الصحوة الوطنية في بلغاريا

(تم التحويل من National awakening of Bulgaria)
Seal of Kaloyan.png

جزء من سلسلة عن
تاريخ بلغاريا

بلغاريا قبل التاريخ

حضارة كارانوڤو • حضارة ڤنچا
مدينة الموتى في ڤارنا • تراقيا
المملكة الاودريسية • موسيا

بلغاريا العصور الوسطى

بوابة الامبراطورية البلغارية
البلغار • سلاڤ الجنوب
بلغاريا الكبرى القديمة
الإمبراطورية البلغارية الأولى
الإمبراطورية البلغارية الثانية
قيصرية ڤيدين • إمارة كارڤونا

بلغاريا العثمانية

بلغاريا العثمانية
الصحوة الوطنية
الإكسارخية البلغارية

بلغاريا المعاصرة

الأزمة البلغارية
إمارة بلغاريا • رومليا الشرقية
مملكة بلغاريا
جمهورية بلغاريا الشعبية
جمهورية بلغاريا

قائمة الملوك
التاريخ العسكري
النزاع على مقدونيا 1893–1945

Coat of arms of Bulgaria.svg

بوابة بلغاريا • التصنيف الرئيسي


كانت القومية البلغارية آخر قوميات البلقان التي حققت إستقلالها عن الدولةالعثمانية في القرن التاسع عشر, وكان تأخرها يكمن في مجمل ظروف المنطقة التي سبق دراستها, لعل أبرزها وجود بلغاريا بالقرب من استانبول ومن ثم سهولة إبقائها تحت السيطرة, فضلاً عن أن البلغاريين أنفسهم دون شعوب البلقان كانوا يعانون بشدة من إختفاء القانون من حياتهم أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.ففي خلال تلك الفترة كانت عصابات الإنكشارية, والعساكر الرديف (المسرحون من الخدمة), وقطاع الطرق يجوبون أفاق المنطقة من مرتفعات البلقان وحتى سهول الدانوب. وقد رأينا أن بشفان أوغلو جمع حوله عدداً كبيراً من هؤلاء الخارجين على القانون في فيدين حيث يقيم فتحولت أجزاء كثيرة من شمالي بلغاريا على أيديهم إلى أرض خراب, وأجبروا سكانها على الهروب إلى سفوح التلال والجبال.

ومن ناحية أخرى كانت أراضي بلغاريا شأن أراضي إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا) مسرحاً لمعارك الحروب بين روسيا والدولة العثمانية بين عامي 1806-1812, ثم عامي 1828-1829. وفي هذه المعارك إنضم بعض البلغار للجيش اروسي على أمل أن إنتصار روسيا قد يحقق لهم مكسباً سياسياً. لكن روسيا كما سبقت الإشارة كانت مهتمة بالدرجة الأولى بالصرب وإمارتي الدانوب ولهذا خلت معاهدات الصلح بين الدولتين من أية مواد تتعلق بالبلغار من قريب أو بعيد. ومع هذا كان زعماء القومية البلغارية يرون في روسيا خلال القرن التاسع عشر أفضل قوة بين القوى الخارجية يمكن التعويل عليها في تحقيق أمالهم.

والحاصل أنه بعد إنتهاء الحروب النابليونية وشيوع حالة من الإستقرار العام في أنحاء الدولة العثمانية بدأت الحياة في بلغاريا في التحسن. وكان أغلب البلغار شأن اليونانيين والصربيين فلاحون في قرى شأن شعوب البلقان الأخرى تحت سيطرة سادتهم النبلاء الذين كانوا يعرفون آنذاك بالشروبجية. وكان لرجال الكنيسة والفناريين اليونانيين وهم جزء من نظام الدولةالعثمانية مصلحة في المحافظة على وحدة الدولة العثمانية ومن ثم أبدوا إهتمامات كبيرة بحركة الإحياء القومي والثقافة القومية التي تسود أنحاء البلقان, ولكنهم كانوا مترددين في إتخاذ مواقف راديكالية لتحقيق التحرر السياسي وينبغي التأكيد هنا على أن الوظائف العليا بالكنيسة والمؤسسات التعليمية القائمة كانت تحت سيطرة اليونانيين وبالتالي كان على البلغار التخلص من نفوذ أولئك اليونانيين قبل الشروع في أية تحركات سياسية مناجل تحقيق أهدافهم القومية.

على أن وضع البلغار تحسن كثيراً نتيجة للثورة اليونانية والتغيرات التي طرأت على وضع إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا) حيث تم إبعاد سيطرة النفوذ اليوناني من استانبول وأصبح اليونانيين موضع شك بشكل عام, ومن هنا إنتهز التجار البلغار الفرصة لتقوية مكانتهم في استانبول على حساب تدهور نفوذ اليونانيين (الفناريون) مثلما فعل الأرمن من قبل.وبإنتهاء حق الدولة العثمانية في الإستحواذ على منتجات إمراتي الدانوب في 1829 جعل السلطان العثماني يركز إهتمامه على بلاد البلغار لإمداده بالتموين اللازم للدولة وللجيش الجديد الذي كان السلطان محمود الثاني قد شرع في تكوينه عام 1826, ومن مث أصبحت بلغاريا مصدر التموين الأساسي لإحتياجات هذا الجيش من طعام وملابس وبطاطين وخلافه. وهكذا وخلال المدة من 1830-1878 أمدت بلغاريا الدولة العثمانية بإحتياجاتها من الحبوب والشمع والحرير والمواشي والنبيذ, ومنتجات الجلود وخاصة الأحذية وايضاً الملابس والحديد والمعادن والمنسوجات الصوفية التي كانت تتم في القرى الجبلية.ورغم أنه بعد عام 1856 بدأت بوادر تدهور الصناعات البلغارية بسبب تغلغل المنتجات الأجنبية في أنحاء الإمبراطورية, إلا أن إنتعاش ثروة بلغاريا نسبياً خلال تلك الفترة (1830-1878) كان له فضل توفير الأساس المادي للحركة القومية.

