ملحمة جلجامش
جزء من سلسلة مقالات عن |
ديانة الرافدين |
---|
|
ملاحم أوروك الملكية |
---|
|
ملحمة جلجامش (أو ملحمة كلكامش) هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالالواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التاريخ
تعد ملحمة جلجامش الرافدية، أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة.
لقد تطورت هذه الملحمة في إبداعات شعرية كُتبت على الرقم الكتابية المسمارية منذ العهد السومري، ثم تلتها محاولات في العهود الأكادية والحثية والبابلية والحورية، وكان ظهورها بشكل كامل في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وهي الصيغة التي كشفتها أعمال التنقيب الأثري من مكتبة قصر الملك «آشور بانيبال» في مكتبة نينوى.
لقد كتب عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، وأُشبعت نقداً وتمحيصاً ومعالجة، ومع ذلك مازلنا نتابع بين الحين والآخر دراسات جديدة عنها، ونقرأ روايات وقصص ومعالجات إبداعية مستمدة من وحيها، وأعتقد أن السّر في هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى أن هذه الملحمة مازالت متلفَّعة بغطاء الخيال، ومعتمرة طاقية الأسطورة، وتشخّص واقع الإنسان ومشكلاته الأبدية، التي يتمحور حولها السؤال الأزلي: ما الغاية من الحياة؟! ولماذا نموت بعد أن جئنا إلى ساحة الحياة ومشينا في دروبها ؟! وهذه الأسئلة لا إجابة قاطعة حولها.. الأدب الحقيقي هو الذي يعالج ما يعجز عنه العلم، ويواجه أزمات الإنسان النفسية، ويداوي آلامه، ويضيء آماله.. من هنا يمكننا أن نعرف سر هذا الاهتمام العالمي بملحمة جلجامش التي تحلّق بنا في فضاءات بعيدة عن الواقع المأساوي، إلى عالم مثالي زاخر بالخير والحق والجمال...
لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مزخرفة بالحكمة، وخيالها متسربل بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان حياة وموتاً، وهي رمزية لأن أحداثها المفرطة ذات دلالات عميقة، وأسطورتها ذات مرامٍ بعيدة، حول هذه الفكرة يقول الدكتور علي القاسمي: «جَزَعُ جلجامش بعد موت صديقه الحميم أنكيدو، هو شعور ينتاب كل إنسان لدى فقدان عزيز عليه.. أما إطاحة جلجامش للأسوار الحصينة، ونزاله مع الثور السماوي الهائج، وصراعه مع الجنّي «خمبابا» الذي اعترض طريقه في غابة الأرز، إنمّا ترمز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين الخير والشر».
يعتقد أن النسخة الأكادية من الملحمة التي تم العثور عليها مستندة على نسخة سومرية يرجع تاريخها إلى 2100 سنة قبل الميلاد. بعد سنوات من اكتشاف الألوح 11 تم العثور على لوحة أخرى يعتبرها البعض تكملة للملحمة والبعض الأخر يعتبره عملا مستقلا وقصة أخرى لأنه كتب بأسلوب اخر وفيه لايزال أنكيدو على قيد الحياة. تم ترجمة الملحمة لأول مرة إلى الإنكليزية في سنوات تلت عام 1870 من قبل جورج سميث الذي كان عالم آثار متخصص في المرحلة الأشورية في التاريخ القديم والذي توفي عام 1876.
الملحمة
الديمقراطية والحرية
بعد هذه المقدمة نبدأ بالدخول إلى روح الملحمة، الروح الحية التي تجذبنا إليهاـ رغم البعد الزمني الكبير بينناـ وسندخل من باب الحرية والديمقراطية التي كانت سائدة في ذلك العصر، وحتى يمكننا فهم طبيعة الحكم في اورك نتناول مسألة تتعلق بحياة الناس العامة، وكيفية اتخاذ القرارات بشكل جماعي فيما يتعلق بمستقبل المجتمع، إن كانت تلك الإجراءات المقترحة تتفق أو تتعارض سياسة الحاكم أو الملك، ونستطيع القول أن هناك نظام ديمقراطي وجد في مدينة اورك، تمثل في مجلس شيوخ (الحكماء) ومجلس شباب (المحاربين)، وكانا يعقدان الاجتماعات للنظر في أمر (أجا) حاكم مدينة كيش الذي أرسل مبعوثين إلى اورك، يحملون معهم إنذارا نهائيا لتسليم اورك للملك الغازي، وكان قرار الشيوخ وتسليم المدينة، ولكن مجلس الشباب اجتمع وبحث الأمر ولم يوافق على التسليم، وقد أثبت قرارهم تاريخياً.
أن هذا الأسلوب الديمقراطي كان سمة ذلك العصر، ولم يكن لحاكم أن يتصرف بمصير الشعب كما يشاء، وكان مثل هذه الاجتماعات تتكرر كلما تطلب الأمر، وها هو مجلس الشيوخ في اورك يجتمع للنظر في سفر جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز،
نجد هنا المعارضة من الشيوخ بكل عنفوانها، فهم يخاطبون الملك بكلمات حادة " أنت شاب ... كثير الحماسة وطموحك ... بعيدا" وهذا يؤكد حرية الاختلاف وحرية الرأي وحرية المعارضة، وهذه المعارضة مبنية على حجج ومعلومات، وليس فقط لمجرد الاختلاف والمعارضة، فكان الخوف على جلجامش باني مدينة اورك وسيدها، من دفعهم لمثل هذا الكلام الغليظ، وجعلهم يذكرون أمامه معلوماتهم عن حارس الغابة ـ خمبابا ـ، الذي يمتلك قوة كبيرة تتجاوز قوة البشر بكثير.
هذا الحضور لمجلس الشورى في اورك يجعلنا نفتخر ونشعر بالارتياح لما كنا عليه، ويجعلنا نندفع أكثر للمطالبة بهذا الفعل الاجتماعي ـ حرية الرأي ـ الذي يحمي الأمة من كافة الأخطار والتهديدات والمشكلات الداخلية والخارجية، ونندهش تماما عندما نفكر بهذه المدينة التي مارست فعل الديمقراطية قبل أكثر من 4700 عام، ونحن في هذا الزمن ـ العربي ـ مازلنا عاجزين وخائفين عن التقدم خطوة نحوه، وها هم الغربيون إلى غاية هذه الساعة ما زالوا يفتخرون بمجلس شيوخ روما، الذي تواجد في حدود 500 ق م، ونحن أصحاب مجلس الشيوخ والشباب قبلهم ب 2200، لا نذكر تاريخنا الديمقراطي المشرف، ولا نعرف عنه شيئا.
هذا على صعيد الديمقراطية في الحكم أو الشورى، أما في حالة النفور الشعبي من الحاكم، فكان يسمح للناس أن يشكوا همهم وطرح مشاكلهم ويتحدثوا عن سلبيات الحاكم بكل حرية وبدون أية ضغوطات أو تهديد، وهذا ما تخبرنا به الملحمة.
أشراف اوروك كئيبون في منازلهم |
من خلال هذه النصوص التاريخية يتأكد لنا نحن سكان الهلال الخصيب أننا أول الشعوب التي مارست حق المعارضة وإبداء الرأي بكل حرية وبدون خوف، ونحن أول من استخدم النظام الديمقراطي أو الشورى في العالم، فنحن السباقون في هذا المضمار، ونحن من علم الآخرين الديمقراطية.
المقدس
بعد الحديث عن الديمقراطية تنقلنا الملحمة إلى حديث آخر شيق ويمثل المحرمات والمحضورات التي لا يمكن التكلم عنها ابدا، لكن في أجواء من الحرية والتفهم للآخر التي سادت في بلادنا، استطاع كاتب الملحمة تناول هذه المحضورات والمحرمات دون خوف من حساب أوعقاب السلطة، وهذا جانب إضافي للحرية التي تمتع بها سكان الهلال الخصيب في الماضي، وهو ما لم يكن متاح للآخرين الحديث عنه أو فيه أو حتى الإشارة إليه لا من قريب أو بعيد، وهنا دلالة قوية على استمرار الروح المتمردة والرافضة التي سادت في العصور الحضارية القديمة، وكذلك تأكيد على حرية الرأي وانفتاح العقل على كافة المسائل العقائدية والايدولوجية، فإذا سمح لنا عصر السومريين ومن جاء بعدهم بتناول المسائل العقائدية والفكرية وما يتبعها من عبادات بطريقة التحليل وإعادتها إلى المنطق العقلاني، فما بالنا نحن اليوم نغض بصرنا وبصيرتنا عن كثير من الأمور التي لم تعد تصلح لشيء، عند عرضها أمام المنطق ووضعها أمام التحليل والتفسير!. أن الملحمة تؤكد المسار الرافض الذي لا يمكن أن يسلم للعادة أو للأفكار التقليدية السائدة، وتطرح فكرة التمرد، وتطالبنا بالفض والكف عن اخذ واعتناق واحترام المقدسات إذا خالفت وتعارضت مع فكر الإنسان، فهي ترفض أن يكون هناك شيء غامض على الإنسان، وتسعى إلى كشف الغموض وإزالة الغباش، وتريد أن تجعل من الإنسان موازيا وبمستوى القدسية، ذو هالة ومكانة رفيعة، من هنا تخبرنا الملحمة بأنه لا يوجد من هو أعظم من الإنسان الفاعل الذي يبحث عن التغير، واضعا كل الأفكار المثبطة وراء ظهره، ساعيا بكل عزيمة وإصرار نحو هدفه، وها هو جلجامش يصل إلى اوتنابشتم الخالد، ويخاطبه بهذا الشكل:
بداية اللقاء بين جلجامش واوتنابشتم الحاصل على الخلود من الآلهة كانت حاسمة، بدلا من ذكر أمجاد ومآثر اوتنبشتم المخلد يتكلم جلجامش عن أمجاده وبطولاته، متجاهلا الخالد وكأنه احد العامة الضائعين بين المجموع، أو ـ بحالة افضل ـ يتماثل معه في المكانة أن لم يكن اقل منه، جاءت كلمات جلجامش فيها العظمة لنفسه وتحمل السخرية أو الاستهتار لاوتنابشتم، وفحوى الكلمات "أنا البطل عبرت الجبال وبحر الظلمات وصرعت الأسود والوحوش وشاهدت المخلوقات العجيبة فمن هو اعظم مني؟، أنت يا اوتنابشتم البعيد وصلت إليك فأي منا العظيم؟"، وبعد هذه الكلمات يحاول اوتنابشتم أن يظهر حكمته أمام جلجامش فيتحدث عن مسار الحياة على الأرض، وكيف أن كل من عليها فان:
إن يبني بيوتا تدوم إلى الأبد؟ |
ولكن جلجامش يعرف هذه الحقائق ولا يريد من احد أن يذكره بها، ولهذا جاء إلى البعيد اوتنابشتم ليحصل منه على سر الخلود، فقد سمع الكثير عن استحالة الخلود، من بداية رحله إلى أن تمكن من مقابلة الخالد اوتنابشتم، ولهذا كان رد جلجامش قاسيا مدويا، يحمل الألم والرغبة والإصرار والانفعال معا:
انظر إليك يا اوتنابشتم |
لو اطلعنا على كافة الأدب القديم، لما وجدنا صورة تصغير للعظماء بهذا الشكل، فهذا الخالد يتلقى كلمات جافة وقاسية من إنسان من المفترض أن يفنى، والخالد بهذه الوضعية لا يستحق ما هو عليه من هالة وعظمة، وجاءت كلمات جلجامش مكررة "شكلك عادي واراك مثلي" لتوحي لنا بان اوتنابشتم أصيب بالاندهاش من طريقة مخاطبته، ولهذا أعاد على مسمعه عين الجملة، لقد أراد جلجامش بذلك أن يزيل التميز والتفرقة بين البشر، فإذا كان شكل اوتنابشتم مثل شكل جلجامش، فيجب أن يكون هناك مساواة بينهما، فلا يكون هناك من يفنى ويموت وآخر يبقى خالدا وإلى الأبد، وحتى لو كان هذا التفضيل صادر عن الآلهة، فهو مرفوض، ويجب إعادته إلى طريق الصواب، وحسب رغبة البشر، وهناك مطلب آخر لجلجامش يتمثل بان يكون التميز ـ أن وجد ـ على أساس القدرات والإرادة الفاعلية، وليس على أساس إرادة وثنية لا تفرق بين الفاعل والنائم.
