشية دون قيام كيان ثقافي مستقل. وعبَّر الشاعر المناهض للفاشية تشيزاري بافيزي عن بداية هذا العصر عندما قال عام 1949: «ليس ثمة ثقافة إيطالية اليوم، بل ثقافة أوربية وحتى عالمية» وضاقت من ثمّ دائرة المجتمع الأدبي وإن اغتنى في هذه المرحلة بروافد جديدة أخرى من التيارات الأدبية تجلت في المجلات الأدبية: اللاعقلانية L'irrazionalismo في الليوناردو (1903-1907) والجمالية في «لافوتشه» (أو الصوت) (1908-1916) La Voce والمستقبلية في «لاشيربا» (1913-1915) Lacerba والاتباعية في «لاروندا» (1919-1923) La Ronda والحداثة في نوفشِنتو أو «القرن العشرون» (1926-1929) Novecento والوطنية في لسان الفاشية، السلفاجيو (1924) Il Selvaggio.
وأسهمت صحيفة الفيگارو الفرنسية في عددها الصادر في العشرين من فبراير 1909 بنشر أول بيان رسمي للمستقبلية لفيليپو توماسو مارينِتي (1876-1945) الذي صاغ هذا المصطلح الأدبي الفني للمستقبلية في رواية خيالية كتبها بالفرنسية عام 1909 تحت عنوان «مافاركا المستقبلي: رواية إفريقية». وقد عطفت حركة موسوليني الفاشية على هذه النزعة في أول توليها الحكم غير أنها سرعان ما تنكرت لها في أواخر عام 1924. وانطفأت جذوة هذه التيارات الأدبية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية. و شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين قيام حركة «الآفلين» التي استمد شعراؤها مادتهم من الأوساط البائسة بعيداً عن عالم الصناعة الحديث غير الإنساني، وقورنوا بشعراء أدب الانحطاط في نهاية القرن التاسع عشر، وكان جوزيپه أنطونيو بورجيزي هو الذي وضع مصطلح «الأفول» للدلالة على زوال الشعر الذي قرضه فوسكولو ومنزوني وليوباردي.
ومن أهم الشعراء الآفلين سيرجيو كوراتزيني ومارينو موريتي الذي عرف بقصائده المميزة: «قصائد كُتبت بالقلم» وهي قصائد قاتمة أرادها رصاصية اللون شبيهة بقلمه إيذاناً بتشاؤمه وسخطه. واشتهر گويدو گوتزانو بمؤلفاته: مجموعة قصائد Raccolte di versi و«طريق الهروب» (1907) La via del rifugio و«محاورات» (1911) I Colloqui. وغربت حركة الآفلين بظهور حركة رواد المستقبل المعارضة لها التي وجدت مادتها في الحياة الصناعية الحديثة.
وبحث النظام الفاشي عن مؤيدين مخلصين له بين المفكرين والأدباء إلا أنه أخفق بسبب التناقضات التي كانت تعصف به. فتارة كان يجابه العالم الحديث اللاأخلاقي وتارة يلجأ إلى القوة والعنف.
واتجه الأدباء المناهضون للفاشية إثر خيبة أملهم في النظام نحو التحرر متسلحين برؤية جديدة ذات آفاق سياسية واجتماعية رحبة. وعبرت مجلتا «الثورة الحرة» و«الپاريتي» التي أسسها پيترو گوبيتي (1901-1926) في تورينو عن مواقف الأدباء النقاد. واستطاعت الفاشية أن تقضي على مؤسس المجلة الشاب گوبيتي الذي لقي حتفه إثر التعذيب، إلا أنها لم تفلح في إسكات صوت المعارضة الذي كان ينادي بنظام أخلاقي رافض كل تسوية سياسية وتائق إلى أدب شبيه بأدب عصر التنوير.
ومن أبرز شعراء هذا الاتجاه أوجينيو مونتالي الذي صور في أبياته عِظام حبّار (1925) Ossi di Sepia والفرص (1939) Le Occasioni القلق الذي أصاب جيل العصر الذي كان يرى أن الحروب تهدد وجوده، والشيوعية تزيد مخاوفه والفاشية والنازية تسلبان حريته.