وأكثر من هذا فرغم إستمرار شكوى الفلاحين من نظام الضرائب ومصاريف الزراعة, إلا أنهم شعروا بتحسن أحوالهم, وكان الأحرار منهم شأن قرى البلاقن الأخرى يعيشون بشكل عام في الأقاليم الجبلية وعند التلال وفي ظروف حياة أفضل من ألئك الذين يعيشون في جفالك الإقطاع التي تقع في أكثر الأراضي خصوبة. غير أن نظام الجفالك كان يتعرض بدروه للتغيير فقد أدرك صاحب الجفلك أن الأرض لم تعد مريحة بتأثير المنافسة الإقتصادية من البلاد المجاورة وبالتالي كان يرغب في بيعها للفلاح. وعن هذا الطريق إنتقلت أراضي كثيرة إلى ملاك صغار بعكس ما حدث في رومانيا. كما يلاحظ أ، الفترة التي شهدت هذه التحولات تزامنت مع الإصلاحات العثمانية المعروفة بالتنظيمات. ورغم أن قوانين التنظيمات لم تنفذ بأريحية, إلا أن المناخ العام تحسن بل لقد شارك الفلاحون البلغار في الأعمال الثورية لكن لم تحدث مشاركة شعبية عامة في الثورة مثلما حدث في اليونان والصرب كما سوف نرى.

لكن الثروة المتزايدة بين البلغار وما صاحبها من زيادة القلق السياسي أدى إلى صراع المصالح بين الطبقات الإجتماعية والمجموعات القومية مثلما كان الحال في كل بلاد البلقان. ولقد كان على البلغار لكي يحققوا قوميتهم شأن الرومان (ولاشيا ومولدافيا) أن يتخلصوا من سيطرة اليونانيين أولاً على حياتهم التعليمية والكنسية وكذا التحرر من الهيمنة السياسية للدولةالعثمانية. وفي هذا الخصوص نشطت دوائر معينة داخل البلاد لتحقيق الأهداف القومية وفي مقدمتها التجار الذين أصبحوا أكثر إهتماماً بشخصيتهم المستقلة في إطار تنافسهم مع اليونانيين, وأيضاً طوائف الحرف التي كانت تمثل الطوائف الأوروبية في التنظيم كانت تساند المشروعات التعليمية والثقافية لتنمية الشخصية البلغارية.

وهكذا كانت الخطوة الأولى الكبرى التي كان على البلغاريين إتخاذها في حركتهم القومية إقامة مؤسسات تعليمية علمانية (مدنية) متحررة من سيطرة الكنيسة اليونانية,ذلك أن التعليم في بلغاريا في مطلع القرن التاسع عشر كان شأن بلاد البلقان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالكنيسة. ورغم أن التعليم العالي كان يونانياً صرفاً, إلا أن المدارس البلغارية الصغيرة التي تشبه الكتاتيب في العالم الإسلامي كانت موجودة في كنائس معينة وفي بعض الأديرة حيث يتعلم الصبية الصغار قراءة الأعمال الدينية بالسلافية والكتابة بها. ويبدو واضحاً أن هذا النوع من المدارس لم يكن مرضياً بالنسبة لسكان تتوسع أنشطتهم الإقتصادية وأصبحوا أكثر إهتماماً بعالم أوسع من عالمهم. وكانت أهم المؤسسات اليونانية قاطبة المدارس الهللينية-البلغارية التي قام بتأسيسها التجار اليونانيين في المدن التجارية الرئيسية, وكان التعليم فيها يركز على الموضوعات الضرورية لأعمال التجارة مثل الحساب واللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافيا. وقدجذبت هذه المدارس عدداً من البلغاريين وعن طريقها تم الإتصال بالفكر السياسي الأوروبي الخاص بالثورة الفرنسية على وجه الخصوص. وشاعت الأفكر الليبرالية والقومية.

ويرجع الفضل في تأسيس أول مدارس بلغارية حديثة إلى جهود ڤاسيل أپريلوڤ Vasil Aprilov وكان هذا الرجل قد نشأ يتيماً وأخذه إخوته التجار إلى موسكو وأدخلوه مدرسة يونانية وأصبح بالتالي محباً لليونانيين. وفي عام 1831 قرأ كتاب "البلغاريون القدماء والمحدثون" بقلم شخص أوكراني يدعى يوري فينيلين Iuri Venlin نبهه إلى معنى القومية البلغارية,ومن ثم أصبح رجلاً وطنياً بلغارياً ووجه إهتمامه لتعليم أبناء بلده لحب قوميتهم, ورأى في تأسيس نظام تعليمي قومي خطوة أساسية على طريق تحقيق الإستقلال السياسي لبلاده. وعلى هذا قام بتأسيس أول مدرسة مشابهة افتتحت في مدينة جابروفو Gabrovo عام 1835 أصبحت فيما بعد نموذجاً لمدارس مشابهة افتتحت في كل من كازانليك Kazanlik, وكالوفير Kalofer, وتريافنا Triavana, وصوفيا, وباناجيوريشت Panaguirishte, وكوبريفيشتيتسا Koprivshtitsa, وفي غيرها من المدن التي كانت مراكز للتجارة أو الصناعات الحرفية.

غير أن تلك المدارس الحديثة شأن المدارس في الصرب وسائر بلاد البلقان كان ينقصها المدرسون الأكفاء, إذ كان التعليم في معظمها يقوم على طريقة بل-لانكستر Bell-Lancaster حيث يقوم أفضل تلاميذ الفصل بمهمة التدريس للأخرين. وفي الوقت نفسه التحق بعض شباب البلغار- كما حدث في بلاد أخرى – بجامعات وسط أوروبا أو في فرنسا, وتلقى آخرون منحاً دراسية من روسيا. ولهذا سوف نلاحظ أن غالبية القيادات الثورية التي ظهرت فيما بعد تلقت تعليمهما في مدارس يونانية أو في مؤسسات أجنبية خارج البلاد.

