گيورگ فريدريش هاندل

جورج فريدريك هاندل (1733)

جورج فريدريك هانْدل (بالإنگليزية: Georg Fredric Haendel) أو گيورْگ فْريدْرِش هِيندْل (الألمانية: Georg Händel Friedrich) عاش (هاله 1685- لندن 1759 م) هو مؤلف موسيقي كلاسيكي إنكليزي من أصل ألماني. عايش الفترة الباروكية الأخيرة، تميز بأعماله في فن الأوراتوريو. كانت لغته الموسيقية تمثل خلاصة الأساليب الموسيقية في أوروبا (الإيطالية، الفرنسية، الألمانية والإنكليزية)، فلاقت أعماله نجاحا في كامل القارة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

موسيقاه

ألف هاندل العديد من القطع الموسيقية كالسوناتات، الكونشرتوهات، وتعد متتابعتي الموسيقى المائية (The Water Music) وموسيقى الألعاب النارية () من أشهرها، كما ألف قطعا أوبرالية (رينالدو)، وأخرى للأوراتوريو (المسيح، يهوذا المكابيّ) واهتم فيها بدور الفرقة الكورالية.


حياته

The house in the city of Halle where Handel was born
Handels baptismal registration (Marienbibliothek Halle)

بعد أن نشأ في ظل أمير هانوفر أثناء فترة حياته الأولى، انتقل إلى لندن بدعوة من الملكة ليقدم إحدى العروض الأوبرالية (رينالدو)، نالت أعماله نجاحا منقطع النظير، فقرر الاستقرار نهائيا في لندن. أصبح الانجليز يعدونه واحدا من أكبر مؤلفيهم الموسيقيون، فمُنِح الجنسية البريطانية عام 1726 م.

كان جيورج فريدرش هندل أشهر مؤلف موسيقي على عهد يوهان سباستيان باخ. ولد في مدينة هاله بسكسونيا العليا في 53 فبراير 1685 قبل مولد يوهان سبستيان باخ بستة وعشرين يوماً، وقبل مولد دومنيكو سكارلاتي بثمانية أشهر. ولكن بينما أشرب باخ وسكارلاتي الموسيقي منذ طفولتهما، وأتيح لهما أبوان من مشهوري المؤلفين، وربيا على سلم موسيقي ملزم، ولد هندل لأبوين لا يكترثان للموسيقى؛ فأبوه كان الجراح الرسمي في بلاط الدوق يوهان أدولف أمير ساكس-فايسنفيلز، وأمه ابنة قس لوثري. ولم يرضيا عن إدمان الغلام على عزف الأرغن والهاربسيكورد، ولكن حين أصر الدوق بعد أن سمعه يعزف على ضرورة تدريبه على الموسيقى، سمحا له بأن يدرس على فريدريش تساخاو، عازف الأرغن بكنيسة ليبفراوينكيرشي في هاله. وكان تساخاو معلماً مخلصاً دقيقاً. فما بلغ جيورج الحادية عشرة حتى كان يؤلف السوناتات (التي بقي منها ست)، وحذق العزف على الأرغن إلى حد حمل تساخاو والأبوين المستسلمين على إيفاده إلى برلين ليعزف أمام صوفيا شارلوت ناخبة براندنبورج المثقفة، التي ستصبح عما قليل ملكة بروسيا. فلما عاد جيورج إلى هاله (1697) وجد أن أباه قد مات. أما أمه فعمرت إلى سنة 1729.

كان هاندل يقترب من عامه الأربعين. وكان وصل الى قمة المجد. وكان الجمهور قد تبعه طوال العقد السابق من السنين وأولع بكونشرتاته وأعماله الدينية الكنسية. ولم يفت الجمهور أن يقبل بلهفة على الأعمال الأوبرالية التي كان هاندل لا يفتأ يقدمها تباعاً. غير ان شيئاً ما كان بدأ يلوح في الأفق ويقلق هاندل بالتدريج وفي شكل متصاعد. فالأوبرا التي يقدمها، وكان عثر لها على جمهور عريض متحمّس، كانت أوبرا جادة Opera Seria، تفترض من الجمهور قبولاً طقوسياً وصمتاً وتفاعلاً على مستوى الذهن أكثر مما على مستوى العاطفة. ولكن، بالتدريج، بدأت تغزو الصالات اوبرات من نوع جديد: أوبرات من النمط الايطالي، خفيفة، مسلية، ميلودرامية أو هزلية. ولما كان ذلك الزمن نفسه هو زمن نوع من الانزياح الطبقي، مع نمو الفئات البورجوازية وإرهاصات العصر الصناعي المكوّن لثروات جديدة تحض فئات بدأت تدخل المجتمع آتية من خارج الأطر الارستقراطية، سرعان ما راحت الاوبرات «الايطالية» تلقى رواجاً. وكان سيد الموقف في ذلك الحين، الموسيقي الايطالي بونونتشيني الذي، لسبب ما، راح ينال حظوة لدى الجمهور اللندني، أقلقت الموسيقيين الجادّين. ثم أتت، في الوقت نفسه، «اوبرا الشحاذين» لجون غاي (والتي سيقتبس بريخت عنها لاحقاً «اوبرا القروش الثلاثة») لتوجّه ضربة الرحمة للأوبرا الجادة وللأوراتوريو (الذي سيظل هاندل، مع ذلك، سيده الأكبر مع «مسيّا» التي لا تزال حتى اليوم تعتبر اكبر اوراتوريو كتب في تاريخ الموسيقى). وهكذا وجد هاندل ان لا مناص له من الابتعاد بعض الشيء من الاوبرا الجادة. وفي تنافس واضح مع بونونتشيني كتب هاندل تباعا أربعاً من اوبراته التي ستعيش كثيراً: «جوليو سيزاري» (يوليوس قيصر)، «تامرلانو»، (تيمورلنك)، «روديلاندا» و «ألساندرو». والأشهر بين هذه الاعمال، بالطبع، «جوليو سيزاري». علماً أن هاندل لم يكن أول من يقتبس هذا الفصل التاريخي ويحوله الى عمل فني، ولن يكون الأخير.

على رغم ان بدايات هاندل، في موطنه الاصلي كانت أوبرالية، إذ ان أول عمل قدم له كان أوبراه الأولى «الميرا» ثم التالية «نيرون» اللتين قدمتا حوالى عام 1705 وكان بالكاد تجاوز العشرين من عمره، فإنه عرف لاحقاً بأعمال اوركسترالية متنوعة. وكان عليه ان يقوم بجولة طويلة في ايطاليا وأن يرتبط بصداقة حميمة مع سكارلاتي، قبل ان يعود الى الأوبرا بقوة، في زمن لاحق من حياته، ولا سيما بعدما انتقل ليعيش ويبدع في لندن التي استقبلته وأسبغت عليه مجداً وجاهاً وكرّسته واحداً من أكبر موسيقيّي زمنه. وحين قدم هاندل «جوليو سيزاري» للمرة الأولى في لندن عام 1724 أيقن الجمهور أنه لم يكن مخطئاً في اختياره.

الحياة الموسيقية

Handel as a boy.

وفي 1702 دخل جامعة هاله ليحضر لمهنة المحاماة في ظاهر الأمر. وبعد شهر عينه القائمون على الكتدرائية الكلفنية في هاله مكان عازف أرغنهم السكير. أما العبقري الشاب الذي لا يستقر على حال، والذي هفت نفسه إلى مجال أرحب، فبعد أن قضي عاماً واحداً هناك اقتلع كل جذوره التي في هاله باستثناء حبه المقيم لأمه وانطلق ميمماً هامبورج، حيث كان الناس يحبون الموسيقى حباً يكاد يبلغ حبهم للمال. وكان في هامبورج داراً للأوبرا منذ 1678. هناك وجد هندل، وهو في الثامنة عشرة، مكاناً له عازفاً ثانياً للكمان. وصادق يوهان ماتيسون البالغ من العمر اثنتين وعشرين عاماً، و"التينور" الأول في الأولبرا، الذي أصبح بعد ذلك أشهر النقاد الموسيقيين في القرن الثامن عشر. ورحلا معه إلى لوبك (أغسطس 1703) ليستمعا إلى الشيخ بوكستيهودي يعزف، ويتحسسا إمكان خلافته في العزف على الأرغن في كنيسة مارينكرشي، ووجدا أن خليفته يجب أن يتزوج ابنة هذا الشيخ. فنظرا إلى الشيخ وابنته ثم رحلا عن المدينة.


وانهارت صداقتهما في مبارزة سخيفة سخف المبارزات في أي مسرحية. ذلك أنه في 20 أكتوبر 1704 أخرج ماتيسون أوبراه "كليوبتره" ومثل دور البطل فيها. ولقيت نجاحاً لا شك فيه، وأعيد تمثيلياً مراراً. وفي هذه الحفلات قاد هندل الأوركسترا والمغنين من الهاربسيكورد. وكان ماتيسون أحياناً ينزل من خشبة المسرح بعد أن يموت في دور أنطونيوس، وفي نشوة الفخر يأخذ مكان صديقه قائداً وعازفاً على الهاربسيكورد، ويسعد بنصيب من التصفيق الأخير. وفي 5 ديسمبر أبى هندل أن يحل صديقه محله على هذا النحو. فألحق الصديقان الأوبرا بشجار ساخن، وعقب انتهاء التمثيل سارا إلى الميدان العام، واستلا سيفيهما، واقتتلا على أنغام المديح من رعاة الأوبرا والمارة. وصك سيف ماتيسون زراً معدنياً على سترة هندل فانكسر. وانقلبت المأساة مهزلة في نظر الجميع إلا بطليها، وراحا يجتران سخطهما إلى أن قبل مدير الفرقة أوبرا هندل "الميرا" التي احتاجت إلى ماتيسون ليؤدي دور التينور. وأعاد نجاح الأوبرا (8 يناير 1705) الخصمين صديقين كما كنا من قبل.