وفي المدة الواقعة بين عام 1930و1940 اشتهر شعراء ينتسبون إلى المدرسة الشعرية الهرمسية (نسبة إلى هرمس ابن الإله زيوس عند اليونان). وكانوا ينادون بالشعر الغامض والمبهم مقلدين في أساليبهم الشعراء الفرنسيين مالارميه ورامبو وڤاليري. وتجلى هذا الأسلوب في أعمال ألفونسو گاتو وأدريانو گراندي وماريو لوتزي وڤيتوريو سيريني وليوناردو سينيسگالي وسيرجيو سولمي وبخاصة سلڤاتوري كوازيمودو الحائز جائزة نوبل والذي أضاء جوانب الواقع بدعوته من زوايا شعرية إلى عالم يخلو من الحقد والعذاب.
وكان الشعر الفرنسي قد ترك أثراً واضحاً في الشعر الإيطالي في القرن العشرين كما يتجلّى في أعمال جوزيپه أونگارتي الذي عكس شعره تجربته الحزينة في الحياة وفي شعر أومبرتو سابا الذي ربط آلامه بالواقع الاجتماعي.
إلا أن المدرسة الهرمسية أحدثت فرزاً عميقاً في المجتمع عندما ابتعدت عن الكلمة المبسطة كلمة الفئة البرجوازية.
ومع انقشاع سحب الحرب العالمية الثانية شهد العالم تحولات جذرية ونهض الأدباء الإيطاليون ليشيّعوا أحزان الماضي الوجيع ويستقبلوا طلائع الفجر الجديد بحماسة، فقد ربحوا الكلمة الحرة، وكان لابد من الثورة على أشكال الحياة القديمة في التفكير والتعبير. وصار الأديب ينظر إلى الحياة نظرة شاملة تحاول أن تربط ظواهر الحياة بحركتها وتناقضاتها ودوافعها المختلفة، ومن أثر ذلك تجددت الوسائل التعبيرية للأجناس الأدبية وتنوعت أساليبها. فبرز الشعر الحديث وكان ثورة على الشعر التقليدي في كل عناصره التعبيرية، وحطم وحدة القافية ورتابتها وجنح للتعبير بالصورة الرمزية التي تكثف التجربة الشعورية في صورة عميقة الدلالة، ونزعت الألفاظ إلى السهولة حتى كادت أن تكون لغة الحديث العادي، لكن الشعراء شحنوها بمعان ملونة جديدة تجاوزت معانيها التقليدية وجاءت التراكيب في نسق ظاهرُهُ السهولة والنثرية لكنه ينبض بانفعالات الشاعر وروحه. وتخلى الشعر الحديث عن الخطابة وتهاويل الحماسة، وحاول أن يكون حديث النفس ونجواها.
وفي مجال المسرح ازدهرت المسرحية ازدهاراً واسعاً وتكوّن لها جمهور كبير. وكانت مجالاً رحباً لمعالجة القضايا السياسية الكبرى التي تشغل اهتمام الإنسان. وصار الأدباء ينشدون ضرورة وحدة إيطالية ويبينون المقومات التي تهيئ لها السبل إلى التحقق. واكتسب مسرح لويجي پيرانديلو شهرة عالمية؛ وتحررت الكلمة والعاطفة في مسرح الگروتسك (المسرح المضحك المحاط بالغرابة).
وفي مجال النقد الأدبي لمع اسم بنديتو كروتشه الذي ناهض في مجلة «النقد» (1903-1944) La Critica أدب الانحطاط والتدهور الذي ساد في نهاية القرن التاسع عشر. وكانت نظريته المثالية تنادي بالمثل العليا الكامنة في الوحي الداخلي للنفس البشرية. أما المؤرخ الناقد أنطونيو گرامشي فكان من رواد الاشتراكية ومن ثم أصبح من مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي. وشهدت نهاية الحرب العالمية الثانية انتشار الفكر الماركسي.