ولم تقتصر مشكلات التعليم على توفير المدرسين الأكفاء, بل لقد كان ينقص التلاميذ وسائل التعليم اللازمة والكتب الدراسية المكتوبة بلغتهم القومية. وكانت الكتب البلغارية تطبع في بوخارست واستانبول أكثر من مدن بلغاريا نفسها بإستثناء بعض الكتب التي طبعت في بلغاريا في حرب القرم. وآنذاك كان الوقت يستدعي بناء مستوى معين من اللغة يستخدمه الجميع في الكتابة غير النموذج اليوناني والسلافية التي تستخدمها الكنيسة رغم إرتباطها الوثيق بالتاريخ القومي للبلاد. ولأن غالبية أفضل المؤلفين والكتاب جاءوا من شرق بلغاريا فقد أصبحت لهجة أبناء تلك المنطقة هي لغة الكتابة والأدب.

لكن الملاحظ أن الحياة القومية في بلاد البلقان كانت ما تزال تختنق بسبب ضعف بطريركية استانبول على الكنائس المحلية في تلك البلاد, ومن هنا كان تأسيس كنيسة محلية (قومية) خطوة منطقية وضرورية حدثت في كل من بلاد الصرب واليونان وإمارتي الدانوب (رومانيا) على طريق تحرير المؤسسات من السيطرة الخارجية وخاصة بعد التوصل إلى إقامة حكومات ذاتية في تلك البلاد. لكن في بلغاريا حدث العكس إذ بدأت خطوة إنشاء الكنيسة المحلية قبل التوصل إلى وضع سياسي أفضل في العلاقة مع الدولة العثمانية حيث بذل البلغاريون جهوداً ملحوظة إبتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر لإعادة تأسيس كنيستهم المستقلة في أوهريد Ohrid التي كانت قد ألغيت في 1767.

والحقيقة أن صدور خط شريف مولخانة في 1839 كان أمراً له مغزى كبير بالنسبة للمسألأة الدينية في البلقان عموماً. ورغم أنه كان يستهدف المساواة بين المسيحيين والمسلمين فقد رأى البلغاريون فيه أنه يؤكد المساواة بينهم وبين اليونانيين الأرثوذكس. وعلى هذا وبعد عام 1845 بدأت محاولة إنشاء كنيسة بلارية مستقلة بجهود كل من نيوفيت بوزفيلي Neofit Bozveli, وإيلاريون مكاريو بولسكي Ilarion Makrio Polski في مدينة Turnovo أولاً ثم في استانبول حيث كانت تقيم فيها جالية بلغارية من التجار غاية في الثراء والإزدهار وععد كبير منهم يرغب في الإسهام في هذا المشروع. وكان المطلب الأول في هذا الشأن أن يكون للبلغاريين أساقفة منهم يختارونهم بأنفسهم ويكون لهم ممثلاً لدى الباب العالي فضلاً عن رغبتهم في بناء كنيسة لهم في استانبول وإصدار صحيفة تعبر عنهم.

ولما كانت روسيا بإعتبارها أكبر أمة أرثوذكسية تعارض إقامة رهبنة ديرية وكنيسة بلغارية مستقلة عن البطريركية العامة في استانبول بدعوى أن ذلك من شأنه أن يضعف الكنيسة العامة وسبق أن فعلت ذلك من قبل في 1833, فكان هذا يعني أن أي صراع تتورط فيه بطريركية استانبول سيتدعي تدخل روسيا بالضرورة. وعلى هذا وافقت روسيا على إتخاذ إجراء قوي ضد المحاولات التي يقوم بها كل من نيوفيت وإيلاريون إلا في عام 1850. ورغم ذلك إلا أن زعماء البلغار لم يتوقفوا عن المحاولة حتى نجحوا في أن يستصدروا من السلطان العثماني في 1849 فرماناً بالسماح "لملة البلغارية" بإفتتاح كنيسة لهم في استانبول,وكان هذا في حد ذاته يعني الأعتراف لأول مرة بوجود أمة بلغارية منفصلة.

على أن صدور خط شريف همايون في 1856 شد من إصرار البلغار على حصولهم على وضع متساو مع اليونانيين.ورغم إختلاف الرأي بين زعماء البلغار فيما يتعلق بالمدى الذي ينبغي الوصول إليه في هذا الطريق, إلا أنهم كانوا متفقون كلية على مبدأ تلك المحاولات أصر من جانبه على المحافظة على ما تحت يده من مؤسسات. ولهذا ففي 1858 دعا مجلس الكنائس للإجتماع ودعا للجلسة الأولى ثلاثة عضواً (إستمرت الجلسات حتى 1842) حيث تم رفض مطلب البلغاريين بتعيين أساقفة منهم في الأسقفيات البلغارية أو المطرانيات. وتمت الموافقة فقط على تعيين أسقفاً واحداً بلغارياً وهو إيلاريون مكاريو بولسكي الذي كان قد أفرج عنه في 1850 كما سبقت الإشارة. ورغم أن إيلاريون لم يكن راضياً عن تلك الترتيبات إلا أنه خطا خطوة درامية ملحوظة عندما أقام شعائر عيد القيامة لعام 1860 دون موافقة البطريرك, وإستبدل بإسم البطريرط إسم السلطان العثماني في الصلاة كإشارة منه الإنفصال كنيسته عن دائرة البطريرك وولايته.

ولقد أجاب البطريرك على تصرف إيلاريون هذا بدعوة مجلس الكنائس لجلسة ثانية حضرها بطاركة القدس وأنطاكية واللإسكندرية حيث تم لعن إيلاريون وحرمان مؤيديه من رحمة الكنيسة. غير أن قوة المعارضة البلغارية أكسبتها تنازلات أكثر من جانب خصومها فقد أصبح من حق الأساقفة البلغار أن يكتبوا بلغتهم, وأن يطبعوا ما يكتبون من مادة دينية في بلغاريا بعد موافقة البطريرك أولاً على المحتوى. وإستمر إيلاريون رغم لعنته وإنكاره يقوم بالخدمات والطقوس الدينية بمساندة جماعته. ولم يكن من الممكن أن يصبر بطريرك استانبول على هذا الوضع طويلاً فما لبث أن أرغم إيلاريون وإثنين آخرين من قيادات كنيسة بلغارية على مغادرة البلادد إلى المنفى.