السفر إلى إيطاليا

وأحب الناس أوبرا "الميرا"، التي احتوت على واحد وأربعين لحناً بالألمانية وخمسة عشر بالإيطالية، حباً أتاح عرضها عشرين مرة في سبعة أسابيع. ودب دبيب الغيرة في قلب راينهارت كايزر الذي كان مشرفاً على الفرقة ومؤلفاً لمعظم أوبراتها. وضعفت شبيه أوبرا هامبورج، وعاش هندل عامين على دخل ضعيف. وكان الأمير جوفان جاستوني دي مديتشي، أثناء مروره بهامبورج، قد نصحه بأن يرحل إلى إيطاليا حيث يجن الناس كلهم بالموسيقى ويصدح حتى خدم المطاعم بالأغاني الجميلة. واقتحم هندل ثلوج جبال الألب في ديسمبر وفي محفظته مائتا دوقاتية، وخطاب من جاستوني إلى أخيه فرديناند وجد جيوب فرديناند منيعة نزل إلى روما. ولكن دار الأوبرا هناك كان قد أغلقها البابا إنوسنت الثاني عشر باعتبارها بؤرة للفساد. وعزف هندل على الأرغن في كنيسة سان جوفاني لاترانو، وصفق له الجمهور عازماً بارعاً، ولكنه عاد إلى فلورنسة لأن أحداً لم يرد أن يخرج أوبراه الجديدة. هناك وجد جاستوني الذي دافع عنه، ففتح فرديناند كيس نقوده، ومثلت "رودريجو"، وسر الجميع بها، ونفح فرديناند مؤلفها الشاب بمائة سكوين (300 دولار؟) وطقم عشاء من الخزف. ولكن فلورنسة لم يكن بها دار أوبرا عامة، أما البندقية فكان بها ست عشرة داراً. ومن ثم مضي هندل إلى البندقية.

كان ذلك في خريف 1707، وملكة الأدرياتي مبهورة بسحر أليساندرو سكارلاتي، تصفق لأعظم أوبراته "مترداتي أوباتوري"، فلا مجال فيها لألمان شاب حديث العهد بتعلم أسرار الميلوديا الإيطالية ودرس هندل أوبرات سكارلاتي، ووجد له صديقاً وفياً في ابن اليساندرو. وتقول الرواية أنه حين عزف هندل وهو مقنع على الهاربسيكورد في حفلة تنكرية في البندقية، صاح دومنيكو سكارلاتي "هذا أما السكسوني المعجز أو الشيطان(42)". والصداقة الخالدة التي ربطت قلبي أعظم عازفين للهاربسيكورد في ذلك العهد أشبه بلحظة تناغم وانسجام وسط نشاز التاريخ. وقد ترك كلاهما البندقية للموسيقيين الأكبر منهما سراً وانطلقا إلى روما (يناير 1708؟).

وفي هذه المرة لقي هندل استقبالاً أفضل. فقد بلغ نبأ "رودريجو" العاصمة، وفتح الأمراء والكرادلة أبوابهم له، وهم أشد ضيقاً بلهجته الألمانية منهم بمذهبه اللوثري. وبنى المركيز دي رسبولي مسرحاً خاصاً في قصره ليخرج عليه أول أوارتوريو لهندل، واسمها "القيامة"، وكانت موسيقاها مفاجأة ملهمة في قوتها وتعقيدها وعمقها، وسرعان ما راحت الصفوة المثقفة كلها في روما تتحدث عن "السكسوني الطويل الجبار". غير أن موسيقاه كانت أصعب مما يحبه العازفون الإيطاليون. فلما أخرج الكردينال بييترو أوتوبوني أوراتوريو هندل "سريناتا" أتعبت الموسيقى أركانجلو كوريللي، الذي كان عازفاً أول للكمان وقائداً للأوركسترا. فتمتم في تأدب "أيها السكسوني العزيز، هذه الموسيقى تنهج النهج الفرنسي الذي لا أفهمه(43)". وأخذ هندل الكمان من يدي كوريللي وعزف بحيويته المعهودة. وسامحه كوريللي.

Portrait of George Frederick Handel engraved by Charles Turner, 1821

بقي على هندل أن يغزو نابولي. وتقول رواية لا يعتمد عليها أن هندل وكوريللي، وسكارلاتي الأب والابن، كلهم قصدوا تلك المدينة معهم (يونيو 1708). وتزعم قصة أخرى مشكوك فيها أن هندل وقع في غرام هناك؛ ولكن التاريخ الحذر يعترف في أسف بأنه ليس لديه أي دليل سليم على أي غرام وقع فيه هندل إبان حياته في أي بلد، اللهم إلا غرامه بأمه وبموسيقاه. وقد يبدو أمراً لا يصدق أن خلو قلب رجل استطاع أن يكتب مثل هذه الألحان المشبوبة من شعلة الحب، ولعل التعبير عنها بدد حرارته على أجنحة الغناء. أما أهم الأحداث في هذه الفترة التي أقام فيها هندل في نابلي فهو-على قدر علمنا-لقاؤه بالكردينال فنتشنتسو جريماتي، حاكم نابلي وسليل أسرة بندقية غنية. وقد قدم للمؤلف نص أوبرا تتناول موضوع أم نيرون القديم. وأتم هندل المهمة في ثلاثة أسابيع. ورتب جريماتي تمثيلها في مسرح أسرته بالبندقية، فأسرع إليها هندل حاملاً موسيقاه.


كانت الحفلة الافتتاحية لأوبرا "أجربينا" (26 ديسمبر 1709) أبهج الانتصارات التي عرفها هندل إلى ذلك الحين. ولم تخالج الإيطاليين الكرماء الغيرة لأن ألمانيا تفوق عليهم في لعبتهم، وأراهم روائع من النغم، واقتحامات من الانتقال، وأفانين من الصنعة قل أن أدركها حتى موسيقيهم المفضل اليساندرو سكارلاتي، فهتفوا "يحي السكسوني الحبيب(44)". ونال نصيباً من هذا الهتاف المغني الباصو الممتاز جوزيبي بوسكي الذي تنقل صوته قفي يسر بين سلسلة كاملة من تسع وعشرين نغمة.


غزو إنجلترا

Handel House at 25 Brook Street, London.

وخطب الكثيرون ود هندل الآن. فنصحه تشارلز مونتاجيو، ايرل مانشستر الذي كان سفيراً لبريطانيا في البندقية، بأن يذهب إلى لندن، وعرض عليه الأمير ارنست أوغسطس الأخ الأصغر للناخب جورج لويس، وظيفة قائد الفرقة الموسيقية الكنسية في هانوفر. لقد كانت البندقية رائعة، تتنفس الموسيقى، ولكن إلى متى يستطيع المرء أن يكسب قوته من أوبرا واحدة، وإلى متى يستطيع الركون إلى هؤلاء الإيطاليين المتقلبين؟ أما هانوفر ففيها ضباب، وغيوم، وكلام خارج من الحناجر، ولكن فيها أيضاً دار فخمة للأوبرا وراتب ثابت وطعام ألماني دسم؛ ثم أنه يستطيع بين الحين والحين أن يركب منها ليزور أمه في هاله. وعليه ففي 15 يونيو 1710 عين هندل قائداً للفرقة الكنسية في هانوفر، وكان يومها في الخامسة والعشرين، براتب سنوي قدره ألف وخمسمائة كراون، مع الأذن له بالغياب بين حين وحين. وفي خريف ذلك العام، طلب الأذن له بزيارة إنجلترا، فحصب عليه، ووعد بالرجوع سريعاً.


كانت أوبرا لندن في محنة. ففيها فرقة إيطالية تغني، مغنيها الباصو بسكي، ومغنيتها الكونترالتو زوجته، ومغنيها السوبرانو نيكوليني الذي ذهب تشارلز بيرني، مؤرخ الموسيقى الغيور، إلى أنه "أول مغن عظيم حقاً غني في مسرحنا(45)". ولكن دار أوبرا هايماركت (وكانت يومها تسمى مسرح صاحبة الجلالة)، ومسرح دروري لين، كانا يقعان في قسم من المدينة، تنشل فيه الجيوب وتحطم الرءوس. وتردد "المجتمع الراقي" في المغامرة بباروكاته وأكياس نقوده هناك.

وسمع آرون هل مدير الفرقة بأن هندل في لندن، فعرض عليه نص أوبرا مأخوذاً عن "تحرير أورشليم" لتاسو. وعكف هندل على العمل بنشاطه الهائل، ونقل في غير تحرج عن ألحانه هو، فلم ينقض أسبوعان حتى أتم أوبرا "رينالدو". فأخرجت في 24 فبراير 1711، وأعيد عرضها أربع عشرة مرة أمام جمهور حافل قبل أن ينتهي الموسم في 22 يونيو. وهاجمها أديسون وستيل، ولكن لندن أقبلت عليها، وتغنت بألحانها في الشوارع، وأكثر ما مس أوتار العاطفة من ألحانها بل يستطيع أن يحرك مشاعرنا حتى في يومنا هذا، لحنان هما اتركني إنني أبكي Lascia Ch'io pianga و Cara Sposa يا زوجتي العزيزة، وقد ربح جون وولش ألفاً وأربعمائة جنيه بنشره أغاني من أوبرا مينالدو، واقترح هندل في سخرية أن على وولش أن يكتب موسيقى الأوبرا القادمة ويترك له نشرها(46). وما لبثت هذه الأوبرا، وهي خير أوبرات هندل، أن أخرجت في دبلن وهامبورج ونابلي، وقد شغلت المسرح في لندن عشرين عاماً. ومد هندل أجازته حتى بلغت سنة كاملة وهو يرشف نجاحه على مهل، ثم عاد كارهاً إلى هانوفر (يونيو 1711) ولم يكن هناك أسداً في قاعات الاستقبال، بل خادماً في قصر الأمير الناخب؛ وأغلقت دار الأوبرا فترة الموسم، فألف الكونشر توات الكبيرة والكنتاتات، وبينما كان خياله يحلق في سماء الأوبرات. وفي أكتوبر 1712 استأذن في زيارة أخرى "قصيرة" لإنجلترا. وأذن له الأمير الناخب، ربما هو شاعر أن إنجلترا ستكون على أية حال إقطاعية هانوفرية بعد قليل. ووصل هندل إلى لندن في نوفمبر، ومكث هناك ستاً وأربعين سنة.

