مجلس طبقات الأمة 1789

افتتاح مجلس طبقات الشعب 1789
سلسلة عن
تاريخ فرنسا
الغال الكلتيون
الغال الرومانية
الفرنجة
العصور الوسطى
فرنسا أوائل العصر الحديث
الثورة إلى ح.ع.1
الثورة الفرنسية
الأسباب
مجلس طبقات الأمة
الجمعية الوطنية
اقتحام الباستيل
الجمعية الوطنية
التأسيسية
(1, 2, 3)
الجمعية التشريعية
وسقوط الملكية
المؤتمر الوطني
وعهد الرعب
الديركتوار
القنصلية
الحرب في الڤندي
شوانري
متعلقات: معجم,
خط زمني, الحروب,
قائمة الشخصيات,
التاريخانية
الامبراطورية الأولى
الاستعادة
ملكية يوليو
الجمهورية الثانية
الامبراطورية الثانية
الجمهورية الثالثة
الجمهورية الرابعة
فرنسا الحديثة

مجلس طبقات الأمة (فرنسية: Les États-Généraux de 1789؛ بالإنگليزية: The Estates-General أو States-General of 1789) كان أول اجتماع منذ سنة 1614 لمجلس طبقات الأمة الفرنسي، الذي كان مجلساً عاماً يتكون من ممثلين من جميع طبقات الشعب عدا المعدمين. الإستقلال عن التاج الذي أبداه المجلس مهد الطريق أمام الثورة الفرنسية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

احترقت فرنسا وهي تواجه المجاعة، فجربت الثورة. ففي ربيع عام 1789 نشبت في أقسام عديدة تمرد على الضرائب وغلاء الخبز. وفي ذلك أن الجماهير في ليون أغاروا على مكاتب جابي الضرائب وأتلفوا سجلاته. وفي آجده، قرب مونبلييه، هدد الشعب بعمليات سلب ونهب شاملة ما لم تخفض أسعار السلع,. ومنعت القرى التي خشيت عجز الغلال عنوة تصديرها من الأقسام. وتحدث بعض الفلاحين عن إحراق جميع القصور الريفية وقتل أمراء الإقطاع (مايو 1789)(51). وفي مونليري قادت النساء حشداً من الغوغاء في حملة على مخازن الغلال والمخابز حين نمى إليهن أن سعر الخبز قد زيد، واستولين على كل ما وصلت إليه لأيديهن من الخبز والدقيق. ومثل هذا حدث في بريه- سير- سين" وبانول، وأميان، وفي كل مكان بفرنسا تقريباً. وفي المدينة تلو المدينة أثار الخطباء الشعب بأبنائهم بأن الملك أجل دفع الضرائب كلها(52). وسرى خلال إقليم بروفانس في شهري مارس وإبريل نبأ يقول أن "خير الملوك يريد المساواة في الضرائب، وألا يكون بعد اليوم أساقفة، ولا إقطاعيون، ولا عشور، ولا مكوس، ولا ألقاب، ولا امتيازات"(53). وبعد أول إبريل 1789 كف الناس عن دفع الرسوم الإقطاعية، وهكذا لم يكن نزول النبلاء "التطوعي" عن حقوقهم الإقطاعية في 4 أغسطس عملاً من أعمال التضحية، بل إقراراً بالأمر الواقع.

وازداد الانفعال والإثارة في باريس كل يوم تقريباً باقتراب موعد انعقاد مجلس طبقات الأمة. فتدفقت النشرات مع المطابع ورفع الخطباء عقائرهم في المقاهي والأندية وصدرت أشهر وأقوى نشرة في التاريخ بأسره في يناير 1789، وبقلم رجل من أحرار الفكر هو الأبيه إيمانويل- جوزف سييس، الوكيل العام لأسقفية شارتر. وكان شامفور قد كتب متسائلاً "ما الطبقة الثالثة؟- إنها كل شيء. وماذا تملك؟ لا شيء". فصاغ سييس هذا "الأبجرام" المتفجر عنواناً جذاباً وحوله إلى ثلاثة أسئلة سرعان ما رددتها نصف فرنسا:

"ما الطبقة الثالثة؟ كل شيء
ماذا كانت إلى اليوم في النظام السياسي؟ لا شيء.
ماذا تطلب؟ أن تصبح شيئاً(54).