وفي تلك الأثناء حدث تغير في موقف روسيا التقليدي تجاه وجود كنيسة بلغارية منفصلة ساعد البلغاريين في قضيتهم من أجل إنشاء كنيسة خاصة بهم. والحاصل أن حركة التوحيد الكنسي التي كانت تسعى لأن يقبل الأرثوذكس رئاسة بابا روما لفتت نظر البلغاريين بشكل ملحوظ. ورغم أن تلك الحركة وكذا البعثات البروتستانتية الأمريكية التي كانت نشطة بدورها في بلغاريا لم تكن تمثل تهديداً حقيقاً للأرثوذكسية لك نشاط تلك الجماعات كان يضيق بشدة الأسقف فيلاريه Filaret من كنيسة موسكو فأصبح من ثم يؤيد تأسيس كنيسة بلغارية وطنية بدلاً من أن تبقى في وحدة مع بطريركية استانبول.

وفي 1864 قامت روسيا بتعيين الكونت إجناتيف N. P. Ignative سفيراً لها في استانبول وبإعتباره مؤيداً للرابطة السلافية سعى للإبقاء على وحدة الشعوب الأرثوذكسية عن طريق تقديم حل وسط بين الأوضاع اليونانية والبلغارية. وفي هذا الخصوص حصل على تأييد البلغاريين بعد أن أكد لهم عودة إيلاريون وزميلاه من منفاهم الذي ذهبوا إليه عام 1861. لكنه لم يظفر بتعاون حقيقي من بطريرك استانبول الذي كان يشعر بأن مصالحه في طول بلاد البلقان تتعرض للتهديد خاصة وأن حكومة رومانيا إستولت في ذلك العام نفسه (1864) على أراضي أديرة الرهبان في بلادها, وإنعقدت ثلاثة مجالس كنيسة لمناقشة المشكلة البلغارية في أعوام 1863, 1864, 1866 ولم يتحقق إلا تقدماً ضئيلاً. وهكذا وفي 1866 تصرف زعماء الكنيسة البلغارية بسخط شديد وأقدموا على طرد الأساقفة اليونانيين من بلادهم وكان هذا يعني في كل الأحوال أن سلطة البطريركية لم يعد لها وجود في بلغاريا من الناحية الفعلية De facto وأصبحت المشكلة تكمن في كيفية الحصول على إعتراف شرعي بهذا الموقف.

وعند ذلك المنعطف إهتمت الحكومة العثمانية إهتماماً عميقاً بالمشكلة خاصة وقد بدت إشارات هنا وهناك تنبئ بقيام إنتفاضة مسيحية من جديد في إنحاء البلقان, ففي 1867 إضطرت السلطات العثمانية في الصرب لترك مواقعها هناك كأحد نتائج قصف بلجراد في 1862. وفي 1866 أصبحت كريت مسرحاً لإنتفاضة كبيرة مرة أخرى. وبالتالي كان من الطبيعي أن تعمل الحكومة العثمانية على الحيلولة دون أن تصبح بلغاريا مسرحاً للتمرد والعصيان. وعلى هذا طلبت إختيار من يقوم بدور الوساطة بينها وبين خصومها على أن تحتفظ لنفسها بالإجراء النهائي. وتحول الموضوع من مجرد تأسيس كنيسة بلغارية إلى تحديد المناطق التي ستكون تحت ولايتها. والحقيقة أن الموقف برمته كان مشحوناً بورطات سياسية كبيرة, وإدراكاً من بطريرك استانبول والحكومة اليونانية أن إمتداد سلطة الكنيسة البلغارية إكليروسيا على مناطق بعينها سوف يعتبر رمزاً لهيمنة سياسية في النهاية فقد رأى كل منهما تضييق مجال همينة الكنيسة البلغارية قدر الإمكان.

وأمام تشابك النافس الديني مع السياسي لم يكن بإمكان الهيئتين الدينيتين (الكنيسة البلغارية وبطريركية استانبول) تسوية مشكلاتهما وحدهما, فبلغاريا كانت ما تزال آخر المصادر الكبرى لدخل البطريركية فضلاً عن أن حكومة اليونان والبطريركية كانتا لا ترحبان بالتخلي عن المستعمرات اليونانية الكبيرة في بلاغريا وخاصة في كل من بلوفديف Plovdiv, وفارنا رغم أن المناطق الريفية المحيطة بتلك المستعمرات مناطق بلغارية تماماً. كما أن الكنيسة اليونانية لم تكن ترغب في التنازل عن أسقفية فيليس Veles في مقدونيا. وما لبث الموقف أن تعقد تماماً عندما دخلت حكومة رومانيا في الصراع بإدعاء حقها في أسقفيتي بيش Pec وأوهريد اللتان كانتا مركزاً بلغارياً كنسياً تاريخياً. ولعل هذه المرارة التاريخية تفسر لنا لماذا عجزت المجالس البلغارية-اليونانية التي أنشاها الباب العالي عن الوصول إلى تسوية للأمور. ولأن الحكومة العثمانية كانت تدرك أن موضوع الكنيسة البلغارية موضوعاً سياسياً أكثر منه دينياً, وجدنا أن السلطان العثماني يصدر فرماناً في 1870 بإنشاء وظيفة "نائب بلغاري لبطريرك استانبول" تحددت ولايته الدينية قانوناً على بلاد شملت بلوفديف وفارنا على طريق تسوية المشكلات الرئيسية.وأكثر من هذا فقد نصت المادة العاشرة من الفرمان على أنه إذا كان ثلثا سكان أي منطقة أو حي يرغبون في التبعية للنائب الكنسي فسوف يكون لهم هذا. ولقد فتحت هذه المادة الباب على مصراعية لصراع مكثف ومرير ودموي إنفجر في مقدونيا بين كل من اليونانيين والصرب والبلغار.