من هنا نستطيع القول بان جلجامش أول من طالب بازلة التفرقة بين البشر، وان يكونوا متساوين في كل شيء، ولكي يثير جلجامش اوتنابشتم، خاطبه بكلمات هجاء مستخدما الحالة الراكدة والساكنة التي وجد بها اوتنابشتم، ولكي يزيل الهالة والهيبة التي يتمتع بها اوتنابشتم، وهذا ما تم فعلا، من خلال الاستغراب الذي أظهره جلجامش لمشاهدته ذلك الخالد مستلقيا على قفاه باستكانة، وإذا وضعنا الكلمات التي تحدث بها جلجامش عن أمجاده، مع ما خاطب به اوتنابشتم، نفهم منها الاتي ( أنا جلجامش الذي قام بأعمال البطولة الخارقة واستطعت الوصول إليك أيها الخالد البعيد، لكي أسالك عن سر الحياة، أجدك أدنى مني منزلة ) ولهذا كان استغراب جلجامش على الكيفية التي حصل بها على الخلود، مع انه اقل منه فاعلية وإرادة، ولهذا ألغى سؤاله عن سر الحياة لأنه وجد اوتنابشتم اقل من أن يعرف سر الحياة والموت، وسأله عن الكيفية التي حصل بها على الخلود:
قل لي كيف دخلت زمرة الآلهة وفزت بالخلود؟ |
هذا انقلاب كامل في مفهوم جلجامش عن الآلهة والنظام الذي تفرضه على البشر، وعلى اختيارها للنخب الخالدة، وهذا السؤال بمثابة رفض و تمرد و ثورة على القرارات التي تتخذها، فقد جاء التحول في موقف جلجامش وكأنه صفعة للآلهة ولاوتنابشتم أيضا، وإذا عدنا إلى النص الملحمي نجد جلجامش أكثر حضورا واقناعا من اوتنابشتم، وهذا عامل إضافي يضاف إلى الحيوية الفكرية التي تطرحها الملحمة، فهي كانت تسمو بالإنسان إلى أعلى عليين، متجاوزة القديسين وبقاءهم في حالتهم الساكنة بدون فاعلية أو تأثير، ونعتقد بان كاتب النص الملحمي يريدنا أن لا نهتم كثيرا بالقصص والبطولات التي تم انجازها في غابر الزمن، فنحن قادرون على تحقيق ما هو أعظم منها بكثير، إذا امتلكنا عقلية جلجامش المتمردة وإرادته الصلبة، وهذا ما تم للإنسان جلجامش الذي تفوق على الخالد اوتنابشتم من خلال انجازاته وبطولاته.
الآلهة
بعد الحديث عن المقدسين، تنقلنا الملحمة صعودا نحو الأعلى، إلى حديث آخر أكثر جرأة وحساسية، عن الكائنات التي يجب الحديث عنها ـ بشكل دائم ـ بكل إجلال واحترام، لقد كان وما زال تناول المسائل الدينية يحمل الحفيظة والحساسية للجميع، والتطرق إليها بالنقد والتجريح يولد النفور وربما العداء، إلا أن جلجامش لا يعرف حدودا للمحرمات، وكل من يخطيء يجب محاسبته، ومواجهته بكل جرأة، وان لا نترك هذا الخاطيء يمر مرور الكرام، واقفين ساكنين أمام أخطائه وزلاته، حتى لو كانوا من الالهة، وها هو جلجامش يقابل الربة عشتار بالتجريح والشتائم والضرب، لأنها حاولت الإيقاع بالإنسان لأهوائها ورغباتها:
قد لا يجد القارئ بهذا الاقتباس أية اهانة أو تصغير للربة عشتار، ولكن إذا أمعنا النظر جيدا، نجد في كلماتها التي قالتها ـ ربة معبودة من البشر ـ تطالب بمتعة دنيوية زائلة، نجد فيها ما هو أكثر من اهانة وتصغير، إن الطرح الذي قامت به عشتار أدنى من أن يقدم علية إنسان يحمل أدنى شيئا من الكرامة، فما بالنا بكائن معبود؟ ،فمطلبها الاقتران بجلجامش هو دليل واضح على إنها وجدت في الإنسان شيئا غير موجود عند الآلهة، وهو يمتلك أشياءً لا تملكها الآلهة نفسها، وهذا أعطى الإنسان مكانة تفوق مكانة الآلهة، وما أثار حفيظة جلجامش أنها جاءت تتحدث عن مصالح مادية فقط، ولم يحمل كلامها أية فضائل أو مواقف أخلاقية، وهذا أظهرها من صغار البشر، فقد كان الأجدر بها أن تذكر الفضائل الأخلاقية وسماتها وهيبتها المقدسة، وليس مصالح يجنيها جلجامش، فقد كان تفكير عشتار منصباً فقط على متعة جنسية ومادية فقط، أما جلجامش فلم تكن له أي اهتمام بهذه الإغراءات و الامتيازات، وكذلك لم تكن ذات قيمة في نظره مطلقا، وهي ذات ثروة عظيمة في نظرها، وهنا تأتي المفارق بين الإنسان ومن هو أعلى منه مكانة، أن عشتار التي تريد أن تشتري جلجامش بتلك البضاعة الغالية ـ في نظرها ـ، مقابل أن يدفع جلجامش سعرا زهيدا جدا ـ الاقتران بها ـ هذا الموقف جعل من جلجامش عظيما ومن عشتار الدنيئا.
كان من مصلحة جلجامش المادية الموافقة على طلبها، إلا أن عظمة الإنسان تحول دون الإقدام على هذا الأمر، فجلجامش وجد عشتار قد سقطت إلى المنزلة السفلى، من خلال إغوائها وتقديمها الإغراءات والمكاسب المادية فقط، وهذا الفعل الدنيء لن يمر دون حساب وعقاب، خاصة إذا كان القاضي جلجامش الذي لا يعرف المهادنة أو المجاملة، وهو الذي وجد ليدافع عن الإنسان، ويواجه الآلهة التي تجاوزت حدودها، ومن هنا جاء عقاب جلجامش شديدا صارما مهينا لعشتار، متناسبا مع مكانتها، فكلما كان المخطئ كبيرا كلما كان الجرم اكبر، ولذا وجب العقاب والردع ومتناسبا مع حجم الخطأ، والآن لنقرأ معا رد جلجامش:
في البداية رد عليها جلجامش بعين الأسلوب ـ المصلحة المادية ـ الذي عرضت بضاعتها الرخيصة به، فتحدث بالمنطق الذي تفهمه، مكاسب وإغراءات مادية ومعنوية، وبعد ذلك مباشرة يبدأ في قذفها بسيل من الشتائم وكلمات التحقير والتصغير بأسلوب هجائي رائع، حتى تعي رداءة وقبح الكلمات التي تقدمت بها أمام جلجامش، إن الأوصاف التي نعتها جلجامش، تعبر عن موقفه العنيد والحازم اتجاه عشتار، ويتبين منه امتلاكه الصلابة وسرعة وقوة الرد على من يهبط بمسلكه ومكانته إلى الحضيض، أن وصف عشتار بالباب هو اهانة لها، فكيف إذا كان هذا الباب لا يصد ريحا؟، وهنا كانت الإهانة مزدوجة، أولا هي باب، والباب تعبير يحمل التصغير والتحريف لمكانتها، وثانيا هي لا تقدم الفائدة المرجوة من وظيفتها ـ صد ومنع الريح من الدخول.
وبعد هذا الوصف، يقول جلجامش "أنت قصر عظيم"، وهنا يتوقف عن الكلام، حتى تفقد عشتار اندهاشها وصدمتها من الجملة الأولى، ولترجع إلى التفكير بالمكانة والهيبة التي نسيها جلجامش، ويكمل عليها الجملة "يتحطم فيه الأبطال"، ونجده هنا يعرف كيف يعاقب ويؤنب الخطأ، يعظم عشتار ثم ينزل بها إلى أسفل السافلين، حتى يكون وقع الكلمات عليها شديد التأثير ويعيدها إلى جادة الصواب.
ويكمل جلجامش هجومه فيصفها بالفيل، وهنا إهانة أخرى لها، ويزيد عليها عندما يذكرها بان هذا الفيل ترك حليه ولم يعد يستفاد منه، وبدأ يخرب ويدمر، بدل أن يخدم الناس. ويستمر جلجامش في قذف الكلمات الجارحة في وجه عشتار المخطئة، فيصفها "بالقطران"، وهنا نجد تصعيد الهجوم الذي بدأ بكلمة "الباب" ويصفها بهذه الاهانة المركبة، أولا وصفها بشيء قبح، لونه يشير إلى السواد والشؤم، وثانيا توسخ يد من يتعامل به، فمن يريد أن يمسك بالوعاء الذي فيه القطران!.
ويتابع جلجامش هجومه اللاذع ويصغها "بالقربة" وأي قربة، المثقوبة التي تبلل كل من يحملها، ولا تلبي الغاية التي وجدت من اجلها، ولهذا هي تضيع الماء الذي تعبنا في جلبة وأيضا تبللنا، فأذية القربة المثقوبة مزدوجة، وآخر هجوم جلجامش كان وصفها "بالحذاء" البالي الذي يتعثر به منتعله، وهذه من اشد الشتائم التي تستخدم في حالة الغضب والاحتقان الشديد، فهي حذاء، وحذاء بالي أيضا.
وإذا أمعنا النظر بالاهانات التي وجهها جلجامش لعشار نجد القسم الثاني منها اشد وقعا وأكثر إيلاما من القسم الأول، وكما أن الجملة الواحدة كانت تحمل اهانتين معا وليس اهانة واحدة، وهنا يتبين لنا المسافة الشاسعة بين جلجامش الإنسان وعشتار الربة التي تطالبه بالاقتران.
وبعد هذا الكلام الجارح ينتقل جلجامش إلى نوع آخر من المفاهيم التي تفسر وتوضح هذا الموقف الذي يحمله اتجاه الربة عشتار:
هذا الجزء من مكاشفة عشتار يمثل أهم جزء في كلام جلجامش، وذلك لأنه يمس وبشكل مباشر مكانة عشتار الدينية في المجتمع، وبمكن أن يكون هذا الجزء قد وضع لهدف عقائدي بحت، يهدف العزف وترك عبادة عشتار والتقرب منها، لأنها ترمز وتمثل الشر والعذاب الذي يقع على أي مخلوق تقترب منه، فهي في الأساطير القديمة تمثل الحب والخصب، ولكنها في الحقيقة التي أوضحها جلجامش لا تمثل سوى الموت والعذاب والألم والغدر.
وإذا انتقلنا إلى المعتقدات الدينية القديمة نجد هناك أسطورة تتحدث عن نزول تموز إلى العالم السفلي بأمر من عشتار، ونتيجة هذا العمل الظالم بحق تموز أصاب الأرض الجدب والجفاف، ومن ثم الحق الضرر بالإنسان بسبب نزول تموز إلى العالم السفلي.
أن عشتار التي قامت بهذا العمل الرديء لا يمكن عبادتها، أو حتى احترامها، وإنما يجب محاسبتها ومعاقبتها، وهذا العقاب كان بتجريدها من الهالة المقدسة التي حولها، ومن ثم إبقائها كائنا منبوذا يكون عبرة للخاطئين، وما قامت به من خيانة اتجاه أحبتها وخاصة تموز الذي خانته وغدرت به يمثل ذروة غدرها وخيانتها، وما كان ليرسل إلى العالم السفلي ليأكل الطين ولا يرى النور أبداً، دون خيانتها ثم أمرها للشياطين بان يأخذوه.
ونعتقد أن عملية المس بالمعتقد الديني ووضعه أمام ـ المنطق العقلي نسبيا ـ يمثل الهاجس الذي يحرك أحداث الملحمة، وان كاتبها كان يعي ما يكتب، ويدفع بالمتلقي في ذلك العصر، إلى إعادة تكوين أفكاره الدينية ومعتقداته الفكرية، وما جاء تذكير القارئ أو المستمع للنص بخيانة عشتار لأحبتها، وتركهم مقهورين منكسرين بعد اخذ حاجتها منهم، إلا ليؤكد أن المقدسات بحاجة بشكل دائم ومستمر للخضوع للامتحان وتجديدها فكريا لتتناسب مع منطق الإنسان، ومن هنا جاءت التفاصيل الدقيقة لعملية الغدر والخيانة، لتدفع بالمتلقي نحو الاتجاه النقيض لما هوسائد.