وذكر سييس أنه من بين سكان فرنسا البالغين 26.000.000 نسمة، ينتمي إلى الطبقة الثالثة - العلمانية المجردة من الألقاب- على الأقل 25.000.000 وهذا معناه في الحقيقة الأمر أن الطبقة الثالثة هي الأمة. فإذا أبت الطبقتان الأخريان الجلوس معها في مجلس الطبقات، كان لها العذر في أن تؤلف بنفسها "الجمعية الوطنية". وقد حفظ التاريخ تلك العبارة فيما حفظ.

على أن الجوع كان أبلغ حتى من الكلام. فتقاطر الشحاذون والمجرون على مراكز الإغاثة كلما أقامتها في باريس الحكومة والكهنة والأغنياء، وافدين من دخل البلاد ليأكلوا ويغامروا بفقرهم في أفعال يائسة. وكانت الجماهير هنا وهناك تنفد إرادتها بنفسها دون إعداد بالقانون، فهددت بشنق أي تاجر يخفي الغلال أو يغالي في سعرها على أقرب عمود نور، وكثيراً ما اعترضت قوافل الغلال ,نهبتها قبل أن تستطيع هذه القوافل الوصول إلى السوق؛ وكانت أحياناً تطبق على الأسواق بالغوغاء وتستولي عنوة ودون دفع الثمن على الغلة التي أتى بها الفلاحون ليبيعوها(55). وفي 23 إبريل استصدر نكير من المجلس الملكي مرسوماً يخول للقضاة والشرطة جرد مخازن الغلال الخاصة وإلزامها حيثما عز الخبز بإرسال غلالها للسوق، ولكن هذا الأمر نفذ ي تراخ. كذلك كانت صورة باريس في ربيع ذلك العام.

وفي هذه الجماهير الغاضبة من الدهماء تبين الدوق أورليان أداة قد تحقق له مآربه. وكان الحفيد البعيد لفليب أورليان الذي كان وصياً على عرش فرنسا (1751- 23). وقد ولد في 1747، ولقب بدوق شارتر في الخامسة من عمره، ثم تزوج في الثانية والعشرين بلويز- ماري دبوربون بنتييفر، التي جعلته ثروتها أغنى رجل في فرنسا(56). وفي 1785 ورث لقب دوق أورليان، وبعد 1789، وبفضل دفاعه عن القضايا الشعبية، وعرف بفليب إيجالتيه (المساواة). وقد رأيناه يتحدى الملك إلى البرلمان وينفي إلى فيلليه- كوربه. فلما عاد بعد قليل إلى باريس صمم على أن يجعل من نفسه معبود الشعب، مؤملاً أن يختار خلفاً لابن عمه لويس السادس عشر أن اعتزل أو خلع هذا الملك الذي أزعجته الخطوب, فسخا في عطائه للشعب، وأوصى بتأمين أملاك الكنيسة(57)، وفتح للجماهير حديقة البالية- رويال وبعض حجراته في قلب باريس، وكذلك له شمائل الأرستقراطي الجواد وأخلاق سلفه الوصي على العرش. وقامت مربية أبنائه مدام جنليس، همزة وصل بينه وبين ميرابو، وكوندورسيه،ولافاييت،وتاليران،ولافوازييه، وفولني، وسييس، وديمولان. وقد بذل له زملاؤه من الماسون الأحرار التأييد الكبير(58). وقام الروائي شوديرلو دلاكلو، وكان سكرتيره يدور العميل له في تنظيم المظاهرات والانتفاضات الشعبية. وفي الحدائق والمقاهي. وبيوت القمار، والمواخير القريبة من قصره كان كتاب النشرات يتبادلون الأفكار ويضعون الخط، هنا شارك آلاف الناس من جميع الطبقات في اضطرابات لساعة وانفعالاتها، وأصبح الباليه- رويال، بوصفه اسماً على هذا المركب كله، قلب الثورة النابض.