وقد حمل معه أوبرا جديدة هي "الراعي الوفي"، التي ما زال استهلالها اللطيف يسحر جونا. وقد أخرجت في 22 نوفمبر، وفشلت. وولفور بدأ موضوعاً آخر وقد حفزه هذا الفشل أكثر مما ثبط همته، والموضوع هو "تيسيو (ثيوسيوس). وكانت حفلة الافتتاح نصراً له، ولكن المدير هرب بعد الليلة الثانية حاملاً إيصالات شباك التذاكر. وتسلم عمله مدير آخر اسمه جون هيديجر، وواصل عرض "تيسيو" حتى بلغت عروضها ثلاثة عشر، وكافأ المؤلف الذي لم ينقذ أجره بتنظيمه حفلة خيرية لإعانة "المستر هندل"، ظهر فيها المؤلف وهو يعزف على الهاربسيكورد. ودعا ايرل بيرلنتن، وكان مستمعاً متحمساً، هندل لينزل ضيفاً عليه في قصر بيرلنتن، وقبل هذه الدعوة، ووجد المسكن الطيب والطعام المترف، والتقى هناك ببوب، وجاي، وكنت، وغيرهم من أئمة الأدب والفن.


وأقبلت عليه الدنيا أيما إقبال. ذلك أن الملكة آن تاقت لوضع حد لحرب الوراثة الأسبانية، وأتت النهاية مع معاهدة أوترخت، فأبهج هندل آن بأن "تسبحة أوترخت" وبـ "أغنية الميلاد" في عيد ميلادها. وأثبت فيهما أنه درس "كوارس" بيرسيل. وأثابته الملكة العطوف بمعاش قدره بمائتا جنيه. أما وقد ظفر بالاطمئنان والرخاء، فإنه استراح الآن على مجدافيه طوال سنة من التهرب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهروب والعودة

ولكن في أول أغسطس 1714 ماتت آن، وأصبح الناخب جورج لويس أمير هانوفر ملكاً على إنجلترا باسم جورج الأول. وتوجس هندل بعض الشيء من هذا الاتجاه الذي اتخذته الأحداث. فالواقع أنه هرب مع هانوفر، ولو أنه يتوقع أن يكون الملك غير راض عنه، وقد حدث هذا، ولكن جورج لزم الهدوء. وأعيدت تسمية مسرح هايماركت الآن فسمى "مسرح جلالة الملك"، وأحس الملك أنه ملزم ببسط رعايته على هذا المسرح، ولكنه كان يعرض أوبرا "رينالدو" التي لحنها لذلك المتهرب، فذهب جورج متنكراً إلا في لهجته، واستمتع بالعرض. وكان هندل خلال ذلك قد كتب أوبرا أخرى "أماديجي الغالي"، وأخرجها هيديجر في 25 مايو 1715، وأحبها جورج. وبعد قليل طلب عازف الكمان والمؤلف الإيطالي فرنتشسكو جيمنياني، الذي دعى للعزف في البلاط، أن يصاحبه هندل، لأنه عازف الهاربسيكود الوحيد في إنجلترا الذي يصلح لمصاحبته. وكان له ما أراد، وأبدع هندل في العزف فعفا عنه الملك، ورفع معاشه على أربعمائة جنيه في السنة.

ووكلت إليه الأميرة كارولين تدريس بناتها، وأضافت معاشاً قدره مائتا جنيه. وهكذا الآن صاحب أعلى أجر بين المؤلفين الموسيقيين في أوربا.


فلما غادر جورج الأول لندن (9 يوليو 1716) ليزور هانوفر اصطحب هندل معه. وزار الموسيقي أمه في هاله، وبدأ نفحته الدورية لأرملة معلمه القديم تساخاو التي أخنى عليها الدهر. وعاد الملك والمؤلف إلى لندن في مطلع 1717. ودعا جيمس بريدجس، ايرل كارنارفون-دوق تشندوس فيما بعد-هندل ليعيش في قصره الفاخر المسمى "كانونز" بمدلسكس، ويحل محل قائد الموسيقى فيه، الدكتور يوهان بيبوش، الذي انتقم لنفسه فيما بعد تأليفه موسيقى "أوبرا الشحاذ". هناك كتب هندل "متتابعات موسيقية للهاربسيكورد" وهي "فنتازيات" على الهاربسيكورد بأسلوب دومنيكو سكارلاتي وكوبران، وبعض الكونشرتوات الكبيرة، وأثنى عشر "نشيداً تشاندوسياً" وموسيقى لتمثيلية تنكرية لجاي سمها "آسيس وغلاطية"، وأوبرا "راداميستو".

ولكن من يخرج الأوبرا؟ لقد هبط عدد رواد مسرح صاحب الجلالة، وأشرف هيديجر على الإفلاس. ورغبة في إنقاذه وإنقاذ الأوبرا أسس نفر من النبلاء والأعيان (فبراير 1719) الأكاديمية الملكية للموسيقى، ومولوها بخمسين سهماً طرحت على الجمهور بسعر مائتي جنيه للسهم، واشترى جورج الأول خمسة أسهم. وفي 21 فبراير أعلنت صحيفة لندنية أسبوعية أن "المستر هندل، وهو أستاذ موسيقي شهير، أبحر إلى القارة بأمر جلالة الملك ليجمع فرقة من صفوة المغنين في أوربا للأوبرا في مسرح هايماركت(47)" وأغار هندل على مختلف الفرق في ألمانيا، وزار أمه مرة أخرى. وبعد ساعات من مغادرته هالة إلى إنجلترا ظهر يوهان سبستيان باخ في المدينة بعد أم مشي عليها نحو خمسة وعشرين ميلاً من كوتن، وطلب أن يقابل الألماني العظيم الذي غزا إنجلترا؛ ولكنه وصل متأخراً، ولم يلتق الموسيقيان قط.

وفي 27 أبريل 1720 مثلت "راداميستو" أمام الملك، وخليلته، وجمهور تألق بالألقاب والجواهر، وناضل أشخاص من ذوي الألقاب ليدخلوا. يقول مينويرنج "لقد رد العديد من السادة الذي عرضوا دفع أربعين شلناً ثمناً لكرسي من المقاعد الرخيصة(48)". ونافس الجمهور الإنجليزي في تصفيقهم وهتافهم البنادقة الذين صفقوا وهتفوا لأوبرا "أجربيينا" قبل ذلك بأحد عشر عاماً. وهكذا غدا هندل مرة أخرى بطل لندن.

ولكن البطولة شاب تمامها نقصان. ذلك أن جماعة منافسة من عشاق الموسيقى، يتزعمهم إيرل بيرلنتن الراعي الأسبق لهندل، فضلوا عليه جوفاني باتيستا بونونتشيني. فأقنعوا الأكاديمية الملكية للموسيقى بأن تفتتح موسمها الثاني بأوبرا بونونتشيني "آستارتو" (19 نوفمبر 1720)، وضمنوا لدور البطل فيها مغنياً سوبرانو كان الآن معبوداً للجماهير أكثر من نيكوليني. وكان لـ "سنسينو" هذا "فرانتيشسكو برناردي)، الكريه الطباع، الساحر الصوت،الفضل في انتصار أوبرا آستارتو والوصول بعروضها إلى العشرة. أما المعجبون ببونونتشيني فقد أشادوا به موسيقياً أعظم من هندل. ولم يكن أحد هذين المؤلفين مسئولاً عن الحرب التي قسمت الآن جمهوراً الأوبرا اللندني إلى فريقين متخاصمين، ولكن لندن كانت في ذلك العام، عام انفجار فقاعة بحر الجنوب، عصبية كباريس. أما الملك والأحرار ففضلوا هندل، وأما ولي العهد والمحافظون فناصروا بونونتشيني، واحتشد الظرفاء وكتاب الكراريس لدخول المعركة.. وبدا أن بونونتشيني قد أثبت تفوقه بأوبرا جديدة سماها "كريسبو" (يناير 1722) وفقت توفيقاً حمل الأكاديمية على أن تتبعها بنصر آخر لبونونتشيني هي "جريزلدا". فلما مات ملبره العظيم (في يونيو) اختير بونونتشيني، لا هندل، ليؤلف النشيد الجنائزي، ونفحت ابنة الدوق هذا الإيطالي معاشاً سنوياً قدره خمسمائة جنيه. لقد كان ذلك العام عام بونونتشيني.

ورد هندل بأوبرا "أوتوني" ومغنية سوبرانو جديدة أغراها من إيطاليا بضمان لم يسبق له نظير مقداره ألفا جنيه. وكانت هذه المغنية، واسمها فرانتشسكا كوتزوني، كما رآها هوراس ولبول، "قصيرة سمينة، لها وجه عجيني القوام نزق، وبشرة ناعمة رقيقة، ممثلة غير قديرة، سيئة الهندام، غبية، شاطحة الأحلام(49)"، ولكنها كانت تصدح بصوت ساحر. وقد حفلت "بروفاتها" بصراع الإرادات والطباع الحادة. قال لها هندل "أعرف جيداً أنك شيطانة حقيقية، ولكنني أنا نفسك أريدك أن تعرفي أنني بعلزبول (رئيس الشياطين)". فلما أصرت على غناء لحن مخالفة لتعليماته، أمسك بها وهدد بأن يقذفها من النافذة(50). ولما كانت الألفان من الجنيهات ستتبعانها، فإنها أذعنت لأمره. وفي حفلة الافتتاح (12 يناير 1723) أبدعت الغناء حتى صاح أحد المتحمسين من المقاعد الرخيصة وسط غنائها "على اللعنة في أن بطنها عشاً من البلابل(51)". وقد نافسها سنسينو، وأعانها "باصو" بوسكي. وفي الليلة الثانية بيعت الكراسي بزيادة قدرها خمسة جنيهات. وفي نحو هذه الفترة كتب جون جاي إلى جوناثان سويفت يقول:-

"أما التسلية المسيطرة على المدينة فهي الموسيقى دون سواها؛ هي الكمانات والفيولات الجهيرة والأبواب الواقعية، لا القياثير والمزامير الشعرية. ولا يسمح لأحد بأن يقول "أنا أغني" إلا إذا كان خصياً أو امرأة إيطالية. وكل إنسان أصبح الآن حكماً عظيماً في الموسيقى كما كان الناس في أيامك حكاماً من الشعر؛ والقوم الذين لم يكونوا يستطيعون التمييز بين نغمة وأخرى يتشاجرون الآن كل يوم على الأساليب المختلفة التي ينتهجها هندل، وبونونتشيني، وأتيليو "أريوستي)... وفي لندن وستمنستر، في كل حديث مهذب، يجمع الرأي على أن سنسيئو هو أعظم رجل ظهر في الوجود(52)".

