هرقليون، مصر
د. نبيل عبد القادر ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال
|
- هرقليون، نفس نُطق هرقليون، كريت.
هرقليون Heracleion، كانت مدينة مصرية قديمة بالقرب من الإسكندرية المعاصرة. كانت هرقليون معروفة في وقت مبكر من القرن 12 قبل الميلاد ولكن ازدادت أهميتها خلال الأيام الأخيرة من الحكم الفرعوني في العصر المتأخر. كانت هيراكليون الميناء الرئيسي لمصر في عهد الفراعنة. اشتهرت المدينة لأنه كان يعتقد بأن هيلين وهرقل قد زارا المدينة، ولذا فقد اكتسبت المدينة اسمها من هرقل. وكان هناك أيضا معبد كبير مكرس للبطل اليوناني في وسط المدينة. قد الفرعون نخت أنبو الأول العديد من الاضافات إلى ذلك المعبد في القرن من 4 ق.م ويعتقد أنها غرقت في في القرن السادس أو السابع الميلادي، وربما يسكون هذا بسبب زلازل كبرى وفيضانات. وكانت الأطلال الغارقة في البحر قد برزت أخيراًَ وتم اكتشافها من قبل عالم الآثار تحت المائية الفرنسية فرانك جوديو في عام 2001. وتم رسم خريطة للمدينة باستخدام أجهزة الالتقاط الجيوفيزيائية لاستكشاف خليج أبوقير، وبيّن علماء الآثار أن منطقة ساحلية واسعة الامتداد قد ابتلعتها المياه في القرن الثامن الميلادي وغمرت تحتها مدينتان. [1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية تاريخية
"
مفاهيم أساسية سي الجميع «الفرع الكانوپي» للنيل والمدن القريبة من مصبه، بعد أن كان الكُتّاب القدامى يذكرونها. كانت هناك بعض الظنون حول أن هذه المنطقة غطتها المياه في خليج أبوقير، ولكن الاستكشاف الأثري لمنطقة ممتدة الأرجاء مثل هذه بدا أمرا غير ممكن. حاليا، جعلت أجهزة التقاط ممتازة آتية من الجيوفيزياء مثل هذا الاستكشاف أمرا ممكنا. " |
إشارات تاريخية متعددة تشير إلى سرٍ غامض محوره مركز تجاري مصري متعدد الأنشطة كان يقع في منطقة آهلة بالسكان عند مَصَبِّ النيل، ليس هو الإسكندرية، بل غيرها... وسوف نبحث هنا كيف يقوم «المعهد الأوروبي لعلم الآثار تحت البحر»[2] بفضل استخدام تقانة جديدة هي ثمرة لأبحاث علم الجيوفيزياء، باستكشاف هذه المنطقة الواسعة وبرسم خرائطها والقيام بالتنقيب فيها. هذه المنطقة هي منطقة «الفرع الكانوپي» للنيل، التي تم تحديدها خلال القرن العشرين في خليج أبو قير على الشاطئ المصري للبحر الأبيض المتوسط.
على بعد نحو ثلاثين كيلومترا من الإسكندرية، المدينـة الميناء التي أسسها الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م، تقع المنطقة «الكانوپية»، هذا المكان الذي فيه «يندفع النهر نحو البحر». وقد سميت كذلك نسبة إلى اسم فرع قديم للنيل، هو «الفرع الكانوپي» الذي لا وجود له اليوم. ومن الملاحظ أن تاريخ مصر القديمة مربوط بأوثق رباط بتحولات نهرها الحامل للغذاء وبتعرجاته. ففي زمن الفراعنة كانت هناك سبعة أفرع كبرى للنيل تشكل عصب الحياة في إقليم الدلتا المصرية، وحينما كانت إحدى أذرع النيل تصير غير كـــافية لتأمـــــين الملاحة الآمنة، فإن السلطة السياسـية لم تكن تتردد في تغيير موقع العاصمة. وكان هذا هو ما حـــدث على الأرجح حين نقلت عاصمة مصر من «پي-رمسيس» Pi-Ramsès إلى «تانيس» Tanis، وذلك بعد أن أخذت مياه «الفرع البيلوسي» للنيل الذي كان يحيط بمدينة «پي-رمسيس»، بالنضوب لمصلحة «الفرع التانيسي» الذي صار في ذلك الوقت الطريق الوحيد الصالح للملاحة النهرية في شرقي الدلتا.