ويزعمون، وهو زعم محتمل ولكنه ليس مؤكداً، أن مال الدوق، ونشاط شودرلو دلاكلو، لعباً دوراً في تنظيم لهجوم على مصنع ريفيون في شارع سانت- أنطوان. أما ريفيون هذا فكان يتزعم ثورته الخاصة: يحل محل الرسوم والنسيجات الجدارية ورقاً رقيقاً رسمه فنانون بتقنية طورها بنفسه، وينتج ما وصفه حجة إنجليزي بأنه "أجمل ما صنع على الإطلاق من ورق الحائط بغير جدال"(59). وقد استخدم مصنعه ثلاثمائة عامل، كان الحد الأدنى لأجر العامل منهم خمسة وعشرين سواً (1.56 دولار؟) في اليوم.وفي اجتماع لجمعية الناخبين في حي سانت- مارجريت نشب نزاع بين ناخبي الطبقة الوسطى والعمال،وخيف أو تخفض الأجور(61). وسرى نبأ كاذب بأن ريفيون قال "أن العامل الذي له زوجة وأولاد في استطاعته أن يعيش على خمسة عشر سواً في اليوم". وفي 27 إبريل احتشد جمع أمام منزل صاحب المصنع، فلما لم يجدوه أحرقوا دمية تمثله. وفي اليوم الثامن والعشرين، أغار الغوغاء بعد أن عززوا قوتهم وتسلحوا على بيته، ونهبوه، وأشعلوا النار في أثاثه، وشربوا الخمر من مخزن خموره، واستولوا على النقود والآنية الفضية, ثم انتقل القائمون بالشغب إلى المصنع ونهبوه. وجرد الجنود لقتالهم، فدافعوا عن أنفسهم في معركة اتصلت عدة ساعات، لقي فيها اثنا عشر جندياً ونيف ومائتا مشاغب مصرعهم. وأغلق ريفيون مصنعه وشد رحاله إلى إنجلترا.

كذلك كان مزاج باريس حين وصل النواب النواب ومناوبوهم لحضور مجلس طبقات الأمة في فرساي.


انعقاد مجلس طبقات الأمة 1789

انعقاد مجلس طبقات الشعب: 5 مايو 1789

في 4 مايو تحرك النواب في موكب مهيب للاستماع إلى القداس في كنيسة القديس لويس: يتقدمهم كهنة فرساي، ويليهم ممثلو الطبقة الثالثة في ثياب سوداء، ثم نواب الأشراف في ثيابهم الواهية وقبعاتهم المزينة بالريش، ثم النواب الكنسيون، ثم الملك والملكة يحيط بهما أفراد الأسرة الملكة. وازدحم أهل المدينة في الشوارع والشرفات وأسطح المنازل، وصفقوا لممثلي العامة، وللملك ولدوق أورليان، واستقبلوا بالصمت النبلاء، ورجال الأكليروس، والملكة، وكان كل إنسان (عدا الملكة) سعيداً ذلك اليوم، لأن الأمل الذي تطلع إليه الكثيرون قد تحقق. وبكى الكثيرون، من بين النبلاء، ولمرأى الأمة المنقسمة وقد بدت متحدة.