وسنحاول الآن تشريح وتوضيح الحاجات والرغبات التي أخذتها عشتار من عشاقها، فبعد أن حصلت على رغبتها الجنسية من تموز أرسلته إلى الموت، وطائر الشقراق بعد أن استمتعت بصوته المغرد وتمتعت بمنظر ريشه الجميل قامت بكسر جناحه، أما الأسد فنعتقد بان حاجة عشتار منه تتمثل في استخدام جلده فقط ولهذا حفرت الحفر السبع له، والحصان ينقل الأمتعة والحاجات الثقال والمتاع ولكن بعد هذه الأعمال قامت عشتار بضربه بالسوط وإجباره على العمل بالمهماز، أما الراعي الذي يقدم لها اللحوم الطازجة والمشوية، فبعد أن شبعت من الطعام اللذيذ قامت بمسخه إلى ذئب، والفلاح الذي قدم أشهى إنتاجه من البلح قامت بإزالة عضوه الذكري، هذه تفاصيل الخيانة التي قامت بها عشتار، ولهذا هي كائن يبحث عن حاجاته ورغباته الغريزية فقط، ولا يهتم بغير ذلك، فالطعام والشراب والملبس والجنس وحمل الأثقال كلها حاجات بشرية لا تمت إلى الربة عشتار لا من قريب أو من بعيد، ولهذا من المنطق ترك عبادتها وهجرها هجرا جميلا، وهنا طرح كاتب النص على لسان جلجامش أفكارا تتعارض مع تلك التي يعتنقها المجتمع، وفلا يمكن عبادة من يقوم بخيانة الآخرين وتركهم محطمين بعد اخذ الحاجة منهم.
وبعد سماع عشتار هذا الرد من جلجامش تصعد إلى السماء وتطلب (انو) أبو الإلهة أن يقتص لها من جلجامش، وطالب منه أن يخلق لها ثوراً سماوياً لينتقم من جلجامش، ولكن انيكدو صديقه يمسك الثور من قرنيه وجلجامش يضع السيف في جسده، وهكذا تفشل عشتار أمام الإنسان، وتأخذ في الصراخ والعويل على ثورها المقتول، وخلال هذه الأحداث يتم قذفها بسيل من الشتائم على لسان انكيدو الذي ضربها بفخذ الثور أيضا،
لكن انكيدو رمى بفخذ الثور وجه عشتار |
بعد هذه التفاصيل الفكرية المتعلقة بعشتار وإستنتاج بعدم شرعية عبادتها، تنقلنا الملحمة إلى دفعة جديدة من التوجيه الفكري ضد عشتار، فبعد أن كانت الحرب بين عشتار وجلجامش فكرية فقط، تطورت لتصبح حرباً حقيقية، فقتل الثور السماوي من قبل جلجامش وانكيدو ثم ضربها وتوجيه التهديد لها، تصبح هناك حرباً طاحنةً لا تبقي ولا تذر، وما عملية قتل الثور السماوي الذي اوجد بناء على رغبة عشتار، إلا عملية قتل إله، ولهذا كان قرار مجمع الإلهة هلاك احد الاثنين، انكيدو أو جلجامش.
وتأتي أهمية النص الذي يتحدث عن عشتار بهذه الحدة وهذا الصدام، عندما نقابلها مع تلك التي تتحدث عنها بصورة صديقة ورحيمة نحو الإنسان، فموقفها المتعاطف أثناء الطوفان وبكاؤها على البشر الغرقى يمثل التلاحم والتعاضد مع الناس،
عشتار سيدة الإلهة تنتحب عاليا |
لقد تم ذكر معبد عشتار في الملحمة أكثر من خمس مرات، ونعتقد أن المراد من ذلك، إعطاء صورة عشتار وهي مع الإنسان يتم احترامها وتقديرها وتشييد المعابد لها، والصورة الأخرى وهي تريد احتواء الإنسان فيتم الاقتصاص منها بكل السبل والوسائل المتاحة، ففي الموقف الثاني نجدها تتبع أهواءها وشهواتها، وما طلبها من جلجامش للاقتران به إلا أحد تلك المواقف التي جعلتها صغيرة، ورفض جلجامش جعله أكثر احتراما وإجلالا منها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجنس
حرية عصر الدويلات السومرية لم تقتصر على المسائل السياسية والفكرية وحسب، بل تعدتها إلى مسائل أخرى، لكي تنير لهم طريق الحرية وتزيل بقع الجهل وعدم المعرفة، فكان من حقهم طرح الكثير من القضايا المحرمة في مجتمعنا، والتي لم يأتي تحريمها من باب الحرص على المجتمع وقضايا الأمة، ولكن من باب القمع والاضطهاد ومصادرة الرأي الآخر بكل الطرق والسبل، فعصر أورك كان يسمح للأفراد أن يتحدثوا عن هذه المحرمات بكل حرية وبدون أي مضايقات، فمادام الفعل أنسانياً ويتعلق بالإنسان فما المانع بالحديث عنه؟، كان الوضع في أوراك عصرا ذهبيا بالنسبة لنا، لما تم تحقيقه من الحرية واحترام فكر الإنسان.
لقد تطرقت الملحمة إلى الفعل الإنساني الخلاق ـ الجنس ـ في أربعة مواضع، وجاء حديثها في البداية بكل صراحة ووضوح عن الجنس، وعن الكيفية التي يتم بها هذا الفعل الإنساني، والأثر الذي يتركه على من يقوم به وخاصة الذكور، ثم عن المتعة واللذة التي يحصل عليها من يقوم بهذا الفعل، ومع أن هناك إشارة واحدة في الملحمة، حول دور ونتائج هذا الفعل في إبقاء وإستمرار الحياة الإنسانية على الأرض، إلا أنها تبقى أهم مصدر تاريخي تحدث عن الجنس بهذا الإسهاب والوضوح، ونصوص الملحمة تزيل تلك الطوطمية عن الفعل الإنساني وتجعل منه كائناً بسيطاً يحبه جميع الناس ولا يخافونه مطلقا، فهناك نصوص تتحدث عن انكيدو الوحش الذي يخرب مصائد الصيادين وينقذ الطرائد من شباكهم، بحيث لم يعد الصيادون قادرون على الصيد من الغابة، ويعود احد الصيادين خائفا مرتعبا، يخبر أباه بما حصل في الغابة وما شاهد من أعمال وأفعال الوحشي انكيدو، فيخبره الأب بضرورة التوجه إلى جلجامش وإعلامه بما شاهده في الغابة، وعندما يعلم جلجامش بالأمر يوصي بإرسال بغيا مع الصياد إلى الغابة لكي تغوي الوحش انكيدو، وهنا يتم التطرق أول مرة إلى فعل الجنس في الملحمة والأثر الذي يتركه على من يقوم به.
هذا الحديث الناري عن القوة ـ الجنسية ـ التي تملكها المرأة، وأثرها على الرجل، ولا ندري من أين حصل السومريون على هذه المعلومات حول اثر الجنس على الرجل، أم أرادوا من ذلك القول بان الرجل بعد الزواج يكون أكثر تحضرا ومدنية منه قبل الزواج؟. أم هو نوع من الخيال الأدبي أراد كاتب الملحة إضفاءه عليها؟، وبعد ذلك تخبرنا الملحمة عن فعل الجنس، بخلع المرأة ثوبها لتظهر مفاتنها أمام الوحش انكيدو، وكيف سينجذب إليها مسحورا بمفاتنها الجسدية، وكيف ستوقظ غريزته النائمة، في هذا الوصف تقول لنا الملحمة أن قوة المرأة تتفوق على قوة الوحش الرهيب، وكذلك نجد فيها تأكيداً على احترام المرأة من قبل المجتمع السومري.
لكن الملحمة لا تكتفي بهذا الحديث عن الجنس بل تريد التوغل أكثر، فتصف كل إحداثيات الفعل، إلى أن ينهي تماما.
هكذا تحدث الصياد للمرأة عندما شاهد الوحش انكيدو، فيطلب منها القيام بإغراء انكيدو، وإذا تتبعنا الكلمات نجدها خارج الحشمية وبعيدة عن الحب العذري والعاطفية الرومانسية، ويكاد الإقتباس السابق أن يكون مدرسة في الإباحية، فأمام قوة انكيدو الجبارة كان لا بد من استخدام هذا الفعل الذي يوازي قوة الوحش أن لم يتفوق عليها، ولهذا جاءت الكلمات واضحة وبهذه القوة، لكي تقنع القارئ أو السامع بوجود توازن قوى بين الوحش والمرأة، وقد يبدو أن المواجهة غير عادلة ـ الوحش والمرأة ـ ولكن الملحمة تريد أن تعطينا الحدث بصورة أسطورية مضخمة، لكي تقنعنا بما ذهبت إليه من الأحداث، ومن حسن حظ كاتب الملحمة انه كتبها قبل أن يأتي علية عصر الرقابة والممنوعات المعاصرة، الذي يحد ويحجب الكثير من الأفكار والأطروحات، فهذه النصوص الجريئة تمثل تعدياً وتجاوزا صريحا لقانون المطبوعات والنشر، ولهذا لم يجرؤ احد من المترجمين للنص الملحمي، أن يستخدم الكلمات التي استخدمها الكاتب قبل 4700 عام، وجاءت الترجمات فيها من الحشمة والرقابة الذاتية ما حد من صراحتها ووضوحها واباحيتها، وهذا ما تم الإشارة إليه من قبل فراس السواح، الذي وضع حاشية تتحدث عن الترجمة الفاضحة،
هو ذا يا فتاة البهجة حرري ثديك |
يقول السواح في حاشية، "ترجم البعض الشطرة الأولى من هذا البيت بشكل مختلف، افتحي ساقيك، عرضي فرجك" السواح ص 98، من هنا جاءت ترجمة الغرب للنص أكثر تماثلا وانسجاما مع النص الأصلي، ولهذا تم اقتباس جزءاً من النص لكتاب الجنس في العالم القديم لبول فريشارو، هذا هو وضع الترجمة المحافظة أو الخائفة من الرقابة في عصرنا ـ العربي ـ، أما عصر أورك فكانت الحرية فيه تحلق راياتها عاليا، متجاوزة عصرنا بكثير، فقد سمحت أن تكتب عما يجول في نفس الإنسان من مشاعر ورغبات دون قيد أو رقيب، أما عصرنا فانه قابض على روح الإنسان، لا يسمح لها أن تنطلق وتبدي ما فيها من أفكار ومفاهيم يمكن أن تغير مسار الحياة كليا.