على أن فرمان 1870 لم ينه الصراع الكنسي ذلك أن التقاليد الأرثوذكسية تقتضي ضرورة تصديق البطريركية على إنشاء كنيسة جديدة.وظل أطراف الصراع عاجزين على مدى عامين من الجدل والنقاش عن تسوية المسائل الدينية والسياسية المتعلقة برسم حدود الولاية الشرعية لكل منهم. وعندما فشل التفاوض في تسوية الأمر بدأ البلغاريون في التصرف بمفردهم, ففي 6 يناير 1872 وفي إبيفاني Epiphany تم قبول فرمان السلطان كاملاً في محاولة من البطريرك وإجناتيف إنهاء الموقف ولكنهما لو يوفقا في غلق ملف الموضوع. وسرعام ما إنعقد المجلس البطريرك السادس الذي قرر حرمان الأسقف إيلاريون البلغاري وعدداً كبيراً معه من رحمة الكنيسة. وفي مارس 1872 تم تعيين أنتيم الأول Antim نائباً للبطريرك في بلغريا, لكن أول إجراء رسمي قام به كان قراءة تصريح يعلن إستقلال كنيسة بلغاريا فما كان كم البطريرك إلا أن أعلن أن نائبه آنتيم الأول منشق.وبينما لم تقبل هذا الحكم كل من الكنيسة الروسية والرومانية والصربية ورفضه بطريرك القدس, صادق عليه بطاركرة الكنائس الأخرى بما فيهم الكنيسة اليونانية.

ورغم الخلاف الذي حدث بين زعماء بلغاريا حول مسألة تأسيس كنيسة بلغارية مستقلة لها ولاية على أقاليم واسعة, إلا أن إنشاء الكنيسة في النهاية أكسبهم وجوداً ذاتياً لبلدهم بفضل مساندة الحكومة العثمانية التي كانت ترغب في الإحتفاظ بولاء هذا الجزء من ممتلكاتها,وأيضاً بفضل موافقة روسيا مرغمة على إنشاء منصب نائب البطريرك. أما فيما يتعلق بمسألة تحقيق وضع سياسي منفصل لبلغاريا فلم يحدث إتفاق في الرأي حوله فلقد توازى مع جهود إنشاء منصب نائب البطريرك ظهور جماعات تعمل من أجل ضمان إقامة حكومة ذاتية بلغارية ذات علاقة مع الدولة العثمانية. على أن أغلب العناصر بين الجماعتين كانت تفضل العمل الثوري لتحقيق الإستقلال بدلاً من الإجراءات التفاوضية البطيئة ولو أنها حققت إنتصاراً ما بالنسبة لوضع الكنيسة.

ولقد سبق النشاط الثوري الكبير الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أجل الإستقلال عدة تحركات صغيرة بدأت بتأسيس منظمة خيتا Cheta في برايلا Braila بولاشيا بمعرفة فاسيل هادزيفولكوف Vasil Hadzivulkov ومعه الكابتن الصربي فلاديسلاف تاتيش Tatic وكانت منظمة مسلحة صغيرة العدد. وفي 1841 عبرت هذه الجماعة نهر الدانوب وإستقرت في بلغاريا بأمل المشاركة في التمرد العام. ورغم أنها فشلت شأن المنظمات التي أعقبتها, إلا أنها ظلت تمثل ملامح النشاط البلغاري الثوري حتى عام 1868 عندما تأكدت ضرورة أن يعتمد النشاط الثوري في بلغاريا على البلغاريين أنفسهم أكثر من مشاركة منظمات أو جماعات أخرى من خارجها.

وفي تلك الأثناء أيضاً أظهر الفلاحون البلغار في الجفالك ضيقهم ليس بسبب قضية الإستقلال وإنما بسبب نظام الضرائب وأحوال معيشتهم فقاموا بعدة إنتفاضات هنا وهناك أبرزها إنتفاضة في شمال غرب بلغاريا (1835), وفي إقليم فيدين (1841), وفي باريلا Barila (1841-1842), ثم في فيدين مرة أخرى (1850). ولأن تلك الحركات كانت ضعيفة التنظيم فكان من السهل سحقها على يد السلطات العثمانية.

وبعد حرب القرم بدت ظواهر لتجديد النشاط الثوري مرة أخرى حيث أقنعت حوادث الحرب وخاصة هزيمة روسيا زعماء بلغاريا بالتصرف منفردين دون أن ينتظروا مساعدة خارجية لتحقيق الإستقلال. يضاف إلى هذا أن تمتع الصرب وإمارتي الدانوب (رومانيا) بإستقلال أو بحكم ذاتي كان في حد ذاته إغراء للبلغاريين بالنضال لتحقيق هدف مماثل. لكن الصعوبة كانت تكمن في الإتفاق على الطريق الذي يمكن إتباعه لتحقيق هذا الأمل, فآنذاك كانت البلاد تتمتع برخاء إقتصادي نسبي, والمنتفعون منه من التجار والحرفيين والشوربجية كانوا راغبين عن المخاطرة بمصالحهم بطبيعة الحال, وكانوا يفضلون تحقيق المكاسب السياسية عن طريق الدبلوماسية والتفاوض في إطار الدولة العثمانية. وبمعنى آخر كانوا يرغبون في إستخدام الطرق نفسها التي أثبتت نجاحها في حصول إمارتي الدانوب على الحكم الذاتي, ولم يكونوا يريدون ثورة على نمط ما حدث في اليونان والصرب.

لكن كان هناك آخرون يرفضون هذا الطريق وهم أولئك الشباب أبناء كبار التجار والمهنيين الذين توفرت لهم فرص السفر لإستكمال تعليمهم خارج البلاد شأن مجموعة ال48 في مولدايفا وولاشيا (رومانيا) التي سبقت الإشارة إليها. وقد تأثروا شأن نظرائهم من الرومانيين بالإيديولوجيا السياسية الأوروبية, وبالتالي لم يكونوا "رجال الشعب" شأن كل من كاراديورديه,وفلاديميرشكو, وكولوكوترونيس ومن شابههم من زعماء الفلاحين, بل كانوا مثقفون صاغوا أفكارهم على أساس ما تعلموه ودرسوه وليس من خلال تجاربهم الميدانية.