ثم اشترى هندل بعد أن صعد نجمة ثانية بيتاً في لندن (1723) وأصبح مواطناً بريطانياً (1727). وواصل حرب الأوبرا حتى 1728. ونبش التاريخ بحثاً عن الموضوعات، فعرض على المسرح فلافيوس، وقيصر، وتيمورلنك، وسكبيو، والاسكندر، ورتشارد الأول. ورد بونونتشيني باستياناكس، وارمينيا، وفارناسس، وكلبورنيا؛ ولحن وارتاجزرسيس، ودارا؛ ولم يسبق في أي عهد أن لحن التاريخ على هذا النحو المتناغم. وفي 1726 ازداد وطيس الصراع الثلاثي بوصول فاوستينا بوردوني، وهي مغنية نصف-سوبرانو، دانت لها قبل ذلك البندقية ونابلي وفيينا. صحيح أنها لم توهب نبرات كوتزوني الرقيقة العذبة، ولكنها وجدت لصوتها سنداً من وجهها وقوامها ورشاقتها. وفي أوبرا "اليساندرو" (5 مايو 1726) جمع هندل بين المغنيتين، وأعطاهما عدداً متساوياً من الألحان المنفردة، ووازن بينهما بعناية في لحن ثنائي، وصفق لها السامعون معاً بضع أمسيات، ثم انقسموا فريقين، فكان فريق يصوت سخرية بينهما الآخر يصفق استحساناً، وهكذا أضيف بعد جديد لحرب الأنغام. وفي 6 يونيو 1727 حين غنت المغنية الأولى في أوبرا بونونتشيني "اتسايناتي" انفجر أنصار كوتزوني محدثين جلبة شائنة من صفير الاستهجان وصيحات الاستنكار حين حاولت بوردوني الغناء. واندلع القتال في قاعة الصالة وسرى إلى خشبة المسرح، وشاركت فيه مغنيتا الأوبرا وراحت الواحدة منهما تشد شعر الأخرى، وحطم النظارة مناظر المسرح مبتهجين-وكل هذا في حضرة كارولين، أميرة ويلز، وهي شاعرة بالخزي والمهانة.

ولعل "قياس الخلف" هذا كان وحده كافياً لقتل الأوبرا الإيطالية في إنجلترا. أما الضربة القاضية فقد كالها لها واحد من أرق الناس في لندن. ففي 29 يناير 1728، قدم جون جاي "أوبرا الشحاذ" في مسرح لنكولنز أن فيلدز. وقد وصفتا أغانيها المرحة الذكية البذيئة، ولكن الذين سمعوها تغني على أنغام الموسيقى التي وضعها أو اقتبسها يوهان بيبوش-هؤلاء فقط هم الذين في وسعهم أن يفهموا لم تحول جمهور المسارح بجملته تقريباً عن هندل وبونونتشيني وأريوستي، إلى بيبوش وبوللي وجاي، وظلت "أوبرا الشحاذ" تمثل الليلة تلو الليلة طوال تسعة أسابيع، بينما راحت "سيرانات" مسرح صاحب الجلالة وخصيانه يغنون لكراسي خاوية. ثم إن جاي كان قد هجا الأوبرا الإيطالية وسخر من حبكاتها البلهاء، وهزأ بالارتعاشات و "الشخلعات" في غناء المغنين والمغنيات السوبرانو، واتخذ اللصوص والشحاذين والمومسات شخوصاً للتمثيلية بدلاً من الملوك والنبلاء والعذارى والملكات، وعرض القصائد الشعبية الإنجليزية أغاني أفضل من الألحان الإيطالية. وابتهج الجمهور بالألفاظ التي يستطيع فهمها، خصوصاً إذا كانت مكشوفة بعض الشيء. ورد هندل بمزيد من الأوبرات-سيروي، وطولوميو ملك مصر (1728) وقد حظيت كلتاهما بلحظات مجيدة ولكنهما لم تأتيا بربح. وفي 5 يونيو شهرت الأكاديمية الملكية للموسيقى أفلاسها ولفظت أنفاسها الأخيرة.

على أن هندل لم يسلم بالهزيمة. فبعد أن هجره النبلاء الذين لاموه على خسائرهم، كون مع هيديجر (يونيو 1728) "الأكاديمية الجديدة للموسيقى"، وأنفق عليها عشرة آلاف جنيه-وهي كل مدخراته تقريباً-وتلقى مع الملك الجديد، جورج الثاني، وعدا بألف جنيه في العام معونة له. وفي فبراير انطلق إلى القارة في رحلة أخرى ليجند مواهب جديدة، لأن كوتزوني وبوردوني وسنسينو ونيكوليني وبوسكي، هجروا سفينته المشرفة على الغرق وراحوا يغنون للبندقية. واستخدم هندل بدلاً منهم ديوكا وبلابل جدداً. أنطونيو برناكي السوبرانو، وأنيبالي فابري التينور، وآنا ماريا سترادا ديل بو السوبرانو. وفي رحلة عودته توقف ليزور أمه آخر مرة. وكانت يومها في التاسعة والسبعين، عمياء مشلولة تقريباً. وبينما كان في هاله زاره فلهلم فريدمان باخ، الذي أتاه بدعوة لزيارة ليبزج، حيث عرضت قبيل ذلك أول مرة "آلام المسيح كما رواها متى البشير". واضطر هندل إلى رفض الدعوة. فهو لم يسمع بيوهان سباستيان باخ إلا لمالماً، ولم يخطر بباله قط أن شهرة هذا الرجل ستحجب شهرته يوماً ما. وهرول قافلاً إلى لندن، والتقط في طريقه الباصو الهامبورجي يوهان ريمنشنيدر.

وظهرت الفرقة الجديدة في أوبرا "لوتاريو" في 2 ديسمبر 1729 دون أن تلقى نجاحاً. وجرب حظه ثانياً في 24 فبراير بأوبرا "بارتنوبي"، فلم يوفق. وأعيد برناكي وريمنشنيدر إلى القارة، واستدعى سنسينو ثانية من إيطاليا، وبفضله هو وسترادا ديل بو، ونص كتبه متاستاسيو، اجتذبت أوبرا هندل "بورو" أسماع لندن (2 فبراير 1731)، وكان قد خلع على هذه الأوبرا طائفة من أعظم ألحانه تأثيراً. وامتلأ مسرح صاحب الجلالة براوده مرة أخرى. واستقبلت أوبرتان أخريان، هما "ايتسيو" و "سوزارمي" استقبالاً طيباً.

ولكن الكفاح للإبقاء على جمهور إنجليزي بأوبرا إيطالية أخذ يصبح أشد عسراً. وقد بدأ الآن أنه طريق مسدود ينتهي دائماً بالإنهاك البدني والمالي. لقد قهر هندل إنجلترا، ولكن إنجلترا بدت قاهرته الآن، فلقد كانت أوبراته شديدة التشابه، مصيرها المحتوم إلى الضعف والهزال. ولقد سمت بها الألحان الرائعة، ولكن هذه الألحان إنما كانت موصولة بالحبكة وصلاً هزيلاً، وكانت بلغة غير مفهومة مهما كان فيها من انسياب رقيق، وكثير منها لحن للسوبرانو من الرجال، وهؤلاء ازداد العثور عليهم صعوبة. وتحكمت القواعد الجامدة والغير بين الفنانين في توزيع الألحان، وزادت من افتعال القصة. ولو أن هندل واصل السير على الخط الإيطالي لكاد يصبح النوم نسياً منسياً. على أن سلسلة من المصادفات انتزعته انتزاعاً من دربه المطروق ووجهته إلى الميدان الذي سيظل فيه نسيج وحده حتى في أعين زماننا هذا.

هزيمته

في 23 فبراير 1732، وفي حانة "التاج والمرساة" عرض برنارد جيتس، احتفالاً بعيد ميلاد هندل السابع والأربعين، أوراتوريو هندل "استير" عرضاً خاصاً. وقد اجتذبت جمهوراً مجزياً أغرى جيتس بتكرار عرضها مرتين-مرة لجماعة خاصة، ومرة (في 20 أبريل) للجمهور. وكان هذا أول أداء علني في إنجلترا. واقترحت الأميرة آن عرض "استير" بمسرح جلالة الملك وتزويدها بالملابس والمناظر والحركة، ولكن أسقف لندن أحتج على تحويل الكتاب المقدس إلى أوبرا. فاتخذ هندل الآن قراراً من أهم القرارات في حياته، وأعلن أنه سيخرج "قصة استير المقدسة" "أوراتوريو بالإنجليزية" في مسرح هيماركت في 2 مايو، ولكنه أضاف أنه "لن يصاحب الأداء حركة على المسرح"، وأن الموسيقى "ستؤدي بطريقة حفلة التتويج الدنية"، وهكذا فرق بين الأوراتوريو والأوبرا. وجاء بكورسه وأوكستراه، وعلم لاسترادا والإيطاليين الآخرين أن يغنوا أغانيهم المنفردة بالإنجليزية. وحضرت الأسرة المالكة، واحتملت "استير" عروضاً خمسة في أول شهر لها.