لقد استمرت الملحمة في الحديث عن الجنس، وها هي المرأة تفعل ـ المحرم ـ أمام الصياد
فتاة البهجة حررت ثديها، عرت صدرها |
لم تكتفي الملحمة بالحديث عن المرأة، وكيفية إغوائها لانكيدو على لسان الصياد، بل استمرت في حديثها عن تلك المضاجعة الجنسية، بين قوتين ـ الوحش البدائي انكيدو وقوة المرأة العاطفية ـ ولا نريد هنا الحديث عن المنازلة بينهما، إلا أن النص أوضح لنا وضوح الشمس ما تم بينهما من فعل، إلا أننا نريد الإشارة إلى ترجمة سطر واحد من النص وهو "فقطف ثمرها" هذا السطر ترجم حسب الحاشية التي وضعها السواح، أن الوحش وضع ـ عضوه ـ بين ساقي الفتاة، واعتقد أن قمة الإباحية والفحش تم تناولها في عصر أورك، والنص الملحمي يعطينا صورة عن الحرية التي سادت على هذه الأرض في الزمن الماضي، وكيف نظر أسلافنا إلى الجنس، الفعل الذي يقوم به كل من هو على وجه الأرض، من هنا تطرقت الملحمة إليه على لسان البشر والقديسين وحتى الآلهة، بدون أي خجل أو تحفظ. لقد تم الحديث عن الجنس على لسان سيدوري صاحبه الحانة المقدسة، حينما أرادت أن تثني جلجامش عن طريقه وتعيده إلى أورك، فتكلمت عن نتائج فعل الجنس بالنسبة للمرأة وما يتبع ذلك من شعور ولذة:
اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها |
من خلال حديث المرأة عن الجنس نعرف كيف تنظر إليه وما يسبب لها من مشاعر وأحاسيس وكذلك نتائج هذا الفعل عليها، فيمكن أن لا يعرف الرجل أن المرأة تشعر باللذة كما يشر بها، ولهذا جاء حديث صاحبة الحانة لتؤكد على العلاقة والمتعة واللذة المتبادلة التي يحصل عليها كل من يقوم بفعل الجنس، وقد تم التطرق إلى نتائج الجنس هو الطفل الصغير، هذا الناتج عن الفعل الإنساني فهو يجلب أيضا الفرح والسعادة لوالديه وللآخرين، فكل من يشاهد الطفل يشعر بالفرح والسعادة حتى لو لم يكن من الصلب أو الاقارب، إذاً الجنس فعل أنساني له أهميته في استمرار الحياة، كما أنه يسبب الفرح واللذة التي تدفع بالإنسان ليعشق ويرغب أكثر في الحياة، ولإعطاء المزيد حول أهمية الجنس بالنسبة للأنثى تتحدث عشتار الأم سيدة الكون عنه قائلة:
هلم إلي يا جلجامش وكن عشيقي |
الطلب الذي تطلبه عشتار من جلجامش يؤكد الحاجة الجنسية لكل كائن حي فالملحمة لم تقتصر هذا الفعل على البشر وحدهم بل تعدى فعله إلى الآلهة، من هنا نجد فعل الجنس ذو أهمية، وجعلت منه الملحمة يسمو على بقية الأفعال الأخرى، وهناك حديث آخر لعشتار تطالب فيه فلاح النخيل لكي يمتعها برجولته:
تعال، مد يدك إلى خصري، ضمني، متعني |
تطلب الربة عشتار بشكل واضح وصريح بفعل الجنس، ومع أنها صاحبة الجلالة وسيدة الكون في المعتقدات القديمة، إلا أنها تطالب بالحصول على هذا فعل، ونعتقد في هذه الفقرة تم التركيز على من يقوم بفعل الجنس أكثر من الفعل ذاته، وهذا الأمر يشير إلى فهم ومعرفة ودراية القدماء بكل ما يتعلق بالجنس، والملحمة بهذا تخبرنا أن الجنس حيوي وذات أهمية بالغة للبشر ليس للحفاظ على الحياة البشرية وحسب، بل وكذلك ليمنحنا اللذة والسعادة والتي بدورها تعطينا دفعة لنستمر في الكدح ومواجهة المشاق والصعاب. في نهاية الحديث عن الجنس نقول أن حرية الرأي في المجتمع السومري أعطت كاتب الملحمة هذا المقدار من الحرية ليكتب عن الجنس، ولهذا استطاع السومريون أن يكتشفوا ويتحدثوا عن أهميته، وان يكشفوا كل خفاياه دون خوف أو خجل، مما جعلهم يزيلوا عنه كل الغموض والجهل الذي أنيط به، كما أعطت الملحمة فعل الجنس دور المهذب والمؤنس، فمن خلاله استطاع الوحش انكيدو أن يتخلص من بدائيته وينتقل إلى كائن بشري كامل، والمتعمق في النص الملحمي يستطيع الاستنتاج أن فعل الجنس مسيطر علية، ويتحكم به الإنسان حسب ما يراه مناسبا، ولم يكن الفعل هو المسيطر على الإنسان، ولهذا كانت هناك محطات تم فيها القيام بالفعل بكل طواعية وهناك محطات رفض وإحجام على القيام به، وذلك يعتمد على تقدير الموقف من قبل الإنسان، وبهذا جعلت الملحمة من الجنس فعلاً أنسانياً واضحاً بعيدا عن التحريم والطوطمية.
البغي والوحش انكيدو
بعد الحديث عن الحرية وتناول الكيفية التي حكم بها السومريون، وكيف تحدثوا عن القديسين والآلهة والجنس، ندخل إلى أقسام الملحمة وتفاصيلها، ونبدأ من المغامرة، التي تعج بها الملحمة، فهناك أكثر من مغامرة ذكرت فيها، وسنحاول التركيز على المعاني والأفكار التي أريد من ورائها، كما سنذكر بالتقنية الإبداعية والجمالية لهذه الأحداث، ونبدأ الحديث حسب التسلسل الملحمي، مغامرة الوحش والبغي وما هي مقدمتها، فبعد أن بنى جلجامش أسوار أورك ومعابدها وشوارعها، لم ترتح نفسه وبقيت في اضطراب مما دفعه إلى الدخول على الزوجات قبل الأزواج:
لا يترك جلجامش بكرا لامها |
هذا الظلم دفع الناس إلى الدعاء والاستنجاد بالآلهة، ويتم الاستجابة لطلبهم من قبل الربة آرورو، فتخلق انكيدو ليكون ندا لجلجامش، فأخذت اورور شيئا من الطين ورمته في الأرض فكان انكيدو يأكل مع الحيوان ويتصرف كأحد حيوانات القطيع، فهو ينتمي إلى كائنات الغابة وهو جزء منها، ويدافع عن بيئته أذا تعرضت للخطر، الوحش ينقذ رفاقه إذا تعرضوا للخطر، الذي تمثله حفر الصيد والشباك التي ينصبها، وكان يفشل كل محاولات الصيادين، من خلال تخليص الحيوانات من الشباك وحفر الصيد، وهذا العمل ـ إنقاذ الحيوانات ـ يقلب أو يوقف نظام الطبيعة التي تجعل من الإنسان سيدا ومتحكما بالحيوانات، فهو ينقذ الحيوان الضعيف من الإنسان، أما هيأته فتترك الهلع والرعب على من يشاهده:
النص يوضح صورة الوحش صاحب الشعر الطويل المرتدي جلود الحيوانات، فهو بدائي متوحش لا يعرف الحياة البشرية والاجتماع الإنساني، وهو بهذا الوصف وهذه الصفات مرعب لكل من يشاهده، حتى أن الصياد القوي وصاحب الخبرة والمهارة في التعامل مع الحياة الغابة، لم يجرؤ على الاقتراب منه، ولنمعن بما أصاب الصياد عندما شاهد الوحش، غم وجهه من شدة الهلع وأصابه الخوف، حتى انه لم يقوى على الحركة، هكذا بدا وضع الصياد، أما نفسيته فأصبحت مضطربة، والاكتئاب سيطر عليه والرعب يعيش داخله.
ومن هنا نجحت الملحمة في وصف حالة الصياد الظاهرة ـ الشكلية ـ وغير الظاهرة ـ النفسية ـ وهذا الأمر يشير إلى تطور فنية الكتابة عند السومريين، التي تهتم بإبراز الانفعالات والهواجس عند شخوص الملحمة، مما يجعلها أكثر إقناعا وتماسكا في أحداثها. إذن هناك مخلوق متوحش يمتلك هيئة مرعبة وقوة عظيمة، ولا يمكن لأي رجل عادي أن يتصدى له، من هنا كان لا بد من وجود شخص قادر على مواجهة الوحش، لا يرتعب من هيئته المخيفة، ويمتلك من القوة ما تمكنه من إيقافه والسيطرة عليه، فمن تكون تلك القوة؟. إذا تسلسلنا بسرد القصة وتوقفنا عند وضع الصياد يتبادر إلى ذهننا بان هناك قوة كبيرة مكونة من مجموعة من الرجال الأشداء والمدججين بالسلاح ستقف أمام وحش الغابة، إلا أن الملحمة تفاجئنا بصاحب القوة الذي تستطيع السيطرة على الوحش وإخضاعه والتي تكمن بأضعف مخلوق بشري ـ المرأة ـ، المرأة هي التي تستطيع الوقوف أمام الوحش، وهذا المنطق في استخدام قوة المرأة يعطي تأكيدا على العبقرية التي وصل إليها المجتمع السومري، وأيضا المقدرة الفنية على مفاجأة القارئ أو السامع للأحداث الملحمة. ونعود إلى الصياد المرتعب، لنكمل معه المغامرة، يعود الصياد إلى الأب وهو في حاله المزرية:
أي أبت قد هبط أرضك رجل فريد |
الأسطر السابقة تحدث فيها الصياد لأبيه عن وهن حالته، وعن الوحش الذي يقف وراء تغير الأحوال، فنجد في كلامه تأليب الأب على الوحش، فاستخدام الصياد كلمة "أرضك" ولم يستعمل كلمة أرضنا، لكي يعطي الشكوى وقعا اكبر في نفس الأب، ومن ثم يأخذ بالحديث عن أعمال الوحش التي أصبحت العقبة أمام الاستفادة من الأرض وما عليها، الأب يطلب من الصياد الذهاب إلى جلجامش ويطلب منه بغيا، لتذهب معه إلى الغابة، البغي تذهب في صحبة الصياد إلى المكان المحدد.
الدور الذي أنيط بالمرأة للسيطرة على الوحش، جاء ليقلب المفاهيم المتعلقة بالمرأة وبالصراع مع الوحش، فقد تم استخدام قوة الجنس بدلا من القوة الجسدية والعضلية، وهنا أعطت الملحمة المرأة دورا أقوى من دور الرجل الذي لم يستطع مواجهة الوحش، بينما واجهته المرأة وانتصرت عليه، فالمرأة في هذا الجزء من الملحمة كانت أقوى من الرجل وأكثر فاعلية منه، فهي تمتلك من القوة النفسية ـ عدم خوفها من الوحش ـ الشيء الكثير، كما تمتلك من القوة ـ العاطفة ـ ما تجعل من الوحش يتأنسن.
المشهد السابق يؤكد على أن السومريين كانوا يعظمون المرأة ويعتبرونها من عناصر المجتمع الفاعلة، فهي كائن فاعل له دور في الحياة، هذا الدور للمرأة جعل الملحمة تخرج عن المألوف والمنطقي، فبدلا من مواجهة القوة بالقوة جاءت المواجهة بين القوة المتوحشة وقوة العاطفة.
يجلس الصياد والبغي ثلاثة أيام وهما ينتظران قدوم الوحش، يأتي الوحش ليشرب مع القطيع وهناك تخرج المرأة بفتنتها الساحرة فتنتصر على الوحش:
فتاة البهجة حررت ثديها، حررت صدرها |
استخدام المرأة مفاتنها لإثارة العاطفة عند انكيدو المتوحش ومن ثم انجذابه إليها وبقوة، وبعد هذا الوقوع في حبها أو الحاجة إلى تلك العاطفة، فقد منحت انكيدو شيئا جديداً لم يحصل عليه خلال وجوده مع الحيوانات، الحب والجنس أمران جديدان على انكيدو، الذي لم يعرف منهما شيئا قبل التعرف على الغانية، الذي يمتلك مفاتيح الحب والجنس هو المرأة وبهذا المفتاح استطاعت المرأة أن تكسب ود المتوحش، ومن خلال حاجته إليها أصبحت قادرة على الوصول إلى داخله، وبهذا خرج انكيدو من مجتمعه ـ البرية وحيواناتها:
رأته حيوانات البرية مع البغي |
النتيجة الأولى الحب فقدان انكيدو للحياة التي عاشها وعرفها ـ الغابة ـ فهروب الحيوانات منه رغم انه كان حاميها يعد تغير جذري، فالمجتمع الذي عاش فيه انكيدو نبذه ولم يعد يأنسه، من هنا كانت ردة الفعل الطبيعية عند انكيدو هو اللحاق بذلك المجتمع؟
تمهل خلفها، ثقيلا كان جسمه |
والنتيجة الثانية فقدان انكيدو قواه، فهروب الحيوانات منه معناه فقدان المجتمع الذي لم يعرف سواه، من هنا جاء اندفاعه نحو ذلك المجتمع واللحاق به، فلما لم يستطع فعل ذلك، وأصبح بعيدا عنه ـ جغرافيا ونفسيا ـ أصبح حقيقة في مصيدة المرأة الكائن الجديد الذي عرفة، وكأن الملحمة تقول لنا بان الحيوانات مثل المرأة لا تقبل مشاركة الغير لها أبدا، من هنا يجب الإخلاص لها حتى تكون لنا ونكون لها. إذن أصبح انكيدو أسير الصياد بدون أن يعي ذلك، المرأة تقوم بتقيد صيدها بشيء غير ملموس، جعله عاجز عن الحركة، وهذا الوثاق أو القيد غير معروف عند انكيدو بعد، والصياد المرأة يعي تماما ذاك الوثاق الذي أوثق به الطريد انكيدو، من هنا أصيب انكيدو بحالة من الكآبة:
فاغتم انكيدو وضعفت قواه |
الوضع النفسي السيئ وهو نتيجة عدم المقدرة على ممارسة الدور السابق لانكيدو، وفقدان المجتمع الذي يعرف، والضعف الذي أصبح فيه، وهذا بداية الوعي عند انكيدو ـ معرفته لواقع جديد ـ فهو يعرف معنى الأسر والابتعاد عن الرفاق، من خلال الحيوانات التي كان ينقذها ويحررها من الأسر، وهنا أصبح انكيدو يتوسط مجتمعين ـ الغابة وحيواناتها من جانب والمرأة وعاطفتها من جانب آخر، فبعد ابتعاد المسافة الجغرافية والعاطفية عن المجتمع الأول كان لا بد من التوجه إلى المرأة الأقرب والأثبت جغرافيا على اقل تقدير.