وفي 5 مايو اجتمع النواب في "قاعة الملاهي الصغير الضخمة، الواقعة على نحو أربعمائة ياردة من القصر الملكي. وبلغ عددهم 621 من العامة، و308 من الأكليروس، و285 من النبلاء (وفيهم عشرون من نبلاء الرداء. أما النواب الكنسيون فكان نحو ثلثيهم من أصل شعبي، وقد اختار كثيرون من هؤلاء الوقوف في صفة العامة. وكان نص النواب الطبقة الثالثة تقريباً من المحامين، وخمسة في المائة من أرباب المهن،وثلاثة عشر في المائة من رجال العمال، وثمانية في المائة يمثلون الفلاحين(63). ومن رجال الأكليروس أسقف أوتان، شارل-موريس دتاليران-بيريجو، الذي وصفه ميرابو وصفاً سبق بعبارة نابليون "الوحل في جوارب حريرية" فقال عنه "رجل خسيس، جشع، سافل، دساس، لا يشتهي غير الوحل والمال، يبيع روحه في سبيل المال، وهو إن فعل كان على حق، لأنه عندها سيأخذ الذهب بدل كومة من الروث"(64)، ولم يكن في هذا الوصف إنصاف لذكاء تاليران الطيع. وكان بين النبلاء عدة رجال دعوا إلى الإصلاحات الجوهرية: لافاييت، وكوندرسيه، ولاللي-ولندال، وفيكونت نواي، وأدواق أورليان، وايجيون، ولاروشفوكو-ليانكور. وقد انضم معظمهم إلى سييس، وميرابو، وغيرهم من نواب لطبقة الثالثة في جمعية الثلاثين" التي قامت بدور الجماعة المنظمة للإجراءات اللبرالية" ومن أبرز نواب الطبقة الثالثة ميرابو، وسييس، ومنييه، وبارناف، والفلكي جان بابي، ومكسمليان روبسبيير. وكان هذا الجمع في مجموعه أبرز تجمع سياسي في التاريخ الفرنسي، وربما في التاريخ الحديث بأسره. وتطلعت النفوس الكريم في طول أوربا وعرضها لهذا الحشد عساه أن يرفع لواء ينضوي تحته المظلومون في كل أمة.

وافتتح الملك الجلسة الأولى بخطاب موجز اعترف فيه صراحة بما تعانيه حكومته من كرب مالي نسبه إلى "حرب غالية التكلفة ولكنها شريفة" وطلب "زيادة في الضرائب" وأبدى الأسف على "الرغبة المغالية في التجديد". ثم تبعه نكير بخطاب استغرق ثلاث ساعات واعترف فيه بعجز بلغ 65.150.000 جنيه (حقيقة الأمر أنه بلغ 150.000.000) وطلب الموافقة على قرض قدره 80.000.000 جنيه. وتململ النواب من الإحصاءات المرهقة للذهن، وكان أكثرهم يتوقع من الوزير اللبرالي أن يبسط برنامجاً للإصلاح.

ثم بدأ صراع الطبقات في الغد، حين انفرد كل من طبقة النبلاء والأكليروس بقاعة منفصلة وشق جمهور الشعب الآن طريقه عنوة إلى قاعة الملاهي الصغيرة، وسرعان ما أخذ يؤثر في أصوات النواب بإعرابه القوي-المنظم عادة-عن الاستحسان أو الاعتراض. ورفضت الطبقة الثالثة أن تعترف بنفسها هيئة منفصلة، وانتظرت في تصميم أن تنضم إليها الطبقتان الأخريان ويتم التصويت بالطبقات-أي بصوت لكل طبقة-جزء من الدستور الملكي لا يمكن تغييره "ذلك أن إدماج الطبقات الثلاث في طبقة واحدة والسماح بالتصويت الفردي، في جمعية تؤلف الطبقة الثالثة الآن نصف مجمعها وفي استطاعتها دون عناء أن تكسب التأييد من صغار الأكليروس هذا كله معناه تسليم عقل فرنسا وخلقها لمجرد الكثرة العددية والإرادة البرجوازية. أما مندوبو الأكليروس المنقسمون بين محافظين وأحرار، فلم يتخذوا موقفاً من الطرفين، منتظرين أن تهديهم الأحداث إلى أفضل. ومضى شهر على هذه الحال.

وكان سعر الخبز أثناء ذلك يواصل ارتفاعه برغم محاولات نكير لضبطه،وخطر العنف الجماهيري يتزايد. وتدفق فيض من النشرات، فكتب آرثر ينج في 9 يونيو يقول: "أن الحركة التجارية المتزايدة الآن في حوانيت باريس التي تبيع النشرات لا تصدق. ولقد ذهبت إلى الباليه رويال لأرى ما جد نشره ولأحصل على قائمة بكل ما نشر ووجدت أن كل ساعة تلد جديداً. فقد صدر من النشرات اليوم ثلاث عشرة، وأمس ست عشرة، وفي الأسبوع الماضي اثنتان وتسعون.. وتسع عشرة من عشرين من هذه النشرات يناصر الحرية، ويناوئ الأكليروس والنبلاء عادة... ولا يصدر أي رد عليه"(65).

وفي 10 يونيو أوفد نواب الطبقة الثالثة لجنة إلى النبلاء والأكليروس تكرر دعوتهم إلى اجتماع موحد،وتصرح بأنه إذا واصلت الطبقتان لاجتماع منفصلتين فإن الطبقة الثالثة ستأخذ في تشريع للأمة بدونهم.ووقع التصدع في صراع الإرادات الجماعية في 14 يونيو، حين انضم تسعة من كهنة الأبرشيات إلى نواب العامة. وفي ذلك اليوم انتخبت الطبقة الثالثة، بأي رئيساً لها، ووضعت لنفسها نظاماً للمناقشة والتشريع. وفي اليوم الخامس عشر اقترح سييس أن يطلق النواب المجتمعون في قاعة الملاهي الصغير-الذين يمثلون ستة وتسعين في المائة من الأمة-على أنفسهم اسم "جمعية نواب الأمة الفرنسية المعترف بهم ولثابتة صحة عضويتهم. ورأى ميرابو أن العبارة فضفاضة ولا بد أن الملك سيرفضها. وبدلاً من أن يتراجع سييس، بسط الاسم المقترح فجعله "الجمعية الوطنية"، وكذلك تمت الموافقة على الاسم الجديد بأغلبية 491 مقابل 89 صوتاً(66). وقد غير هذا الإعلان الملكية المطلقة تلقائياً إلى ملكية مقيدة،وأنهى السلطات التي امتيازاتها الطبقات العليا، وشكل-من الناحية السياسية-بداية الثورة.

ولكن هل يقبل الملك هذا الغض من سلطته؟ ولكي تعطفه الجمعية الوطنية للقبول قررت أن جميع الضرائب القائمة ينبغي دفعها كالسابق إلى أن تحل الجمعية، وبعدها لا تدفع ضرائب إلا ما أذنت به الجمعية؛ وأن الجمعية ستنظر بأسرع ما تستطيع في أسباب عجز الخبز وعلاجه؛ وأنها بعد قبول دستور جديد ستتكفل بديون الدولة وتوافق على سدادها، وقد استهدف أحد هذه القرارات تهدئة القائمين بالشغب، وسعى آخر إلى كسب تأييد حاملي السندات الحكومية، وقد وضعت كلها بمهارة لتقلل من مقاومة الملك.

واستشار لويس مجلسه. فحذره نكير من أن مجلس الطبقات سينهار ما لم تذعن الطبقتان المميزتان، وأن الضرائب لن تدفع، وأن الحكومة ستصبح مفلسة لا حول لها ولا قوة. واعترض وزراء آخرون بأن التصويت الفردي سيكون معناه دكتاتورية الطبقة الثالثة وإصابة طبقة النبلاء بالعجز السياسي. وقرر لويس أن يقاوم الجمعية الوطنية لأنه شعر أن عرشه يعتمد على النبلاء والأكليروس. وقدم نكير استقالته بعد أن هزم. ولكن الملك أقنعه بالبقاء لعلمه بأن الشعب سيقاوم خطوة كهذه.

واقتضت "الجلسة الملكية" المقررة تجهيز قاعة الملاهي الصغيرة بترتيبات مادية جديدة فأرسلت الأوامر بإجراء هذه الترتيبات إلى مهرة صناع القصر دون إشعار الجمعية. فلما حاول نواب الطبقة الثالثة دخول القاعة في 20 يونيو وجدوا أبوابها مغلقة مشغولاً بالصناع. واعتقد النواب أن الملك يخطط لطردهم. فانتقلوا إلى ملعب للتنس مجاور (وصلة ملعب التنس وأقسموا يمينا صنعت التاريخ.

"حيث أن الجمعية الوطنية دعيت لوضع دستور المملكة، ولإحداث التجديد في النظام العام، ولصيانة المبادئ الصحيحة للنظام الملكي، وحيث أنه ما من شيء يقوى على منعها من مواصلة مداولاتها في أي مكان تضطر إلى الاجتماع فيه؛ وأخيراً، بما أنه حيثما اجتمع أعضاؤها فهناك تكون الجمعية الوطنية، لذلك تقرر الجمعية أن يقسم جميع أعضائها يميناً مغلظة بألا يتفرقوا، وأن يعاودوا الاجتماع كلما دعت الظروف، حتى يستقر حال المملكة، ويرسى على أسس مكيفة، وأنه بعد حلف اليمين المذكورة سيصدق جميع الأعضاء، وكل منهم بمفرده، على هذا القرار الثابت بالتوقيع عليه"(67).

وقد وقع جميع النواب الحاضرين وعددهم 557 نائباً وعشرون مناباً إلا اثنين، ثم وقع في تاريخ لاحق خمسة وخمسون أخر وخمسة قساوسة. فما أن ترامى نبأ هذه الأحداث إلى باريس حتى احتشد جمع غاضب حول الباليه-رويال وأقسموا على الدفاع عن الجمعية لوطنية أياً كان الثمن. وفي فرساي بات من الخطر على أي شريف أو أسقف أن يظهر في الشوارع، وقد لقي عدد منهم معاملة خشنة، ولم ينج رئيس أساقفة باريس بجلده إلا حين وعد بأن ينضم إلى الجمعية. وفي 22 يونيو اجتمع النواب الذي أقسموا اليمين في كنيسة سان لوي، وهنا انضم إليهم بعض النبلاء و149 من النواب الكنسيين البالغ عددهم 308.

وفي 23 يونيو اجتمع نواب الطبقات الثلاث في قاعة الملاهي الصغيرة ليستمعوا إلى الملك.وطوق الجنود القاعة. وتخلف نكير عن الحضور مع الحاشية الملكية على النحو واضح. وتكلم لويس فأوجز، ثم أناب وزيراً في قراءة قراره. وقد رفض القرار دعوى النواب الذين أعلنوا أنفسهم جمعية وطنية باعتبارها غير قانونية وباطلة. وسمح باجتماع موحد للطبقات الثلاث، وبالتصويت الفردي على المسائل التي لا تؤثر في هيكل فرنسا الطبقي، ولكن يحظر أي عمل يمس "الحقوق القديمة والدستورية... للملكية، أو الامتيازات التشريفية... للطبقتين الأوليين"، أما الأمور المتصلة بالدين أو لكنيسة فلا بد من أن يوافق عليها الأكليروس. وسمح الملك لمجلس الطبقات بحق الاعتراض على الضرائب والقروض الجديدة، ووعد بالمساواة في فرض الضرائب إذا وافقت عليها الطبقتان المميزتان، وعرض أن تلقي توصيات بالإصلاح. وينشئ مجالس إقليمية يكون التصويت فيها فردياً. ووافق على إنهاء السخرة، والأوامر الملكية المختومة، والمكوس على التجارة الداخلية، وكل آثار القنية في فرنسا. ثم ختم الجلسة بمظهر وجيز للسلطة؛:

"لو أنكم تركتموني وحدي في هذه المغامرة الكبرى فسأعمل وحيداً لرفاهية شعبي... وسوف أعد نفسي دون سواي الممثل الحقيقي لهم... ولن تصبح خطة من خططكم أو إجراء من إجراءاتكم قانوناً ما لم أوافق عليه صراحة... وأني آمركم بالتفوق فوراً، وبمضي كل نائب إلى قاعة طبقته صباح غد لتستأنفوا مناقشاتكم"(68).

فلما انصرف الملك رحل معظم النبلاء وقلة من الأكليروس. وأعلن المركيز بريزيه، كبير التشريفات، على النواب الذين بقوا أن الملك يريد الجميع أن يبرحوا القاعة. ورد ميرابو رداً مشهوراً: "سيدي... ليس لك هنا مكان ولا صوت ولا حق في الكلام... فإذا كنت قد كلفت بإرغامنا على مبارحة هذه القاعة، فلا بد لك من طلب الأوامر باستعمال القوة،... لأننا لن نبرح أماكننا إلا على أسنة الرماح"(69). وظاهرت هذا التصريح صيحة هتف بها الجميع "هذه إرادة الجمعية" فانسحب بريزيه. وصدرت الأوامر للجند المحليين بإخلاء القاعة، ولكن بعض النبلاء الأحرار أقنعوهم بالا يتخذوا أي إجراء. فلما أنبئ الملك بالموقف قال "تباً لهم، فليمكثوا إذن"(70).

وفي 24 يونيو كتب ينج في يوميته: "أن الغليان في باريس لا يمكن تصوره، فقد كان عشرة آلاف شخص طوال اليوم في الباليه رويال... والاجتماعات المستمرة هناك تتصل وتبلغ من التهور.وسورة الحرية درجة لا تكاد تصده"(71). وعجزت السلطات البلدية عن حفظ النظام، لأنها لم تستطع الاعتماد على "الحرس الفرنسيين" المحليين؛ ذلك أن كثيرين من هؤلاء كان لهم أقرباء شرحوا لهم قضية الشعب، وتآخى بعض هؤلاء الجند مع الحشد المحيط بالباليه-رويال؛ وفي فوج في باريس كانت هناك جمعية سرية أقسمت ألا تطيع أوامر مناوئة للجمعية الوطنية.وفي 25 يونيو اجتمع الرجال الذين انتخبوا من قبل نواب الطبقة الثالثة عن باريس،وعدد هؤلاء الرجال 407-وأحلوا أنفسهم محل الحكومة الملكية للعاصمة، فاختاروا مجلساً بلدياً جديداً، وكله تقريباً من الطبقة الوسطى، وترك لهم المجلس القديم مهمة حماية الحياة وأملاك.وفي ذلك اليوم نفسه انتقل سبعة وأربعون نبيلاً يتقدمهم دون أورليان إلى قاعة الملاهي الصغرى. وبدا أن انتصار الجمعية أصبح الآن أكيداً، وأن القوة وحدها هي التي تستطيع زعزعته.

وفي 26 يونيو، بالرغم معارضة نكير، أخبر الأعضاء المحافظون في الوزارة الملك أن الجنود المحليين في فرساي وباريس لا يمكن بعد الآن الركون إلى طاعتهم للأوامر، وأقنعوا بأن يرسل في طلب ستة أفواج من الأقاليم. وفي السابع والعشرين، وتحولا إلى نصيحة نكير، أمر لويس وفود النبلاء والأكليروس بالانضمام إلى باقي النواب. ففعلوا، ولكن النبلاء أبو المشاركة في التصويت بحجة أن تفويضهم عن دوائرهم الانتخابية يمنعهم من التصويت الفردي في مجلس الطبقات. وخلال الأيام الثلاثين التالية عاد أكثرهم إلى ضياعهم.

وفي أول يوليو استدعى الملك إلى باريس عشرة أفواج، معظمهم من الألمان والسويسريين. وفي الأسابيع الأولى من يوليو احتل آلاف جندي بقيادة المشال برولي فرساي، واتخذ عشرة آلاف أخر بقيادة البارون بزينفال مواقعه حول باريس،ولا سيما في الشان دمارس. واعتقدت الجمعية والشعب أن الملك يخط لتفريقهم أو تخويفهم. وبلغ الخوف من القبض ببعض النواب مبلغاً جعلهم يبيتون في قاعة لملاهي الصغرى بدلاً من العودة إلى بيوتهم ليلاً(72).

في جو الإرهاب هذا عينت الجمعية لجنة لوضع مخططات لدستور جديد. وقدمت اللجنة للجمعية تقريراً تمهيدياً 9 يوليو، ومن ذلك اليوم أطلق النواب على أنفسهم اسم "الجمعية التأسيسية الوطنية". وكان الميل السائد بين الأعضاء في جانب الملكية الدستورية. وكان من رأي ميرابو المطالبة بـ "حكومة شبيهة بحكومة إنجلترا بوجه عام" تكون فيها الجمعية الهيئة التشريعية، ولكنه واصل في السنتين اللتين أفسحتا له في أجله الإلحاح على الاحتفاظ بملك لفرنسا. وأثني على لويس السادس عشر لما أتصف به من طيبة قلب وسماحة مقصد يشوش عليهما أحياناً مشيروه قصار النظر، ثم تساءل: "هل درس هؤلاء الرجال، في تاريخ أي شعب من الشعوب، كيف تبدأ الثورات وكيف تنفذ؟ وهل لاحظوا بأي سلسلة رهيبة من الظروف يكره أعقل الرجال على إتيان أفعال تتجاوز كثيراً حدود الاعتدال، وبأي دوافع مخيفة يقذف بشعب غاضب إلى ألوان من الشطط لو فكروا فيها بمجرد تفكير لارتعدت فرائصهم فرقاً؟"(73).

وخامر الجمعية الشك في أن ميرابو مأجور من الملك أو الملكة ليدافع عن الملكية، ولكنها أساساً اتبعت نصيحته. وأحس النواب، الذين كان العنصر السائد فيهم الآن رجالاً من الطبقة الوسطى، أن جماهير الشعب أخذت تصبح عسيرة القياد إلى حد خطر، وأن السبيل الوحيد للحيلولة دون التحلل الشامل للنظام الاجتماعي هو الإبقاء فترة على الهيكل التنفيذي الراهن للدولة.

على انهم لم يشعروا بمثل هذا الانعطاف نحو الملكة. فقد علم أنها شاركت إيجاباً في تأييد الحزب المحافظ في مجلس الملك، وأنها تمارس سلطة سياسية تفوق كفايتها كثيراً. وكانت خلال هذه الأشهر الحرجة قد تجلدت لثكل ربما نال من أي قدرة أوتيتها على الحكم الهادئ المتعقل. ذلك أن ابنها البكر، ولي عهد لويس، كان شديد المعاناة من الكساح واعوجاج العمود الفقري إلى درجة أعجزته عن المشي بغير معونة(74). وفي 4 يونيو مات. ولم تعد ماري أنطوانيت التي حطمها الحزن والخوف تلك المرأة الفاتنة التي كانت تمرح طوال سني الحكم الأولى. وباتت وجنتاها شاحبتين نحيلتين، وأخذ الشيب يتسلل إلى شعرها، وشاب الحزن بسماتها وهي تذكر أياماً أسعد، ثم أرق مضجعها وعيها بحشود الدهماء تلعن اسمها في باريس وتحمي الجمعية في فرساي وترهبها.

وفي 8 يوليو وافقت الجمعية على اقتراح لميرابو يطلب إلى الملك أن ينقل فرساي جنود الإقليميين الذين جعلوا من حدائق لنوتر معسكراً مسلحاً. ورد لويس بأنه ليس هناك أذى مقصود بالجمعية، ولكن في 11 يوليو أفصح عن سطوته بإقالته نكير وأمره بمغادرة باريس فوراً. تقول مدام دستال مستحضرة ذلك الحدث "وتقاطرت باريس كلها لتزوره في الساعات الأربع والعشرين التي سمح له بها للاستعداد لرحلته... وأحال الرأي العام عاره انتصاراً"(75). ثم رحل هو وأسرته في هدوء إلى الأراضي المنخفضة. أما الذين أيدوه في الوزارة فأقيلوا معه. وفي 12 يوليو، وفي استسلام كامل لدعاة استخدام القوة، عين لويس صديق الملكة، البارون دبروتوي، خلفاً لنكير، وعين دبرولي وزيراً لحربية. وبدا أن الجمعية وثروتها الوليدة مقضي عليهما قضاء مبرماً.

ولكن الإنقاذ جاءهما من شعب باريس.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.