وأخفقت أوراتوريو أخرى سماها "أسيس وغلاطية" (10 يونيو) في إرضاء مشاهديها، وارتد هندل إلى الأوبرا. فعرضت أوبرا "أورلاندو" (27 يناير 1733) فترة طيبة، ولكن حتى مع هذا التحسن، واجهت شركته مع هيديجر الإفلاس. فلما أخرج هندل الأوراتوريو الثالثة "دبوره" (17 مارس) حاول أن يستعيد كفايته المالية بمضاعفة أجر الدخول. ونددت رسالة غفل من التوقيع موجهة إلى صحيفة "كرافتسمان" بهذا الإجراء، ودعت للثورة على سيطرة "المستر هندل الوقح... المستبد، المسرف(53)" على موسيقى لندن. ولما كان هندل قد ظفر برعاية الملك، فقد فقد أتوماتيكياً مودة فردريك، أمير ويلز، وابن جورج الثاني وعدوه. وأخطأ هندل-الذي كثيراً ما خضع سلوكه لحدة طبعه-بالإساءة إلى جوزف جوبي، الذي كان يعلم الرسم لفردريك؛ وثأر جوبي لنفسه برسمه كاريكاتوراً للموسيقى ظهر فيه مخلوقانهما متوحشاً له خطم خنزير بري؛ ووزعت نسخ من الرسم في أرجاء لندن فأضافت إلى تعاسة هندل. وفي ربيع 1733 شجع أمير ويلز حاشيته على تأليف فرقة منافسة سميت "أوبرا الأشراف". واستقدمت الفرقة من نابلي أشهر معلمي الغناء في ذلك العهد، وهو نيكولو بوربورا، وأغرت سنسينو بترك هندل، وكوتزوني بالمجيء من إيطاليا؛ وفي 29 ديسمبر، وفي مسرح لنكولنز أن فيلدز، أخرجت أوبرا بوربورا "آريانا" التي لقيت استحساناً عظيماً. أما هندل فقد قابل هذا التحدي الجديد بأوبرا تناولت موضوعاً مشابهاً مشابهة تنطوي على التحدي، "آريانا في كريت" (26 يناير 1734)، فلقيت هي أيضاً استقبالاً حسناً. ولكن في نهاية الموسم انتهى عقده مع هيديجر، وأجر هيديجر مرح جلالة الملك لأوبرا الأشراف، ونقل هندل فرقته إلى مسرح كوفنت جاردن الذي يملكه جون رتش.

وانتقم بوربورا بدعوة كارلو بروسكي، أشهر المغنين الخصيان، المعروف لأوربا كلها باسم "فارينللي". وقد نفصل الحديث عن غناء هذا الرجل حين نلتقي به في وطنه بولونيا، وحسبنا هنا أن نقول أنه حين انضم إلى سنسينو وكوتزوني في أوبرا بوربورا "أرتازرسي" كان ذلك حدثاً في تاريخ إنجلترا الموسيقي، وأعيد عرض الأوبرا أربعين مرة في السنوات الثلاث التي مكثها فارينللي-وقابل هندل بأوبرا "أريودانتي" (8 يناير 1735)، وهي من أروع أوبراته، غنية غنى فريداً في موسيقاها الآلية، وقد ظفرت بعشرة عروض في شهرين، ووعدت بأن تغطي نفقات هندل. ولكن حين أخرج بوربورا أوبرا "بوليفيمو" (أول فبراير) التي لعب فيها فارنيللي دور البطل، لم يستطع الملك ولا الملكة ولا الحاشية أن يمتنعوا عن مشاهدتها، وفاقت في مرات عرضها "أرتازيرسي"، بينما لم تلبث أوبرا هندل "التشينا" (16 أبريل) أن أقفر مسرحها من رواده-ولو أن ألحاناً أوركسترالية متتابعة (سويت) من موسيقاها لا تزال تظهر على البرامج اليوم. واعتزل هندل ساحة القتال نصف سنة ليطبب آلامه الروماتزمية بمياه ينابيع تنبردج.

وفي 19 فبراير عاد إلى كوفنت جادرن بأوراتوريو لحنها القصيدة درايدن "وليمة الاسكندر". كتب معاصر أن جمهور الألف والثلاثمائة مشاهد الذين ملأوا المسرح استقبلوا الأوراتوريو بصفيق "ندر أن سمع في لندن(54)". وتعزى هندل بربح منها بلغ 450 جنيهاً، ولكن القصيدة كانت أهزل من أن تحتمل إعادة عرضها أكثر من أربع مرات، رغم أن هندل قام بعزف مثير على الأرغن في فترة الاستراحة، وانقلب المؤلف-المخرج-القائد-العازف اليائس من الأوبرا من جديد. وفي 12 مايو قدم "أطلانطا" مسرحية رعوية تحتفل بزواج أمير ويلز. وكان قد دعا من إيطاليا مغنياً خصياً جديداً يدعى جيتسيللو (جواكينو كونتي) لغناء السوبرانو، وخص دوره بلحن (كاري سلفي" وهو من أجمل وأخلد أغانيه. وبلغ من سرور فردريك أنه نقل رعايته من فرقة بوربورا إلى فرقة هندل، ولكن هذا النصر كدر إلغاء الملك لتبرعه السنوي بألف جنيه لمشروع هندل حين سمع بالخطوة التي اتخذها ابنه.

وكف بوربورا عن المعركة في ربيع 1736. وملأ هندل مسرحه بمناوبة الأوبرا مع الأوراتوريو، وأضاف إلى فرقة "جوستينو" (16 فبراير 1737) "الدببة، والحيوانات الغريبة، والتنانين التي تقذف النار(55)". ولكن الجهد الذي اقتضته مسئولياته المنوعة حطمه. وفي أبريل أصابه انهيار عصبي، ونقطة شلت ذراعه اليمنى فترة. وفي 18 مايو عرض "برينيتشي"، آخر أوبرا كتبها لفرقته. ثم أغلق مسرحه في أول يونيو مثقلاً بديون كثيرة، متعهداً بالوفاء بها جميعاً كاملة، وقد فعل. وبعد عشرة أيام حلت "أوبرا الأشراف" المنافسة له، مثقلة بدين قدره اثنا عشر ألف جنيه. وهكذا انتهى عصر الأوبرا العظيم في إنجلترا. وكانت صحة هندل من بين ما تخلف من حطام. فالروماتزم في عضلاته، والتهاب المفاصل في عظامه، والنقرس في أطرافه-هذه كلها تفاقمت في صيف 1737 بنوبة جنون عارضة(56). فغادر إنجلترا ليستشفي بمياه آخن. وكتب السرجون هوكنز يقول إنه هناك: "أحتمل من إفرازات العرق التي بعثتها حمامات البخار ما أدهش كل إنسان. وبعد بضع محاولات من هذا النوع، بدأت معنويته خلالها ترتفع ولا تهبط من أثر العرق الغزير، فارقه اضطراب عقله، وبعد بضع ساعات.. .. ذهب إلى كنيسة المدينة الكبرى، ووصل إلى الأرغن، ثم عزف عليه عزفاً جعل الناس يعزون شفاءه إلى المعجزة(57)".

بلوك طوابع بريدية من جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1985) يخلد باخ وهاندل وشوتس.

وفي نوفمبر عاد إلى لندن، وإلى الكفاية المالية وأسباب التشريف. وكان هيديجر قد عاد ثانية إلى مسرح صاحب الجلالة. ونقد هندل ألف جنيه لقاء أوبراتين، واحتوت إحداهما وهي "سرسي" (15 أبريل 1738) على اللحنين المشهورين "لارجو" و "أومبرا مايفو". ودفع مستأجر حدائق فوكسهول إلى روبياك ثلاثمائة جنيه لينحت تمثالاً يظهر فيه الموسيقى وهو يداعب أوتار قيثارة؛ وفي 2 مايو أزيح الستار عن هذا التمثال الثقيل الوقفة، الغبي التعبير، في الحدائق في حفلة موسيقية. ولا بد أن هندل قد سره أكثر من هذا تلك الحفلة التي أعين بها في 28 مارس، والتي أتت بكثير من ألف جنيه. فدفع الآن ديون أعجل دائنيه، وكان أحدهم يهدد بإيداعه سجن المدينين. ولكنه كان مشرفاً على الإفلاس برغم كل تشريف. ولم يستطع أن يتطلع بعد ذلك إلى هيديجر، الذي أعلن (24 مايو) أنه لم يتلق من الإكتتابات ما يتيح له إخراج أوبرات في 1738-39. هنا، ودون تكليف ولا فرقة، بدأ هندل أعظم أطواره، وهو في الثالثة والخمسين، والأوصاب والأوجاع تهز بدنه.

الأوراتوريو

نشأ هذا الشكل الجديد نسبياً من كورالات العصور الوسطى التي تمثل أحداثاً في التاريخ المدون في الكتاب المقدس أو حية القديسين. وكان القديس فليب نيري قد خلع على هذا الشكل اسمه بتفضيله إياه وسيلة للعبادة التعليم الديني في مصلى آباء الأوراتوريو في روما. وطور جاكومو كاريسمي وتلميذه اليساندرو سكارلاتي الأوراتوريو في إيطاليا، ونقلها هنريس شوتس من إيطاليا إلى ألمانيا، وبلغ رينهارت كيزر بهذا اللون شأوا بعيداً قبل موته (1739). وهذا هو التراث الذي بلغ غايته في "مسيا" Messiah هندل عام 1741.

والفضل في نجاح هندل يرجع بعضه إلى توفيقه بين هذا الشكل وبين الذوق الإنجليزي. وقد واصل اختيار موضوعات الأوراتوريو من الكتاب المقدس، ولكنه أضفى عليها بين الحين والحين عنصر تشويق غير ديني، كما فعل في موضوع الحب في "يوسف واخوته". وفي "يفتاح"؛ وركز على الطابع الدرامي لا الديني، كما فعل في "شاول" و "إسرائيل في مصر"؛ واستعمل نصاً إنجليزياً خالصاً، أخذ جزءاً منه فقط من الكتاب المقدس. لقد كانت في جزء كبير منها موسيقى دينية، ولكنها مستقلة عن الكنائس والطقوس. وقد مثلت على مسرح تحت رعاية علمانية. يضاف إلى هذا أن هندل استخدم الموضوعات الكتابية ليرمز بها للتاريخ الإنجليزي، فإسرائيل ترمز إنجلترا، وتمرد 1642 الكبير وثورة 1688 المجيدة يمكن سماعها في كفاح اليهود للتحرر من ربقة المصريين (أسرة ستيوارت) والسيطرة الهلنستية (الغالية)؛ ولم يكن الشعب المختار في حقيقته سوى الأمة الإنجليزية، وإله إسرائيل هو نفسه الإله الذي قاد الشعب الإنجليزي إلى النصر بعد المحن. وكانت فكرة هندل عن الله أشبه بفكرة البيورتان، فهو "يهوه" إله العهد القديم الجبار، لا إله الآب كما يصور العهد الجديد(58). وكان هذا إحساس إنجلترا، فاستجابت في فخر لأوراتوريوات هندل.