قفل عائدا إلى المرأة جلس عند قدميها |
صورة انكيدو يبدو فيها ضعيفا مستسلما أمام الصياد المرأة، التي استطاعت بتلك القوة الخفية أن توصله إلى هذه الحالة من الضعف، الوحش القوي المخيف يجلس أمام المرأة الصياد بصره مرفوعا إليها طالبا العون والرحمة مما هو فيه، فكأنه يتوسل الخلاص بهذه الوضعية، وتبدو المرأة في وضعية المسيطرة المتحكم تماما بصيده، صورة الطريد انكيدو والصياد المرأة تجعلنا نعلم القوة الكامنة فيها. بعد أن تجد المرأة الثمرة قد نضجت وحان قطافها، تنتقل إلى الخطوة الثانية، وهي الذهاب بصيدها إلى مكان جديد، لكي تستكمل عملية التغير للوحش ويصبح شيئا غير الذي كان عليه سابقا، فبعد استطاعتها إبعاده عن حياته السابقة وإضعاف قدراته، وانهيار حالته النفسية أصبح باستطاعتها أن تعبئ انكيدو بما تريد من مفاهيم وأفكار جديدة.
أنت عاقل يا انكيدو، أنت شبه إله |
بدأت المرأة حديثها مع انكيدو حول حياته السابقة، إنها تعرف نفسية الوحش وكيف يفكر، تريد أن تفتح له بابا جديدا عوضا عن الباب الذي سد في وجهه، وبهذا أكملت حديثا عن العالم الجديد الذي ينتظر انكيدو، مفصله له ماهية هذا العالم، فيه معابد وأسوار لم يسمع بها من قبل، وفي نهاية حديثها أخذت تثير فيه غريزة إنقاذ المظلومين، وتقول له هناك شخص ـ جلجامش ـ يجور ويظلم، وهناك مظاليم هم بحاجة إلى حمايتك، انكيدو الذي ساعد الحيوانات الضعيفة وإنقاذها من الإنسان القوي، ما زال يحب ويريد أن يقوم بعملية إنقاذ الضعفاء ومواجهة الأقوياء، وهذه الغريزة عرفتها المرأة في انكيدو ولهذا جاء حديثها عن جلجامش أكثر شيء تأثر به انكيدو، وهذا التأثير انعكس في رد انكيدو عما سيفعل بعد وصوله إلى أوراك:
جاء حديث انكيدو عن تصوره لهذا العالم الجديد بسطر واحد فقط، تحدث فيه عن المعابد، وستة اسطر عن تلك الشخصية التي جذبته، وهذا يشير إلى أن المرأة استطاعت أن تعرف كيف يفكر والوحش ومن ثم قدمت له طعما جديدا، لتسوقه إلى المكان الذي ينتظره. إذا أمعنا التدقيق في كلمات انكيدو عن جلجامش نجد فيها الاعتراف بقوة جلجامش، وثقة بالنفس عند انكيدو، وكذلك الشوق والاندفاع لملاقاة الخصم والحديث معه، إذن هناك دوافع الإنقاذ ومواجهة جلجامش والشوق للحديث معه، والمرأة تكون بذلك قد نجحت في اسر انكيدو وهكذا ستكمل معه الطريق بحديثها أولا وبعملها ثانيا:
بعد أن سلم أنكيدو نفسه للمرأة واخذ بكلامها، بدأت تظهر عليه ملامح الإنسان المتحضر العاقل، وأول تلك التغيرات في هيئته ارتداء الثياب لستر العورة، وهذا الأمر يذكرنا بستر عورة آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة المحرمة، ونجد هنا ستر العورة جاء كفعل نبيل متحضر وليس نتيجة خطيئة، ففي ارتداء الملابس يكون الإنسان قد تجاوز عصر البدائي وتقدم إلى عصر التحضر والاستقرار والإنتاج.
فبعد ارتداء الثياب أصبح انكيدو يمتلك جزءاً من الحياة الجديدة التي اخذ يسعى إليها، وبعد اللباس جاء التعامل مع أفراد المجتمع الجديد، فكان اللقاء مع بني البشر، وفي هذا اللقاء كان يتعلم منهم عاداتهم وسلوكهم، وهنا يتلقى انكيدو درسا جديدا من هذا المجتمع، فيتعين عليه أكل الخبز وشرب الخمر، هذا الطعام الجديد غير ذاك الذي كان يتناوله في الغابة، والشراب ـ الخمر ـ غريب عليه، وهنا يريد كاتب الملحمة أن يقول لنا بان من سمات المجتمع المتمدن أن يرتدي الثياب وان يأكل طعاما مصنعا وليس طعاما بدون تصنيع، فنجد الثياب من الضرورة أن تكون مصنعة وهذه الفكرة ـ التحضر وربطها بالإنتاج من الأفكار المتقدمة التي طرحتها الملحمة.
وهكذا يجد انكيدو هذا الخبز وهذا الشراب طيبا، ويشعر بنشوة الفرح بعد ذلك الشراب، وبهذا يتقدم انكيدو خطوة أخرى نحو الانسنة والتحضر، وبعد هذا يأتي دور العمل استكمالا لشكل وهيئة انكيدو، ليكون إنسانا كاملا، ويتم تطهير انكيدو بوضع الماء والزيت على جسمه ليدخل عالم الإنسان نظيفا طاهرا من كل النجاسات.
من خلال تطرق الملحمة لفكرة الماء والزيت نجد هذا الأمر من الأمور الأساسية لكي يقبل أي إنسان في جماعة دينية، فعند المسيحيين يجب أن يعمد الإنسان الذي يدخل المسيحية بالماء، وفي الإسلام عليه أن يغتسل بالماء ليدخل الإسلام، فكأن الاغتسال هنا لا يطهر الجسد وحسب بل الروح والعقل أيضا، من هنا نقول بان فكرة الاغتسال والتطيب لها جذور دينية منذ أن أرسل الله الأنبياء والرسل للبشر.
وبعد التطهر يأتي دور العمل الذي سيكمل به انكيدو طريقة نحو الانسنة الكاملة، فيأخذ أسلحة الرعاة ويقوم بعملهم، وهكذا أصبح انكيدو إنسانا كاملا، لا يختلف عن بقية الناس إلا بقوته الجبارة، وبهذا يكون قد انضم إلى المجتمع البشري من خلال المرأة التي نجحت في مهمتها واستطاعت أن تسيطر على الوحش وتقوده كما تقود الأم طفلها ثم تعلمه السلوك الإنساني.
في نهاية هذا الفصل نريد أن نشير إلى الأفكار التي تناولتها الملحمة، خاصة ما يتعلق منها بطبيعة المرأة، فهي ذات قدرة على القيام بالأعمال التي لا يستطيع الرجل القيام بها، وهذا الكائن ـ الضعيف ـ في نظر البعض يمتلك من القدرات الشيء الكبير، وهذه القدرات من أساسيات الوجود الإنساني على الأرض، فهي التي تهذب الإنسان وتخلصه من البداية نحو التحضر والاجتماع، فالمرأة صاحبة دور أساسي في إيجاد الحياة الإنسانية على الأرض، وهناك إشارة إلى الجنس على انه فعل أنساني يتميز به الإنسان عن بقية المخلوقات، فإذا كان الإنسان يتكون نتيجة فعل الجنس فان انكيدو الوحش تأنسن من خلال الجنس، وكأن الجنس لا بد منه ليكون هناك إنسان حتى لو كان المخلوق كاملا مثل انكيدو، كما تظهر لنا الملحمة بان الانسنة لا بد لها أن تمر من خلال المرأة وبواسطتها أيضا، والإشارة " تقوده كما تقود الأم طفلها " جاءت لتوحي للقارئ بان دورة نمو للإنسان سيمر بها كل البشر حتى لو كانت غير منتظمة كما هو الحال مع انكيدو.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انكيدو في أوراك
قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه |
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا |
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل. بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة |
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
ثار أهل أوراك في بيوتهم |
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة. نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا |
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين.
في أوروك المنيعة، فأس مطروحة، تجمعوا عليها |
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة، ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء.
سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها |
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع. وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
الفأس التي رأيت، رجل |
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات.
قال جلجامش هل حظي حن لا فوز |
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة.
سأناديه وأكلمه بجرأة |
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك:
نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني |
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو:
دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة |
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو:
فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش |
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض:
فرح الناس |
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع. وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن. بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو:
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو. وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض:
ولما رجع إلى الوراء |
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.
غابة الأرز
جلجامش يحمل فكرة التمرد على كل ما هو كائن، ونفسه تأبى التسليم للأمر الواقع، ويسعى السمو فوق الجميع، ويريد أن يكون أنموذجاً فريدا يسترشد بفعله من الآخرين، فيقرر الذهاب إلى غابة الأرز ليكون مميزا عن الجميع ويخلد اسمه ولا يفنى كبقية البشر، ولتستقر نفسه الباحثة عن المستحيل، فهو يعرف أن أيام البشر معدودة ولا يمكن تجاوز القدر، ومع هذا لا يريد الاستسلام وبهذه الحقائق يسعى ليتخطاها رغم استحالة ذلك، فهو يرفض وبإصرار أن يكون من الفانين، وسيعمل جاهدا لكي يبقى خالدا والى الأبد.
اتخذ جلجامش قراره بالذهاب إلى غابة الأرز، ورغم بعدها وصعوبة الوصول إليها وخطورة تلك الرحلة، إلا انه يقرر الذهاب، فيستشير صديقه انكيدو أولا:
هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض |
جاءت كلمات جلجامش لتعيده إلى ذاته الخيرة، التي ترفض الشر وتسعى للخير، من هنا يريد أن يخلص الناس من الشرور مهما كان مصدرها ومصدرها، انكيدو عاش في البرية ويعرف غابة الأرز ويعرف طريقها ومن هو حارسها، وبهذه المعرفة تحدث لجلجامش
أنكيدو الصديق الوفي يخبر جلجامش بكل ما يعرف عن الغابة وعن حارسها ، فهي بعيدة جدا والوصول إليها يحمل الكثير من المشقة والتعب، وهذه أول المعيقات أمام الوصول إليها، وهناك أرادة سماوية لحماية الغابة من الدخلاء، وهذه الإرادة متمثلة بأنليل الذي وضع هواوا أو خمبايا لحراستها، وبما أن هذه الإرادة سماوية إلا أن الحارس هواوا يمتلك أسلحة سماوية وقوة جبارة وهيئة مرعبة، تتمثل فيما يلي، منظر مرعب يلقي الرعب في قلب كل من يتجرأ وينظر إليه، ويمتلك صوت العاصفة الهوجاء، ويخرج النار من فمه، وأنيابه مثل السيف، هذه الأوصاف لا يمكن أن تكون لرجل أو إنسان بل لمخلوق متوحش أسطوري.