وبينما تشكلت أفكار شباب الرومانيين بتعليمهم الفرنسي تأثر البلغاريون بدراستهم في المدارس اليونانية والمعاهد الروسية وفي مدارس الإرساليات الأمريكية البروتستنتية في بلغاريا واستانبول إلى حد ما. وفي تلك المعاهد تعرضوا للإيدولوجيا السياسية الليبرالية-القومية. أما الذين تعلموا في روسيا فقد ذهبوا إليها من خلال منح دراسية خصصتها منظمة سلافية تكونت في موسكو عام 1858 بإسم "الجمعية الخيرية الموسكوية" كرست نفسها لخدمة السلاف الأرثوذكس ورفاهيتهم. وقد حدث أن إتصل هؤلاء الشباب بحركة الشباب الروسية الراديكالية في ستينيات القرن التاسع عشر. وكانت كتابات كل من الكسندر هرزن Herzen, وتشيرنشفسكي N.G. Chernyshvesky, ودوبروليوبوف N.A. Dobroliubov, وبيساريف D.I. Pisarev تعبر عن الشخصية البلغارية وتنتقد شخصية قيصر روسيا الأوتوقراطية ولهذا عاد هؤلاء إلى بلادهم غير معجبين بنموذج إمبراطورية القياصرة الروس, بل لقد إستقر في تفكيرهم ضرورة تبني برامج ثورية إجتماعية.


ونظراً لشدة رقابة السلطات العثمانية على الحركة في البلاد ومعارضة كثير من البلغاريين للعمل الثوري فقد تم إعداد الخطط الأولى للعمل خارج بلغاريا في كل من الصرب وإمارتي الدانوب (رومانيا). وكانت حكومات تلك البلاد تغمض عينها عن المتآمرين البلغاريين على أرضيها أو تقدم المساعدة لهم أملاً في الحصول على منافع من وراء ذلك بطريقة أو بأخرى. غير أن زعماء الحركة البلغارية لم يكونوا أبدأً متحدين في أهدافهم,وبحكم تكوينهم الإيدولوجي بددوا كثيراً من طاقاتهم في مناقشة المبادئ, وقد إنحصرت المشكلات الرئيسية التي واجهتهم في أربع مشكلات: أولها . . هل يناضلون من أجل حمك ذاتي في إطار الدولةالعثمانية أم من أجل الإستقلال التام, والثانية . . هل ينضمون إلى فيدرالية بلقانية وإذا كان ذلك كذلك فأي نوع من الفيدراليات ينضموا إليها, والثالثة . . هل يعتمدون على مساعدات خارجية أم على جهودهم الخاصة, أما المشكلة الرابعة فكانت تتعلق بنوع التنظيم الداخلي الذي يجب أن تكون عليه دولة بلغاريا المرتقبة.

كان كل من جورج راكوفسكي Rakovski, وليو بن كارافيلوف Liu Ben Karavelov, وفاسيل ليفسكي, وخريستو بوتيف Botev أهم زعماء الثورة البلارية قاطبة, إذ كان كل منهم يمثل مرحلة في تطور الحركة القومية ولاا يمكن فهم أفكارهم إلا بالرجوع لخلفية الحوادث . . فعندما كانت الصرب في مطلع ستينات القرن التاسع عشر مركزاً للنشاط البلغاري كان لراكوفسكي مقراً لعملياته في بلجراد ونوفي صاد Novi Sad, وقد ساعدته حكومة الصرب في تنظيم كتيبة بلغارية وفي طبع الكتب والنشرات وفي 1861 أصدر جريدته "بجعة الدانوب" Dunavski Lebed وكان يعتقد شأن فاسيل ليفسكي فيما بعد أن تكتيكات منظمة خيتا Cheta ليست كافية وأنه ينبغي الترتيب للقيام بثورة شاملة داخل بلغاريا نفسها. كما كان يرغب في الدخول في فيدرالية مع الصرب رومانيا وليس مع اليونان. ورغم أنه تلقى تعليمه في المدارس اليونانية, إلا أنه كان يرغب في إبعاد النفوذ اليوناني عن بلاده. والخلاصة أن فلسفته السياسية كانت تابعة من الليبرالية البلقانية.

وفي كل الأحوال لم يكن من الممكن أن يتحاشى البلغاريون في نشاطهم التصادم مع المجموعات القومية الصربية, إذ سرعان ما تصادم راكوفسكي واتباعه بمؤيديهم من الصربيين حول مسألة وحدة سلاف البلقان, ذلك أن الصرب كانت قد تبنت برنامجاً للتوسع يستهدف السيطرة على المناطق الجنوبية السلافية التي كانت في الوقت نفسه مطمعاً للبلغاريين. وهكذا وفي 1862 وبعد إنتهاء أزمة قصف العثمانيين لبلجراد إنتقل مركز الحركة البلغارية إلى بوخارست (رومانيا), وفي الوقت نفسه إحتفظ البلغار بتعاون وثيق مع الصرب وخاصة أثناء حكم الأمير ميشيل. ورغم الخلاف الذي كان قائماً بينأبناء الحركة إلا أن الإعداد للعمل السري لثورة بلقانية عامة كان يجري متوازياً مع جهود الأمير ميشيل من أجل توحيد حكومات البلقان.

ومن ناحية أخرى قدمت رومانيا أفضل الفرص للثوار البلغار الذين يعملون من أراضيها, فمثلاً تعاطف معهم الحزب الليبراالي الحاكم ولم يكن موضوع حدود أراضي بلغاريا المرتقبة مثار خلاف مع رومانيا آنذاك ربما بتاثير وجود جالية كبيرة من التجار البلغار كانوا يعيشون في بوخارست ومدن موانئ الدانوب. وفي هذا المناخ المواتي واصل راكوفسكي نشاطه وفي أبريل ومايو 1866 تم إيفاد مجموعتين من البلغار عبر الدانوب للعمل في إطار خطط منظمة خيتا, وعندما أخفقتا في مهمتهما أصبح التجار البلغار يعارضون تكرار إجراءات من هذا النوع مرة أخرى وتجمدت الأمور حتى مات راكوفسكي في العام التالي.