بدأ الطريق الصاعد إلى "المسيا" بأوراتوريو "شاول" التي أخرجت على مسرح صاحب الجلالة في 16 يناير 1739. "إن مارش الموتى المهيب، الجليل، لكفيل وحده بأن يخلد هذا العمل(59)".

ولكن الجمهور لم يعتد شكل الأوراتوريو، لذلك لم تعمر "شاول" أكثر من عشرة عروض. وبهمة لا تصدق ألف هندل وقدم (4 أبريل) آية أخرى من آياته هي "إسرائيل في مصر". هنا جعل الكورس هو البطل، صوت أمة تولد، ووضع موسيقى يعدها الكثيرون أسمى ما كتب(60). ولكن اتضح أنها مترامية عسيرة فوق ما يحتمله الذوق السائد آنئذ، وأنهى هندل موسمه التاريخي بديون جديدة. وفي 23 أكتوبر اندفعت إنجلترا إلى الحرب مع أسبانيا بسبب أذن جنكنز. وفي وسط ضجيج الحرب وصخبها استأجر هندل مسرحاً صغيراً، وفي عيد القديسة راعية الموسيقيين قدم الإطار الموسيقي الذي ألفه لقصيدة درايدن الغنائية التي كتبها بمناسبة "عيد القديسة سيسيليا" (22 نوفمبر 1739) ولم تستطع لندن، حتى في برد تلك الليلة من ليالي الشتاء وفوضاها، أن تقاوم ذلك الاستهلال الرخيم المشرق، أو لحن السوبرانو الأثيري في القسم الثالث، أو "الناي الشاكي الخافت" و "العود الصادح" في الخامس، في حين اتفق "دق الطبل الراعد، ذلك الدق المضاعف المضاعف المضاعف" مع روح الحرب المدمدمة في الشوارع. وعاود الأمل هندل، وجرب أوبرا سماها "أمينيو" (1740)، ولكنها فشلت، وجرب أخرى اسمها "ديداميا" (1741)، ففشلت هي أيضاً، واعتزل العملاق المرهق المسرح الموسيقي اللندني قرابة عامين.

وكان هذان العامان أروع ما ف حياته. ففي 22 أغسطس 1741 بدأ يؤلف أوراتوريو "المسيا". وقد اقتبس النص تشارلز جيننز من أسفار أيوب والمزامير وأشعياء ومراثي أرميا وحجي وزكريا وملاخي-وكلها من أسفار العهد القديم، ومن أناجيل متى ولوقا ويوحنا، ورسائل بولس، وسفر الرؤيا-وهي من أسفار العهد الجديد. وأتم كتابة الموسيقى في ثلاثة وعشرين يوماً، وقال لصديق إنه في بعض هذه الأيام "حسبتني حقاً أبصر السماء كلها أمامي فعلاً، والله العلي ذاته(61)". وإذ لم يتح له أمل مبكر في العثور على جمهور لها، فقد انتقل إلى كتابة أوراتوريو كبيرة أخرى هي "شمشون"، بناها على قصيدة ملتن عن معاناة شمشون Samson Agonistes وفي تاريخ غير معرف خلال هذه النشوات تلقى دعوة لعرض بعض أعماله في دبلن. وبدا له أن الاقتراح آت من العناية الإلهية التي تقدره حق قدره، ولكن الحقيقة أنه أتى من وليم كافندش، دوق ديفونشير، ونائب الملك في إيرلندة. ووصل إلى دبلن في 17 نوفمبر 1741. واستخدم أفضل من وجد من المغنين، ومنهم سوزانا ماريا كبر، الابنة المثقفة لتوماس آرن، ونظمت عدة هيئات خيرية ست حفلات موسيقية له، نجحت نجاحاً حمله على تقديم لسلة ثانية. وفي 27 مارس 1742 نشرت مجلتان في دبلن إعلاناً جاء فيه:

"رغبة في إغاثة المسجونين في عدة سجون، وإعانة مستشفى ميرسر.. .. سيقدم يوم الاثنين 12 أبريل على قاعة الموسيقى في شارع فيشامبل، أوراتوريو المستر هندل الكبرى الجديدة، المسماه "المسيا". وسيشارك فيها أعضاء الكورس في كلتا الكتدرائيتين، ويعزف المستر هندل بعض الكونشتوات على الأرغن(62)".

وبيعت التذاكر كذلك للبروفات التي ستجري في 8 أبريل، والتي قالت مجلة فوكنر أنها "تؤدي أداءً رائعاً... اعترف منه أعظم الحكام بأنها أبدع لحن موسيقي سمعه الناس إطلاقاً". وأضيف إلى هذا إعلان يؤجل حفلة الاثنين إلى الثلاثاء، ويرجو السيدات "أن يحضرن بغير أطواق لأثوابهن، لأن هذا من شأنه أن يدعم عمل البر، إذ سيفسح المكان لعد أكبر من المحاضرين". وطلبت فقرة أخرى إلى الرجال أن يحضروا بغير سيوفهم. وبهذه الطرق اتسعت قاعة الموسيقى لسبعمائة شخص بدلاً من ستمائة. وأخيراً، وفي 13 أبريل 1742، قدم أشهر الألحان الموسيقية الكبرى قاطبة. وفي 17 أبريل احتوت ثلاثة صحف دبلندية نقداً واحداً: "في يوم الثلاثاء الماضي قدمت أوراتوريو المستر هندل الكبرى المقدسة، "المسيا".. .. وقد اعترف أفضل الحكام بأنها أفضل القطع الموسيقية صقلاً. وتعوزنا الألفاظ للأعراب عن المتعة الفائقة التي أتاحتها للجمهور المزدحم المعجب. وقد تضافرت عناصر السمو والفخامة والرقة، التي واءم بينها وبين أنبل الألفاظ وأجلها وأشدها تأثيراً، لتطرب وتسحر القلب والأذن المسلوبين. ومن الإنصاف لمستر هندل أن يعرف العالم أنه تبرع في سخاء بحصيلة هذه الحفلة الكبرى لتوزع بالتساوي بين جمعية إغاثة المسجونين، ومبرة العجزة، ومستشفى ميرسر، وهو عمل ستذكره له هذه الهيئات بالشكر على الدوام(63)". وأعيد عرض "المسيا" في دبلن في 3 يونيو. وقد أعيدت ألف مرة منذ ذاك التاريخ، ومع هذا فمنذا الذي مل تلك الألحان-سواء الهادئة منها أو الفخمة-، تصاحبها الترانيم الخافتة الرقيقة اللطيفة مثل "سوف يطعم قطيعة" و "أعلم أن فادي حي"، و "ليتمجد اسمه" و "كان مزدري مرفوضاً"؟ لقد حدث والمسز كبر تترنم بهذا اللحن الأخير في أول عرض بدبلن أن صاح قسيسأنجليكاني من بين الحاضرين قائلاً "لتغفر لك خطاياك من أجل هذا أيتها المرأة!" فكل ما في الرجاء الديني من عمق وحرارة، وكل ما في الترتيل الورع من رقة وحنان، وكل ما وهب الموسيقى من فن وعاطفة-كل هذا اجتمع ليجعل من هذه الألحان أرفع اللحظات في الموسيقى الحديثة.

وفي 13 أغسطس غادر هندل دبلن منتعش الروح ممتلئ الجيب ولقد عقد النية على أن يغزو إنجلترا من جديد. ولا بد أنه قد سرى عنه غلو بوب في الثناء عليه في الجزء الرابع من "ملحمة الأغبياء" (1742):

هاهو هندل العملاق يقف قوياً وهو مدجج بسلاح جديد!

مثل برياريوس الشجاع، وله مائة يد (أي الأوركسترا)

يأتي ليحرك ويوقظ ويهز النفوس

ورعود جوبيتر تتبع طبوا مارس

وعليه ففي 18 فبراير 1743، في المسرح الملكي بكوفنت جاردن، قد الموسيقي الذي استعاد شبابه أوراتوريو "شمشون". وكان جورج الثاني على رأس الصفوة اللندنية التي حضرت حفلة الافتتاح. وأبهج الاستهلال الجميل كل إنسان سمعه إلا هوراس ولبول، الذي صمم على ألا يعجب بشيء قط؛ وكان اللحن الرفيع الذي مطلعه "يا رب الجنود" رائعاً روعة تقرب من روعة ألحان المسيا، وكما فعل شمشون الجبار الذي سحق بقوته المحتفلين إذ أسقط عليهم المعبد، فكذلك كان تأثير أوراتوريو "شمشون" ساحقاً على الحاضرين. ولكن حين عرضت المسيا نفسها بعد شهر (23 مارس) على لندن، لم يستطع حتى الملك-الذي أرسي يومئذ تقليداً دائماً بوقوفه عند ترنم الفرقة بلحن "هللويا"-أن ينهض بالأوراتوريو إلى مقام التقبل. فرجال الدين نددوا باستعمال المسرح للموسيقى الدينية، أما النبلاء فما زالوا على صدهم وجراح إخفاق فرقتهم الأوبرالية توجعهم. ولم تعرض المسيا في العامين التاليين إلا ثلاث مرات، ثم توقف عرضها حتى عام 1749. ففي ذلك العام أهدى هندل، الذي كان رجلاً باراً بالإنسانية فيما بين إفلاساته، أرغناً جميلاً لمستشفى اللقطاء الذي كان صديقه هوجارث يحبه حباً جماً، وفي أول مايو 1750 أول عرض من عروض المسيا السنوية لإعانة أولئك البؤساء المحظوظين. وفي 27 يونيو 1743 قاد جورج الثاني جيشه للنصر في معركة ديتنجن. فلما عاد إلى لندن حيته المدينة بالعروض والأضواء والموسيقى، وصدحت الكنيسة الملكية في قصر سانت جيمس بـ "تسبيحة ديتنجن" التي لحنها هندل لهذه المناسبة (27 نوفمبر). وكانت نتاج العبقرية والمقص، لأنها احتوت فقرات مسروقة من مؤلفين أسبق وأقل شأناً من هندل، ولكنها كانت معجزة من معجزات اللصق. وابتهج الملك.