أن خمبابا هو كائن رهيب يمتلك تلك المقدرة الإلهية وهو دائم اليقظة يسمع كل من يقترب من الغابة، ويضيف أنكيدو محذرا جلجامش من السفر إلى الغابة، الرعب يدب بكل من يذهب إلى تلك الغابة، وكذلك المنازلة مع ذلك التنين هو نزال محسوم سلفا لصالح التنين، ويكمل أنكيدو حديثه عن قوة الحارس قائلا، إنه محارب عظيم وهذا يعطي خمبابا الخبرة في القتال وليس القوة فقط، وهذا ما يجعل منازلته شبه مستحيلة. بعد سماع جلجامش هذه المعلومات، يرد على أنكيدو بكلمات يريد من خلالها جلب أنكيدو للموافقة على سفره إلى غابة الأرز.
جلجامش يعرف كيف يخاطب الأبطال أصحاب العزائم القوية، ويعرف كيف يثير فيهم العزيمة لقد استخدم جلجامش الخطاب الفكري أولا ثم ألأخلاقي ثانيا، مستخدما كلمات موجعة مؤثرة، لقد جاء حديثه عن الخلود والموت يحمل بين معانيه الذل والتقريع لك من يريد أن يبقى ساكنا غير يفعل، ويحمل أيضا الإقناع المنطقي، فأصحاب الفعل لن يغيروا نظام الحياة والموت، وأصحاب عدم الفعل لن يغيروا كذلك النظام، ومن هنا جاء سؤال جلجامش في بداية حديثه " يا صاحبي من الذي في وسعه أن يدحر الفناء" يحمل الإقناع المنطقي، ويدفع بألهمم لصالح طرحه.
وبنفس الأسلوب الذي بدا فيه أنكيدو الحديث مع جلجامش، يرد عليه جلجامش ودخل الآلهة في الموضوع كما أدخلها أنكيدو، وجاءت كلماته واضحة مثل الشمس ليس فيها غموض أو إبهام، ويكمل جلجامش حديثه عن الإنسان والأيام المقدرة له من الإلهة، جاء هذا الخطاب الفكري لإقناع أنكيدو بأن قرار جلجامش الذهاب إلى غابة الأرز هو قرار صائب، لكن كيف سيقنع أنكيدو بان يذهب معه إلى الغابة ؟ من خلال معرفة جلجامش لنفسية أنكيدو المخلص، جاءت كلماته أللاحقة فيها النار التي تشعل الزيت في قلب أنكيدو الشجاع، ويبدأ معه بكلمات تدفعه نحو القبول بألفعل، أيعقل أن يكون أنكيدو القوي يخاف من مجرد ذكر خمبابا وهو ما زال في حضرة جلجامش!، أليس هذا امتهان لانكيدو؟، ثم يسأل جلجامش أنكيدو بحقيقة مؤلمة، أين ذهبت قوتك؟ وجاء هذا السؤال إنكاري لتلك القوة التي يحملها أنكيدو، ويكمل حديثه أنا أسير أمامك وأنت خلفي، مفهوم هذه الكلمات في نفس أنكيدو،النار الحارقة التي يحترق بها وكيف يسير في الخلف وهو الشجاع؟، ولا يكتفي جلجامش بذلك بل يكمل بجملته القاتلة: "وأنت تصرح تقدم ولا تخف" هذا الحديث جعل أنكيدو يعيد كل حساباته، ولقد ذهل من سماع هذه الكلمات وها هو يعد العدة مع جلجامش للذهاب إلى غابة الأرز، وكأن الكلمات التي سمعها هي تحدي شخصي له، فيقرر المضي مع جلجامش ويأخذ في أبداء النصائح لجلجامش ليكون سفرهما ناجحا.
فأخبر اتو (شم) أوتو البطل |
هذه النصيحة التي وجهها أنكيدو لجلجامش تكون البداية لسلسلة من الإجراءات يتخذها جلجامش قبل السفر، وفعلا يخبر جلجامش الإلهة شمس، وتكون هذه كلمات جلجامش لشمس الإله:
جاء خطاب جلجامش لهذا الإله فيه هم الإنسان الذي يحمل هموم الناس جميعا، جلجامش يحزن من مشاهدة الرجال موتى، وقبل أن يحصلوا على شيء من الحياة، وهذا الحقد على الموت سيكون هو أحد أهم الصراعات التي يخوضها جلجامش، فهو يكتفي بالحقد هنا، ولم يصل بعد إلى مرحلة التناقض معه، فهو رفض ـ مسالم ـ يريد أن يكون فعالا يظهر صورته أمام الناس وأمام الإلهة كبطل حقق شيئا مميزا وفريدا.
جلجامش هنا يعمل ضد كل ما هو ساكنا، ويسعى إلى أن يكون كل شيء متغيرا، فالسكون وعدم الفاعلية والثبات نقائض يعمل جلجامش على إزالتها من الكون، وبعد هذا الهم الجماعي لأهل أوروك ينتقل جلجامش ألي همه الشخصي مخاطبا شمس، هل سيحل بي نفس المصير؟، هذا السؤال يؤكد بأن جلجامش يرفض أن يسلم للأمر الواقع – قدر الموت ـ وكذلك بإنسانيته، ولكن سيعمل بشكل مخالف لعمل الإنسان العادي، فهو يتميز عن بقية الناس ليس بقوته وهيئته وحسب بل بالعقلية الرافضة كذلك، وبعد هذا السؤال ينتقل جلجامش للحديث عن فلسفته اتجاه الموت وكيف ينظر لهذا الموت، فكأنه يقول للإله شمس، ما دام الإنسان أعظم إنسان لن يصل إلى السماء ولن يغطي الأرض لأنه سيموت في النهاية فدعني افعل قبل أن أموت، وبعد هذا الحديث يوافق شمس على سفر جلجامش ويعطيه الأمان في الذهاب والعودة إلى أوروك سالما.
وبعد هذا الانجاز موافقة أنكيدو ثم مباركة الإله شمس، يأتي الإعداد والتجهيز لتلك الرحلة الطويلة، يأمر جلجامش الصناع لكي يصنعوا أقوى ألأسلحة ليواجه بها خمبابا، وأثناء ذلك يعلم شيوخ أوروك انكيدو عن خمبابا الذي لا يمكن قهره، يرد عليهم جلجامش بمنطق الرافض للسكون.
بماذا سأحبهم؟ |
استخدم جلجامش صيغ التحقير لحالة التسليم والسكون ليثير المستمعين نحو رفض هذا السكون والتسليم بما هو قائم، وجاءت كلماته تحمل فلسفته عن الحياة والفعل وبعد هذا الحديث مع الشيوخ والإله شمس وأنكيدو من قبل، نستطيع القول بأن جلجامش يسعى إلى سمو الإنسان ويعمل على رفض كل ما هو قائم مقدر، وهو يمتلك فلسفة خاصة به عن الحياة والفعل والموت والسكون، وهذه الفلسفة تعتمد على الإنسان الذي يعتبره جلجامش بموازاة الآلهة، وقد استخدم أسلوب التحقير المحرض على الفعل، وهذا الأسلوب كان مقنعا جدا، حيث حصل على دعم كل من تحدث معه.
وقبل أن يبدأ جلجامش وأنكيدو الرحلة إلى غابة الأرز، ويدخل جلجامش على أمه ننسون ليحصل على مباركتها، وجاءت كلماتها كما يلي:
كلمات أم جلجامش تحمل العاطفة الجياشة، والحرص على ولدها من الأذى، ويستدل منها على حالة الاضطراب التي تمر بها، فهي تحمل الإله الشمس مسؤلية ما أقدم عليه ابنها، فهو من منحه قلب لا يعرف السكينة والراحة، وكان عتابها للإله شمس لتريح نفسها من الثقل الذي يتعب نفسها أولا، ثم لتحصل على دعم إضافي من شمس، فبعد أن افرغت ما في نفسها من هم من خلال الكلمات التي وجهتها لشمس، شعرت بالراحة النفسية، ثم أخذت تطلب منه أن يحمي ولدها في سفره وفي عودته، وان ينصره على عدو الإله شمس خمبابا، وكان استخدام كلمة "الذي تمقته" لتحمل شمس على الاندفاع أكثر لمساندة جلجامش في مغامرته، فكأن جلجامش أقدم على تلك المغامرة نيابة عن الإله شمس، وجاء السطران الأخيران من حديث ننسون لشمس فيهما الهدوء ولا يحويان كلمات الانفعال والاضطراب كما هو في بداية حديثها، وهذا التسلسل المنطقي في ترتيب الكلمات ينم عن القدرة وحالة الإبداع الفني في الكتابة الملحمة والتي يتمتع بها من كتب النص الملحمي.
بعدها تنتقل ننسون إلى توجيه كلامها لانكيدو مرافق ولدها وصديقه، فتحدثه حديث الأم لابنها وتجعل منه ابنا لها، ثم تأخذ في توصيته على جلجامش ليعود إليها سالما، ولان انكيدو وفي لأصدقائه كانت كلمات ننسون تجعل منه المسؤول عن سلامة جلجامش. وإذا تمعنا في الكلمات التي خاطبت بها ننسون نجدها قد وضعت بدقة متناهية، فتم مخاطبة كل شخصية بما يناسب وضعها، وهذه الحوارات تحمل تفاصيل شخصية كل من تكلم وكلم في آن واحد، فتم مخاطبة كل شخصية حسب الموقف الذي يراد مها القيام به. بهذا الرضا الأمومي ومباركة الأرباب وصحبة الأصدقاء ينطلق جلجامش إلى غابة الأرز مودعا أهل أوراك وداع الأحبة، موجهين له النصائح التي تعبر عن الحب والحرص على شخصه، وينفذ الحاكم الحامي تلك النصائح والوصايا ويجعل انكيدو يسير في المقدمة أمامه، يسير الصديقان إلى غابة الأرز، يقطعان الجبال السبعة وفي ثلاثة أيام يقطعان مسيرة خمسة وأربعين يوما، يتقدمان في المسير نحو غايتهما، إلى أن يصلا مشارف الغابة، وهناك يكون احد الحراس الذي يحرسون الغابة، يصاب جلجامش بالنوم فلا يقوى على الحركة فيحدثه انكيدو يحرك فيه الحمية والشجاعة
تذكر ما قلته في حضرة شيوخ أوراك |
الملحمة في هذا الجزء تستخدم كلمات دافعة للقتال على مسامع أبطالها حين يصابون بالتهاون أو لتراخي، محرضة إياهم على الإقدام، فها هو انكيدو يخاطب جلجامش بعين الأسلوب الذي خوطب به في أوراك حاثا إياه على الشجاعة والاقدام، وداعيا إياه الابتعاد عن الخمول والتهاون، فكان تذكيره بالكلمات التي قيلت له في أوراك، وانه ابن تلك المدينة الشامخة العصية المنيعة، وبعد سماعه هذا الكلام يتجاوز جلجامش حالة التراخي السلبي ويعود إلى ذاته القوية.