أما الرواية فقد حظيت باهتمام كبير لدى الجماهير المثقفة جعلها تتقدم على سائر الأجناس الأدبية لقدرتها على استيعاب الحياة استيعاباً أشمل وأعمق. وقد تنوعت اتجاهاتها فكان هنالك الاتجاه الإبداعي الذي يحرك الأحداث بالعواطف ويسلط أضواء التحليل على هذه العواطف بمنأى عن ارتباطاتها بواقع الحياة وظروفها والاتجاه الواقعي النقدي الذي يكشف الجوانب السلبية في الواقع وينتقدها بإثارة الاحتجاج عليها ورفضها، ويصور أيضاً نهوض الوعي السياسي لدى الجماهير.
ومن أبرز الروائيين ألبيرتو بينكيرلي الملقب بألبيرتو موراڤيا الذي اشتهر بروايته «اللامبالون» (1929) Gl'indifferenti وموضوعها اجتماعي يصور مورافيا فيها مشكلة العجز عن التكيف مع الحياة. وقد أعطى مورافيا هذه المشكلة الاجتماعية أولوية فتكررت مختلفةً في روايات أخرى منها «السأم» (1960) La Noia وفي مجموعة حكايات: «شتاء مريض» Inverno di malato و«نهاية علاقة» Fine di una relazione. ويذكر أيضاً من الروائيين المعاصرين إيليو ڤيتوريني («القرنفل الأحمر» (1933-1934) Il Garofano rosso ـ «حديث في صقلية» (1938-1939) Conversazione in Sicilia وكارلو برناري الذي ابتعد عن اللغة الأدبية عندما كتب روايته «ثلاثة عمال» (1934) Tre operai وفاسكو پراتوليني الذي عرف بكتابيه «واقعة عائلية» (1947) Cronaca familiare و«وقائع عاشقين بائسين» Cronache di poveri amanti (1947)، وإيتالو كالڤينو الذي صنف بين أدباء المقاومة («درب بيوت العنكبوت» (1947) Il Sentiero dei nidi di ragno و«القط النمر» Serval).
ومن الروايات الشهيرة التي صدرت بعد وفاة كاتبها رواية «الفهد» Il Gattopardo لجوزيپه توماس دي لامبيدوسا. كما تُذكر رواية «حياة عنيفة» (1959) Una vita violenta لپيير پاولو پازوليني. كذلك حقق كارلو إميليو گادا شهرة في مجال الرواية ومن رواياته «معرفة الألم» (1963) La Cognizione del dolore.
وهكذا حقق الأدب الإيطالي وظيفته الاجتماعية والإنسانية إذ كان ظاهرة اجتماعية يصعب عزلها عن حركة المجتمع والتاريخ.
المصادر
- ^ حنان المالكي. "الأدب الإيطالي". الموسوعة العربية. Retrieved 2012-08-13.
تحوي هذه المقالة معلومات مترجمة من الطبعة الحادية عشرة لدائرة المعارف البريطانية لسنة 1911 وهي الآن من ضمن الملكية العامة.
ببليوجرافيا
للاستزادة
Important German works, besides Gaspary, are those of Wilse and Percopo (illustrated; Leipzig, 1899), and of Tommaso Casini (in Grober's Grundr. der rom. Phil., Strasbourg, 1896-1899).
English students are referred to John Addington Symonds's Renaissance in Italy (especially, but not exclusively, vols. iv. and v.; new ed., London, 1902), and to Richard Garnett's History of Italian Literature (London, 1898).
النصوص الأصلية والنقد
- AA.VV., Antologia della poesia italiana, ed. C. Segre and C. Ossola. Torino, Einaudi, 1997
- Giudice, A., Bruni, G., Problemi e scrittori della letteratura italiana. Torino, 1973
- Bruni F., Testi e documenti. Torino, UTET, 1984
- Bruni, F. L'Italiano nelle regioni. Torino, UTET, 1997