فلما أن تشجع هندل بالابتسامات الملكية، جدد جهوده ليقتنص آذان لندن من جديد. وفي 10 فبراير 1744 قدم أوراتوريو أخرى سماها "سملي" احتوت ترنيمة بديعة اسمها "حيثما سرت" ما زالت تترنم بها إنجلترا وأمريكا، ولكن الأوراتوريو لم تستطع تجاوز عروض أربعة. وظل النبلاء على عدائهم لهندل، وحرصت نبيلات كثيرات على إقامة الولائم المترفة في الأمسيات المقررة للحفلات الموسيقية التي يحييها هندل، واستؤجر الأوباش ليمزقوا إعلاناته. وفي 23 أبريل 1745 ألغى الحفلات الموسيقية الثمان التي أعلن عنها من قبل، وأغلق مسرحه، واعتزل في تنبردج ولز. وأرجفت الشائعات أنه مجنون. كتب حامل لقب ايرل شافتسبري في تلك الفترة يقول (24 أكتوبر) "إن هندل المسكين يبدو أحسن قليلاً، وأرجو أن يتماثل للشفاء تماماً، ولو أن عقله قد اختلط اختلاطاً تاماً(64)". وربما أخطأت الشائعات، لأن هندل الذي بلغ الستين استجاب بكل قواه لدعوة من ولي العهد ليحيي ذكرى انتصار أخي الأمير الأصغر، دوق كمبرلاند، على القوات الإستيوارتية في كالودين. واتخذ هندل انتصار يهوذا المكابي (166-161 ق. م) على خطط أنطيوخس الرابع لقرض الهلنستية على وطنه موضوعاً رمزياً للأوراتوريو الجديدة. وقد أحسن الجمهور استقبالها (أول أبريل 1747) حتى احتملت إعادة عرضها خمس مرات في أول موسم لها. أما يهود لندن الشاكرون هذا الاحتفال النبيل بأحد أبطالهم القوميين، فقد أعانوا على تكثير جمهور النظارة، فمكنوا هندل من تقديم الأوراتوريو أربعين مرة قبل موته. واعترافاً بفضل هذا الدعم الجديد اتخذ أكثر موضعات ألحانه الدينية بعد ذلك من تاريخ اليهود أو أساطيرهم، اسكندر بالوس، ويشوع، وسوسنة، وسليمان، ويفتاح. وعلى عكس ذلك لم تجتذب أوراتوريو "تيودورا"-وهو اسم مسيحي-من الجمهور إلا أقل القليل، حتى لاحظ هندل في مرارة أنه "كان هناك مكان يتسع للرقص" وغادر تشسترفيلد المسرح قبل نهاية العرض معتذراً بأنه "لا يريد إزعاج الملك في خلوته(65)".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بروميثيوس

ليست الأوراتوريو إلا "نوعاً" واحداً من ذلك "الجنس" المسمى هندل. ذلك أن روحه المتعددة الأشكال اتجهت بتوافق تلقائي تقريباً لأي شكل من الأشكال الموسيقية الكثيرة. فالأغاني التي ما زالت تمس أوتار العاطفة، وقطع الأرغن أو البيان المتناهية الرقة، والسوناتات، والمتتابعات، والرباعيات، والكنشرتو، والأوبرا، والأوراتوريو، وموسيقى الباليه، والقصائد الغنائية، والرعويات والكنتاتات، والتراتيل، والأناشيد الوطنية، وتسبيحات الشكر، وترانيم أسبوع الآلام-كل شيء تقريباً إلا السمفونية الوليدة نجده في موسيقاه، منافساً بذلك فيض بيتهوفن أو باخ المتدفق، و"متتابعات الهاربسيكورد" تبدو اليوم على الهاربسيكورد وكأنها أصوات أطفال سعداء لم يعرفوا التاريخ بعد. وهناك مجموعة ثانية من المتتابعات بدأ بذلك الاستهلال الذي لعب به الموسيقى برامز لعباً مرحاً في "تنويعات وفوجه على موضوع لهندل".

وكما أخذ هندل الأوراتوريو عن كاريسيمي وكايزر وارتفع بها إلى أوجهاً، كذلك أخذ عن توريللي وكوريللي "الكونشرتو الكبير"-لآلتين أو أكثر لمغن واحد أو مغنيين مع أوركسترا صغير (أوركسترا الحجرة). وفي مجموعته الموسيقية السادسة ترك اثني عشر من هذه الكونشرتوات الكبيرة، مقابلاً كمانين وفيولنتشيللو بمجموعة وترية، وبعضها يبدو لنا اليوم رتيباً، وبعضها يقرب من كونشرتو براندنبورج لباخ. كذلك نجد في هندل كونشرتوات ممتعة لآلة منفردة-الهاربسيكورد أو الكمان، أو الفيولا، أو الأوبرا، أو الهارب. أما تلك المخصصة للوحات المفاتيح فكان يؤديها هندل بنفسه في المقدمات أو الفواصل. وكان أحياناً يترك متسعاً في موسيقى الكونشرتو لما يجب أن نسميه اليوم "ارتجالاً" cadenza، حيث يستطيع العازف أن يطلق العنان لخياله ويظهر براعته. وكانت ارتجالات هندل في مثل هذه الافتتاحات أعاجيب تحدث الناس بها طويلاً.

وفي يوليو 1717 نظم جورج الأول "رحلة" ملكية في ذهبيات حفلت بالزينات على نهر التيمز. وتكشف صحيفة "الديلي كورنت" عدد 19 يوليو 1717 عن هذا المشهد فتقول:

"في مساء الأربعاء حوالي الثامنة نزل الملك إلى النهر عند هوايتهول في ذهبية مكشوفة، كان فيها أيضاً دوقة نيوكاسل، وكونتيسة جودولفن، ومدام كيلمانسيك، وايرل أوكني، وصعدوا في النهر جنوب تشلسي. ورافقتهم ذهبيات كثيرة أخرى يستقلها بعض علية القوم، وزوارق كبيرة العدد بحيث غطت صفحة النهر تقريباً. وخصص زورق فرقة موسيقية من فرق المدينة لعزف الموسيقى، زود بخمسين آلة من جميع الأنواع، عزف عليها العازفون طوال الطريق من لامبث.. .. أبدع السمفونيات، التي لحنها المستر هندل خصيصاً لهذه المناسبة وأعجبت جلالته جداً حتى طلب عزفها أكثر من ثلاث مرات في الذهاب والإياب(66)".

وهذه هي "موسيقى الحياة"، التي هي اليوم أبقى وألذ ما تخلف من مؤلفات هندل الآلية. ويبدو أنه كان هناك في الأصل إحدى وعشرون حركة-وهو عدد أكبر من أن يحتمله المستمعون العصريون الذين تعوزهم الذهبيات والوقت، ونحن لا نستمع عادة لأكثر من ست. وبعضها متعبة بعض الشيء في تطوافها المشجي، ولكن أكثرها موسيقى صحية مرحة متألقة، كأنها متدفقة من ينبوع لتهديد خليلات الملك. و "موسيقى المياه" أقدم قطعة موسيقية في الذخيرة الأوركسترالية الحالية.

وبعد جيل كامل، ومن أجل جورج ثان، أضفى هندل الكرامة على مناسبة خلوية أخرى. ذلك أن الحكومة قررت إقامة عرض للألعاب النارية في جرين بارك احتفلا بصلح اكس-لا-شابل، ووكلت هندل بتأليف "موسيقى الألعاب النارية الملكية". فلما عزفت بروفا هذه الموسيقى في حدائق فوكسهول (21 أبريل 1749)، دفع اثنا عشر ألف شخص مبلغ الشلنين-الكبير في ذلك الوقت-للاستماع إليها؛ وبلغ التزاحم مبلغاً عطل المرور على الطريق الذي يعبر كوبري لندن ثلاث ساعات-"ولعل هذا كان أروع ثناء ظفر به أي موسيقي على الإطلاق(67)". وفي 27 أبريل شق نصف سكان لندن طريقهم إلى جرين بارك، واقتضى الأمر هدم ست عشرة ياردة من سوق الحديقة لتمكينهم من الدخول في الميعاد. وعزفت "فرقة" من مائة موسيقي لحن هندل، وتألقت الألعاب النارية في السماء،وشبت النار في مبنى أقيم لهذه المناسبة، فذعر الجمع المحتشد وأوذي كثيرون ومات شخصان. ولم يبق من المهرجان إلا موسيقى هندل. وإذ كان هدف هذه الموسيقى أن تخلد حرباً ظافرة وأن تسمع عن بعد فقد كانت عبارة عن دوي هتافات وطنين طبول أشد ضجيجاً مما تحتمله الأذن التي ألفت الحركة البطيئة. ولكن فيها حركة بطيئة جداً تقع وقعاً محموداً على الأعصاب المرهقة.

وانتهت إنجلترا آخر الأمر إلى محبة الألماني العجوز الذي ناضل جاهداً ليكون إنجليزياً. لقد فشل في نضاله، ولكنه حاول، حتى إلى حد السب والشتم بالإنجليزية. وتعلمت لندن أن تغتفر له بدانته الهائلة، ووجهه العريض وخديه المنتفخين، وساقيه المقوستين ومشيته الثقيلة، ومعطفه القرمزي المخملي، وعصاه الذهبية المقبض، وعجبه وتعاليه؛ لقد كان لهذا الرجل بعد كل المعارك التي خاضها الحق في الظهور بمظهر الفاتح، أو على الأقل بمظهر اللورد، نعم كان في سلوكه جلافة، وكان يدرب موسيقييه بالحب والغضب، ويوبخ جمهور المستمعين على كلامهم خلال البروفات، ويهدد مغنياته باستعمال العنف، ولكنه غلف عنفه بالفكاهة. فلما التحمت كوتزوني وبوردوني بالأيدي على خشبة المسرح قال هدوء "اتركوهما لتنهيا المعركة"، وراح يدق لحناً مصاحباً مرحاً على النقاريات ليرافق سورة غضبهما(68). ولما هدده مغن بالوثب على الهاربسيكورد لأنه عزف هندل المصاحب اجتذب السامعين أكثر من غناء المغني، طلب إليه هندل أن يحدد تاريخ هذه التمثيلية المقترحة للإعلان عنها قائلاً أن "الذين سيأتون ليروك تقفز أكثر من الذين سيأتون ليسمعوك تغني(69)". وكانت ملاحظاته الظريفة تعدل في براعتها تعليقات جوناثان سويفت، ولكن الاستمتاع بها كان يقتضي الإلمام بأربع لغات.