يقف جلجامش وانكيدو أمام مدخل الغابة ويحاول انكيدو الدخول فتشل يده ويدب الخوف والرهبة في نفسه، ويطلب من جلجامش أن يوقف الرحلة إلى هذا الحد، إلا أن جلجامش العنيد يخاطبه ليزيل عنه ثوب الخوف والهلع:
كلمات جلجامش اخف وطأة من سابقتها، وهذا يعود إلى خطورة الموقف الذي أصبحا فيه، فجاء استخدامه لكلمات تعيد الثقة لانكيدو، وتحفيزه على الاستمرار في المسير، ثم يأخذ في طمأنة انكيدو بأنه سيكون في أمان إذا استطاع أن يتجاوز حالة الخوف والهلع الذي دب فيه، فالخوف وهو الشر الذي سيلقي بهما إلى التهلكة، ولكذلك لا بد من إزالته. يعود جلجامش إلى التأكيد إلى قراره دخول الغابة ولا مجال للعودة عن القرار، ويخاطب انكيدو مشجعا إياه بفلسفة جلجامش عن للحياة والموت والفعل وعدم الفعل، ويخبره بأنه سيكون أمامه في المسير، وهنا يكون جلجامش درعا لانكيدو، ويقلب المواقع التي ابتدأ بها الطريق، فبدلا من أن يكون انكيدو في المقدمة لحماية جلجامش ها هو جلجامش في المقدمة ليحمي انكيدو، ويعطيه الثقة ومن ثم يحثه على تجاوز حالته السلبية، وهذا يستدل منه على عدم التقيد بالأنظمة بطريقة جامدة، ويجب التعامل مع كل ظرف حسب ما يقتضي وما يمليه الواقع، وأخيراً يذكر جلجامش بأنهما في حالة الفشل ـ أن حصل ـ سيكونان معا، وهنا يستعيد انكيدو عافيته وقوته، ويدخلا الباب فإذا بهما أمام لوحة طبيعية مبهرة، ويحلم جلجامش حلما يقصه على صديقه انكيدو فيكون هذا بشارة النجاح والنصر، فيقول انكيدو سيقتل خمبابا حارس الأرز على أيدهما، هذا تفسير الحلم، ويحلم جلجامش حلما آخر يقصه على انكيدو، وتكون فيه أيضا البشرى مرة ثانية، وهكذا يتقدم الصديقان ويقطعان أشجار الأرز، فيسمع خمبابا دويها وهي تسقط أرضا، ويقترب منهما "وضع جلجامش درعه على صدره ... والتي تزن ثلاثين مثقالا وكأنها لباس خفيف ونادى رفيقه ضع يدك في يدي فما عسى أن يحدث لنا من سوء؟
كل المخلوقات الموجودة من اللحم ستحبس في النهاية في قارب الغرب ... إذا كان الخوف قد حل في قلبك فالقه عنك، خذ بلطتك في يدك واهجم من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام، ثم صاح جلجامش للتنين أن يخرج للمعركة" بشور ص 213 و214 بعد أن استعد القائد جلجامش للمعركة تناول عدة الحرب وارتدى اللباس ، بدا في إعطاء محاضرة تشجعه قبل الالتحام مع الخصم، مستخدما فيه الحث على القتال و التخلي عن الضعف و الخوف، ويطلب من أنكيدو أن يتناول سلاحه ويكون مستعدا للقتال، ثم يطلق حكمة المحارب المتمرس في المعارك لكل المقاتلين في العالم وفي كل مكان وزمان "من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش بسلام" ونستطيع من خلال هذه المقولة أن نؤكد بان الملحمة قد تجاوزت عصرها بكثير، فمثل هذا الكلام لا يمكن أن يخرج إلا من إنسان وصل إلى قمة التطور الحضاري والمعرفي والثقافي.
بعد أن أعطتنا الملحمة صورة جلجامش و انكيدو وكيفية استعداهما للمعركة انتقلت لتحدثنا عن خمبابا وكيف يستعد للمعركة، إن الكلمات التي استخدمت في وصف خمبابا تؤكد لنا بان هذا المخلوق هو تنين وليس إنسان وجاء استخدام جملة "تنفس و أمام زئيره أحنت الارزات رؤوسها كدليل على أن" النيران تنبعث من فم التنين وتحرق الأشجار وهذا ما جعلها تحنى رؤوسها.
في كل أحداث المعركة مع خمبابا لم يتم التطرق إلى استخدام خمبابا للأسلحة أو لأدوات الحرب المعدنية مثل درع أو السيف أو البلطة وما إلى ذلك، و إنما تم ذكر استخدام قدرته الجسدية فقط ومن هنا جاءت حركات الرأس والنظر إلى الخصم بطريقة توحي بالافتراس، ثم اخرج النيران وإصدار أصوات مرعبه وبعد أن استدار هذا التنين شاهد جلجامش وجهه المرعب الذي يؤكد على انه تنين يمتلك عينان حمراوان و أسنان صفراء حادة ووجه مخيف، أن هذا الوصف لتنين أعطانا صورة أدق من تلك التي نشاهدها على التلفاز للتنين، ومن هنا استطيع القول بان الخيال الموجود في الملحمة هو عميق جدا وواسع استطاع أن يصور لنا صورة خيالية لكائن خرافي بأدق التفاصيل، وهذا جعل ذلك الكائن يعيش في خيال الإنسان إلى هذا العصر.
وبعد هذا الحديث عن خمبابا نعود إلى المعركة وتفاصيلها مع هذا الوحش الرهيب، يصاب جلجامش وصديقه بالرعب فيطلب من شمش مساعدتهما للخلاص من هذا الوحش:
إن الوحش خمبابا لا يمكن الانتصار عليه بقوة بشرية فقط، فهو يمتلك قوة الآلهة من الإله انليل، فكان لا بد من الاستعانة بقوة الآلهة للقضاء عليه، إلا أن القوة البشرية هي الأساس في المعركة وهي رأس الحربة، وهي من وقف في وجه التنين وناداه للمنازلة وجاءت القوة الإلهة تابعه لاحقه للقوة الإنسانية، جلجامش استعد بكامل قوته وعدته للحرب مع خمبابا فعمل المطلوب منه للانتصار على خمبابا، ثم جاء دور شمش ليساعد جلجامش على هذا الانتصار، إذن جلجامش استعد للانتصار في حربه مع خمبابا وتوكل على شمس في هذه الحرب.
وهكذا يرسل الإله شمش القوة الآلهة التي يملكها، ويرسل الريح الشمالية العاتية، ثم يتبعها بالريح الجنوبية العاصفة، فيصاب خمبابا بالعمى ولا يستطيع الحركة.
استسلم خمبابا، توسل |
لقد كان خمبابا عظيما ومخيفا وذو قوة جبارة، لكنه ضعيف الإرادة يتنازل عن كل ما يملك ـ الأشجار، كرامته، حياته، ـ فقط لكي يبقى حيا، فيضع كافة ما في جعبته أمام جلجامش، يطلب منه أخذها مقابل حياته، فصورة الوحش المرعب ذو القوة الآلهية الذي وصل صيته إلى آخر الدنيا ها هو كائن ضعيف يتوسل ويطلب من الإنسان جلجامش أن يرحمه، فأيهما أعظم الإنسان أم ذاك الوحش؟، وهنا تكون ذروة المجد، الوحش صاحب القوة الجبارة يسجد للإنسان منكسرا واهن القوى يتوسل إليه ليمنحه العفو والرحمة، وهنا تكون الملحمة قد قلبت مفهوم العظمة والقدسية عند المجتمع ألرافدي القديم من خلال هذا المشهد، فقد نزع جلجامش وانكيدو هيبة الإله انليل بعد انتصارهما على خمبابا، ومرغوا هيبته في التراب.
وكأن الملحمة تريد أن تخبرنا بان خمبابا هو ادني بكثير من تلك المكانة التي وضع فيها، وهو ادني من امتلاك تلك المكانة والهيبة، فوضع خمبابا بعد المعركة اقل من الإنسان بدرجات، والإنسان المنتصر يتجاوزه من خلال مواقفه وإرادته التي استطاع أن يخرجها وتكون نتيجة المنازلة لصالح الإنسان.
ومن المفارقات المهمة في الملحمة الصورة التي رسمت لخمابا، فقد خيل لنا بأنه سيدمر الغابة على من فيها، وان نتيجة النزال ستكون مدمرة، وان هذا الكائن المرعب سيبقى يقاتل حتى آخر رمق، ولن يتنازل عن كرامته وهيبته، إلا أن كل ذلك تحطم أمام إرادة الإنسان، فلم نكن نتوقع أبدا مثل هذه الوضعية للوحش " أنا خادم لك". وخلاصة الفكرة التي تريدنا الملحمة أن نستنتجها، أن الوحش ورعبه لم يكن ليكون إلا عند الضعفاء الساكنين الخانعين، أما عندما كان هناك من يفكر ويفعل ليصل إلى الوحش فلم يعد هناك إلا كائناً ضعيفاً جدا، يتوسل متذللا للإنسان، فالإنسان هو في حقيقة الأمر أعظم واكبر من كافة المخلوقات عندما يقرر أن يفعل ولا يبقى ساكنا. هذا الوضع ـ البائس ـ لخمبابا يستحق عليه الهلاك، فلم يكن بذات المكانة التي وضعت له، ولا بالصورة التي رسمت له، وكان قزما أمام العملاق الإنسان، وهذا ما دفع انكيدو ليطلب من جلجامش الإجهاز عليه وقتله.
لا تصغ إلى كلامه، لا تنصت إلى قوله |
وهنا نتساءل لماذا طلب انكيدو من جلجامش أن يجهز على خمبابا؟ علما بأنه حتى هذه المرحلة لم يقدم لا جلجامش ولا انكيدو على قتل أي كائن حي، إن كان إنسان أم حيوان أم مخلوق أسطوري، فلماذا تتم الآن عملية القتل؟ وما الداعي لها؟، نستنتج من مسار الملحمة أن فعل القتل لم يكن إلا بالكائنات التي تتعلق بالإلهة أو لها صلات بالقوة الإلالهة فقط، وما دون ذلك لا يتم قتله، وكأن الملحمة تشكل حالة صراع دامي مع الآلهة فقط، وما دون ذلك يكون الصراع محدودا يتوقف عند حد معين، من هنا نجد عملية القتل الثانية كانت لثور السماء الذي أرسل ليقتص من جلجامش وانكيدو، فالصراع الدامي منحصر في النص الملحمي بين الإنسان والآلهة فقط، وإذا عدنا إلى حديثنا عن الآلهة والمقدسين، نجده المسار الرئيس لفكرة الملحمة، التي تطرح فكرة الصراع بين الإنسان ـ والذي هو أحق بالمكانة الرفيعة من ـ والآلهة ـ والتي هي في حقيقة الأمر اقل من أن تكون في مكانها العالي.
الثور السماوي
جلجامش المنتصر على خمبابا يعود ظافرا إلى أوراك، لكي يأخذ قسطا من الراحة ولكي يؤكد للناس بان كل ما تتخذه الآلهة من قرارات ومنح الآلهة هي باطلة ولا تتوافق مع الواقع الإنساني، الذي يجب أن يسود هو وليس الآلهة، وأيضا ليفتخر أمام أهله بما حقق من انجاز، فيدخل أوراك ويذهب إلى قصره ويغتسل ومن ثم يرتدي الثياب الملكية، فيكون بأبهى صورة، تشاهده الربة عشتار وتطلب منه الزواج، إلا انه يرفض ويذكرها بكل مثالبها وعيوبها، دون أن يراعي مكانتها المقدسة، فتطلب من الإله آنو أن يرسل ثور السماء ليهلك جلجامش الذي أهانها:
قدرات الثور هائلة جدا، فعندما خار قتل مئة رجل، وجسمه ضخم وكبير جدا، فالقرن الواحد يتسع لست جرار من الزيت، ورغم هذا الحجم والضخامة لأنه قتل على يد البطلين، فهو أيضا وجد بقرار الإله أنو وبشكل استثنائي، ولهذا كان بتلك الصورة والقوة، وأول عمل قام به الثور هو قتل الناس، وكأن الملحمة تقول لنا بان فعل الآلهة فقط يكون قتل الناس، وليس لها عمل سوى القتل البشر.
فقتل الناس في أوراك المحمين من جلجامش سيثيره ويحفزه على الوقوف أمام من قام بعملية القتل ثم الاقتصاص منه، مهما كان ومهما بلغ من القوة، فهو الحامي للمدينة ولأهلها، ومن يعتدي عليها أو على أهلها كأنما يعتدي على جلجامش نفسه، ولهذا خرج إليه جلجامش مع انكيدو ليقوما بواجبهما إتجاه أهل أوراك، يمسك انكيدو الثور من قرنيه وينادي على جلجامش ليضع السيف في المنطقة القاتلة.
صورة انكيدو وهو ممسك بقرني الثور رائعة وتتماثل مع صورة مصارعة الثيران ،وهي هنا أرقى وأكثر إثارة من تلك التي تقام في اسبانيا تحديدا، فهنا تبرز قوة الإنسان العضلة، وفي الثانية تظهر قدرته العقلية ـ مخادعة الثور بقطعة القماش ـ، فالثور القوي يتم السيطرة عليه بقوة اليدين فقط، فما بالنا عندما تكون قوته أضعاف مضاعفة!، فرغم كل تلك القوة وضخامة الحجم يتم القضاء عليه وتخليص الناس من شره، وهنا يعزز جلجامش وانكيدو انتصارهما على الآلهة، وهنا اخذ الانتصار معنى آخر حيث انه يعني الانتصار على الإله آنو والربة عشتار معا، فالمواجهة مع الثور تعني مواجهة آنو وعشتار، وقتل الثور تعنى انهزام آنو وعشتار أمام جلجامش وانكيدو. وهنا مرة أخرى ترفع الملحمة من مكانة الإنسان إلى أعلى من الآلهة، وتدنى مكانة الآلهة عندما تقبل أن ترسل آلة تدميرية على البشر فقط من أجل أهواء عشتار الباحثة عن اللذة الجنسية فقط، فصورة الحيوان المتوحش الفاتك بالناس تمثل همجية وغباء الآلهة، فهي لا تمتلك شيئا من حكمة أبدا، وما تقوم به ليس أكثر من تفريغ طاقات هائلة وكبيرة بشكل غير سوي وغير مفيد أبدا.