وعلى الرغم من الفشل الذي حاق بخطط منظمة خيتا, إلا أنها ظلت تلعب دوراً رئيساً في التخطيط الثوري. ففي 1868 تم تكوين جمعيتين ثوريتين برئاسة كل من حاجي ديميتور Hadzhi Dimitur, وغصطفان كارادجا Karadzha وهما منمنظمة خيتا وكانت خطتهما تقضي بعبور الدانوب بإتجاه ستارا بلانينا Stara Planina لتأسيس حكومة ثورية تقوم بالإعداد لإنتفاضة بلغارية عامة. وهكذا وفي يوليو 1868 عبر مائة وعشرون رجلأً الدانوب غير أن دورية تركية من خفر السواحل إكتشفتهم وتم الإجهاز عليهم في غضون إسبوعين.

وبعد وفاة راكوفسكي تولى أمر الحركة كل من كارافيوف, ولفسكي,وبوتيف, وكان من راي كارافيلوف وهو أكثر الثلاثة إعتدلاً أن ترتبط بلغاريا بالدولة العثمانية على غرار إرتباط المجر بالنمسا بمقتضى تسوية أوزجليخ Ausgleich وفي هذه الحالة يصبح السلطان العثماني ملك بلغاريا. وهذا الإرتباط في رأيه يقطع الطريق على رغبة الصرب واليونان في الإستيلاء على بلغاريا التي يطالبان بها. لكنه تخلى عن هذه الخطة فيما بعد وأيد فكرة تأسيس فيدرالية البلقان ومعتقداً أن قيام إنتفاضة عامة في البلقان أمر ضروري لحصول البلغار على حريتهم وهذه لا تتم إلا إذا بقيت الخطط الثورية قائمة. ولما كان سياسياً ليبرالياً فقد كان يتوجس خيفة من سيطرة روسية قد تحدث في المستقبل.

أما فاسيل ليفسكي فكان أكثر الثلاثة قرباً لتقاليد ثورة الرومانيين, إذ كان يرغب في تحقيق إنفصال لبلغاريا عن الدولة العثمانية عن طريق قيام ثورة فلاحية عامة دون الإعتماد على دول اخرى. وكان يعتقد شأن راكوفسكي بأهمية تكوين شبكة ثورية في بلاد البلقان, وعلى هذا ذهب إلى بلغاريا في عام 1869 لتكوين لجان تعد للثورة في المستقبل.

أما ثالث هؤلاء خريستو بوتيف فكان أعظم شعراء البلغار قاطبة,وعلى العكس من زميليه كان إشتراكي النزعة ويأمل في إمكانية قيام ثورة عامة لا تؤدي فقط إلى الإستقلال السياسي بل إلى التغيير الإجتماعي. وكان يرى بلادهخ بلغاريا في المستقبل جمهورية ترتبط بكونفدرالية بلقانية من دول حكوماتها متشابهة. ورغم أنه بلور معتقداته أثناء تعلمه في روسيا إلا أنه لم يربط نفسه بتبعية لها.

على كل حال ففي 1870 إتحدت الجماعات المتصارعة والزعانات المتنافسة في لجنة واحدة بغسم "اللجنة المركزية للثورة البلغارية" إجتمعت في 1872 وضمت ممثلين من بلغاريا ومن جماعات البلغار خارجها وتم الإتفاق على تبني حل وسط من مختلف البرامج الثورية للجميع يقضي بإستخدام الوسائل الثورية للتحرر من السيطرة العثمانية وليس أساليب التفاوض, وأن يكون الغرض الرئيسي للحركة تكوين فيدرالية تضم كل من بلغاريا ورومانيا والصرب والجبل الأسود واليونان تتمتع كل منها بالحكم الذاتي. غير أن الإختلاف الكبير في وجهات النظر داخل اللجنة المركزية حال دون الإتفاق على طبيعة التنظيم الداخلي للبلاد في حال نجاح الثورة.

ورغم أن كارافيلوف كان رئيس اللجنة المركزية, إلا أنه عهد إلى فاسيل ليفسكي ومساعده الرئيسي ديميتور اوبشتي Dimitur Obshti بالعودة إلى بلغاريا للإعداد للثورة. غير أن هذا الترتيب إنتهى إلى كارثة ذلك أن اوبشتي في سبيل الحصول على أموال لتمويل الثورة قام بسرقة قطار البريد التركي دون الرجوع إلى اللجنة مما أدى إلى إعتقاله وكشف عناصر الحركة, ولكي ينفي عن نفسه تهمة السرقة أما المحققين صرح بأنه ليس مجرماً عادياً وإنما هو رجل ثورة محترم وإعترف لهم بالخطط العامة للقيام بحركة تمرد ةعصيان على السلطات العثمانية. وبهذه المعلومات تم غعتقال ليفسكي الذي شنق زمعه اوبشتي وآخرون. وأمام هذهالتحولات التي لم تكن متوقعة ترك كارافيلوف وآخرون اللجنة المركزية في عام 1874 وأقتنعوا بأهمية وضرورة الإعتماد على مساعدة خارجية وخاصة من الصرب وجبل الأسود إذا كان عليهم تحقيق أهدافهم. كما أدركوا أيضاً أنه بتعيين العمل على تلقين زملائهم القوميين داخل بلغاريا روح النضال.

ورغم تلك الإحباطات إستمرت خطط التمرد على الحكم العثماني قائمة فعندما إنفجرت الثورة في البوسنة-هرسك عام 1875 وعجلت بنشوب أزمة كبرى أسرعت القيادة الجديدة للجنة المركزية للثورة البلغارية بقايدة خريستو بوتيف وغصطفان ستامبولوف stambolov في لإعداد لثورة تتركز في مدن لوفش Lovech, وستارا زاجورا Stara Zagora, وسيلفن Siliven, وشومون Shumen, وتيرنوفو Turnovo, وروزيه Ruse. غير أن الثورة واجهت نفس المصير الذي واجهته ما قبلها من ثورات وذك بسبب التسرع والتخطيط المتواضع والتوقيت السئ, وقصور التأييد الداخلي للثورة, ففي شيربان Chirpan مثلاً كانت اللجنة تنتظر تقدم ثلاثمائة متطوع لكن الذين تقدموا كانوا أربع وعشرون متطوعاً فقط. وفي روزيه بلغ عد المتطوعين خمس وعشرون, وفي شومن بلغوا ستة عشر, وبالتالي كان من السهل علىالسلطات العثمانية أن تسحق الثورة.