وفي 1752 بدأ يفقد بصره. فبينما كان يكتب "يفتاح" اختلطت الرؤية أمام عينيه حتى اضطر إلى الكف عن الكتابة. وفي المخطوطة الأصلية المحفوظة بالمتحف البريطاني أخطاء عجيبة-"سيقان رسمها بعيدة بعض الشيء عن النوتات التي تنتمي إليها، ونوتات واضح أنها ضلت طريقها(70)". وفي أسفل الصفحة سطر كتبه المؤلف "إلى هنا وصلت، الأربعاء 13 فبراير. منعتني عيني اليسرى من الاستمرار". وبعد عشرة أيام كتب على الهامش "23 فبراير، حالتي أحسن قليلاً. استأنفت العمل". ثم ألف موسيقى لهذه الكلمات "فرحنا يضيع في الحزن... كما يضيع النهار في الليل(71)".وفي 4 نوفمبر كتبت صحيفة "الجنرال أدفرتيرز": "بالأمس أعد "لعملية السد أو الكتركت) السيد جورج فردريك هندل التي يجريها له الطبيب وليم برومفيلد جراح سمو أميرة ويلز". وبد أن الجراحة نجحت، ولكن في 27 يناير 1753 أعلنت جريدة لندنية أن "المستر هندل كيف بصره في النهاية تماماً لسوء الحظ". على أن التقارير اللاحقة تشير إلى أنه احتفظ ببصيص من النور حتى موته.

وواصل التأليف والقيادة سبع سنين أخر. فقدم في ستة أسابيع (23 فبراير إلى 6 أبريل 1759) حفلتين عرض فيهما "سليمان"، وحفلة عرض فيهما "شمشون" واثنتين "يهوذا المكابي" وثلاثاً "المسيا". ولكن بينما كان يغادر المسرح عقب حفلة عرض المسيا في 6 أبريل وقع مغشياُ عليه، واقتضى الأمر حمله إلى بيته. فلما أفاق كان دعاؤه أن يفسح له في الأجل أسبوعاً آخر. "أريد أن أموت في يوم الجمعة الكبيرة، رجاء أن ألحق بالآلة الصالح، ربي ومخلصي الحبيب، في يوم قيامته(72)". وأضاف إلى وصيته ملحقاً أوصي فيه بألف جنيه لجمعية إعانة الموسيقيين العجزة وعائلاتهم، وبمبالغ كبيرة لثلاثة عشر صديقاً، وإلى "خادماتي راتب سنة لكل واحدة". ومات في سبت النور (عشية القيامة)، 14 أبريل 1759، ودفن في دير وستمنستر في 20 أبريل، في مشهد من "أعظم حشد للبشر من جميع الرتب رؤى في مثل هذه المناسبة بل وفي أي مناسبة أخرى(73)".

ولقد ترك ثروة موسيقية لا تضارع، ستاً وأربعين أوبرا، واثنين وثلاثين أوراتوريو، وسبعين مقدمة، وإحدى وسبعين كنتاتاً، وستة وعشرين كونشرتاً كبيراً، وثمانية عشر كونشرتاً للأرغن، وكثيراً وكثيراً غير هذا بحيث يملأ كل هذا مائة مجلد ضخم، تكاد تعدل أعمال باخ وبيتهوفن مجتمعة. وكان بعض هذا التراث مكرراً، وبعضه مسروقاً، لأن هندل سطا على موسيقى تسعة وعشرين مؤلفاً على الأقل دون إقرار بفضلهم ليستعين بهم على الوفاء بمواعيده(74)، مثال ذلك أن المينيوويت في مقدمة "شمشون" أخذت أنغامها نصاً من أوبرا كلوديوس لكايزر.

ومن العسير تقدير هندل بقدره الصحيح، لأنه لا يعرض علينا اليوم إلا اليسير من أعماله. أما الأوبرات، فإنها باستثناء بعض الألحان الساحرة لا سبيل إلى بعثها، فقد وضعت ضمن نماذج إيطالية ذهبت ولا أل في رجوعها فيما يبدو، ونصوص موسيقاها الموجودة الآن ناقصة، وهي تستعمل رموزاً واختصارات أكثرها غير مفهوم الآن، وقد كتبت لأوركيسترات يختلف تكوينها عن تكوين أوركستراتنا اختلافاً تاماً، ولأصوت لجنس ثالث مختلف كل الاختلاف عن المتوسط من أجناس عصرنا. وتبقى بعد ذلك موسيقى الكونشرتو الشبيهة بأرض صيد سعيدة تحوي كنوزاً منسية، و "موسيقى المياه"، والأوراتوريوات-ولكن حتى هذه الأوراتوريوات "عتيقة"، لأنها كتبت لإنجليز يعدون للمعركة ويهود شاكرين؛ وتحتاج تلك الكوارس الضخمة والحركات الصوتية المتكاثرة إلى معدة ضليعة في الموسيقى لتهضمها-وإن كان مما يبهجنا أن نسمع "يفتاح" و "إسرائيل في مصر" من جديد. ويخبرنا الموسيقيون أي في الأوراتوريوات المهملة فخامة ووقاراً، وسموا في الوجدان، وقوة في التصوير والتعبير والدراما، وتنوعاً وبراعة في التقنية التركيبية، لم يدركها أحد بعده في ذلك اللون من التأليف الموسيقى. وقد عاشت "المسيا" إلى اليوم رغم ما شبها من تكرار وتقطيع أوصال لأنها من جهة تصون وتدخر أهم العقائد المسيحية العزيزة حتى على من تنكروا لها، ولكن أهم من ذلك أن ألحانها العميقة و "قراراتها" المعبرة عن الانتصار تجعلها في جملتها أعظم تأليف مفرد في تاريخ الموسيقى.

وقد أدركت إنجلترا عظمته بعد موته، فلما اقتربت ذكرى ميلاده انضم النبلاء الذين كانوا يخاصمونه من قبل إلى الملك والنواب في أحيائها بثلاثة أيام من موسيقاه. ولما كان مولده في 1684 طبقاً للتقويم الإنجليزي، فقد أقيمت أول حفلة في 26 مايو 1784 بدير وستمنستر، والثانية والثالثة في 27 و29 مايو. ولم تكف هذه لتلبية الطلب، فأقيمت حفلتان أخريان في الدير في 3 و5 يونيو. وبلغ عدد المرتلين 274، والعازفين في الأوركسترا 251، وبدأ الآن ذلك التقليد الذي يسبغ على عروض هندل الضخامة العارمة والجلال الطاغي. وأحيت عروض هائلة كهذه احتفالات لاحقة بذكرى مولد هندل، حتى إذا جاء عام 1874 ازداد عدد المشاركين في الأداء حتى بلغ 3.500. وقد ذهب بيرني الذي سمع أحد هذه العروض الكبرى إلى أن ضخامة الصوت لم تنتقص من حلاوة الموسيقى(78). على أي حال كانت هذه أضخم حفلات أقيمت لإحياء ذكرى أي موسيقي كائناً من كان. والآن وقد خفت فورتها فقد يصبح في الإمكان الاستماع إلى موسيقى هندل من جديد.

سنواته الأخيرة

Queen's Theatre on Haymarket by William Capon.


أعماله

عهده

Fireworks in 1749.


A carved marble statue of Handel, created for the Vauxhall Gardens in 1738 by Louis-François Roubiliac, and now preserved in the Victoria & Albert Museum.


تسجيلات

مجموعات وتسجيلات


انظر ايضا

مراجع أولية

قراءات إضافية

  • Dean, W. (2006) “Handel’s Operas, 1726-1741” (The Boydell Press)
  • E.A. Bucchianeri: Handel's Path to Covent Garden: A Rocky Journey: (1st Books / Authorhouse, 2002).

الهوامش

المصادر

قالب:موسوعة قصة الحضارة

  • Burrows, Donald. Handel. Oxford: Oxford University Press, 1994. ISBN 0-19-816470-X
  • Chrissochoidis, Ilias. "Early Reception of Handel's Oratorios, 1732-1784: Narrative – Studies – Documents" (Ph.D. dissertation, Stanford University, 2004), available through UMI.
  • Deutsch, Otto Erich, Handel: A Documentary Biography, 1955.
  • Frosch, W.A., The "case" of George Frideric Handel, New England Journal of Medicine, 1989; 321:765-769, Sep 14, 1989. [1]
  • Harris, Ellen T. (general editor) The librettos of Handel's operas: a collection of seventy librettos documenting Handel's operatic career New York: Garland, 1989. ISBN 0-8240-3862-2
  • Hogwood, Christopher. Handel. London: Thames and Hudson, 1984. ISBN 0-500-01355-1
  • Keates, Jonathan. Handel, the man and his music. London: V. Gollancz, 1985. ISBN 0-575-03573-0
  • Dean, Winton and John Merrill Knapp. Handel's Operas, 1704-1726 (Volume 1) Oxford: Clarendon Press. (1987; 2nd Ed. 1994 (softcover) ISBN 0-198-16441-6
  • Meynell, Hugo. The Art of Handel's Operas The Edwin Mellen Press (1986) ISBN 0-889-46425-1
  • ابراهيم العريس (2010-12-15). "«يوليوس قيصر» لهاندل: التوازن اللطيف بين الشعر والمسرح والموسيقى". جريدة الحياة اللبنانية.

وصلات خارجية

 This article incorporates text from a publication now in the public domainJackson, Samuel Macauley, ed. (1914). "article name needed". New Schaff-Herzog Encyclopedia of Religious Knowledge (third ed.). London and New York: Funk and Wagnalls. {{cite encyclopedia}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help); Invalid |ref=harv (help)