إنگلترة المرحة
"إنگلترة المرحة Merry England"، أو بالدارجة بالتهجي القديم "Merrie England" (وأيضاً تسمى "Merrie Olde England"), تشير إلى an English autostereotype, a utopian conception of English society and culture based on an idyllic pastoral way of life that was allegedly prevalent at some time between the Middle Ages and the onset of the Industrial Revolution. More broadly, it connotes a putative essential Englishness with nostalgic overtones, incorporating such cultural symbols as the thatched cottage, the country inn and the Sunday roast.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في العمل
أي نوع كانت إنجلترا تلك التي أمدت إليزابث بالقوة وهيأت لها النصر، ووهبت شكسبير اللغة والإلهام؟ وأي صنف من الناس كان هؤلاء الإنجليز في عصر إليزابث، أولئك المغامرون في تهور، الصرحاء الممتلئون حيوية ونشاطاً؟ كيف عاشوا وعملوا ولبسوا وفكروا، وأحبوا وشادوا وغنوا؟
في 1581 بلغ عدد السكان نحو خمسة ملايين، معظمهم مزارعون، ومعظم هؤلاء يفلحون الأرض لمصلحة المالك نظير جزء من المحصول، وبعضهم يستأجر الأرض مقابل إيجار محدد يدفعه، وكان ثمة عدد متزايد من صغار المزارعين الأحرار الذين يمتلكون الأرض ملكية مطلقة، وبقيت مساحات من الأرض على المشاع حيث ثبت أن أرض المراعي تدر ربحاً أكثر من الأرض المحروثة، وكاد الرقيق أن ينقرض، ولكن طرد المستأجرين عن طريق المساحات المشتركة المسورة وعن طريق الضم كان يخلق طبقة بائسة من العمال الذين غامروا ببيع عضلاتهم من مزرعة إلى مزرعة، ومن حانوت إلى حانوت في المدن الآخذة في التوسع (التنقل من أجل الحصول على عمل نظير أجر).
وباستثناء العاصمة، كانت المدن لا تزال صغيرة، على أية حال، وزاد عدد السكان قليلاً عن عشرين ألفاً في كل من نوروك Norwich وبرستول، وهما أكبر مدينتين بعد لندن. وكان لهذه المسألة جانبها المشرق: ذلك أن سكان المدن كانوا متوادين متحابين ينعمون بحسن الجوار. وحتى في لندن نفسها، كان لمعظم البيوت حدائق، أو أنها كانت قريبة من الحقول المكشوفة، ومن ثم يمكن جمع مختلف أنواع الأزهار التي ترنم بها شكسبير. وحصلت البيوت على التدفئة بإحراق الخشب، واستخدمت معظم المصانع الفحم لتوليد الطاقة، ولكن أسعار خشب التدفئة ارتفعت كثيراً في القرن السادس عشر، وحدا ازدياد الطلب على الفحم بملاك الأراضي إلى التنقيب عن الرواسب في أراضيهم. وجيء بالعمال الألمان لتحسين التعدين وعلم المعادن. وحرمت إليزابث استخدام الفحم في لندن، ولكن ثبت أن أوامرها كانت أقل حسماً من الضرورة الاقتصادية(2). وزادت محلات النسيج واتسعت بعد لجوء النساجين والقصارين إلى إنجلترا هرباً من جور دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، وجلب الهيجونوت من فرنسا مهاراتهم الحرفية والتجارية، على أن رجلاً إنجليزياً هو الكاهن الموقر "وليم لي" هو الذي اخترع (1589) "جهاز الجوارب" شبه الآلي للحياكة. وكان صيد السمك أكثر الصناعات ازدهاراً، لأن الحكومة شجعتها بغية تعويد الناس على ركوب البحر والملاحة، ومن ثم تهيئ احتياطياً للبحرية. ومن انحنت ثم إليزابث إجلالاً للكنيسة الكاثوليكية، وأمرت رعاياها أن يمتنعوا عن أكل اللحم يومين في الأسبوع، وأيام الصوم التقليدية في الصوم الكبير.
وكانت نقابات التجار والصناع قد سلبتها القوة والفعالية قيود العصور الوسطى وتوجيهاتها، ومن ثم ظلت النقابات تفقد أسواقها في عصر النزعة الفردية والتجديد. وجمع المتعهدون المهرة رأس المال، واشتروا المواد الخام، ووزعوها على المتاجر والأسرات، واشتروا الإنتاج، ثم باعوه، قدر ما تحتمل ظروف التجارة والمقايضة. وبدأت الرأسمالية في إنجلترا في البيت، بعمل الأب والأم والابنة والابن، للمقاول أو الملتزم. أما وقد نشأ الآن "هذا النظام المنزلي" فقد سار حتى أواخر القرن الثامن عشر. وكان كل بيت تقريباً، بمثابة مصنع مصغر ينسج فيه النساء، ويغزلون الكتان والصوف، ويحكن ويطرزن، ويقمن بتحضير الأدوية من الأعشاب وتقطير المشروبات، ونجحن إلى حد كبير في النهوض بفن الطبخ، في إنجلترا.
وسنت حكومة إليزابث القوانين للاقتصاد بمثل ما سنت به للعقيدة، من غيرة وحماس. وأدركت أن القيود البلدية على الصناعة والتجارة، تعوق النشاط التجاري والصناعي، فاستبدلت بأنظمة الوحدات الإدارية نظاماً قومياً واحداً. وقرر تشريع "التلمذة الصناعية" المشهور (1563) مجموعة قواعد ومبادئ هامة للرقابة والإلزام الحكوميين، وقد ظل قانون لإنجلترا حتى 1815. ومذ كان القانون يهدف إلى القضاء على الخمول والتعطل، فانه تطلب من كل شاب قوي الجسم قادر على العمل أن يخدم كتلميذ لمدة سبع سنوات، لأن الرجل "حتى يبلغ الثالثة والعشرين، يكون في أغلب الأحوال، وليس دائماً، متهور طائشاً لا يحسن التمييز، لم يؤت من التجربة والخبرة ما يستطيع معه أن يحكم نفسه(3)". وكل متعطل عن عمد قبل الثلاثين من العمر، ليس له دخل سنوي مقداره أربعون شلناً، يمكن إجباره على العمل، وفقاً لتوجيه السلطات المحلية. وكل الأصحاء الذين لم يبلغوا الستين في الريف يمكن إلزامهم بالعمل في جمع المحاصيل. ويجب تأجير العمال بعقود سنوية نظير نوع من أجر سنوي مضمون. وخول القضاة الصلح سلطة تحديد الحد الأقصى والحد الأدنى لمكافأة كل عمل في المنطقة التي يعمل بها كل نهم. وحدد أجر العامل في لندن بتسعة بنسات يومياً. وفرضت غرامة قدرها أربعون شلناً على أصحاب العمل الذين يفصلون العمال بشكل تعسفي. أما المستخدمون الذين يتركون أعمالهم بغير سبب مشروع فكان يزج بهم في السجن. وكان محظوراً على أي مستخدم أن يترك مدينته أو أبرشيته دون إذن من رب العمل أو الحاكم المحلي، وحددت ساعات العمل باثنتا عشرة ساعة يومياً في الصيف، وبساعات ضوء النهار في الشتاء. وكان الاضطراب أياً كان نوعه محظوراً، وكانت عقوبته السجن أو الغرامة الثقيلة(4).
وعموماً كان لهذا التشريع مفعوله في حماية أرباب العمل ضد من يستخدمون من العمال، والزراعة ضد الصناعة، والدولة ضد الثورة الاجتماعية. وكتبت نقابة البناءين بالأجر في مدينة هل في صدر قانونها المحلي هذه العبارة: "كل الناس متساوون بالطبيعة، خلقهم خالق واحد من طينه واحدة". ولكن لم يؤمن بهذا أحد، وفي أقل القليل سيسل وإليزابث، ويحتمل أن يكون سيسل هو الذي وجه التشريع الاقتصادي في 1563 ومن نتائجه بالنسبة للطبقات العاملة انه جعل الفقر أمراً إجبارياً. واقترح إعادة تحديد الأجور بصفة دورية وفقاً لأسعار المواد الغذائية الأساسية، ولكن الحكام المكلفين بهذا العمل كانوا ينتسبون إلى طبقة المستخدمين (أرباب العمل). وارتفعت الأجور، ولكن بمعدل أبطأ كثيراً من الأسعار. وفيما بين عامي 1580 و1640 ارتفعت الأسعار بنسبة 100%، على حين ارتفعت الأجور في نفس الفترة 20% فقط(6). وفي خلال القرن من الزمان الذي يمتد من 1550 إلى 1650 كانت أحوال المهنيين تزداد سوءاً يوماً بعد يوم(7). وامتلأت ضواحي لندن "بطبقة فقيرة نسبياً، شريرة غالباً، تقطن في أحقر المساكن(8)"، تعيش في بعض الأماكن على السرقة والتسول، وفي جنازة ارل شروزبري (1591) جاء نحو عشرين ألفا من المتسولين يلتمسون الصدقات(9).
وشنت الحكومة حملات على هذه الرذائل بمجموعة من القوانين الصارمة ضد التسول والاستجداء، وبمجموعة إنسانية نسبياً من "قوانين الفقراء" (1563-1610) التي اعترفت بمسئولية الدولة عن حماية رعاياها من الموت جوعاً. وفي كل وحدة إقليمية جمعت ضريبة لرعاية الفقراء غير القادرين على العمل، وتشغيل القادرين على العمل في مصانع تديرها الدولة.
وتبين إن ارتفاع الأسعار كان حافزاً للصناعة والتجارة قدر ما كان مأساة وكارثة على الفقراء. والأسباب الرئيسية في هذا هو استخراج الفضة في أوربا، واستيراد المعادن النفيسة من أمريكا، وغش الحكومات للعملة (تخفيض قيمتها بزيادة ما تحتويه من معدن خسيس) وفيما بين سنتي (1501-1544) كانت جملة مقادير الفضة المستوردة أو المستخرجة في أوربا تساوي نحو 150 مليوناً من الدولارات بمعدلات 1957، وفيما بين عامي 1545-1600 نحو 900 مليون(10). وكافحت إليزابث بشرف غش النقد الإنجليزي، وتقبلت نصيحة مستشارها البعيد النظر، سير توماس جريشام، الذي حذرها (1560) في عبارة أصبحت "قانون جريشام"، وهي أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، وأن العملة التي تحتوي على النسبة الصحيحة من المعدن النفيس قد تختزن أو ترسل إلى الخارج، على حين أن العملة التي لا تحتوي على النسبة المقررة الصحيحة من المعدن تستعمل لسائر الأغراض الأخرى، وبخاصة في تسديد الضرائب أي "أن يدفع للحكومة النقد الذي سكته هي (وغشته)"، وأصلحت إليزابث وسيسل النقد الذي كان قد غشه أبوها وأخوها، وأعادت إلى العملة الإنجليزية النسبة الصحيحة من الذهب أو الفضة. وارتفعت الأسعار على الرغم من هذا، لأن تدفق الذهب والفضة أو إنتاجهما، وتداول العملة، فاقا سرعة إنتاج السلع.
وأسهمت الاحتكارات في رفع الأسعار. ورخصت إليزابث في احتكار صناعة أو بيع الحديد والزيت والخل والفحم والرصاص ونترات البوتاسيوم أو الصوديوم (الملح الصخري) والنشا والخيوط والجلد، والجلود المدبوغة والزجاج، ولقد مكنت هذه التراخيص، من جهة لتشجيع رأس المال على تحسين الإنتاج، وإقامة صناعات جديدة، ومن جهة أخرى كتعويض أو مكافأة للوظائف والخدمات التي لا تحصل بدونها (أي تراخيص الاحتكار) على أجر كاف. ولما ارتفعت الشكوى من هذه الاحتكارات إلى حد أن البرلمان كاد أن يثور، وافقت إليزابث على وقفها حتى يتم التحقيق فيها والتصديق عليها (1601)، ومن ثم كان الاحتفاظ ببعضها.
ونتيجة لهذا التعويق نمت التجارة الداخلية بخطى أبطأ من تقدم التجارة الخارجية. وفيما عدا المناسبات والأعياد، لم يكن يسمح لأي إنسان أن يبيع السلع في أية مدينة لا يكون هو من سكانها، وكانت هذه المناسبات دورية في كثير من المراكز، وبلغت أكثر من مائة يوم في السنة. وكان أكثرها شيوعاً، "يوم القديس برثلميو" الذي يقام في شهر أغسطس من كل عام بالقرب من لندن، ومع "سيرك" يجذب الناس إلى السلع، وكان انتقال البضائع على الماء أكثر منه بالبر، وكانت الأنهار تعج بالحركة، وكانت الطرق رديئة، ولكنها آخذة في التحسن. ويمكن السير فيها ركوباً لمسافة مائة ميل في اليوم، وقطع الرسول الذي حمل إلى ادنبره نبأ وفاة إليزابث 162 ميلاً في يومه الأول. وكانت الخدمات البريدية التي أنشئت في 1517 مقصورة على الحكومة وحدها. أما البريد الخاص فكان يرسل مع الأصدقاء أو الرسل أو السعاة أو أي مسافرين آخرين. وكان معظم السفر بالبر على ظهور الخيل، أما المركبات فأدخلت حوالي 1564، وظلت حتى 1600 لوناً من الترف لدى قلة من الناس، وما جاءت سنة 1634 حتى كثر عددها إلى حد إصدار بلاغ بتحريم استخدام الأفراد لها استخداماً خاصاً، بسبب ازدحام حركة المرور(11). وكانت الأنزال (الفنادق) الحسنة، كذلك كانت النادلات فيها، اللهم إلا عند الدفع. لكن كان ينبغي على عابر السبيل أن يحرص على كيس نقوده، وأن يخفي وجهته(12). لقد كان على المرء في إنجلترا على عهد إليزابث أن يكون نشيطاً حذراً مستعداً.
ونمت التجارة الخارجية بتقدم الصناعة. وكان تصدير المنتجات الكاملة الصنع هو الوسيلة المفضلة لتسديد ثمن ما يستورد من المواد الخام وماد الترف الشرقية. وتوسعت السوق من الوحدة الإقليمية إلى الأمة بأسرها، ثم إلى أوربا، بل حتى إلى آسيا وأمريكا. واتسعت مجالات الحكومات الوطنية وأهدافها وسلطانها مع اتساع مدى التجارة ومشاكلها، وقد رغبت إنجلترا-مثلما رغبت أسبانيا وفرنسا-وفي تصدير السلع واستيراد الذهب. لأن "النظريات التجارية " التي سادت آنذاك، كانت تقيس ثروة الأمة بمقدار ما لديها من المعادن النفيسة. وواضح أن فرانسيس بيكون كان أول من تحدث عن "ميزان تجاري(13)" مرض، قصد به زيادة الصادرات على الواردات ومن ثم امتصاص الفضة أو الذهب، أو تسربهما إلى داخل البلاد. وأعلن سيسل عن هدفه بقوله: "يجب، بكل الوسائل، أن نقصر استخدامنا للسلع الأجنبية على ما هو ضروري لنا(14)" ولقد أدرك أن الفضة والذهب لا يؤكلان ولا يلبسان، ولكنهما كانا نقداً دولياً، يمكن أن نشتري به عند الضرورة أي شيء تقريباً، حتى الأعداء، وتجب حماية الصناعة الوطنية زمن السل، حتى لا تعتمد الأمة على المنتجات الأجنبية زمن الحرب، ومن ثم عوقت الحكومات الاستيراد عن طريق الرسوم الجمركية، وشجعت التصدير عن طريق الاعانات،وتكونت "شركات التجارة" لبيع المنتجات الإنجليزية في الخارج وهيأ "التجار المغامرون". الإنجليز منفذاً للصادرات في هامبورج. ورأس أنطوني جنكنسون بعثة تجارية إلى روسيا (1557) وأخرى إلى إيران (1562)، وذهبت بعثة أخرى إلى الهند (1583-1591). وأنشئت لجنة إنجليزية تركية (1581). وأسست الشركة المسكوفية في 1595، وشركة الهند الشرقية الشهيرة في التاريخ في 31 ديسمبر 1600، وكان المسرح ممهداً لهستنجز وكليف. وقام عشاق البحر أو المال بمغامرات فبر المحيطات بحثاً عن طرق جديدة للتجارة. وكان علم الجغرافيا، من بعض النواحي، نتيجة غير مقصودة لحماستهم. وقامت حركة ضخمة لبناء السفن، بحثاً عن الأسواق والمستعمرات. وتحولت أخشاب غابات إنجلترا إلى سفن وصوار. وشرعت بريطانيا تتحكم في الأمواج وتحكم البحار. وولدت الإمبراطورية البريطانية قولاً وعملاً.
ولما انتشرت التجارة واتسع مجالها، تطورت النظم المالية لتيسير عملياتها وتعجيلها. وتضاعف عدد المصارف. وفي 1553 أنشأ "التجار المغامرون" شركة مساهمة مشتركة للتجارة مع روسيا، أصدرت 240 سهماً قيمة كل منها 25 جنيهاً، وكانت الأرباح توزع بعد كل جولة. ويعاد رأس المال المستثمر(15). ومولت شركة الهند الشرقية رحلاتها بمثل هذه الطريقة. وأدت الأرباح التي بلغت 2slash1 87% في أول رحلة إلى اندفاع المساهمين إلى الاشتراك في المشروع أو المغامرة الثانية-ومنهم رجال البلاط، والقضاة، ورجال الدين، والفرسان، والأرامل، والعوانس، والحرفيون. وأحب الرجال والنساء آنذاك حباً جماً، كما هو الحال اليوم تماماً. وكان قد حرم الفوائد على القروض حتى 1552، بوصفها "رذيلة ما أقبحها(16)"، ولكن القوة المتزايدة لرجال الأعمال في مجلس العموم، أدت إلى صدور "قانون الربا" في 1571، وقد ميز هذا القانون بين الفائدة والربا، وأجاز نسبة 10% سعراً الفائدة. ولما ازداد التعامل في الأسهم أنشئت سوق الأوراق المالية (البورصة) لتبادل ملكية الأسهم والبضائع. وسك مزيد من النقود المتداولة ليتسنى شراء السلع وبيعها. وفي 1566 أسس جريشام "البورصة الملكية" لتقوم بمثل هذه العمليات التجارية والمالية. وفي 1583 أصدرت أقدم "بوليصة" تأمين على الحياة(17).
ونمت الروح التجارية مذ أصبحت لندن واحدة من أسواق ومراكز العالم المزدهرة. وتألقت الشوارع غير المضاءة بما تكدس فيها من بضائع. وحكم جواب آفاق طاف بأقطار كثيرة، بأن منشئات الصياغ في لندن أفخم مثيلاتها في أي مكان آخر في العالم(18). وجن جنون أصحاب الأعمال للحصول على دور لهم، واستعمل بعضهم صحن كاتدرائية سانت بول مقراً مؤقتاً لمكاتبهم، وكلهم ثقة بأن "المسيح" كان قد غير رأيه منذ ظهر كلفن، وهناك تعامل المحامون مع عملائهم، وأحصى الناس المال فوق المقابر، وفي الفناء باع الباعة المتجولون الخبز واللحم والسمك والفاكهة والجعة والبيرة، وتدافعت حشود المشاة والباعة المتجولون والمركبات وعربات النقل في الشوارع الضيقة الموحلة. واستخدم نهر التايمز كطريق رئيسي تمر به مراكب نقل البضائع والمعديات ومراكب النزهة، وكاد يوجد في كل نقطة فيه مجدف أو معد معه قارب، مستعد لنقل البضائع أو الركاب عبر النهر، ضد التيار، أو مع التيار. ومن ثم كانت صيحاتهم العالية (نداءاتهم للركاب): "شرقاً" أو "غرباً"، التي أخذت عنها عنوانات "روايات جاكوب". وكان النهر، إذا زالت عنه رائحته-نعمة كبرى للتجارة والنزهة والعشاق، وخليقة للمشاهد المسرحية الفخمة والمساكن الفاخرة. وكان جسر لندن الذي بني في 1209 مفخرة المدينة، والطريق الوحيد بين طرفيها الشمالي والجنوبي. وتخصص الجنوب في الحانات والمسارح والمواخير والسجون. أما الشمالي فكان المركز الرئيسي الأعمال. وهنا كان التاجر هو السيد، وكان اللورد صاحب اللقب يدخل بعد السماح له بالدخول. وكانت الشخصيات الملكية والنبلاء يقطن معظمهم في قصور خارج لندن. وكان حي وستمنستر، مقر البرلمان آنذاك، مدينة منفصلة. وهناك أيضاً أجبرهم رجل الأعمال على سماع صوته، وما وافت سنة 1600 حتى بات في مقدوره أن يزعج الملكة، وبعد نصف قرن تقريباً (حوالي 1650) قطع رأس الملك.
في المدارس
لم يكن عصر شكسبير متوفراً على التعليم. فتعلم العصر قليلاً من اللاتينية، وأقل منه من اليونانية، مع قدر أكبر من الإيطالية والفرنسية، وقرأ الكتب بنهم ولكن بسرعة، واندفع يحكم عليها بالتجربة والاختبار، وتعلم من المدرسة الحياة، وأجاب معلمه بوقاحة لم يسمع بمثلها.
ولم تكن اللغة التي استعملها هذا العصر هي لغة المدارس، ولكنها كل لغة الحديث الموروثة عن عهود الكلت والرومان والسكسون والنورمنديين في إنجلترا، مزيدة بالغنائم اللغوية من فرنسا وإيطاليا، كما انتزعت بعض الألفاظ العامية من شوارع لندن، ومن اللهجات في المقاطعات، ولكن لغة العصر لم تقنع بهذا، فجعلت الكلمات تلد الكلمات، وجعلت الخيال الواسع يتخبط في الكلام الخلاق. وهل كان ثمة لغة حية قوية مرنة غنية مثلها؟ ولم تتوقف لتضع لهجائها القواعد، وقبل 1570 لم توجد قواميس للإرشاد إلى ضبط الهجاء والإملاء، ولم يحدد شكسبير كيف يتهجى اسمه. واستخدم الاختزال، ولكنه لم يهدئ من روع أصحاب الأعمال المهتاجين، ولم يسعف الشعر.
وقضى هنري الثامن على تعليم البنات المنظم حين حل أديار الراهبات. أما التعليم الابتدائي فكان ميسوراً مجاناً لأي ولد يمكنه الوصول إلى إحدى المدن. وفتحت إليزابث مائة مدرسة متوسطة مجانية Grammar School، وأضاف إليها جيمس الأول وشارل الأول 288 مدرسة أخرى. أما الأولاد (البنين) من ذوي الأصل العريق فقد كانت قد أسست لهم بالفعل مدارس خاصة Public School (مدارس ثانوية داخلية) في ونشستر، وايتون، وسانت بول، وشروزبري، وأضيف إليها الآن رجبي (1567)، وهاور (1571)، ومدرسة Marchant Tayior's، (1581) حيث لمع الاسم التربوي العظيم ريتشارد مولكاستر. وكان المنهج تقليدياً، بالإضافة إلى الضرب، وكان تعليم المذهب الأنجليكاني إجبارياً في جميع المدارس. وفي وستمنستر كانت الدراسة تبدأ في السابعة وتنتهي في السادسة، مع فترات فيها شيء من الشفقة: لطعام الإفطار في الثامنة، ولسنة من النوم والخلوة بعد الظهر. وكان الآباء يصرون على أن تنهض المدرسة على أكمل وجه، بإحدى مهامها الرئيسية، ألا وهي تخليصهم من أبنائهم.
وظلت أكسفورد وكمبردج تحتكران التعليم الجامعي. وكانتا قد فقدتا هيبتهما والثقة بهما في أثناء الإصلاح الديني وما اقترن به من هياج وشغب، كما انصرف عنهما آلاف الطلاب، ولكنهما كانتا تستردان مكانتهما، وفي 1586 كانت كل جامعة منهما تضم نحو 1500 طالب. وفي جامعة كمبردج تبرع سير والتر ميلدماي Mildmay بكلية عمانويل في 1584، وأسست فرانسس، كونتيسة سسكس وعمة فيليب سدني، كلية سيدني سسكس في 1588. وفي أكسفورد أسست كلية يسوع بأموال حكومية وغير حكومية 1571، وأضيفت كليتا واهام (1610) وبمبروك (1624) في عهد جيمس الأول. وشرفت كمبردج في 1564 بزيارة الملكة التي استمعت في وقار وتواضع إلى خطاب رسمي باللاتينية في مدحها، وفي كلية ترنتي ردت باليونانية على خطاب باليونانية، وفي الطرقات تبادلت الحديث مع الطلبة باللاتينية، وفي نهاية الزيارة وجهت خطاباً باللاتينية أعربت فيه عن أملها في أن تفعل شيئاً من أجل التعليم. وبعد ذلك بعامين زارت أكسفورد مبتهجة مفاخرة بقاعاتها وملاعبها، وعند مغادرتها الجامعة صاحت في حماس: "وداعاً رعاياي الأفاضل، وداعاً أبنائي الطلبة الأعزاء، وفقكم الله في دراستكم(19)". لقد عرفت كيف تكون ملكة.
ونافست نساء إنجليزيات أخريات إليزابث في مجال العلم والمعرفة. فاشتهر بنات سير أنطوني كوك بعلمهن. واتخذت ماري سدني كونتيسة بمبورك من بيتها، في ولتن منتدى للشعراء ورجال السياسة والفنانين الذين تبينوا فيها عقلاً ناضجاً يمكنها من تقدير أحسن ما يملكون أو يقدمون. وتلقى مثل هؤلاء السيدات معظم تعليمهن على أيدي معلمين خاصين في البيت. وكانت المدارس المتوسطة مفتوحة للجميع، أما الثانوية الخاصة والجامعات فكانت قصراً على الذكور فقط.
وكان من أبرز سمات العصر أن أقدر الماليين في عهد إليزابث أسس في لندن (1579) "كلية جريشام" للقانون والطب والهندسة وعلوم البلاغة وغيرها من الدراسات النافعة لطبقة أصحاب الأعمال، وحدد أن تكون المحاضرات بالإنجليزية واللاتينية على حد سواء، طالما أن التجار وغيرهم من المواطنين سيلتحقون بها(20). وأخيراً كان تعليم طبقة ذوي اليسار أو ذوي الألقاب يكمل بالسياحة والرحلات. وقصد الطلبة إلى إيطاليا لاستكمال تدريبهم الطبي والجنسي، وللتعرف على آداب الإيطاليين وفنونهم، وتعلم كثيرون أن يعرجوا على فرنسا في الطريق. ولم تكن اللغة عائقاً آنذاك، لأن كل متعلم في غرب أوربا ووسطها كان يعرف اللاتينية. وعلى الرغم من ذلك فان المسافرين العائدين أتوا معهم إلى الوطن بإثارة من الإيطالية والفرنسية، كما جاءوا بولع شديد بالأخلاقيات الهينة اللينة التي سادت إيطاليا في عصر النهضة.
الفضيلة والرذيلة
إن كل تلميذ ليعرف تنديد روجر أسكام في 1563 بالرجل الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين، حيث يقول:- أني لأعتقد أن الذهاب إلى هناك "إلى إيطاليا".... خطر، أي خطر... لقد جعلت الفضيلة يوماً من هذه البلاد سيدة على العالم. ولكن الرذيلة جعلت منها الآن عبداً لمن كانوا من قبل يلذ لهم أن يخدموها.... إني على العكس من ذلك، أعرف رجالاً غادروا إنجلترا ممن عرفوا فيها بالحياة البريئة والمعرفة الواسعة عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسهم عن الاستقامة في الحياة وانصرفوا عن العلم، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل سفرهم إلى الخارج. وإذا ذهب بك الظن إلى أننا لا نقرر الحقيقة. فاستمع إلى ما يقوله الإيطاليون... "إن الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين ليحمل بين جنبيه شيطاناً متجسداً فيه".... وكنت أنا نفسي ذات مرة في إيطاليا، وأحمد الله إني لم أمكث فيها إلا تسعة أيام فقط. ومع ذلك رأيت في هذا الوقت القصير، في مدينة واحدة، من الإباحية والمجون والإثم مالا أكاد أذكره عن مدينتنا الفاضلة لندن في تسع سنوات(21).
ولم يكن معلم إليزابث هو الوحيد الذي ضرب على هذه النغمة. فقد كتب ستيفن جسون Gosson في كتابه "مدرسة الفساد" (1579) "لقد سلبنا إيطاليا دعارتها، انك إذا قارنت بين لندن وروما، وبين إنجلترا وإيطاليا لوجدت أن مسارح الواحدة منها فاسدة والأخرى منتشرة انتشاراً واسعاً بيننا". ونصح سيسل ابنه ألا يسمح لأولاده أن يعبروا جبال الألب. "لأنهم لن يتعلموا هناك شيئاً سوى الغرور وعدم احترام المقدسات والإلحاد(22)". وفي كتابه "تشريح المفاسد"، وصم فيليب ستبز Stubbs- وهو بيوريتاني- الإنجليز في عصر إليزابث- بأنهم أشرار مترفون مزهوون، يفاخرون بخطاياهم. ونعى الأسقف جول Jewel في موعظة ألقاها أمام الملكة- نعى على الناس في لندن أنهم في سلوكهم وأخلاقهم "يهزؤون بكتاب الله المقدس، الإنجيل، ومن ثم يصبحون أكثر فسقاً وأكثر شهوانية وحباً للدنيا وأكثر دعارة، مما كانوا عليه في أي وقت مضى... وإذا كانت حياتنا تشهد بعقيدتنا وتنم عن ديننا، فإنها تنادي بأعلى صوت..... ليس هناك إله(23) .
إن مثار الضجة والنعي على الأخلاق يرجع في كثير منه إلى أساتذة الأخلاق الذين نددوا أشد التنديد بالنساء والرجال الذين لم يعودوا يلقون بالاً إلى أهوال الجحيم أو يؤمنون بها. ويحتمل ألا يكون الناس في مجموعهم شراً أو خيراً عما كانوا عليه من قبل، ولكن، كما تشددت الأقلية البيوريتانية في أخلاقها وقترت في أموالها واقتصدت في بنات شفاهها، كذلك اتفقت أقلية وثنية مع الإيطاليين على أن التمتع بالحياة، أفضل من إرهاق أنفسنا بالتفكير في الموت دون جدوى. ويمكن أن تكون الأنبذة الإيطالية، التي كان الناس يقبلون عليها في إنجلترا، قد ساعدت على الإباحية في الأخلاق، وبالمثل على توسيع الشرايين، وكان ذلك أبقى أثراً. وربما جاء من إيطاليا ومن فرنسا ومن الآداب القديمة، معنى أصرح إحساساً بالجمال. ولو أن هذا المعنى جلل بشيء من الحزن نتيجة شعور أقوى بقصر عمر الجمال. وحتى جمال الشاب النضير كان يثير الناس في عصر إليزابث أشد إثارة. وأجرى مارلو (في روايته دكتور فاوست) على لسان ميفستوفيلس. امتدحه لفاوست على انه أجمل من السموات. وتأرجحت قصائد شكسبير (Sonnet تتألف من 14 بيتاً) بين عشق المرء لأفراد جنسه وعشقه لأفراد الجنس الآخر. ولم يعد جمال المرأة مجرد خيال شعري، ولكنه ثمل سرى في الدم وفي الآداب وفي البلاط، وحول القراصنة إلى شعراء. وجمع نساء البلاط الظرف وخفة الدم إلى التجميل والتطرية فسحرن ألباب الرجال كما أسرن قلوبهم. وكان في التواضع إغراء بالاقتناص ومضاعفة لسلطان الجمال. وضاعت الابتهالات إلى مريم العذراء وسط استنكار العذرية والانتقاص من قدرها. وتفجر الحب الرومانتيكي في الأغاني مع حرارة الرغبة المتمنعة. وابتهج النساء إذ رأين الرجال يقتتلن من أجلهن، وأسلمن أنفسهن، بالزواج أو بغيره، لمن تكون له الغلبة. وكان من سمات اضمحلال سلطان العقيدة أن موافقة الكنيسة أو مراسمها لم تعد الآن مطلوبة لصحة الزواج، ولو أن الاعتراف به كان يعتبر إساءة للناموس العام، تمييزاً له عن القانون. وكانت معظم الزيجات تدبر عن طريق الوالدين، بعد إطراء متبادل لمزايا الطرفين، ومن ثم تصبح معبودة الساعة المشدوهة، ربة بيت متحررة من الأوهام، منصرفة بكليتها إلى أولادها ومهامها الشاقة، هكذا يعمّر الجنس البشري.
وثمة انحلال خلقي أسوأ دمغت به الحياة العمة، فقد تفشى في الوظائف الرسمية ابتزاز الأموال، قلت أو كثرت، وتغاضت عنه إليزابث، كعذر لها عن عدم زيادة الرواتب(25). وكان أمين صندوق الحرب يحصل على 16.000 جنيه سنوياً علاوة على راتبه. وبالاحتيال القديم قدم الأزل، كانوا يحتفظون بأسماء الجنود الموتى في قوائم الجيش ويضعون مخصصاتهم في جيوبهم ويبيعون الملابس المخصصة لهم(26). وكان الجندي يساوي وهو ميت أكثر منه وهو حي، وقبض ذوو المناصب الكبيرة مبالغ ضخمة من فيليب الثاني ليوجهوا سياسة إنجلترا نحو أهداف أسبانيا(27). ومارس أمراء البحر القراصنة وباعوا الرقيق. وباع رجال الدين رواتب الكنيسة(28)، وكان يمكن إغراء الصيادلة بتسميم الأدوية والأطباء بوصفها للناس. وغش التجار في البضائع، ووصل الأمر إلى فضيحة عالمية، ففي 1585 حدث من الغش في الأقمشة الصوفية وغيرها في إنجلترا أكثر مما حدث منه في أوربا بأسرها(30)، وكانت الأخلاق العسكرية بدائية ساذجة. وكم من مرة حدث الاستسلام بلا قيد ولا شرط، فكان جزاؤه إعمال الذبح في الجنود وفي غير المحاربين على حد سواء. وكان السحرة والعرافون يحرقون. كما كان الجزويت يؤخذون من فوق المشنقة ليقطعوا إرباً(30). لقد جرت ينابيع الرحمة الإنسانية مستأنية في عهد الملكة الفاضل إليزابث.
العدالة والقانون
مازالت طبيعة الإنسان تنفر من المدنية، على رغم القرون العديدة التي سادت فيها الديانات وقامت الحكومات، وظلت تعبر عن الاستياء والاعتراض في سلسلة طويلة من الخطايا والجرائم، لم تفلح القوانين والأساطير والعقوبات في وقف سيلها. وكان في قلب لندن أربع مدارس للقانون هي The Inner Temple, The Middle Temple Gray's Inn Lincoln's Inn تعرف في جملتها باسم دور القضاء وأقام الطلبة فيها كما كانوا يقيمون في قاعات كليات أكسفورد وكمبردج. ولم يسمح بالالتحاق بها إلا لذوي المحتد الكريم، وكان كل المتخرجين فيها يقسمون اليمين على خدمة التاج. وكان البارزون منهم أو الذين يسهل قيادهم يصبحون قضاة في محاكم الملكة. وارتدى القضاة والمحامون في أثناء تأدية عملهم أردية تدل على الهيبة والوقار، وكأن عظمة القانون وجلاله يكمنان في خياطة الثياب.
وكانت المحاكم، بالإجماع، فاسدة. وعرف أحد أعضاء البرلمان قاضي صالح بأنه: "حيوان يمكنه أن يستغني بست دجاجات عن اثنا عشر قانوناً(32)". وطلب فرنسيس بيكون مغريات أكبر. وفي رواية شكسبير قال الملك لير الذي روعه الحزن : "اكسوا الخطيئة بالذهب، يتكسر سيف العدالة القاطع دون أن يؤذي أحداً(33)"، ولما كان القضاة يعزلون وفق مشيئة الملكة فانهم حسبوا لهذا حسابه في أحكامهم، وقبض ذوو الحظوة لديها الرشوة ليغروها بالتدخل في قرارات الحاكم(34)، وظل نظام المحلفين معمولاً به، إلا في تهمة الخيانة العظمى، ولكن غالباً ما كان القضاة أو موظفو التاج يخوفون المحلفين ويكرهونهم على قضاء مآربهم بالتهديد(35)، وكان هناك توسع في تعريف تهمة الخيانة العظمى لتشمل كل عمل يهدد حياة صاحب العرش أو جلاله. وكان نظر مثل هذه القضايا أمام محكمة قاعة النجم (The Star Chamber)-وهو مجلس شورى الملكة منعقداً على هيئة محكمة ليمارس سلطاته القضائية، وهناك كان المتهم محروماً من تحقيق المحلفين لقضيته أو المعارضة في أمر حبسه، أو من محام للدفاع عنه، بل كان عرضة للاستجواب المرهق أو التعذيب، وكان يحكم عليه عادة بالسجن أو الإعدام.
وقام قانون العقوبات على العوائق أكثر منه على المراقبة والكشف عن الحقيقة. ولما كانت القوانين ضعيفة فقد باتت العقوبات صارمة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لأية واحدة من مائتي جريمة. منها الابتزاز بالتهديد، وقطع الأشجار الصغيرة، وسرقة أكثر من شلن واحد. وبلغ متوسط من شنقوا بسبب الجريمة، سنوياً، في إنجلترا المبتهجة، في عهد إليزابث، 800 شخص(36). أما الجرائم الصغرى فكان عقابها التعذيب بالمشهرة والمخلعة والجلد بالسياط، وإحراق ثقب في الأذن أو اللسان أو إحدى الأذنين أو اليدين(37). ولما كتب جون ستبز، وهو محام بيوريتاني، نشرة يستنكر فيها اقتراح زواج إليزابث من ألنسون، باعتبار هذه الزواج خضوعاً أو استسلاماً للكاثوليكية، قطعت يده اليمنى بأمر القاضي، فرفع جون الجدعة الدامية، ورفع بيده اليسرى قبعته، ثم هتف "لتحي الملكة(38)" وقدم فيليب سدني إلى الملكة احتجاجاً على هذه الوحشية. واستشعر سيسل العار والخجل فعينه في منصب حكومي ذي راتب كبير وجهد يسير. وكان التعذيب غير مشروع، لكن محكمة قاعة النجم استخدمته، وإنا لنلاحظ أنه برغم أن آداب العصر كانت عميقة قوية، فإن المستوى العام لمدنية العصر لم يبلغ مستوى المدنية في إيطاليا أو أفنيون في عهد بترارك، وأقل كثيراً منه في روما على عهد أغسطس.
في البيت
بدأت الحياة الإنجليزية بمحاولة التغلب على مشكلة وفيات الأطفال، وكانت نسبتها عالية، وكان سير توماس براون من أعلام الطب، ومع ذلك مات ستة من أولاده العشرة في سن الطفولة(39). ثم كانت الأوبئة، مثل "مرض العرق" 1550، والطاعون الذي حل بالبلاد 1563، 1592-1594، 1603، ولا بد أن متوسط الأعمار كان منخفضاً، قدرته بعض الإحصاءات بثمان سنوات ونصف سنة(40). وكبر الناس وإدراكهم الهرم بأسرع مما هو حادث الآن. أما الذين عمروا فهم الشجعان ذوو القدرة على الاحتمال الذين صلبت أعوادهم وقويت أعصابهم بمقارعة الموت، من اجل الخدع الحربية والأسلاب.
وكانت الرعاية الصحية آخذة في التحسن. وبدأ الصابون يكون ضرورياً بعد أن كان ترفاً. وحوالي 1596 ابتدع سيرجون هانجتون مرحاضاً فيه ماء جار. وكانت الحمامات الخاصة قليلة. واستخدمت معظم الأسرات حوضاً خشبياً موضوعاً أما نار مكشوفة. وكان في كثير من المدن حمامات عامة. وهيأ Bath and Buxton للطبقة العليا منشئات أنيقة للاستحمام. وقدمت "الدفيئات" (Hot Itouses) حمام البخار، وقدمت التسهيلات للأكلات واللقاءات الغرامية غير المشروعة، وزودت بيوت الميسورين دون غيرهم بموارد مياه خاصة بهم في منازلهم، أما معظم الأسرات فكانت تلتمس الماء من قنوات عامة مفتوحة على ينابيع مزخرفة.
وبنيت البيوت في القرى والمدن من الآجر والجص، تحت سقوف من القش، ولا يزال كوخ آن هاثاواي بالقرب من ستراتفورد- أون- أفون، محتفظاً به في حالة جيدة، كنموذج لهذه المساكن. أما في المدن الكبرى فكانت البيوت متلاصقة عادةً، واستخدم في بنائها قدر أكبر من الآجر والحجر، وكان لها سقوف من القرميد، وكانت المشربيات المقسمة بأعمدة من الحجر والأدوار العليا الناتئة تلفت أنظار الذين لم يألفوا رؤيتها. وكانت البيوت من الداخل مزدانة بالنقوش والعمدة. وكانت المدفأة تضفي على الغرفة الرئيسية أو القاعة الكبرى جلالاً وتزودها بالدفء، كما كان السقف-من الخشب أو الجص- يقسم إلى رسوم متماثلة أو غريبة. وكانت هناك المداخن التي تنفث الدخان إلى الخارج، وكان من قبل يلتمس له منفذاً من ثقب في السقف. وكانت المواقد تساعد على تدفئة البيت. وكانت النوافذ الزجاجية شائعة آنذاك. ولكن ظلت الإضاءة في الليل بالمشاعل أو الشموع. وغطيت أرضية البيوت بالأسل والأعشاب ذات الرائحة الزكية عندما تكون طازجة، ولكنها لا تلبث أن تصبح كريهة الرائحة، وتؤوي الحشرات. وجاء السجاد بعد ذلك بخمسة وأربعين عاماً. وكانت الجدران تزدان بالأقمشة المزركشة بالصور والرسوم. مما مهد الطريق لرسم اللوحات، في عهد شارل الأول. واستخدم معظم الناس المقاعد الطويلة لشخصين أو أكثر والكراسي ذوات الأرجل الثلاث، أما الكرسي ذو الظهر فكان ترفاً اختص به الضيف الكريم أو رب البيت أو ربته، ومن هنا جاء التعبير "يأخذ الكرسي ذا الظهر" بمعنى "يترأس المجلس"، وفيما عدا هذا كان الأثاث متيناً رائعاً. فكانت، صواوين المائدة (البوفيه) والمنضدة وخزائن النفائس (دولاب الفضية) والصناديق الثمينة والأسرة ذوات القوائم العالية تصنع وتحفر من خشب الجوز أو البلوط، لتعمر قروناً طويلة. وكان السرير المزود بحشايا سميكة من الريش، وبأغطية حريرية (ناموسية)، يتكلف ألفاً من الجنيهات، ويعتبر شيئاً ثميناً يزهو به أهل البيت ويتوارثونه جيلاً بعد جيل. وخلف البيت أو حوله، في كل الطبقات تقريباً، كانت توجد حديقة زاخرة بالأشجار والشجيرات، تهيئ لهم الظل، وتمدهم بالأزهار التي اعتاد النساء أن يستعملنها فيتزين بيوتهن وشعورهن، واعتاد شكسبير أن يعطر بها شعره-زهرة الربيع، الزنبق، صريمة الجدي (شجيرة أزهارها غنية بالرحيق) وزهر العليق الجميل، والقرنفل الملتحي، والأدريون (القطيفة)، وزهرة كيوبيد وزنبقة الوادي، وغيرها كثير، بالإضافة إلى الورود البيضاء أو الحمراء.... ويقول بيكون: "أن الله سبحانه وتعالى غرس حديقة، لولاها لكانت الأبنية والقصور التي شيدها الإنسان فظة غير مقبولة(41)".
وغالباً ما تكلفت زينة المرء أكثر كثيراً من زخرفة بيته. ولم يبز أي عصر من العصور عصر إليزابث في فخامة الثياب. وكان من بين نصائح بولونيس قوله: "إن الثياب مرهون بما تستطيع أن تدفع". وعند الطبقات الميسورة اجتمعت كل الأزياء من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، لتعوض الإنسان عما سلبته إياه الشهوة والزمن. وسخرت بورشيا من الشاب فالكنبردج قائلة: "أظنه اشترى صداره من إيطاليا وسرواله القصير من فرنسا، وقلنسوته من ألمانيا وسلوكه من كل مكان(42)". وضربت إليزابث مثلاً ونموذجاً للتزين، إلى درجة أنه في عصرها تغيرت الأزياء مراراً وتكراراً، لأن محاكاة الناس لها بشكل عام، كادت تمحو الفروق الطبقية. وتبدي شخصية من شخصيات "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً Much Ado Adout Nothing" "الحزن والأسف على أن" تغير الأزياء يفني من الثياب أكثر مما يفنيه الإنسان(43). وحاولت قوانين الإنفاق أن تضع حداً لهذا الاضطراب والفوضى في حياكة الملابس، فصدر قانون 1574 ليعالج "التبذير والضياع عند عدد كبير من الشبان الذين يلبسون ما يملكون من أرض فوق ظهورهم". وحرم هذا القانون على غير الأسرة الحاكمة، والدوق والمركيز والارل، لبس اللون الأرجواني، أو الحرير أو القماش الموشى بالذهب، أو فراء السمور، كما حرم على غير البارونات وذويهم لبس الفراء والمخمل القرمزي، أو الأصواف المستوردة، والملابس المطرزة بالذهب أو الفضة أو اللؤلؤ(44)، ولكن سرعان ما أمكن التهرب من هذه القوانين، لأن البرجوازية الطامعة استنكرتها لا لأنها مثيرة للاستياء والغضب فحسب، بل لأنها كذلك تعوق التجارة، فألغيت في 1604.
واتخذت القبعات على أي شكل ومن أي لون، من القطيفة أو الصوف أو الحرير أو الشعر الناعم الرقيق، ووضع الناس قبعاتهم على رؤوسهم دائماً تقريباً، خارج البيت أو البلاط، وحتى في الكنيسة كان الرجال يرفعون قبعاتهم-تمسكاً بالمراسيم-عند الالتقاء بالسيدات. ولكنهم يلبسونها فوراً. واحتفظ الرجال بشعورهم الطويلة قدر ما احتفظت النساء بها، وأرخوا اللحى غزيرة. ووضع الجنسان كلاهما حول الرقبة طوقاً مكشكشاً وياقة من الكتان و"الكمبريكي Cambric" (قماش من القطن أو الكتان أبيض ناعم) موضوعة على إطار من الورق المقوى والأسلاك، تيبست في ثنيات أو طيات عريضة حادة، "بمادة سائلة سموها النشا(45)" ظهرت في إنجلترا آنذاك لأول مرة. وكانت كترين دي مديتشي أدخلت هذه البدعة إلى فرنسا 1533 بوصفها شيئاً للتزين والزخرف، ولكن الزي السائد (موضة العصر) توسع فيها حتى جعل منها آلة تعذيب تصل إلى الأذنين.
وجعلت الملابس من النساء لغزاً لا يمكن النفاذ إلى كنهه إلى حين. ولا بد أن نصف يومهم كان يستغرق في اللبس والخلع. ويتم تجهيز السفينة وتزويدها بكل ما يلزمها بأسرع مما تتزين المرأة(46). حتى الشعر كان يمكن أن يلبس أو يخلع، لأن إليزابث رسمت لهم نموذجاً في لبس اللمة أو الشعر المستعار المصوغ بلون خصلاتها الذهبية أيام شبابها، وكان الشعر المستعار شائعاً لأن النساء الفقيرات-كما قال شكسبير-كن يبعن خصلات شعرهن "بالميزان(47)". وبدلاً من القبعات آثر معظم النساء قلنسوة بالغة الصغر أو شبكة شفافة تسمح بإبراز فتنة شعرهن. وكانت أدوات التجميل تصبغ الوجوه وتزجج الحواجب، والأقراط تتدلى من الآذان، والمجوهرات تتألق في كل مكان. وكان الطوق المكشكش للنساء، مثل ما هو للرجال، ولكن كان صدر المرأة في بعض الأحيان عارياً إلى حد ما(48). ولما كانت إليزابث ضامرة الصدر مستطيلة البطن، فقد ابتدعت زياً تطول فيه السترة على شكل مثلث إلى رأس دقيق تحت الخصر المشدود. وكانت التنورة تمتد من الأوراك بواسطة الطوق الموسع. وكانت العباءة المصنوعة من قماش هفهاف بشكل محكم، تغطي الأرجل، وابتدعت الملكة الجوارب الحريرية. وكانت التنورات تتدلى حتى تمس الأرض، والأكمام منتفخة، والقفازات مطرزة معطرة. وكانت السيدة تستطيع في الصيف أن تتحدث بالمروحة المزدانة بالجواهر، ومن ثم تأتي بأفكار فيها من الرقة ما لا تعبر عنه الكلمات.
ولكن الحياة في البيت نادراً ما كانت بملابس كاملة. وكان تناول الإفطار في الساعة السابعة والغذاء في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، والعشاء في الخامسة أو السادسة. وهكذا ينقضي النهار. وكانت الوجبة الرئيسية يتناولونها قرب الظهر، وكانت وجبة زاخرة بألوان الطعام. وقال أحد الفرنسيين "إن الإنجليز يملئون بطونهم(49)". وظلت الأصابع تقوم مقام الشوكة التي بدأ استعمالها في عهد جيمس الأول. وكانت الأطباق الفضية تزين البيوت الموسرة. وكان اختزانها بالفعل وقاء ضد التضخم. أما الطبقات الوسطى الدنيا فإنها استخدمت أواني من القصدير (البيوتر)، واستخدم الفقراء أطباقاً من الخشب وملاعق من مادة قرنية (من القرون). وكان اللحم والسمك والخبز هي الأطعمة الرئيسية، وكان كل من يداوم عليها تقريباً يعاني من داء النقرس. وكانت منتجات الألبان شائعة مألوفة في الريف لأن وسائل التبريد كانت لا تزال غير متوفرة في المدن. وكان الفقراء فقط يستخدمون الخضراوات بكثرة لأنهم كانوا يزرعونها في أراضي حدائقهم. وكان البطاطس الذي جاء به والتر رالي أثناء رحلاته في أمريكا، من إنتاج الحدائق، لأنه لم يكن قد أصبح من محاصيل الحقول. واشتهر الإنجليز "بالبودنج" (نوع من الحلوى) يستطيبون أكله فوق الفاكهة التي يختمون بها طعامهم. وكان الإنجليز يقبلون على الحلوى، قدر إقبالهم عليها اليوم، ولهذا كانت أسنان إليزابث سوداء.
وتطلبت هذه الأكلات الشهية بعض السوائل المزلقة: الجعة، البيرة، النبيذ أو عصير الفاكهة. ولم يكن الشاي والقهوة قد أصبحتا مشروبات إنجليزية. وشاع شرب الويسكي في أنحاء أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر (وكان يسمى ماء الحياة). وكان تقطيره من الحبوب في الشمال، ومن النبيذ في الجنوب. وكان شرب الخمر بمثابة احتجاج على المناخ الرطب. وتحي عبارة "ثمل كأنه لورد" بأن هذا العلاج كان يتمشى مع السلم الاجتماعي. وأدخل التبغ إلى إنجلترا على يد جون هوكنز (1564) ودلايك، وسير رالف لين، وجعل رالي من التدخين عادة مألوفة في البلاط، وأخذ منه نفثة أو نفثتين قبل ذهابه إلى المشنقة، وكان التبغ في أيام إليزابث غالي الثمن إلى درجة حالت دون انتشار التدخين، وفي بعض التجمعات التي تسودها الألفة والبهجة، كانوا يعمدون إلى تمرير غليون واحد على كل الضيوف حتى يستمتع كل منهم بنصيبه من التدخين وفي 1604 شن الملك جيمس "هجوماً عنيفاً على التبغ"، ناعياً إدخاله إلى إنجلترا محذراً من "سم معين" فيه، يقول:-
أليس من أشد الحمق والقذارة أنه على المائدة، وهي محل الاحترام والنظافة والتواضع، لا يخجل الناس من أن يتقاذفوا الغلايين وينفثوا الدخان، الواحد منهم في وجه الآخر، فينبعث الدخان والقذر والرائحة الكريهة على الأطباق، ويلوث الهواء؟.
لقد انتشر استعمالها في كل زمان وفي كل مكان بين الناس على اختلافهم... لأنهم، على الأقل، اضطروا إلى تناوله، على كره منهم، خجلاً من أن يرموا بالشذوذ... وفوق ذلك، فإن الزوج لا يخجل من أن يكره زوجته الرقيقة الصحيحة الجسم النظيفة البشرة على هذا الخطر العظيم-التدخين-فتفسد بذلك أنفاسها الزكية، أو توطن النفس على أن تظل دوماً في عذاب ثمل... إنها عادة ضارة بالعينين، كريهة للأنف، مؤذية للمخ، خطرة على الرئتين. إن هذا الدخان الأسود الكريه أقرب الشبه بنار جهنم التي لا قرار لها(50)".
وبرغم هذا، وبرغم الضرائب الباهظة، كان في لندن سبعة آلاف حانوت لبيع التبغ. ولم يحل إشعال الغليون ونفث الدخان محل الحديث والمناقشة، فقد تحدث أفراد الجنسين بصراحة في موضوعات يقتصر فيها الحديث الآن على قاعات التدخين وملتقى الشوارع، أو على رجال العلم. وتنافس النساء مع الرجال فيحلف الأيمان التي تقارب الكفر والتجديف على الله. وفي الدراما في عهد إليزابث يلتصق العاهرات بالأبطال، وترقش التورية "المأساة" العنيفة. وكانت آداب السلوك متكلفة أكثر منها مهذبة. وغالباً ما تدرجت الكلمات إلى لطمات. وجاءت آداب كما جاءت الأخلاق، من إيطاليا وفرنسا، كما جاءت الكتيبات التي عالجت قواعد السلوك واللياقة، وحاولت أن تجعل الأرستقراطيين سادة أفاضل، ومن الملكات سيدات فضليات. وكانت أساليب التحية مسرفة في التعبير، واقترنت بالتقبيل غالباً. وكانت البيوت بما فيها من الأضواء وحفلات الابتهاج الصاخبة، أكثر مرحاً عن ذي قبل، أيام الإرهاب في العصور الوسطى، وفيما بعد أيام البيوريتانية وما سادها من كآبة. وكانت الأعياد والمهرجانات كثيرة، فأي شيء يمكن أن يبرر إقامة احتفال أو عرض، فالزفاف، أو الولادة، بل حتى الجنازة، قد تهيئ مناسبة للاحتفال، أو على الأقل للولائم. ومارسوا الألعاب على اختلاف أنواعها في البيوت والملاعب، وعلى نهر التاميز. وقد ذكر شكسبير "البلياردو"، وتحدث فلوريد عن "الكركت" وسخر الناس من القوانين الزرقاء وأيام الأحد الزرقاء (قوانين متشددة سنها البيوريتانز يحرمون بها الرقص والألعاب والمهرجانات يوم الأحد...) وإذا كانت الملكة قد خطت الخطوة الحميدة السارة، فلم لا يترسم الناس خطاها ويحذون حذوها؟ لقد رقص كل الناس تقريباً، بما فيهم كما قال بيرتون "عجائز النساء والرجال الذين كان لهم من أصابع القدمين أكثر مما في الأفواه من أسنان". وكان كل الإنجليز يغنون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الموسيقى الإنجليزية 1558- 1649
- مقالة مفصلة: موسيقى إنگلترة
إن الذين لا يعرفون من إنجلترا إلا الفترة التي أعقبت البيوريتانية، لا يمكنهم أن يحسوا بالدور البهيج الذي لعبته الموسيقى أيام إليزابث. فمن البيت والمدرسة والكنيسة والشارع والمسرح ونهر التاميز ارتفعت ألحان الموسيقى المقدسة أو الماجنة- القداسات، الموسيقى الطباقية المتعددة النغمات، القصائد الغزلية، الأغاني الشعبية، وأغاني الحب الرقيقة القصيرة. مثل تلك التي وجدت لها مجالاً في روايات عهد إليزابث. وكانت الموسيقى برنامجاً أساسياً في مناهج التعليم، وخصص لها في مدرسة وستمنستر ساعتان في الأسبوع، وكان في أكسفورد كرسي للموسيقى (1627) وكان مفروضاً أن يقرأ كل رجل مهذب الموسيقى ويعزف على كل بعض الآلات.
وفي كتاب توماس مورلي: "مقدمة واضحة ميسرة عن الموسيقى العملية" جاء ذكر رجل إنجليزي خيالي ساذج غير مثقف، يعترف بخجله وعاره، فيقول:
"بعد العشاء جيء بكتب الموسيقى، كما كانت العادة، وقدمت إلى سيدة البيت شيئاً منها، وطلبت في رفق أن أغني، فاعتذرت كثيراً، وامتنعت، وقلت وأنا صادق فيما أقول، إني لا أعرف، فتعجب كل الحاضرين، وتهامسوا متسائلين: كيف نشأ هذا الرجل؟(51)".
وكانت حوانيت الحلاقين تقدم للزبائن المنتظرين آلات موسيقية ليعزفوا عليها. وكانت الموسيقى في عهد إليزابث، في معظمها، علمانية، وبقي بعض الملحنين، من أمثال طاليس وبيرد وبل، على مذهبهم الكاثوليكي برغم القوانين، وألفوا الموسيقى للطقوس الرومانية، لو أن تلك التأليف لم تكن تعزف علناً. واعترض كثير من البيوريتانيين على موسيقى الكنيسة باعتبار أنها تشتت أذهان المصلين وتصرفهم عن التقوى. وأنقذت إليزابث والأساقفة موسيقى الكنيسة في إنجلترا، كما أنقذها بالسترينا ومجلس ترنت في إيطاليا. وساندت الملكة بعزيمتها المعهودة الملكية والكاتدرائيات. وأصبح كتاب الصلوات العامة، مرجع النصوص الموسيقية الهائل للملحنين الإنجليز، وكانت الصلوات الأنجليكانية تنافس الصلوات الكاثوليكية في القارة في فخامة فن تعدد الألحان ووقاره. وحتى البيوريتانيون أنفسهم، منتهجين نهج كلفن، أقروا إنشاد جماعات المصلين للترانيم. وسخرت إليزابث منهم قائلة: "إن جنيف ترقص، أما هؤلاء فقد ارتقوا إلى مستوى التراتيل والتسابيح الكريمة".
ولما كانت الملكة تحمل بين جنبيها روحاً دنيوية دنسة، مولعة بالغزل والملق والملاطفة والتودد، فقد كان من المعقول أن تكون القصيدة الغزلية هي مفخرة الموسيقى في عهدها- أغنية حب في طباق موسيقى- وهي جزء من أغنية لا تصاحبها آلات الموسيقية. ووصلت القصيدة الغزلية من إيطاليا 1553، ففتحت الطريق.
وحاول مورلي أن يسهم في هذا المجال، وشرحها في حواره السهل الرشيق، ودعا إلى تقليدها، وثمة قصيدة غزلية لخمسة مغنين، وضعها جون دلباي، توحي بالأفكار الأساسية في هذه الأغاني:
واحسرتاه، أية حياة تعسة، وأي موت هذا، حيث المحبوب الظلوم يسيطر ويتحكم!
إن نضارة أيامي تذبل وأنا في ربيع العمر، وتلاشت أحلامي الجميلة تماماً، وحياتي تنصرم.
وتولت أفراحي الواحد بعد الآخر وتركت أعاني سكرات الموت
من أجل تلك التي تحتقر آهاتي وأناتي. آه، إنها لتهجرني، وتكبت حبي
وهي التي من أجلها، واحسرتاه، أموت شاكياً، وهي متحجرة القلب(52).
وكان وليم بيرد شكسبير الموسيقى في عهد إليزابث، اشتهر بالقداسات والقصائد الغزلية الملفوظة أو المعزوفة على الآلات، والألحان على حد سواء. وكرمه معاصروه على أنه "رجل عظيم جدير بالذكر". وقال عنه مورلي "انه حظي من الإجلال والاحترام ما يستحق معه أن يخلد اسمه بين الموسيقيين(53)" وكان في مثل مكانته العالية وتعدد براعاته وجوانبه أولندوجيبون وجون بل Bull، وهما عازفان على الأرغن في الكنيسة الملكية. واشترك هذان مع بيرد 1611 في وضع أول كتاب عن لوحة المفاتيح للموسيقى في إنجلترا، وهو كتاب Parthenia، أو باكورة أول موسيقى طبعت في إنجلترا للعذراوية" (وهي آلة موسيقية شبيهة ببيان صغير بدون قوائم.) وفي نفس الوقت أكد الإنجليز شهرتهم في تلحين الأغنية المنفردة (مع آلة واحدة أو مغن واحد)، ذات العذوبة الجميلة المعبقة بعبير الريف الإنجليزي، وحظي جون دولند الذي اشتهر بالعزف على العود، بالمدح والثناء من أجل أغانيه، ونافسه توماس كامبيون منافسة شديدة. ومن ذا الذي لا يعرف مقطوعة كامبيون: "الكرز الناضج- Cherry Ripe؟(54)".
وكان الموسيقيون ينتظمهم اتحاد قوي، انفصمت عراه بسبب الصراع الداخلي أيام شارل الأول(55)، وكادت الآلات تتنوع، كما هي اليوم: العود، القيثار، الأرغن، العذراوية، أو البيان الصغير، موترة المفاتيح (آلة موسيقية وترية مزودة بلوحة مفاتيح) أو البيان القيثاري، الفلوت (آلة نفخ موسيقية)، الصافرة، المزمار، البوق، المترددة، النفير، الطبول، وأشكال كثيرة من الفيول، حل محلها الكمان الحالي. وكان العود مفضلاً في العزف. وفي مصاحبة الغناء، أما العذراوية، وهي الأم المتواضعة للبيان، فكانت محبوبة شائعة لدى السيدات الصغيرات، وعلى الأقل قبل الزواج، وألفت الموسيقى الآلية أساساً للعذراوية والفيول والعود. ولحن نوع من الموسيقى الحجرية (موسيقى الحجرة: يعزفها بضعة موسيقيين أما نفر قليل من الناس.) للعزف على عدة فيولات تختلف في الحجم والطبقة. وفي مسرحية تنكرية للملكة آن زوجة جيمس الأول، استخدم كامبيون فرقة من عازفي العود وموترة المفاتيح والبوق مع تسعة فيولات. (1605) وقد انحدر إلينا كثير من الموسيقى الآلية التي وضعها بيرد ومورلي ودولند وغيرهم. وهي مؤسسة إلى حد بعيد على أشكال الرقص، كما تتبع النماذج الإيطالية، وتتفوق في الجمال الرقيق المرهف أكثر منها في القوة والطبقة. وتطورت الفوجة وفن مزج الألحان، ولكن دون تنوع في الأفكار الرئيسية أو الموضوع، أو براعة في تغيير طبقة الصوت والانتقال من نغمة إلى أخرى، أو نشاز مقصود أو تناغم لوني. ومع ذلك فإننا عندما ترهق أعصابنا بمشاق حياتنا الحديثة، نجد في موسيقى عصر إليزابث ما يخفف عنا ويريح أعصابنا، فليس فيها كلام طنان منمق، ولا تنافر مزعج، ولا خواتيم راعدة، انك لا تسمع فيها إلا صوت شاب إنجليزي أو شابة إنجليزية تغني في حزن أو ابتهاج، إنشودة الحب السرمدي الذي تعترض العوائق سبيله.
الفن الإنجليزي 1558 - 1649
لم يكن للفن في هذا العصر شأن يذكر. وأنتج بعض صناع المعادن بعض المشغولات الفضية الجميلة، مثل مملحة موشين للمائدة، والنوافذ المصبعة الفاخرة مثل الموجودة في كنيسة سان جورج في وندسور. ودخلت صناعة زجاج الزينة الفنيسي حوالي 1560. وفاقت قيمة الأواني المصنوعة من هذا الزجاج قيمة مثيلاتها من الذهب أو الفضة. ولم يكن النحت وصناعة الخزف مشهورتين. وافتتح نيقولا هليارد مدرسة لرسم المنمنمات، ومنحته إليزابث احتكار إخراج رسوم لها بهذا الأسلوب. أما رساموا الأشخاص فقد استقدموا من الخارج. فجاء فدريجو زوتشارو من إيطاليا، وماركس جيرار وابنه الذي يحمل نفس الاسم من الأراضي الوطيئة. وخلف لنا البن صورة مهيبة لوليم سيسل في ثياب متألقة فضفاضة فخمة، وهي التي يرتديها الفرسان الذين يحملون وسام ربطة الساق(56). وفيما عدا هذا لا توجد في إنجلترا لوحات او رسوم عظيمة فيما بين هولبيين، وفانديك.
ولكن العمارة كانت فناً عظيماً في إنجلترا في عهد إليزابث وجيمس. وتكاد تكون علمانية تماماً. وبينما كانت أوربا تناضل من اجل المذاهب الدينية، أهمل الفن الديني كما أهمله السلوك. وفي القرون الوسطى، حين تأصلت جذور أعمق للشعر والفن في السماء، توفرت العمارة على بناء الكنائس، وجعلت من الدور شكلاً من أشكال سجون الحياة. وفي إنجلترا على عهد أسرة التيودور، هجر الدين الحياة إلى السياسة، وذهبت أموال الكنيسة إلى أيد دنيوية، وتحولت إلى صروح مدنية وقصور باذخة، وتبعاً لذلك تغير الطراز. وفي 1563 عاد جون شوت Shute من إيطاليا وفرنسا مسرعاً مع (أفكار) فتروفيوس وبالاديو، وسرليو، ونشر على الفور "الأسس الأولى والهامة للعمارة" يمجد الطرز الكلاسيكية القديمة. ومن ثم أنتقل إلى إنجلترا احتقار إيطاليا للفن القوطي، وكافحت الأعمدة الرأسية القوطية لتجد لها متنفساً وسط أفقيات النهضة التي تطوقها.
إن هذا العصر يستطيع أن يفاخر ببعض المنجزات الجميلة في العمارة المدنية: بوابة الشرف في كلية كايوس، والساحة الرباعية الزوايا بكلية كلار، في كمبردج، ومكتبة بودليان في أكسفورد، وسوق الأوراق المالية في لندن، وإحدى دور القضاء المسماة Middle Temple. ولما كان المحامون منذ أيام ولزي، قد حلوا محل الأساقفة في إدارة البلاد في إنجلترا، فقد كان من اللائق أن تكون تحفة النهضة المعمارية في عهد إليزابث هي القاعة الكبرى في مدرسة الحقوق التي كملت في الدار سابقة الذكر 1572. ولم يكن في إنجلترا كلها أشغال خشب أجمل من الحاجز المصنوع من خشب البلوط في الطرف الداخلي لهذه القاعة. وقد دمرته القنابل في الحرب العالمية الثانية.
وحالما تهيأت الأسباب لأقطاب عصر إليزابث، شادوا قصوراً نافسوا بها قصور الإقطاع الفرنسي على نهر اللور. فساد سيرجون ثين Thynne قصر لونجليت، وإليزابث كونتيسة شروزيري قاعة Hardwick، وبنى تومارس ارل سفوك Suffolk قصر Audley End الذي بلغت تكاليفه 190 ألف جنيه "حصل عليها أساساً من الرشا الأسبانية(57)". وشيد سير إدوارد فيلبس قصر مونتاكوت على طراز عصر النهضة البسيط غير المبالغ في زخرفته، كما بنى سير فرانسيس Willoughby قاعة Wollaton. كما أنفق وليم سيسل بعض ما جمع من مال في إبتناء قصر ضخم بالقرب من ستامفورد، وأنفق ابنه روبرت ما يقارب هذا القدر على تشييد قصر هاتفيلد، الذي يعتبر بهوه الطويل القائم على أعمدة، أضخم الأجزاء الداخلية في العمارة في ذاك العصر. ومثل هذه الأبهاء الطويلة المقامة على أعمدة عالية، حلت في قصور عهد إليزابث محل القاعة الخشبية العظيمة في قصر مالك الأرض. إن المداخن الكبيرة والأثاث الضخم المصنوع من خشب الجوز أو خشب البلوط، والمدرج الفخم والدرابزين المنقوش، والسقوف الخشبية-نقول إن هذه كلها، هيأت لغرف هذه القصور من الدفء والعظمة ما كان ينقص الغرف الأكثر تألقاً في القصور الفرنسية، ومبلغ علمنا أن مصممي هذه القصور كانوا أول من حصلوا على لقب مهندس معماري. إن اللوحة المنقوشة على ضريح روبرت سميشون Smythhshon، الذي أنشأ قاعة وللاتون، تسميه "البناء البارع". أما الآن، وأخيراً، فقد وجدت المهنة العظيمة اسمها الحديث (الهندسة المعمارية).
كذلك أصبح الفن الإنجليزي في تلك الأيام فناً شخصياً، حيث طبع الرجل عمله بطابع شخصيته وإرادته. ولد انيجو جونز في سميثفيلد 1573، وأظهر في شبابه ميلاً إلى التصميم حدا بأحد النبلاء (ارل) أن يبعث به إلى إيطاليا (1600) ليدرس عمارة عصر النهضة. ولما عاد إلى إنجلترا 1605 أعد مناظر كثير من المسرحيات التنكرية للملك جيمس الأول وزوجته الدنمركية، وزار إيطاليا ثانية (1612-1614) وعاد متحمساً للقواعد المعمارية القديمة التي سبقت له دراستها في ترجمتها الأنجليزية للمهندس المعماري الروماني فتروفيوس (القرن الأول قبل الميلاد)، والتي وجد خير مثال لها أبنية بللاديو، وبيروتزي، وسان ميشيلي، وسانسوفينو في فينيسيا وفيشنزا. ونبذ هذا الخليط الشاذ من الأشكال الجرمانية والفلمنكية والفرنسية والإيطالية التي كانت قد سيطرت على العمارة في عصر إليزابث. واقترح طرازاً خالصاً، يمكن فيه الاحتفاظ بالنظم الدورية والآيونية والكورنثية متفرقة أو مجتمعة في تتابع ووحدة متجانستين.
وفي 1615 عهد إليه بكل الإنشاءات الملكية بوصفه مشرفاً عاماً على الأعمال. ولما احترقت قائمة الولائم في قصر هويتهول ودمرت 1619، عهد إلى جونز بتشييد قاعة جديدة للملك. فوضع تصميم مجموعة ضخمة من المنشآت-1152×874 قدماً في جملتها-ولو اكتمل بناؤها لهيأت لعاهل بريطانيا قصراً أوسع بكثير من اللوفر أو التويليري أو الاسكوريال أو فرساي. ولكن جيمس آثر أن يعيش يومه عن أن يبني للقرون. واقتصر الإنفاق على قاعة الولائم الجديدة، التي لم يتوفر لها من قصد من أبهة، فباتت مظهراً كاذباً غير جذاب للخطوط القديمة وخطوط عصر النهضة. ولما طلب رئيس الأساقفة لود من جيمس الأول إصلاح كاتدرائية سانت بول القديمة، ارتكب المهندس جريمة تغطية صحن الكنيسة القوطي الطراز بمظهر خارجي من طراز عصر النهضة، ولحسن الحظ دمر الحريق الكبير الذي حدث 1666 هذا المبنى. وحلت واجهات جونز المأخوذة تصميمها عن بللاديو، محل الطراز التيودوري. وسادت في إنجلترا حتى أواسط القرن الثامن عشر.
ولم يخدم جونز الملك شارل الأول بوصفه كبير مهندسيه فحسب، بل انه تعلم كيف يحب هذا الرجل المنكود، يشكل واضح، إلى حد أنه عندما نشبت الحرب الأهلية دفن مدخراته في Lambeth Marshes وهرب إلى هامبشير (1643).
وقبض عليه جنود كرومول هناك، ولكنهم أبقوا على حياته مقابل 1045 جنيهاً(58). وفي أثناء تغيبه عن لندن وضع تصميم ريفي في ولتشير من أجل ارل بمبروك، كانت واجهته من طراز عصر النهضة البسي، أما الداخل فكان آية في الفخامة والأناقة، فان القاعة "المزدوجة التكعيب"-60×30×30 قدماً، قيل بأنها أجمل قاعة في إنجلترا(59). ومذ استنفدت الجيوش الملكية ثروات الأرستقراطية، فقد جونز الرعاية والحب والألفة، وانزوى وأفل نجمه، ومات فقيراً 1651. لقد غلب النعاس على الفن، على حين أعادت الحرب تشكيل الحكومة الجديدة في إنجلترا.
الرجل في عهد إليزابث
كيف نفهم الرجل الإنجليزي على عهد إليزابث من المواطن البريطاني المزعوم أنه رزين صامت، والذي عهدناه في شبابنا، وهل يمكن أن يكون الخلق القومي من صنع الزمان والمكان والتغير؟ لقد اعترضت البيوريتانية والميثودية (المنهجية-حركة إصلاح الكنيسة الإنجليزية في النصف الأول من القرن الثامن عشر) بين العصرين والنمطين: قرون سادت فيها مدارس ايتون، وهارو، ورجبي، وعهود الغزاة الطائشين الذين يخمدون أنفاس الناس حين يسيطرون.
لقد كان الرجل الإنجليزي في عهد إليزابث سليل النهضة تماماً. وفي ألمانيا قهر الإصلاح الديني النهضة، وفي فرنسا نبذت النهضة الإصلاح الديني. وفي إنجلترا اندمجت الحركتان كلتاهما. فقد انتصر الإصلاح الديني في حكم إليزابث، وانتصرت النهضة في شخصها هي. وكان ثمة بعض البيوريتانيين من ذوي الحس المتلبد، ولو لم يكونوا صامتين، ولكنهم لم يطرقوا الباب. ولكن كان الرجل المهيمن في ذاك العصر شعلة من نشاط، متحرراً من المبادئ والتعاليم والعوائق العتيقة، ولو لم يكن مرتبطاً بشيء جديد بعد، ولم يكن ثمة حدود لطموحه وأطماعه، وكان متطلعاً إلى تنمية قدراته، لا يقعده شيء عن المرح، يتذوق الآداب إذا كانت تنبض بالحياة، ميالاً إلى العنف في العمل وفي الحديث، ولكنه، وسط كلامه المنمق الطنان ورذائله وقساوته، يجاهد ليكون سيداً مهذباً. وتأرجح مثله العلي بين صفات الكياسة والمجاملة واللطف المحببة إلى النفوس والتي ذكرها كاستليوني في كتابه "رجل البلاط" وبين ما جاء به ميكيافللي في كتابه "الأمير" من لا أخلاقيات لا تعرف الرحمة إليها سبيلاً. لقد أعجبت بسدني، ولكنه تاق إلى أن يكون مثل دريك. وشقت الفلسفة طريقها في شرخ العقيدة الدينية المتهاوية. وكانت أحسن العقول في ذاك الزمان هي أشدها ارتباكاً وحيرة. وكانت هناك نفوس محافظة سليمة العقيدة، ونفوس وديعة مجبولة على الجبن، وفي وسط هذا التدفق الذي لا يتوقف كان ثمة رجال أفاضل مثل روجر أسكام. ولكن تلاميذه كانوا في لجة المغامرة. وإليك ما يقوله جبراييل هارفي عن كمبردج:
تعلموا الإنجيل، ولم يعوه أو يحفظوه، والمبدأ المسيحي فاتر ضعيف، وليس ثمة شيء حسن إلا بنسبته إلى شخص ما. وباختصار ألغى قانون الطقوس الرسمي، وأبطل قانون القضاء تماماً من الوجهة العملية، وتخلى الناس عن القانون الأخلاقي، وألح الجميع في طلب الجديد، من الكتب والأزياء والقوانين، وألح بعضهم في طلب سماوات جديدة، وجهنم جديدة أيضاً، وفي كل يوم تظهر آراء جديدة مشكلة حديثاً، في الهرطقة واللاهوت والفلسفة والإنسانية والسلوك.. ولم يكن الشيطان مكروهاً قدر كراهية الناس للبابا(60).
وكان كوبرنيكوس قد قلب العالم، وأطلق الأرض مندفعة هائمة في الفضاء، وجاء جوردانو برونو إلى أكسفورد 1583 وتحدث عن الفلك الحديث وعن العوالم اللانهائية، وعن الشمس التي تفنى بفعل حرارتها، وعن الكواكب السيارة التي تتلاشى في ضباب ذري. وأحس شعراء مثل جون، أن الأرض تنساب من تحت أقدامهم. وفي 1595 شرع فلوريو في نشر ترجمته لمونتاني. ولم يكن ثمة شيء يقيني بعد ذلك. وامتلأ الناس بالشك، وكما أن مارلو هو مكيافللي، فان شكسبير هو مونتاني. وعلى حين شك الرجال العقلاء، كان الشبان الصغار يخططون. وإذا بدا أن السماء ضاعت في سحابة فلسفية، فيمكن الشباب أن يعقدوا العزم على امتصاص الحياة الجافة، ويختبروا كل الحقيقة مهما تكن مميتة، وكل الجمال مهما يكن سريع الزوال، وكل القوة مهما تكن سامة، وهكذا رأى مارلو في فاوست وتامبورلين.
إن انتزاع الأفكار القديمة، وتحرير العقل ليعبران تعبيراً جباراً عن الآمال والأحلام الجديدة، وهما اللذان خلدا عهد إليزابث في إنجلترا. وماذا كان يهمنا من أمر منافستها السياسية، ونزعتها الدينية وانتصاراتها الحربية، إذا انحصر أدب عصرها في تلك الأشياء العابرة، ولم يعبر عن تطلعات النفوس المفكرة في كل عصر. وحيرتها ونياتها. إن كل تأثيرات هذا العصر المثير انتهت إلى نشوة إنجلترا على أيام إليزابث. فان رحلات الغزو والكشف التي وسعت الكرة الرضية والسوق والعقل، وثراء الطبقة المتوسطة الذي وسع مجال المشروعات وأهدافها، والكشف عن الآداب والفنون الوثنية، وجيشان الإصلاح الديني، ونبذ النفوذ البابوي في إنجلترا. والحوار اللاهوتي، تلك التي ساقت الناس عن غير عمد، من العقيدة إلى العقل، والتعليم. والإقبال المتزايد على الكتب والمسرحيات، والسلم الطويل المفيد، ومن ثم التحدي المثير والنصر الباهر على أسبانيا، والتصعيد العظيم في الثقة في قوة الإنسان وفكره، تلك هي كانت الحوافز التي استحقت صعود إنجلترا في مراقي العظمة والمجد، وتلك هي الأصول التي نبت منها شكسبير، وبعد انقضاء نحو قرنين من الزمان منذ عهد تشوسر، اندفعت إنجلترا في لجة من النثر والشعر والدراما والفلسفة، وتحدثت جهراً في شجاعة إلى العالم بأسره.
للاستزادة
- Hutton, Ronald (2001). The Rise and Fall of Merry England: The Ritual Year, 1400–1700. Oxford: Oxford Paperbacks. ISBN 0-19-285447-X.
- Wright, Patrick (1985). On Living in an Old Country (ch 2, esp pp 81–7). Verso Books. ISBN 0-86091-833-5.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انظر أيضاً
- Civil religion
- Green and pleasant land
- إنگلترة الوسطى
- Tudor myth
- Whig history
- C. S. Lewis
- J. R. R. Tolkien
- نورمان يوك
الهامش
وصلات خارجية
- "Epic Pooh" by Michael Moorcock, a critique of this world-view in fantasy fiction.
- "Nostalgia Forum" Nostalgia and History
- Joseph Behar, "Citizenship and Control: The Case of St. Helenian Agricultural Workers in the UK, 1949-1951". Canadian Journal of History/Annales canadiennes d'histoire 33, April 1998, pp. 49–73. ISSN 0008-4107 [1].
- Happy England as Painted by Helen Allingham, R.W.S. on Google Books