ومع هذا فإن تلك الكوارث التيحاقت بالحركة الثورية لم تضعف قيادتها البلغارية في الخارج أو تجعلها تيأس, ذلك أن إستمرار الثورات في البوسنة-هرسك والإستعداد الواضح للحرب في كل من الصرب والجبل السود واليونان جعل فرصة القيام بثورة ناجحة تبدو ماثلة. ففي تلك الأثناء كانت قبضة الحكومة العثمانية قوية في بلاد البلقان الأخرى, وبالتالي لم يكن بإمكان السلطات العثمانية تحريك قوات عسكرية إلى بلغاريا. وفي إطار تلك الظروف تم التخطيط للقايم بثورة أخرى كبيرة تحت قيادة جورج بنكوفسكي Benkoveski وتوجيهه حيث تم تجميع السلاح وسائر الإمدادات مرة أخرى في رومانيا للقيام بثورة في مايو 1876. ولتنظيم الحركة تم تقسيم بلغاريا إلى أربعة أقسام لكل منها رئاسة في كل من تيرنوفو, وسيلفن, وفراتزا Vratsa وبلوفديف. وهكذا وفي يناير 1876 عبر منظمو الثورة إلى بلغاريا وإتخذوا من بلوفديف مركزاً لهم.

وفي نهاية أبريل إجتمع ممثلو مجموعات الثورة وقرروا التحرك يوم 13 مايو. غير أن السلطات العثمانية إكتشفت خطط الثورة, ولماأدرك الثوار إنكشاف أمرهم قرروا التعجيل بالتحرك قبل الموعد المحدد وذلك في الثاني من مايو في كل من كوبريفتشتزا ثم في باناجيورشتا Panagiuishte, وكليسورا Klisura, ودارت معارك ضخمة في المناطق الجبلية وخاصة في رودوب Rhodope, ومرة أخرى لم تكن هنهاك ثورة عامة بلغارية.

ولما كانت الحكومة العثمانية مشغولة بقواتها في كل مكان فلم يكن بإمكانها إلا إرسال عدد محدود جداً من العساكر لمواجهة المتمردين لكنها إضطرت إلى إرسال فرق عسكرية إضافية غير نظامية لقمع المتمردين. غير أن قيام المتمردين بذبح الأتراك المدنيين المقيمون في البلاد كما حدث في باد بلقانية في ظروف مماثلة أثار خاطر العثمانيين فحدثت معارك قتالية ثقلية, وإرتكبت أعمال وحشية من الجانبيين, وشاعت في أوروبا أخبار الأعمال الإنتقامية التي قام بها العثمانيون وكذا الفظائع التي إرتكبها البلغار حيث لم تكن أوروبا تعرف طبيعة ما حدث إلا من وجهة نظر البلغاريين فقط. وفي هذا الخصوص إختلفت المصادر في تقدير عدد القتلى من البلغاريين جراء قمع ثورتهم, فالعثمانيون قدروا القتلى بنحو 3100 قتيلاً, وقدرها الإنجليز بإثنى عشر ألفاً, والأمريكيون بخمسة عشر ألف, أما البلغاريون أنفسهم فقد قدروا قتلاهم ما بين ثلاثين ألف ومائة ألف.

ةفي الشهر نفسه فقد قدروا آخر محاولة بلغارية للقيام بحركة عصيان ففي نهاية مايو إستقل المركب نفسه رادتزكي Radetzky ومعه حوالي مائتين من أتباعه, ولما تحركت الكرب على سطح الدانوب سيطر الثوار عليها وأرغموا ملاحيها على إنزالهم على شاطئ بلغاريا. ومرة أخرى علمت السلطات العثمانية بالأمر فإعتقلت بوتيف وقتلته وتشتت شمل رفاقه.

وهكذا إنتهت الحركة الثورية البلغارية إلى الفشل التام ذلك أن الخطط الموضوعة كان يمكن أن تنجح في تحقيق الغرض إذا ما تحرك الفلاحون في ثورة عامة فور عبور المجموعات الثورية الصغيرة الدانوب, أو إذا ما إتبع أغلبية البلغار توجيهات اللجان الثورية, وحينئذ كان التدخل الخارجي أمر ضروري لتحقيق الأغراض السياسية المرجوة. وعلى هذا كان على القوميين في النهاية أن ينتظروا وقوع أحداث أوروبية عامة قد تكون مواتية لصالح أهدافهم.

ورغم إخفاق الثوار في تحقيق أي هذف سياسي لهم نحو التحرر من الحكم العثماني, إلا أن هدفاً دينياً قد تحقق حين أعلن في صيف 1876 عن تأسيس هيئة إكليروسية بلغارية منفصلة, وعن تعيين نائب البطريرك في بلجراد وذلك بفعل التفاوض وبمساعدة روسيا والدولةالعثمانية. ولكن وفي أثناء التفاوض مع بطريرك استانبول على المسائل الدينية إتضح الخطر على الأهداف القومية البلغارية وعلى تنظيم الجمعيات الثورية خارج البلاد. ويلاحظ أنه حتى ذلك الوقت وأثناء حوادث ثورة إستقلال اليونان وقيام الحكم الذاتي في رومانيا والصرب كان هناك ثمة مساعدات مشتركة وتعاون بين شعوب البلقان مع قليل من الخصومات حيث لم تكن في تلك البلاد الثلاثة مشكلة مناطق تختلط فيها الأعراق على حين كان هذا الأمر واضحاً في بلغاريا عند الحيدث عن تحديد ولاية نائب البطريرك علىمناطق معينة وكذا وضع الصربيين في منطقة سلافية جنوبية وغير ذلك من مسائل معقدة تارخية. وبصفة عامة كان من شأ، الشجار الذي نشأ عن هذه الأحوال والأوضاع أن يقود شبه جزيرة البلقان إلى مرحلة تاريخية مختلفة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً