الأدب الإسلامي

"Ali Baba" by Maxfield Parrish.

الأدب الأسلامى الادب هو نوع من أنواع العلوم التي لابد ان يتعلها الإنسان وكان الادب في الإسلام ذو جانب ممتع حيث قال ابن فارس - - أن الأدب دعاء الناس إذا دعوتهم إلى شيء ، وسمّيت المأدبة - مأدبة لأنه يدعى الناس فيها إلى الطعام ، والآدِب هو الداعي. وكذلك فإن الأدب أمر قد أجمع على إستحسانه . وعُرفاً مادعى الخلق إلى المحامد و مكارم الأخلاق وتهذيبها


وذكر ابن حجر - تعالى - في شرحه لكتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري قال : الأدب استعمال ما يُحمد قولاً و فعلاً وعبر بعضهم عنه بأنه أخذ بمكارم الأخلاق ، وقيل الوقوف مع المستحسنات أو الأمور المستحسنة ، وقيل هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك . ومما ورد في تعريف الأدب كذلك : حُسن الأخلاق، وفعل المكارم. وسُمّي ما يتأدب به الأديب أدباً لأنه يأد بُ الناس إلى المحامد، ويدعوهم إليها وجاء في المصباح عن الأدب أ نّه : تعلم رياضة النفس ، ومحاسن الأخلاق . وقيل : الأدب ملكه تعصم من قامت به عما يشينه

وقال ابن القيم - الأدب اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة في الطعام الذي يجتمع عليه الناس . فإذاً فيه معنى الدعاء إلى الشيء والإجتماع عليه . وكذلك يطلق الأدب في اللغه علىالجمع ، والأدب هو الخصال الحميده .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأدب الإسلامي المبكر

لقد كان في الحياة والدين في الإسلام مواقف أشبه ما تكون بالمسرحيات، أما الأدب الإسلامي فقد خلا من هذا الصنف من صنوف الكتابة، وهو صنف يبدو أنه غريب على العقلية السامية، كذلك خلا ذلك الأدب كما خلا غيره من آداب العصور الوسطى من الروايات القصصية؛ فقد كان معظم الكتابات مما يستمع إليه الناس لا مما يقرؤون وهم صامتون، ولم يكن في وسع من يهتمون بنتاج الخيال أن يرقوا إلى الدرجة التي يستطيعون أن يركزوا فيها عقولهم ذلك التركيز الذي لا بد منه لكتابة القصة المعقدة المتصلة بالحلقات. أما القصص القصيرة فكانت قديمة قدم الإسلام نفسه أو قدم آدم أبي البشر، وكان أكثر المسلمين سذاجة ينصتون إليها في حماسة الأطفال وتشوقهم، أما العلماء فلم يكونوا يحسبونها أدباً، وكانت أشهر هذه القصص القصيرة قصص بيدبا، وقصص ألف ليلة وليلة. وقد نقلت القصص الأولى من الهند إلى فارس في القرن السادس، وترجمت إلى اللغة الفهلوية، ومنها ترجمت إلى اللغة العربية في القرن الثامن. م فقد أصلها السنسكريتي، وبقيت الترجمة العربية، ومنها نقلت إلى ما يقرب من أربعين لغة أخرى.

يحدثنا المسعودي (المتوفى عام 597) في مروج الذهب عن كتاب فارسي يدعى هزاز أفسانة أو ألف قصة وعن ترجمته العربية ألف ليلة وليلة؛ وهذه على ما نعلم أول مرة ذكر فيها كتاب ألف ليلة وليلة. وخطة الكتاب كما يصفها المسعودي هي الخطة التي نجها في كتاب ألف ليلة وليلة العربي. وكان هذا الإطار المحتوي على سلسلة من القصص معروفاً من قديم الزمن في بلاد الهند، وكان عدد كبير من هذه القصص متداولاً في العالم الشرقي، ولربما كانت كل مجموعة منها تختلف في محتوياتها عن غيرها من المجموعات، ولسنا واثقين أن أية قصة في المجموعة المعروفة لنا الآن كانت من القصص التي تحتويها المجموعة التي يحدثنا عنها المسعودي. وحدث بعد سنين قلائل من عام 1700 أن أرسل مخطوط غير كامل، لا يمكن تتبع تاريخه إلى ما قبل عام 1536، من بلاد الشام إلى المستشرق الفرنسي أنطوان جالان Antoine Galland، وافتتن هذا المستشرق بخيال القصص الغريب، وبما فيها من وصف لحياة المسلمين الداخلية، ولعله افتتن أيضاً بما فيها من بذاءة، فأصدر في باريس عام 1704 أولى تراجمها إلى اللغات الأوربية Les mille et une nuits. ونجح الكتاب نجاحاً فوق ما كان يتوقع له، وترجم إلى جميع اللغات الأوربية، وشرع أطفال جميع الأمم يتحدثون عن السندباد البحري، وعن مصباح علاء الدين، وعن علي بابا واللصوص الأربعين. وخرافات بيدبا، وقصص ألف ليلة أكثر ما يقرأه الناس من الكتب في العالم كله إذا استثنينا الكتاب المقدس (وهو أيضاً كتاب شرقي) .