و«الفرع الكانوپي»، الذي لم يعد موجودا في وقتنا الحاضر، هو الفرع الذي جاء ذكره من قبل <هيرودوت> و<نيكانت> والمؤلفين اليونان القدماء الآخرين. وقد اختفى ذكر هذا الفرع بعد ذلك وذكر «تونيس» و«كانوپي» و«هرقليون» و«مينوتيس»، ولكن ها هي تلك الأسماء تُبعث من جديد في القرن العشرين، وبخاصة حين قام، في الثلاثينات من القرن الماضي، قائد حظيرة طائرات «سلاح الجو الملكي» البريطاني في أبوقير بإعلام الأمير عمر طوسون المتخصص بشؤون آثار دلتا النيل، وهو من العائلة المالكة المصرية حينذاك، بأن طياريه كانوا يلمحون أثناء طيرانهم فوق الخليج أطلالا تحت المياه. وبعد ذلك، أمر الأمير عمر بالقيام بعدة عمليات بحرية عام 1933، وكان من نتائجها أن انتُشلت إلى السطح أعمدة عدة من الرخام ومن حجر الگرانيت الوردي ورأسٌ يمثل الإسكندر الأكبر.
ومع ذلك، فقد صار من اللازم، من أجل إيضاح سر تلك الأطلال، أن تُستخدم طرائق أخرى في البحث. لهذا، ففي عام 1996 قام «المعهد الأوروبي للآثار تحت البحر» (الذي شارك في تأسيسه أحد مؤلفي هذه المقالة <گودّيو> وكان يعمل قبل ذلك في مشروع إعادة تحديد موقع ميناء الإسكندرية القديم) بإطلاق مشروع ضخم هدفه الوصول إلى رؤية شاملة لكافة جوانب منطقة «الفرع الكانوپي» من النيل.
وكان الوضع في خليج أبوقير ملتبسا، وهذا لأسباب عدة. من ذلك أنه، عبر آلاف السنين، كثيرا ما أدت التحركات الجيولوجية وتغيرات المناخ، وحتى تدخل العامل البشري، إلى تغيير مجرى وأهمية الفروع الرئيسية للنيل وأذرعها الثانوية. وكذلك، ظهر أن منطقة الفرع الكانوپي شهدت، في القرن الثامن الميلادي، غمر المياه لمثلث فيها امتداده نحو عشرة كيلومترات، وذلك بين ما يسمى اليوم جزيرة «دسوقي» الصغيرة وقرية أبوقير وميناء «المعدية». وهكذا، فإن بقايا الآثار القديمة ــ والتي سبق أن أَثَّرت فيها بالتحطيم وإبعاد بعضها عن بعض يَدُ الأحداث الزلزالية والجيولوجية من هزات أرضية وطوفان المياه وهبوط الأرض، وكذلك الأحداث المائية كالفيضانات واختلاف مستوى البحر ــ صارت في معظمها مغمورة بالمياه، ثم طُمرت بكميات هائلة من ترسبات الرمال والطمي في شرقي الدلتا القديمة. ومن جهة أخرى، وإضافة إلى ذلك، فإن ثقل كتلة الترسبات التي صارت ذات كثافة أعظم فأعظم مع مرور الزمن، وكذلك عدد من التحركات الزلزالية، جميع هذا أدى ــ نحو عصر نهاية الحضارة اليونانية والرومانية المتأخرة Antiquité tardive ــ إلى تغير انقلابي شامل لشمال دلتا النيل وشرقها، حيث تحولت شواطئ تلك المناطق وبحيراتها الساحلية إلى سهوب مملحة وغير صالحة للزراعة. وباختصار، فقد قامت التحولات الطبيعية والبيئية بدور جوهري في حركة التاريخ، إلى درجة أن ستة عشر قرنا من الحضارة في منطقة «الفرع الكانوپي»، من الفترة المتأخرة من التاريخ المصري إلى دخول العرب إلى مصر، صارت غائبة عن أعين البشر!
هذه الملاحظات العامة جعلت الباحثين يفكرون في الحاجة إلى منهج بحثي ذي طبيعة خاصة. إذ يجب وضع تصور لخطة بحث منهجية بحيث تكون مبرمجة على نحو يؤدي القيام بها إلى الكشف عن بيانات أثرية يمكن تفسيرها في حدود تاريخ إشغال بقعة الأرض المعنية وتطور مظهر مشاهدها الطبيعية. ومن أجل تحقيق هذا جميعه كان لزاما علينا أن نقوم أولا بدراسة طوپوغرافية الموقع والصورة التي شغل بها البشر ذلك الموقع، ومن ثَمَّ أن نقوم بوصف البُنى الغارقة التي تمت ملاحظتها، وذلك من أجل إنشاء خريطة أثرية لهذه المواقع. ونظرا للأهمية التاريخية ولاتساع منطقة كانت سوق مصر، فإن هذا العمل التحضيري كان لا بد وأن يُنجز أولا حتى تظهر من بعد ذلك ضرورة تالية تقتضي تكثيف الأبحاث الأثرية في بعض المواقع المعينة باعتبار أن هذا التكثيف هو أمر له مسوغاته .
فكيف سرنا في ذلك العمل؟ في بداية أعوام العقد الأخير من القرن العشرين، كنا قد كُلِّفنا، فعلا، باستكشاف بعض المواقع الصعبة، حيث كانت توجد بقايا حطام متعددة، ومنها مكان غرق سفينة الشحن «سان دييگو» في مياه الفلپين. وقد جرى في ذلك الوقت استخدام أجهزة القياس المغنطيسي ذات التجاوب المغنطيسي النووي (RMN) [3] ــ وهي الأجهزة التي كانت «هيئة الطاقة الذرية» (CEA[4] قد استعملتها للحصول على معرفة متعمقة للمنطقة المعنية، وذلك قبل الإقدام على أية عمليات تنقيب. وقد كان استخدام هذه الأجهزة مناسبا تماماً لإقليم «الفرع الكانوپي» للنيل لتحديد شكل الأرض القديم (طوپوغرافية المكان)؛ ثم إننا قمنا بإضافة جهاز سونار للمسح الجانبي[5]. ويسمح هذا النوع من المعدات بتقدير القيمة المحلية للحقل المغنطيسي الأرضي وشذوذاته anomalies، وهي علامات يحتمل أن تدل على وجود جسم أثري. يكشـف كـــل من المقياس RMN وســــــونــــار المســـــح الجــــانبي (وهو مــا ســـنعود للحديث عنـــــه) انقطـــاعات المقـــادير الفيزيائيــة discontinuités des grandeurs physiques مثل انقطاعات الحقل المغنطيسي المحيط ambiant، أو استجابة الأمكنة صوتيا réponse accoustique، وهي التي اصطلح على تسميتها شذوذات. وفي حالة التطبيقات الأثرية، فإن مدى سعة الشذوذات ذات الأهمية يكون ضعيفا للغاية؛ وحيث إن الإشارات التي يكون مصدرها أجساما أثــــريــــة تتداخل وتتحد مع الشذوذات الناتجة من التراكيب الجيولوجية، فلا بد من طريقة نستطيع بها التمييز بينهما. لهذا كله، فإن فاعلية معالجة البيانات وتحليلها يعتمدان على مدى حساسية أجهزة التقاط الإشارات وعلى الطريقة التي يتم بها تشغيلها.
ومن الناحية العملية، فإن أجهزة الالتقاط الكبرى، أي الجهاز RMN وسونار المسح الجانبي، توصل بواسطة كَبْل [6] câble بسفينة يوجد على ظهرها الحاسوب المستقبل للبيانات والقائم على تخزينها ومعالجتها. وأما موقع السفينة، فإنه يُراقب ويُحدد في الزمن الفعلي عن طريق نظام تحديد المواقع العالمي(GPS) [7] التفاضلي différentiel. ومع هذا الشكل المعدل لنظام التحديد المكاني الأمريكي، يمكن تحسين دقة البيانات بفضل شبكة من المحطات الثابتة. والمقارنة بين المواقع ــ التي تحددها السواتل[8] لهذه النقاط المرجعية points de références بين مواقعها الفعلية المعروفة بدقة، تسمح بتحديد مكان شيء ما متحرك بدقة ــ كبيرة جدا. ومن أجل الحصول على مستوى الدقة الضروري في دراسة الآثار، فإننا أقمنا محطة مرجعية station de référence بنظام تحديد المواقع العالمي GPS.
"التسلسل الزمني
القرن الثامن قبل الميلاد: إنشاء مدينة «تونيس» / «هرقليون». <هوميروس> يكتب الإلياذة والأوديسة. ما بين عامي 664 و 525 ق.م: إعادة توحيد مصر في عهد الملك پسماتيك الأول، عودة مدينة منف Memphis لتصير من جديد عاصمة لمصر، قيام نفوذ يوناني، حدوث تقدم اقتصادي وبروز التهديد الفارسي، وتصير مصر مرتين تابعة للسيطرة الفارسية. 331 ق.م: تأسيس الإسكندرية على يد الإسكندر " |
إذن، في وسط هذا الركام المغنطيسي يكون على الباحثين أن يستدلوا على الشذوذات التي تسببها بقايا الآثار في قاع البحر. ولكن المقاييس RMN قادرة على قياس الحقل المغنطيسي الأرضي أكثر من ألف مرة في الثانية و بدرجة من الدقة تبلغ5/000 100 من قيمته. هذه القدرة تبدو كافية من الناحية النظرية للاستدلال على الشذوذات المغنطيسية التي مصدرها البنى الأثرية. ومع ذلك، وعند الضرورة، فإنه يمكن زيادة هذه القدرة عن طريق قياس التدرج gradient المغنطيسي، أي تغيرات الحقل المغنطيسي بدلالة المسافة بين جهازين للالتقاط مسحوبة معا في اللحظة نفسها.
وتسمح المعالجة المناسبة لهذين النوعين من البيانات بحذف التغيرات الزمنية للحقل المغنطيسي الأرضي في الوقت الفعلي. هذه الطريقة ـــ مضافا إليها لتكميلها، المقاييس RMNتسمح باكتشاف أشياء ذات مغنطيسية شديدة الضعف، حتى ولو كانت مطمورة عميقا تحت الرواسب. واستخدام المقاييس RMN عملية يستغرق إجراؤها وقتا طويلا. ففي خليج أبوقير يتطلب استكشاف ميدان البحث (وهو 110 كم مربع) ــ على أساس تقسيمه إلى شبكات باتساع عشرة أمتار ــ تغطية000 22 كم؛ أي أكثر من نصف محيط الكرة الأرضية! وهناك ما هو أكثر من ذلك. فهذه التغطية المغنطيسية يجب أن تخضع لمتطلبات خاصة، حيث يتعين أن تكون خطوط مرور المكاشيف المغنطيسية، ومن ثم خطوط مرور السفينة، خطوطا مستقيمة ومتوازية، وأن تكون سرعتها ثابتة ، وأن يكون اتجاهها ثابتا بلا تعديلات مباغتة من حيث الارتفاع. ولهذا كله، فإن الأحوال الجوية الاستثنائية هي وحدها التي تُمكّن من الوصول إلى نتائج مُرضية.
وهناك المكمل الجوهري للمقاييس RMN، وهو سونار المسح الجانبي، الذي ينتج صورة صوتية لقاع البحر على شريط يتراوح طوله بين 50 و 150 مترا من كل جانب من جانبي السفينة؛ فهو يبرز وجود صخور أو أي جسم آخر له بعض البروز يكون مستقرا في القاع، كما يستطيع إعطاء إشارة حول حجم تلك الأجسام عن طريق قياس الظل الذي تعكسه. ثم هناك أيضا مُحَوِّلٌ للطاقة transducteur، يسميه أعضاء البعثة العلمية «السمكة»، تجره السفينة من ورائها. والموجات الصوتية التي يصدرها باتجاه عمودي على محور السفينة تنعكس بوضوح إلى درجة أو أخرى على القاع، ثم تقوم «السمكة» بالتقاطها. وتختلف انعكاسات الموجات الصوتية المرسلة بحسب طبيعة القاع. وهكذا، مثلا، فإن قاعا غير منتظم يصدر انعكاسا أقل مما يصدره قاع رملي. وتظهر الحواجز ومظاهر عدم الانتظام، وهي التي تمنع انعكاس الموجات الصوتية، بالأسود في بيانات كشوف التضاريس التي تحت المياه. ويتمتع نظام سونار المسح الجانبي بميزة أنه يغطي إلى حد كبير المنطقة قيد الدراسة، ولكن له جانبا سلبيا: وهو أنه ليس دقيقا. ومع ذلك، فإن حجم الظلال الصوتية ombres acoustiques التي تُسجل على بيانات الكشوف يعطي فكرة عن حجم البُنى المكتشفة. وحين تتم معالجة البيانات التي يوفّرها السونار، فإنه ينتج منها، عن طريق وضع الشرائط المستكشفة جنبا إلى جنب، خريطة مصورة فسيفسائية للمنطقة موضع الدراسة.
وبفضل هذه الأجهزة الكبيرة، وبفضل عمليات السبر sondages، استطعنا تكوين خريطة مغنطيسية تفصيلية للمنطقة التي كانت موضع اهتمامنا. وهكذا، ظهر في تلك المنطقة العديد من البقايا الأثرية المغمورة بالمياه والمطمورة بالرواسب. كما ظهرت تكوينات جيولوجية تم تَعَرُّفها على نحو واضح، منها صدوع وخنادق وقنوات وأحواض مجارٍ مائية تملؤها رواسب مختلفة مما تتكون منه البقعة المحيطة. ويمكن للمقاييس RMN الكشف عن مواد ضعيفة المغنطيسية ، ومن ذلك مثلا، ركام الطوب المحروق أو السيراميك، وفي الوقت نفسه، فإنها تكشف عن وجود عناصر ذات كثافات مختلفة في بيئة مغنطيسية مستقرة.
ويظهر من هذه الخريطة أن المواقع موضوع الدراسة قد تحولت هيئتها مرات عدة بتأثير العمليات الجيولوجية، وكذلك بسبب الكوارث الضخمة التي تعرضت لها. وهكذا، فقد ثبت من الآن فصاعدا أن حركة بطيئة من هبوط subsidence الأرض، أي انخفاض بطيء للقشرة الأرضية، قد أصابت هذا القسم من الحوض الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط. وقد أكدت الملاحظات الجيولوجية حدوث هذه الظواهر عن طريق اكتشاف آثار زلزالية في القاع. كذلك، فإن التحليل الجيولوجي لأمكنة المنطقة قد أظهر علامات مميزة على ظاهرة «تسيل التربة» liquéfaction des sols، وذلك في بعض المواقع وبخاصة في خليج أبوقير. وتبدأ ظاهرة «تسيل التربة» هذه بالتكون نتيجة ضغط كبير، سببه مثلا هزة أرضية في بقعة صلصالية. وقد تسببت تلك الظاهرة في حوادث من التدمير الهائل، منها انهيار المباني في كوبيه Kobé عام 1995، وكذلك في مدينة مكسيكو عام 1985. ومن جهة أخرى، قد ينتج «تسيل التربة» من تأثير ضغط ثقل مبان ضخمة ، مصحوبا بزيادة الأحمال نتيجة لفيضان استثنائي أو لـ«تسونامي». وفي مثل هذه الحالات، فإن الأرضية المشبعة بالمياه إلى أقصى درجة تُغَيِّر من سلوكها، وتأخذ في الانسياب وفي طرد جزء من تلك المياه، وهو ما يؤدي إلى هبوط مفاجئ في التربة. وفي موقع «تونيس»، كانت هذه الظواهر سببا في تدمير هائل يفسر اختفاء قسم كبير من منطقة «الفرع الكانوپي» (ومن «الميناء الكبير» للإسكندرية ذاتها) تحت المياه.
تثبت النصوص القديمة حدوث هزات زلزالية وموجات مدّ شديدة الارتفاع في هذه المنطقة. وفيها ذِكر لموجة مدّ حدثت بتاريخ 21/7/365م وأصابت جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية الشرقية، وفيها أيضا ذِكر لهزة أرضية حدثت في منتصف القرن الثامن الميلادي وأدت إلى اختفاء مدن على الساحل الليبي. وبالتوازي مع هذه النصوص، فإن اكتشافات لمنقوشات كتابية سمحت بحل لغز من ألغاز تسميات الأمكنة القديمة: فالمدينة المصرية التي كان المصريون يسمونها «تونيس» إنما هي نفسها التي كان اليونان يسمونها «هرقليون». وقد سمحت استدلالات القياسات المغنطيسية وعمليات السبر الأثري، معا، بتكوين فكرة عن الشكل الطوپوغرافي للمدينة [انظر المؤطر في الصفحة 62].
في هذه المنطقة ذات العمق القليل، تَمَّ الاستدلال على وجود أحواض قديمة لروافد نهر النيل، والفرع منها الواقع إلى أقصى الشرق مفصول عن الأرض بعدة ألسن من كثبان الرمل لا تزال ظاهرة، جزئيا، للعيان إلى اليوم. ويحد هذه المنطقة غربا كثبان رملية حتى المصب. وكان مجرى المياه القديم يصل إلى الشاطئ الحالي الذي يحيط بميناء «المعدية»؛ وأما على الشاطئ الغربي للمصب، فإن الكثبان الرملية تأخذ بالتلاشي شيئا فشيئا باتجاه الشمال، حتى نجد أنه قد حل محلها شريط صخري يأخذ بالامتداد باتجاه جزيرة «دسوقي» الصغيرة.
إذن، كان الشاطئ القديم في هذا الموقع صخريا. وثمة نطاق متسع من المنخفضات ــ من المحتمل جدا أنه يشير إلى بقايا بحيرات ذات مياه قليلة الملوحة وبقايا مستنقعات ــ يمتد باتجاه الغرب من الشريط الرملي الذي كان يحد رافد النيل. وعلى مقربة من تلك الكثبان، وعلى نوعٍ من شبه جزيرة واقعة بين أحواض الموانئ إلى الشرق والبحيرة إلى الغرب، كانت تقوم مدينة «تونيس» أو «هرقليون» ومعبدها؛ حيث يوجد نطاق واسع الامتداد ومنبسط، مادته من الطمي (الغِرْيَن) ومن الطين، وفيه أحيانا هنا أو هناك بعض النتوءات، وكان يتجه نحو الغرب في موقع الساحل الحالي المجاور لأبوقير. في هذا الاتجاه، وعلى خط العرض نفسه لهرقليون، كانت توجد أطلال مبان ضخمة، تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وهي تقع ضمن موقع شرق كانوپي.
إن المكتشفات الأثرية التي عثر عليها في منطقة «الفرع الكانوپي» للنيل كثيرة، كما أنها عظيمة الغنى من حيث المعلومات التي تدلنا عليها. هذه المكتشفات جميعها ليست نتيجة للبيانات الأثرية فقط، وإنما كذلك للبيانات الجيولوجية الكثيرة التي تم الحصول عليها بفضل استخدام أجهزة الالتقاط الجيوفيزيائية الكبيرة.
جهود التنقيب عن المدينة الغارقة
جهود التنقيب عن المدينة الغارقة
بالصوروالفيديو.. أول خريطة ثلاثية الأبعاد تكشف حقيقة مدينة "هيراكليون" أطلنطس المصرية الغارقة في أبي قير
نجح فريق من العلماء البريطانيين في إعادة إحياء مدينة "هيراكليون" أو أطلنطس الأثرية التي غرقت في الإسكندرية قبل 1200 عام، وعمل خريطة ثلاثية البعاد لواحدة من أعهم الموانئ التجارية في العالم القديم.
وأشارت صحيفة التليجراف البريطانية إلى أن فريق من الباحثين الأثريين في جامعة أكسفورد قاموا بعمل الخريطة الثلاثية الأبعاد والتي تكشف جميع تفاصيل المدينة القديمة التي غرقت في خليج أبي قير بعد موجة مد بحري هائلة، وكان يوجد بها عدد من المعابد الأثرية الرائعة.
وتحتوي "هيراكليون" القديمة على واحد من أجمل معابد مصر القديمة والذي شهد تنصيب الملكة "كليوباترا" على عرش مصر، كما تم تصوير المباني القديمة والسفن التي كانت تدخل الميناء.
وقال البروفسور "داميان روبنسون" مدير مركز الآثار البحرية في جامعة أوكسفورد، أن مدينة أطلنطس المصرية غرقت منذ 1200 عام، وتم اكتشافها لأول مرة عام 2001 واستغرقت الأبحاث لمعرفة معالمها ودراسة آثارها وتفاصيلها تحت الماء أكثر منذ 10 سنوات، وتم عمل رسم تفصيلي ثلاثي الأبعاد يصورالمدينة وكأنها حقيقة واقعة الآن.
ولقرون طويلة كان البعض يعتقد أن مدينة هيراكليون أو أطلنطيس مجرد أسطورة تاريخية وليس وجود على أراض الواقع، لكن تم التأكد من وجودها بالفعل.
واكتشفت المدينة بالصدفة على يد بعثة أثرية فرنسية بقيادة "فرانك جوديو" كان يبحث في أبوقير عن بقايا السفن الحربية الفرنسية التي غرقت في موقعة أبي قير الشهيرة.
وقد تم الآن رفع اتلانتيس إلى واقع الحياة حيث غرقت قبالة سواحل مصر منذ ما يقرب من 1،200 سنة إلى الوراء رفعت إلى السطح بمساعدة 3D.
كانت مدينة هيراكليون، الصفحة الرئيسية للمعبد حيث تم افتتاح كليوباترا، لواحدة من اهم المراكز التجارية في منطقة البحر الأبيض المتوسط قبل أن اختفت في ما هو الآن في خليج أبو قير
تم اكتشاف هرقليون في عام 2001، وبعد أكثر من عقد من التنقيب ، كان الباحثون الآن قادرون على خلق خريطة تصور الحياة في محور التجارة القديمة.
تم إعادة تجميع التماثيل العملاقة 16FT على 150FT قاع البحر تحت سطح الأرض قبل رفعها إلى الشاطئ، فضلا عن المئات من تماثيل صغيرة من الآلهة المصرية.
وتشمل المكتشفات الأخرى كتل حجرية مع كل من النقوش المصرية القديمة واليونانية وعشرات التوابيت يعتقد أنها لحيوانات محنطة كما عرضت قرابين لآمون Gereb.
فريق البحث بقيادة الدكتور جوديو قد ساق الأسباب التى أدت إلى غرق المدينة ، ولكن النظرية الرئيسية هو أن الرواسب غير المستقرة لهرقليون بنيت على التربة المنهارة، وبالاقتران مع ارتفاع مستويات البحر، قد تسببت في إسقاط 12 قدم من كامل المنطقة ا على التوالي في الماء. ، نحن فقط في بداية بحثنا' قال الدكتور جوديو . "سيكون لدينا على الارجح أن نواصل العمل للسنوات المقبلة 200. '
إشارات تاريخية متعددة تشير إلى سرٍ غامض محوره مركز تجاري مصري متعدد الأنشطة كان يقع في منطقة آهلة بالسكان عند مَصَبِّ النيل، ليس هو الإسكندرية، بل غيرها... وسوف نبحث هنا كيف يقوم «المعهد الأوروبي لعلم الآثار تحت البحر»(1)، بفضل استخدام تقانة جديدة هي ثمرة لأبحاث علم الجيوفيزياء، باستكشاف هذه المنطقة الواسعة وبرسم خرائطها والقيام بالتنقيب فيها. هذه المنطقة هي منطقة «الفرع الكانوپي» للنيل، التي تم تحديدها خلال القرن العشرين في خليج أبو قير على الشاطئ المصري للبحر الأبيض المتوسط.
على بعد نحو ثلاثين كيلومترا من الإسكندرية، المدينـة الميناء التي أسسها الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م، تقع المنطقة «الكانوپية»، هذا المكان الذي فيه «يندفع النهر نحو البحر». وقد سميت كذلك نسبة إلى اسم فرع قديم للنيل، هو «الفرع الكانوپي» الذي لا وجود له اليوم. ومن الملاحظ أن تاريخ مصر القديمة مربوط بأوثق رباط بتحولات نهرها الحامل للغذاء و بتعرجاته. ففي زمن الفراعنة كانت هناك سبعة أفرع كبرى للنيل تشكل عصب الحياة في إقليم الدلتا المصرية، وحينما كانت إحدى أذرع النيل تصير غير كـــافية لتأمـــــين الملاحة الآمنة، فإن السلطة السياســـــية لم تكن تتـــــــردد في تغــييــــــر موقع العاصمة. وكــــان هــــذا هو ما حـــدث على الأرجح حين نقـلت عــــــاصـــــمـة مصــــر من «پي-رمسيس» Pi-Ramsès إلى «تانيس» Tanis، وذلك بعد أن أخذت مياه «الفرع البيلوسي» للنيل الذي كان يحيط بمدينة «پي-رمسيس»، بالنضوب لمصلحة «الفرع التانيسي» الذي صار في ذلك الوقت الطريق الوحيد الصالح للملاحة النهرية في شرقي الدلتا.
و«الفرع الكانوپي»، الذي لم يعد موجودا في وقتنا الحاضر، هو الفرع الذي جاء ذكره من قبل <هيرودوت> و<نيكانت> والمؤلفين اليونان القدماء الآخرين. وقد اختفى ذكر هذا الفرع بعد ذلك وذكر «تونيس» و«كانوپي» و«هرقليون» و«مينوتيس»، ولكن ها هي تلك الأسماء تُبعث من جديد في القرن العشرين، وبخاصة حين قام، في الثلاثينات من القرن الماضي، قائد حظيرة طائرات «سلاح الجو الملكي» البريطاني في أبوقير بإعلام الأمير عمر طوسون المتخصص بشؤون آثار دلتا النيل، وهو من العائلة المالكة المصرية حينذاك، بأن طياريه كانوا يلمحون أثناء طيرانهم فوق الخليج أطلالا تحت المياه. وبعد ذلك، أمر الأمير عمر بالقيام بعدة عمليات بحرية عام 1933، وكان من نتائجها أن انتُشلت إلى السطح أعمدة عدة من الرخام ومن حجر الگرانيت الوردي ورأسٌ يمثل الإسكندر الأكبر.
ومع ذلك، فقد صار من اللازم، من أجل إيضاح سر تلك الأطلال، أن تُستخدم طرائق أخرى في البحث. لهذا، ففي عام 1996 قام «المعهد الأوروبي للآثار تحت البحر» (الذي شارك في تأسيسه أحد مؤلفي هذه المقالة <گودّيو> وكان يعمل قبل ذلك في مشروع إعادة تحديد موقع ميناء الإسكندرية القديم) بإطلاق مشروع ضخم هدفه الوصول إلى رؤية شاملة لكافة جوانب منطقة «الفرع الكانوپي» من النيل.
وكان الوضع في خليج أبوقير ملتبسا، وهذا لأسباب عدة. من ذلك أنه، عبر آلاف السنين، كثيرا ما أدت التحركات الجيولوجية وتغيرات المناخ، وحتى تدخل العامل البشري، إلى تغيير مجرى وأهمية الفروع الرئيسية للنيل وأذرعها الثانوية. وكذلك، ظهر أن منطقة الفرع الكانوپي شهدت، في القرن الثامن الميلادي، غمر المياه لمثلث فيها امتداده نحو عشرة كيلومترات، وذلك بين ما يسمى اليوم جزيرة «دسوقي» الصغيرة وقرية أبوقير وميناء «المعدية». وهكذا، فإن بقايا الآثار القديمة ــ والتي سبق أن أَثَّرت فيها بالتحطيم وإبعاد بعضها عن بعض يَدُ الأحداث الزلزالية والجيولوجية من هزات أرضية وطوفان المياه وهبوط الأرض، وكذلك الأحداث المائية كالفيضانات واختلاف مستوى البحر ــ صارت في معظمها مغمورة بالمياه، ثم طُمرت بكميات هائلة من ترسبات الرمال والطمي في شرقي الدلتا القديمة. ومن جهة أخرى، وإضافة إلى ذلك، فإن ثقل كتلة الترسبات التي صارت ذات كثافة أعظم فأعظم مع مرور الزمن، وكذلك عدد من التحركات الزلزالية، جميع هذا أدى ــ نحو عصر نهاية الحضارة اليونانية والرومانية المتأخرة Antiquité tardive ــ إلى تغير انقلابي شامل لشمال دلتا النيل وشرقها، حيث تحولت شواطئ تلك المناطق وبحيراتها الساحلية إلى سهوب مملحة وغير صالحة للزراعة. وباختصار، فقد قامت التحولات الطبيعية والبيئية بدور جوهري في حركة التاريخ، إلى درجة أن ستة عشر قرنا من الحضارة في منطقة «الفرع الكانوپي»، من الفترة المتأخرة من التاريخ المصري إلى دخول العرب إلى مصر، صارت غائبة عن أعين البشر!
هذه الملاحظات العامة جعلت الباحثين يفكرون في الحاجة إلى منهج بحثي ذي طبيعة خاصة. إذ يجب وضع تصور لخطة بحث منهجية بحيث تكون مبرمجة على نحو يؤدي القيام بها إلى الكشف عن بيانات أثرية يمكن تفسيرها في حدود تاريخ إشغال بقعة الأرض المعنية وتطور مظهر مشاهدها الطبيعية. ومن أجل تحقيق هذا جميعه كان لزاما علينا أن نقوم أولا بدراسة طوپوغرافية الموقع والصورة التي شغل بها البشر ذلك الموقع، ومن ثَمَّ أن نقوم بوصف البُنى الغارقة التي تمت ملاحظتها، وذلك من أجل إنشاء خريطة أثرية لهذه المواقع. ونظرا للأهمية التاريخية ولاتساع منطقة كانت سوق مصر، فإن هذا العمل التحضيري كان لا بد وأن يُنجز أولا حتى تظهر من بعد ذلك ضرورة تالية تقتضي تكثيف الأبحاث الأثرية في بعض المواقع المعينة باعتبار أن هذا التكثيف هو أمر له مسوغاته .
المصادر
- ^ [1] مجلة العلوم الأميريكية نوفمبر - ديسمبر2009 / المجلد 25
- ^ اInstitut européen d’archéologie sous-marine
- ^ magnétométres à résonnance magnétique nucléaire
- ^ commissariat à l’énergie atomique
- ^ sonar à balayage latéral
- ^ كَبْل جمعها كِبال، قياسا بحَبْل جمعها حِبال.
- ^ General Positional System
- ^ satellite
مراجع للاستزادة
- F.Goddio, The Topography and Excavation of Heracleion-Thonis and East Canopus (1996-2006). Underwater Archaeology in the Canopic Region in Egypr, Oxford Center for Maritim Archaeology: Monograph 1, Institute of Archaeology. University of Oxford, 2007.
- Tr`esors engloutis d’ `Egypt. Sous la direction de F. Goddio et D. fabre, catalogue de l’exposition Pr`esentee au Grand Palais, Cinq Continenets, Le Seuil, paris, 2006.
- J.Yoyotte, Les trovailles `epigraphiques de l’lnstitut europ`een d’arch`eologie sous-marine dans la daie d’Abû Qîr,BSFE 159, Soci`et`e Francaise d’egyptologie, pp.29-40,2004.
- F.Goddio, A.Bernand, Ė. Bernand, l.Darwish, Z. Kiss, J. Yoyotte, Alexandrie, les quartiers royaux submerg`es, Periplus, londres, 1998.
- هذه ترجمة للمقالة بعنوان: Héracléion d'Égypte cartographiée sous les eaux وقد صدرت في عدد الشهر 2009/3 من مجلة Pour la Science الفرنـسـية وهي إحــدى أخــوات مجلة العلوم السبع عشرة التي تترجم مجلة Scientific American.
- LA RECONSTITUTION DE THÔNIS - HÉRACLÉION
وصلات خارجية
- Spectacular finds of lost city revealed
- Heracleion emerges
- Searching for Sunken Cities, Jul/Aug 2000