والنثر الأدبي في الكتب الإسلامية صورة من الشعر. ذلك أن المزاج العربي ينزع إلى الشعور القوي، والآداب الفارسية تميل إلى الكلام المزخرف، واللغة العربية التي كانت في الوقت الذي نتحدث عنه يتكلم بها أهل البلدين تدعو إلى جعل النثر مقفى لتشابه أواخر الألفاظ طوعاً لقواعد الصرف؛ ولهذا فإن النثر الأدبي كثيراً ما يكون مسجوعاً؛ وكان الوعاظ، والخطباء، والقصاصون، يلجأون إلى النثر المسجع، وبهذا كتب بديع الزمان الهمذاني (المتوفى عام 1008) مقاماته-وهي قصص كان يرويها لجماعات مختلفة عن وغد أفاق أوتي من الذكاء الفكاهة أكثر مما أوتي من الأخلاق الطيبة. وكانت عقول أهل الشرق الأدنى في ذلك الوقت تتأثر بما يصل إليها عن طريق الأذن، شأنهم في هذا شأن جميع الناس قبل اختراع الطباعة، وكان الأدب عند معظم المسلمين لا يعدو أن يكون قصيدة تنشد أو قصة تروى؛ وكانت القصائد تُكتب لكي تُقرأ بصوتٍ عالٍ أو تُغنى، وكان كل شخص في بلاد الإسلام من الخليفة إلى الفلاح يطرب لسماعها. وقلما كان هناك شخص لا يقرض الشعر-كما كانت الحال عند طبقة السموراي في بلاد اليابان. وكان من ضروب التسلية العامة لدى الطبقات المتعلمة أن يكمل شخص بيتاً من الشعر بدأه غيره، أو يتم مقطوعة بدأها زميله، أو ينافس مناظراً له في ارتجال مقطوعة غنائية أو نكتة شعرية. وكان الشعراء ينافس بعضهم بعضاً في ابتداع ضروب معقدة من الأوزان والقوافي، وكان كثيرون منهم يقفون أواسط الأبيات الشعرية وأواخرها، وكثرت ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي وكان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوربي.

ولم تضارع حضارة من الحضارات ولم يضارع عصر من العصور-لا نستثني من هذا التعميم حضارة الصين في أيام لي بو، ودوفو، ولا حضارة فيمار Veimar حين كان فيها "مائة مواطن وعشرة آلاف شاعر"-الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم. وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني (897-967) في أواخر ذلك العصر كثيراً من أشعارهم في كتاب الأغاني. وحسبنا دليلاً على غنى الشعر العربي وتنوعه أن نعرف أن هذا الكتاب يتكون من عشرين مجلداً. وكان الشعراء ينشرون الدعايات المختلفة، والناس يخشون هجومهم اللاذع، والأغنياء يبتاعون مديحهم بيتاً بيتاً، والخلفاء يجزون الشعراء بالمناصب العالية وينفحونهم بالهبات السخية إذا قالوا فيهم قصائد من الشعر أو مجدوا أعمالهم أو مدحوا قبائلهم. ويحكى أن هشاماً أراد مرة أن يتذكر قصيدة من القصائد فأرسل في طلب حماد الشاعر الراوية، وكان من حظهِ أنه يذكر القصيدة بأكملها، فلما أنشدها لهشام أجازه بجاريتين وبخمسين ألف دينار(97)، وأكبر ظننا أن أحداً من شعراء هذه الأيام لن يصدق هذه القصة. وبعد أن كان الشعر العربي ينشد لبدو الصحراء، أضحى الآن يوجه إلى قصور الخلفاء ورجال حاشيتهم، وأصبح الكثير منه متكلفاً، أكثر ما يعنى به هو الشكل، شديد التأنق إلى حد التفاهة، كثير المجاملة خالياً من الإخلاص؛ ولهذا نشبت معركة بين أنصار القديم وبين أنصار الحديث، وأخذ النقاد يشكون وهم متألمون قائلين إنه لم يوجد شعراء عظماء إلا قبل عهد النبوة(98).

والحب والحرب أكثر مواءمة للشعر من الموضوعات الدينية، وقلما كان شعر العرب صوفي النزعة (وإن كان هذا الحكم لا يصدق على شعر الفرس)؛ فقد كان الشاعر العربي يفضل أناشيد القتال، والعاطفة، والانفعالات النفسية؛ ولما أن اختتم قرن الفتوح الإسلامية أخذ الشعراء يستمدون وحيهم من النساء أكثر مما يستمدونه من الموضوعات الحربية والدينية، وأخذ شعراء الإسلام يصفون مفاتن المرأة-شعرها العطر، وعينيها الشبيهتين بالدرتين، وشفتيها القرمزيتين، وأطرافها الفضية؛ وظهرت في الصحراوات وفي المدينتين المقدستين القصائد الغنائية؛ وأصبح الأدب في عرف الفلاسفة والشعراء يعني أدب الحب وسلوك المحبين. وانتقل هذا المعنى عن طريق مصر وإفريقية إلى صقلية وأسبانيا، ومنهما إلى إيطاليا وبروفانس Provence في فرنسا، وانطلقت الألسن وجادت القرائح بالشعر الموزون المقفى.

واشتهر الحسن بن هانئ باس أبي نواس-لغدائره التي كانت تنوس على كتفيهِ. وكان مولده في بلاد الفرس، ثم رحل إلى بغداد، ونال الحظوة عند الخليفة الرشيد، ولعله اشترك معه في واحدة أو اثنتين من المغامرات التي تعزى إليهما في كتاب ألف ليلة وليلة. وكان أبو نواس مولعاً بالخمر والنساء والغناء.

وكثيراً ما أغضب الخليفة بإدمانهِ الخمر جهرة، وبزندقتهِ ودعارتهِ؛ كثيراً ما سجنه ثم أطلقه، وتاب أبو نواس شيئاً فشيئاً واستمسك آخر الأمر بأهداب الفضيلة، وانتهى بأن كان يحمل المسبحة والقرآن معه أينما سار. ولكن أكثر ما كانت تحبه مجامع العاصمة هو أغانيه التي وصف فيها الخمر والفساد:


يا سليمان! غنني ومن الراح فاسقني



فإذا ما دارت الزجا جة خذها واعطني



ما ترى الصبح قد بدا في إزار مُبَيّي



عاطني كأس سلوة عن أذان المؤذن




تكثر ما استطعت من الخطايا فإنك بالغ رباً غفوراً



ستبصر إن قدمت عليه عفواً وتلقى سيداً ملكاً كبيراً



تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة النار السرورا


وكان في بلاط صغار الأمراء والسلاطين أيضاً شعراؤهم-فكان في بلاط سيف الدولة شاعر لا تكاد تعرف عنه أوربا شيئاً، ولكن العرب يحسبونه خير شعرائهم على الإطلاق. واسم هذا الشاعر أحمد بن الحسين، ولكنه يشتهر عند المسلمين باسم المتنبي-أي مدعي النبوة. وقد ولد هذا الشاعر في الكوفة عام 915، وتلقى العلم في دمشق، ثم أدعى النبوة، فقبض عليه وأطلق بعدئذ سراحه، أقام في بلاط أمير حلب. وكان كأبي نواس مستهتراً بالدين لا يصوم ولا يصلي ولا يقرأ القرآن(101)، ومع أنه لم يكن يرى أن الحياة ترقى إلى المستوى اللائق بهِ، فإنه كان يستمتع بها استمتاعاً يصرفه عن التفكير في الخلود. وقد أشاد بانتصارات سيف الدولة في شعر واسع جمع بين قوة المعنى وجمال اللفظ إلى حد أصبح معه هذا الشعر واسع الانتشار بين قراء العربية متعذر الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ومن هذا الشعر بيته المشهور الذي كان سبباً في هلاكهِ وهو.


الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم


وذلك أن جماعة من اللصوص هاجمته، وأراد هو الفرار، فذكره غلامه بهذا البيت وما يحويه من تفاخر؛ وأراد المتنبي أن يصدق فعله قوله؛ فحارب ومات مثخناً بجراحهِ(965)(102). وبعد ثمان سنين من ذلك العام ولد في معرة النعمان القريبة من حلب أبو العلاء المعري أعجب شعراء العرب على الإطلاق. وفقد أبو العلاء بصره في سن الرابعة على إثر إصابته بالجدري، ولكنه جد في طلب العلم، وحفظ عن ظهر قلب ما أعجبه من المخطوطات التي وجدها في دور الكتب، وطاف بأنحاء العالم الإسلامي ليستمع إلى المشهورين من العلماء، ثم عاد إلى مسقط رأسه. وكان دخله السنوي خلال الخمسة عشر عاماً التي أعقبت عودته لا يزيد على الثلاثين ديناراً، أي ما يعادل اثني عشر ريالاً أمريكياً في الشهر، يشاركه فيها خادمه ومرشده. وأذاعت قصائده شهرته في العالم الإسلامي، ولكنه كاد يهلك من الجوع لأنه أبى أن يلجأ إلى المديح. وزار بغداد في عام 1008 وأكرم الشعراء والعلماء وفادته، ولعله تأثر في العاصمة بآراء بعض المتشككة، وهي الآثار التي تتخلل بعض قصائده. وعاد منها إلى المعرة في عام 1010 وأصبح فيها من الأغنياء، ولكنه ظل إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المعري نباتياً إلى أقصى حد، لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير بل يمتنع كذلك عن اللبن، والبيض، وعسل النحل؛ فقد كان يرى الاستيلاء على هذه الأطعمة من الحيوان هو النهب بعينهِ. ولهذا السبب أيضاً أبى أن يتخذ شيئاً من اللباس من جلد الحيوان، وعاب على النساء لبس الفراء، وأشار بلبس الأحذية الخشبية(103). ومات المعري في الرابعة والثمانين من العمر، ويقول أحد أتباعه المخلصين إن مائة وثمانين شاعراً ساروا في جنازتهِ، وإن أربعة وثمانين من العلماء رثوه على قبرهِ(104).

وأعظم ما يشهر به في بلاد الغرب هو قصائده القصيرة البالغ عددها 1592 قصيدة والمعروفة باللزوميات. ولم يتحدث أبو العلاء في هذه القصيدة عن النساء والحرب كما كان يتحدث عنها زملاؤه الشعراء، بل عمد في جرأة إلى الحديث عن أهم الموضوعات الأساسية في الحياة: هل نتبع الوحي أو العقل؟- وهل الحياة خليقة بأن يحياها الإنسان؟-هل ثمة حياة بعد الموت؟- هل يوجد إله؟...ويجهر الشاعر من حين إلى حين بإيمانه؛ ولكنه يقول محذراً إن هذا الجهر هو احتياط مشروع من الاستشهاد الذي لا يرغب فيه:


إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همي


وهو يعيب في أقواله الأمانة العلمية المطلقة ويقول:


لا تخبرن بكهن دينك معشراً شطراً وإن تفعل فأنت مغرر


والمعري بصريح العبارة متشائم، لا أدري، يؤمن بالعقل دون الوحي:


يرتجي الناس لوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء



كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء



...................



هل صح قول من الحاكي فنقبله أم كل ذاك أباطيل وأسمار



أما العقول فآلت أنه كذب والعقل غرس له بالصدق إثمار .


وهو يندد بعلماء الدين الذين يسخرونه لمآرب الإنسان الدنيئة، والذين يملئون المساجد بالرعب حين يخطبون، ولكنهم ليسوا في مسلكهم خيراً من الذين يحتسون الخمر في الحانات على نغمات المغنين.


لا تطيعن قوماً ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات



إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء



كذب يقال على المنابر دائماً أفلا يميد لما يقال المنبر



رويدك قد غرزت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء



يحرم فيكم الصهباء صبحاً ويشربها على عمد مساء



تحساها فمن مزج وصرف يعمل كأنما ورد الحاء



طلب الخسائس وارتقى في منبر يصف الحساب لأمة ليهولها



ويكون غير مصدق بقيامة أضحى يمثل في النفوس ذهولها


ومن أقواله أن أحط الناس في وقته هم الذين يشرفون على الأماكن المقدسة في مكة. فهم لا يتورعون عن أن يرتكبوا أي إثم في سبيل المال، وينصح مستمعيه بأن لا يضيعوا أوقاتهم في الحج(109) وأن يقنعوا بعالم واحد.


وفي بطحاء مكة شر قوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى



وإن رجال شيبة سادنيها إذا راحت لكعبتها الجمارى



قيام يدفعون الناس شفعاً إلى البيت الحرام وهم سكارى



إذا أخذوا الزوائف أولجوهم وإن كانوا اليهود أو النصارى


وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراها



وما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب



لا حس للجسم بعد الروح نعلمه فهل تحس إذا بانت عن الجسد (110)



ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا



تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك (111)


ويصل آخر الأمر إلى هذه النتيجة.


وإن جعلت بحكم الله في خزف يقضي الطهور فأنني شاكر راضي (112)


وهو يؤمن بوجود إله حكيم قادر على كل شيء، ويعجب من الطبيب الذي ينكر وجود الخالق بعد أن درس التشريح.


عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا(113)


لكنه حتى في هذه النقطة يثير بعض الصعاب فيقول:


وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ولكن بأمر سببته المقادر



لا ذنب للدنيا فكيف نلومها واللوم يلحقني وأهل نحاسي



عنب وخمر في الإناء وشارب فمن الملوم أعاصر أم حاسي


ويقول في سخرية شبيهة بسخرية فلتير.


رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما(114)


ثم ينفجر غضبه كما ينفجر غضب ديدرو Diderot فيقول:


أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكر من القدماء



أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا وبادوا وماتت سنة اللؤماء(115)


وساءه ما بدا له من كذب الناس وقسوتهم فاعتزل الناس وغلب عليه التشاؤم، فكان عند المسلمين شبيهاً بتيمن الأثيني . ويرى أن لا أمل في إصلاح الناس لأن شرور المجتمع ناشئة من طبائع الخلق:


كتب الشقاء على الفتى في عيشه وليبلغن قضاءه المحتوما



فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنوا حواء جاروا وأذنبوا



رب متى أرحل عن عالمي فأنت بالناس خبير عليم



رب متى أرحل عن هذه الدنيا فقد أطلت المقام


ولهذا فإن خير ما يفعله الإنسان أن يعتزل العالم ويعيش وحيداً لا يلقى إلا صديقاً واحداً أو اثنين، وأن يحيا كما يحيا الحيوان الوديع بعيداً عن الخلق. ويقول: لقد كان أفضل من هذا لو أن الإنسان لم يولد لأنه إذا ولد قاسى العذاب والمحن يبسط عليه الموت لواء السلام(117):


وما العيش إلا علة برؤها الردى فخلي سبيلي أنصرف لطياتي



والعيش داء وموت المرء عافية إن داءه يتوارى شخصه حسما



والعيش سقم للفتى منصب والموت يأتي بشفاء السقام



على الموت يجتاز المعاشر كلهم مقيم بأهليه ومن يتغرب



وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي فتأكل من هذه الأنام وتشرب



كأن هلالاً لاح للطعن فيهم حناه الردى وهو السنان المجرب



كأن ضياء الفجر سيف يسله عليهم صباح في المنايا مذرب


وليس في وسعنا أن ننجو من منجل الموت، ولكن في وسعنا أن نفوت عليه

غرضه بألا تلد له أطفالاً. وفي ذلك يقول أبياتاً من الشعر لا تفترق عن أقوال المؤمنين أشد الأيمان بأقوال شوبنهور:


وإذا أرتم للبنين كرامة فالحزم أجمع تركهم في الأظهر


وقد عمل هو بهذه النصيحة، وكتب بنفسه قبريته وهي أشد القبريات مرارة وأكثرها إيجازاً وأعظمها حكمة:


هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد


ولسنا نعرف كم من المسلمين كانوا يشاركون المعري في تشككه؛ ذلك أن عودة العقائد السنية القوية بعد أيامه كانت أشبه برقابة مقصودة أو غير مقصودة على ما انحدر إلى الأجيال التالية من أدب ذلك العصر، وقد يؤدي بنا هذا إلى الاستخفاف بما كان في العصور الوسطى من تشكك في العالم الإسلامي كما حدث في العالم المسيحي. وبلغ الشعر العربي عند المتنبي والمعري ذروتهما، فلما انقضى عهدهما علا شأن البحوث الدينية وسكن الفلسفة، فصبغ هذا وذاك الشعر العربي صبغة جديدة تتسم بعدم الإخلاص، وتَصَنُّع العاطفة، وتكلف الأناقة اللفظية في قصائد غثة تدور حول شؤون بلاط الأمراء. وفي هذا الوقت عينه كانت نهضة الفرس، وبعثها، وتحررها من حكم العرب تثير حمية الأمة وتخلق فيها نهضة حقة. ولم تكن اللغة الفارسية قد استسلمت للغة العربية استسلاماً كلياً بل بقيت يتحدث بها الشعب؛ فلما حل القرن العاشر أخذت هذه اللغة تثبت وجودها بالتدريج، وتعود كما كانت لغة الحكم والأدب. وكانت بذلك مظهراً لاستقلال الأمة الثقافي في عهد الأمراء الساسانيين والغزنويين. وظلت سائرة في ذلك الطريق حتى أضحت هي اللغة الفارسية الجديدة في هذه الأيام، بعد أن استمدت ثروة طيبة من الألفاظ العربية، وبعد أن استخدمت الخط العربي الجميل. وكان من أعظم مظاهر هذه النهضة الحديثة عمائرها الفخمة وشعرها العظيم. وأضاف شعراء إيران إلى القصيدة والقطعة، وإلى شعر الغزَل المثنوى أو الشعر القصصي أو الرباعيات. وما لبث كل شيء في فارس-من وطنية، وعاطفة، وفلسفة، ولواط، وصلاح-أن عبّر عنه الشعر.

وبدأت هذه النهضة بالرودكي (المتوفى عام 954) الذي كان يرتجل الشعر وينشد الأغاني، ويعزف على القيثار في بلاط السامانيين ببخارى. وفي هذا البلد نفسه، وبعد جيل من ذلك الوقت طلب الأمير نوح بن منصور إلى الشاعر الدقيقي أن يصوغ الخدينامة أو كتاب الملوك شعراً. وكان دانشوار (حوالي عام 651) قد جمع في هذا الكتاب قصص بلاد الفرس القديمة. وما كاد الدقيقي يتم كتابه ألف بيت حتى طعنه أحد عبيده المقربين طعنة قضت على حياتهِ، وقام الفردوسي بالعمل بعد وأتمه وأصبح هومر بلاد الفرس.

وولد أبو القاسم منصور (أو الحسن) في مدينة طوس (قرب مشهد) حوالي عام 934، وكان والده يشغل منصباً إدارياً في بلاط السامانيين، وخلف لولدهِ بيتاً ريفياً في بزاعة بالقرب من طوس. وكان أبو القاسم يقضي وقت فراغه في البحث عن الآثار القديمة. واسترعى كتاب الخدينامة انتباهه فاعتزم أن يحوّل هذه القصص النثرية إلى ملحمة قومية، وسمي كتاب الشاهنامه، أي كتاب الملوك، واتخذ له حسب عادة تلك الأيام اسماً مستعاراً هو الفردوسي، ولعله اشتق ذلك الاسم من غياض ضيعتهِ. وأتم الفردوسي ملحمته في صورتها الأولى بعد خمس وعشرين سنة من الكدح المتواصل، ثم سافر إلى غزنة (999؟) راجياً أن يهديها إلى أميرها محمود الرهيب.

ويؤكد لنا أحد شعراء الفرس الأقدمين أنه كان في غزنة "أربعمائة شاعر لا يفارقون مجالس السلطان محمود". ولو صح هذا لكان وجود هؤلاء الشعراء عقبة كأداء في سبيل الفردوسي، لكنه مع هذا أفلح في استرعاء اهتمام الوزير فجاء بالمخطوط الضخم إلى السلطان. وتقول إحدى الروايات إن محموداً هيأ للشاعر مسكناً مريحاً في قصرهِ، وأمده بقدر ضخم من المادة التاريخية، وأمره أن يضمها إلى ملحمتهِ. وتجمع كل الروايات التي وصلتنا من هذه القصة على اختلاف صورها أن محموداً وعده أنت يعطيه ديناراً ذهبياً (4.70 دولارات) نظير كل بيت من القصيدة في صورتها الجديدة. وظل الفردوسي يكدح زمناً لا نعرف طوله؛ بلغت بعد القصيدة (حوالي عام 1010) صورتها النهائية، واشتملت على 60.000 بيت وجيء بها إلى السلطان. وأوشك محمود أن يبعث إلى الفردوسي المبلغ الموعود، ولكن بعض بطانته استكثروا العطاء، وأضافوا إلى هذا قولهم إن الفردوسي زنديق شيعي ومعتزل. واستمع لهم محمود وبعث للشاعر بستين ألف درهم فضي (30.000 ريال أمريكي). وغضب الشاعر وأراد أن يظهر غضبه واحتقاره فقسم المبلغ بين خادم حمام وبائع شراب ثم فر إلى هراة، حيث اختفى ستة أشهر في حانوت بائع كتب، حتى يئس من العثور عليه عمال محمود الذين أمرهم بالقبض عليه. ثم لجأ الفردوسي إلى شهريار أمير شيرزاد في طبرستان، ونظم قصيدة يهجو فيها محموداً هجواً لاذعاً. وخشي شهريار غضب السلطان فابتاع القصيدة بمائة ألف درهم وأتلفها. وإذا جاز لنا أن نصدق هذه الأرقام، ونعتقد بصحة تقديرنا إياها بنقود هذه الأيام، حكمنا من فورنا أن الشعر كان من أكثر الأعمال إدراراً للربح في فارس في العصور الوسطى. وانتقل الفردوسي بعدئذ إلى بغداد وكتب فيها قصة شعرية طويلة هي قصة يوسف وزليخا، ثم عاد إلى طوس وكان قتئذ شيخاً في السادسة والسبعين من العمر. وبعد عشر سنين من عودتهِ سمع محموداً بيتاً من الشعر فأعجب بقوة معناه وجزالة لفظه، فسأل عن قائلهِ، ولما علم أنه من شعر الفردوسي ندم على أنه لم يكافئ الشاعر بما وعده بهِ، وأرسل إليه قافلة من الإبل تحمل ما قيمته ستين ألف دينار من النيلج، ومعها رسالة اعتذار منه، ولما دخلت القافلة مدينة طوس التقت فيها بجنازة الشاعر (1020؟).

وتعد الشاهنامة من أعظم الأعمال في الآداب العالمية في حجمها إن لم تكن في غيرهِ. وإن من النبل بحق أن يترك شاعر الموضوعات التافهة، والأعمال اليسيرة، ويقضي خمسة وثلاثين عاماً من حياتهِ يروي فيها قصة بلده في 120.000 بيت من الشعر-فكانت القصيدة بذلك أطول من الإلياذة والأوديسة مجتمعتين. فها هو ذا شيخ طاعن في السن جن جنونه بوطنهِ، وشغف حباً بكل ما حوته سجلاته من تفاصيل، خرافة كانت أو حقيقة. وتصل الملحمة إلى نصفها قبل أن يصل بها الشاعر إلى العصور التاريخية. ويبدأها بالشخصيات الأسطورية الواردة في الأبستاق، ويحدثنا عن جيومرث، آدم الديانة الزرادشتية، ثم عن جمشيذ العظيم حفيد جيومرث "الذي حكم العالم 700 سنة... والذي سعد العالم بحكمهِ، ولم يكن يعرف في أيامه موت ولا حزن ولا ألم". ولكن جمشيذ بعد أن مرت به بضعة قرون "باض الشيطان في رأسهِ وفرخ ولوى جيدهُ عن طاعة ملاك الرقاب، متعرضاً بغمط نعمة لقاصمة العقاب" "وظن أنه ليس على ظهر الأرض سواه، وادعى أنه إله، وبعث بصورته لكي يعبدها الناس"(121). ونصل أخيراً إلى بطل الملحمة رستم بن زال أحد أمراء الإقطاع في تلك الأيام. ولا بلغ رستم من العمر خمسمائة عام وقع زال في هوى جارية شابة فولدت منه أخاً لرستم. ويخدم رستم ثلاث ملوك وينجيهم من الموت، ثم يهجر حياة القتال حين تبلغ سنه أربعمائة عام. ويطول عمر جواده الأمين الرخش كما يطول عمر سيده أو ما يقرب منه، ويكاد يبلغ من البطولة ما بلغه، ويلقى هذا الجواد من الفردوسي الحب والدعابة اللذين يلقاهما الجواد الأصيل من كل فارسي. وفي الشاهنامة قصص حب جميلة، وفيها بعض ما في شعر شعراء الفروسية الغزليين في أوربا في العصور الوسطى من تعظيم للنساء. فيها صور ساحرة للنساء البارعات الجمال- منها صورة للملكة سوذابة التي كانت تتحجب حتى لا يرى جمالها، والتي كانت تسير مع الرجال كما تسير الشمس خلف السحاب(122). ولكن الحب ليس له شأن كبير في حياة رستم، لأن الفردوسي يرى أن عاطفة الحب الأبوي والنبوي يمكن أن تكون أعظم وقعاً في النفوس من عاطفة الحب الجنسي. بيد أن رستم يقع أثناء إحدى حروبه البعيدة في حب فتاة تركية تدعى تهمينة، ثم تحتفي عن عينه فلا يقف على أثرها، ثم تربي ابنها سهراب والحزن يملأ قلبها الكبرياء يرفع رأسها بين أترابها، وتحدث الشاب عن أبيه العظيم الذي لا تعرف مقره، ويلتقي الأب والابن في حرب بين الترك والفرس، ويقف كلاهما ليقاتل الآخر دون أن يعلما حقيقة أمرهما. ويعجب رستم بشجاعة الصبي الوسيم، ويعرض عليه أن يحفظ عليه حياته؛ فيرفض الغلام هذا العرض بازدراء، ويقاتل قتال الأبطال، ويصاب بجرح مميت. ويقول وهو يحتضر إن أشد ما يحزنه أنه لم يرَ أباه رستم، ويدرك المنتصر أنه قتل ابنه. ويعدو جواد سهراب بغير فارس حتى يدخل معسكر الترك ويصل الخبر إلى والدته في منظر من أجمل مناظر الملحمة:


تئن وتجأر جهد الحزين وينتابها الغشى في كل حين


أطالت بكاء ابنها والنحيبا فأجرت من الناس دمعاً سكوبا


وخرت على الأرض جمراً خمد كأن بها دمعاً قد جمد


وعادت ترجع تحنانها وتذكي على الابن أحزانها


وجاءت إلى طرفه الطائر إلى زينة الزمن الناظر


فلزَّتْ إلى رأسه صدرها يرى الناس في عجب أمرها


وجاءت لحلته في كمد تعانقها كأبنها المفتقد


والقصة كلها غاية في الوضوح يتنقل القارئ فيها تنقلاً سريعاً من حادثة إلى حادثة، ولا يحس بوحدتها إلا حين بوجود الوطن المحبوب في كل سطر من سطورها وإن كان لا يبصره بعينه. ونحن، الذين لا نجد لدينا من الفراغ ما كان يجده الناس قبل أن تخترع تلك الوسائل الكثيرة التي توفر عليهم أوقاتهم، لا نجد متسعاً من الوقت نقرأ فيه كل أبيات القصيدة وندفن فيها كل ملوكها؛ ولكن هل منا من قرأ كل سطر من أسطر الإلياذة أو الإنياذة، أو المسلاة المقدسة، أو الفردوس المفقود؟ إن هذه الملاحم القصصية لا يستطيع قراءتها إلا الذين أتوا القدرة على هضمها. أما نحن فبعد أن نقرأ مائتي صفحة من صفحات الشاهنامة نمل من قراءة أخبار انتصارات رستم على الشياطين، والوحوش، والسرة، والأتراك. ولكن سبب هذا الملل أننا لسنا إيرانيين، لم نسمع إلى أنغام الشعر الفارسي الأصيل الرنانة العذبة، ولا نتأثر بها كما يتأثر بها الفرس الذين أطلقوا اسم رستم على ثلاثمائة قرية في ولاية واحدة من بلادهم. وقد احتفل العالم المتمدن في آسية وأوربا والأمريكيتين في عام 1934 بالعيد الألفي للشاعر الذي ظل كتابه الضخم غذاء لروح الشعب الإيراني مدى ألف عام.


انظر أيضا


المصادر


وصلات خارجية