وتتناول الملحمة الحالة المزرية للربة عشتار التي تبين حقيقة عشقها للموت والقتل فتقول لأبها الإله آنو:
اخلق لي نارا تأكل جلجميش |
من خلال كلام عشتار يظهر لنا انفعالها الذي لا ينم إلا على حماقتها، فليس لها من الربوبية شيء، هي كائن يتكلم ويهدد بدمار وخراب الأرض، من هنا فهل هذه هي الربوبية؟ وهل الربة تقول مثل هذا القول؟، إذن مسار الملحة العام يسير إلى قلب مفهوم الربوبية من الآلهة إلى الإنسان، الذي تظهره الأحداث الملحمية أكثر حكمة وعقلانية ورحمة من الآلهة الوثنية.
بعد الانتصار الكبير يقول جلجامش كلمات تعبر عن نشوة الفرح والبهجة:
من المجيد بين الأبطال |
بهذه الكلمات يتم تمجيد البطلين جلجامش وانكيدو، تسمعها الآلهة فيثور غضبها وغيظها على جلجامش وانكيدو معا، فتخطط من جديد مستخدمة قوتها الهوجاء للقتل والخراب والدمار وبؤس الإنسان، فهي تأبى أن يكون الإنسان سعيدا فرحا، متفوقا ظاهرا عليها، فتسعى بكل جبروتها لتعيده إلى سيطرتها وذله أمام قدرتها الخارقة، وبهذا يتم استخدام قوتها فتنزل لعنتها على انكيدو:
اجتماع مجلس الإلهة يظهر منه الحقد على الإنسان الذي استطاع تحطيم وتكسير مخططتها، فعندما خلقت انكيدو هدفت إلى انشغال جلجامش وانكيدو في صراع مستديم لا يتوقف أبدا، إلا أن جلجامش تجاوز ذلك وأصبح مع انكيدو يشكلان قوة يحسب حسابها من الإلهة، فقد عملا على تكسير القوانين التي وضعتها الإلهة، وحققا الانتصار على قوة الإله انليل عندما قتلا خمبابا، ثم على الإله آنو والربة عشتار عندما قتلا ثور السماء.
لقد فشلت الإلهة في جعل جلجامش يسير حسب مخططها، من هنا إعادة النظر في ما ستفعل اتجاه جلجامش وصديقه الحميم انكيدو، وكان قرار الإله انليل بموت انكيدو، لكي يعيد جلجامش إلى صراعه مع ذاته وأهله وينتهي الصراع مع الإلهة لصالحها، أي إن الإله انليل أراد أن يرجع الأمور إلى الوراء، وهذه النظرة الورائية للإله انليل تعبر عن حمق ورجعية التفكير عنده، ثم يتكلم الإله شمس القريب من الإنسان والمتعاطف معه، بحقيقة يعرفها الإله انليل والإله آنو وهي أن جلجامش وانكيدو قاما بإعمالهما بأمر منه، ومن هنا يجب أن يتحمل الإله شمس شخصيا مسؤولة ما آلت إليه الأوضاع وليس جلجامش وصديقه انكيدو، فهو من ساعدهما على قتل خمبابا، إلا أن تلك الحقيقة تسبب غضب الإله انليل وتجعله أكثر إصرارا على الانتقام من الإنسان جلجامش وانكيدو، فكان صراخه تعبيرا عن هذا الغضب وأيضا إشارة إلى جهالته وافتقاده للحلم والروية.
وهنا نتوقف قليلا عند انفعال الإله انليل الذي يتماثل تماما مع العقلية العربية الرسمية أو المتنفذة التي ترفض الانتقاد مهما كان حجمه ومهما كان مصدره، وتضع المبررات بشكل دائم، معلقة أخطاءها على (شماعة) المؤامرة الخارجية، وجاعلة من نفسها بريئة من تلك الأخطاء براءة الذئب من دم يوسف، وما هي إلا ضحية المؤامرة، وهكذا يتم إحباط الإله شمس بطريقة قمعية، وتنزل اللعنة على انكيدو الذي ينطرح في الفراش معاتبا كل من هم وراء وصوله إلى هذه الحالة المزرية، ويطلق كلمات تعبر عن حنقه على الإلهة، أما جلجامش فيخاطب صديقه والإلهة معا بكلمات تعبر عن شجاعته ويحمل نفسه المسؤولية الكاملة عما حدث:
لماذا برأوني وأدانوك؟ |
هذه الكلمات كانت تمثل تحدياً آخر للآلهة ولقراراتها الجائرة بحق الإنسان، فجلجامش يخاطبها وروحه معلقة بانكيدو، محملا جريمة موته إلى الآلهة، أما انكيدو المطروح أرضا يفقد السيطرة على ما يقوله، ويأخذ بالحديث مع باب غرفته، ويبدأ يكلمه كمن يكلم إنساناً، مستخدما ألفاظ (التحطيم والتقطيع) ويلعن الباب، ثم يوجه الحديث إلى الإله شمس فيخاطبه داعيا على الصياد:
أزل ملكه، أضعفه |
اللعنات السابقة لا تخرج إلا من قلب منكسر مقهور، انكيدو الذي نزلت عليه لعنة الإلهة ظلما وجورا، جعلته يخرج تلك الكلمات المنفعلة، تنفيسا وتفريغا عما يثقل نفسه. ثم بعد أن استراح يوجه كلامه للإله شمس معاتبا إياه بكلمات بسيطة، ثم يحدثه عن الوضع الذي سيكون بعد موته، وكيف سيندبه أهل أوراك كافة، وكيف سيبكيه جلجامش، فيتراجع انكيدو عن لعناته السابقة، ويبدأ يكفر عما بدر منه من لعنات داعيا للبغي بهذا الدعاء:
إن الفم الذي لعنك سيبارك |
الدعاء للبغي تحقق وما زال يتحقق إلى هذه الساعة، فالرجال يتراكضون وراء المومسات اللواتي يمنحنهم لذة ومتعه أكثر، تاركي زوجاتهم خلفهم، وكأن الملحمة هنا تريد أن تقول بان دعاء انكيدو تحقق تماما ولهذا يستمر الركض ورائها، كما أن اللعنات التي قالها انكيدو تحققت أيضا، فالمومسات مأواهن الشوارع والأزقة ويتعرضن للضرب من السكران وغير السكران، وهنا تجعلنا الملحمة نشعر بالتعايش مع العصر البائد والحاضر معا.
وبعد ذلك يحلم انكيدو بأنه في العالم السفلي، حيث يكسو جسده الريش، ويشاهد الأموات يأكلون الطين ولا يرون النور أبدا، وكيف تنزع التيجان عن الملوك ويشاهد ايرشكيجيا ملكة العالم السفلي، وهنا تكون نهاية انكيدو قد اقتربت، وينطق بكلماته الأخيرة وهو على فراش الموت:
لقد لعنتني الإلهة العظيمة وسوف أموت بالعار سوف لا أموت كرجل يسقط في المعركة |
انكيدو المقاتل يتحسر على منيته بهذه الوضعية، فهو لم يسقط في المعركة مثل المقاتلين، بل وهو على فراش، فهو يعرف الفرق بين الموت في ساحة القتال وعلى الفراش، ولهذا تمنى أن يسقط كمقاتل وليس كعجوز، وهنا نتذكر قول خالد بن الوليد عندما قال وهو يحتضر "شهدت مائة زحف أو زهاها، وما بقي في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".
فالفكر الإنساني يكمل بعضه بعضا، والأفكار النيرة تطرح في كافة العصور والأزمنة، وهنا مرة أخرى تقربنا الملحمة من الأزمنة الغابرة وتجعلها معاصرة وقريبة زمنيا وفكريا منا.
نعود إلى انكيدو وما الهدف من وراء كلماته، فهو يريد أن يؤكد فكرة جلجامش عن الموت وعدم الفعل وعن الحياة والفعل، وهذا الموقف يساند ويدعم المسار العام لأحداث الملحمة، التي تتحدث عن الصراع مع قدر الموت، ومن ثم مواجهة القرارات الصادرة عن الإلهة، انكيدو يستسلم للموت ويذهب للعالم السفلي، وبهذا ينتهي ـ جسديا ـ ولن يعود إلى الحياة أبدا.
أما جلجامش فكان موت انكيدو بالنسبة له دافعاً ومحفزاً لخوض صراعات جديدة مع الآلهة وتحدي صريح لقراراتها، فيرفض القدر الذي وضعته لانكيدو ولا يقوم بدفنه، كالعادة، ويأخذ بندبه بمغالاة كبيرة لم يعهدها أحد من قبل:
جلجامش ألقى كلمة تأبين أمام شيوخ مدينة أوراك، ذاكرا فيها مناقب ومآثر انكيدو، ففي كلامه نجد المحبة المتناهية مع الآخر، فانكيدو كان أداة الحرب (البلطة، المدية، القوس، الترس) التي حارب بها جلجامش، وهذه الأدوات الحربية مهمة جدا في القتال والحرب، ولا يمكن الاستغناء عنها، فالرجل المقاتل جلجامش الذي خاض أهم حروبه وحقق اجل انتصاراته وأعظمها كان برفقة انكيدو الحامي والمساعد والمحارب، وعندما مات انكيدو فقد كل تلك الأدوات الحربية وما له بعده من مثيل أو نظير، كما انه مع انكيدو انتقل من حالة العادية إلى حالة العظمة، فقد انتصر على خمبابا وثور السماء، وهذه الانتصارات جعلت جلجامش يزهز ويشعر بمعنى الفرح والسعادة الحقيقية، وقد ذكرت الملحمة تلك النشوة التي لم يعرفها جلجامش من قبل عندما قال" من الأمجد بين الأبطال؟"
وبعد هذه الانتكاسة يعود جلجامش إلى صراعه مع الآلهة التي انتزعت منه صديقه الوحيد انكيدو، فكان وصفه "بالأخ الأصغر والصاحب" تعبيرا عن المكانة التي يحتلها في قلبه، وجاءت كلمة "سرقني وحرمني"مكررة تعبيرا حقيقيا عن حجم المأساة وتأكيدا عن عمق الهوة التي تركها انكيدو، وبعد ذلك ينتقل إلى الحديث عن أعمال انكيدو البطولية من ارتقاء الجبال وتثبيته لثور السماء وصرع خمبابا، فكلها أعمال عظيمة تجعل منه شخصا نادرا، من هنا جاء الاستغراب والاستنكار لموته، فكيف يوقف الموت ذلك الكائن الذي قام بالأعمال العظيمة! فيتعجب جلجامش كيف العظيم انكيدو لا يستطيع الحركة؟، عيونه لا يفتحها، وقلبه لا ينبض.
جلجامش من خلال وضعية انكيدو المسجى يتحقق له العجز أمام حادثة الموت ويستسلم يائساً لموت صديقه، إلا أن الحزن واليأس يدفعانه إلى الصراخ المدوي، "للبؤة سلبت أشبالها"وهنا الصورة تحمل من معاني التأثر والحزن ما يجعلنا نتعاطف ونؤازر جلجامش في حزنه، وبعد هذا الندب والرثاء يمتنع جلجامش عن دفن انكيدو، حتى يأخذ الدود بالخروج من انفه، كناية عن تعفن الجسد، مما يجعله يواريه بالتراب، ولكن يبقى السؤال هل استطاعت الإلهة من خلال موت انكيدو أن تنهي الصراع لصالحها مع جلجامش ومن ثم جعله يقبل بالقدر الذي كتبه على البشر؟ أم أن جلجامش مازال يحمل العند وما زال مصرا على الاستمرار في المواجهة مع الآلهة لتغير طبيعة الأشياء؟
الحلم
لقد ترك موت انكيدو أثرا كبيرا في نفس جلجامش، الجثة التي دبت فيها الديدان جعلته يعود ليتحدى قدر الآلهة مرة أخرى، فلم تكن عادلة أبدا عندما اتخذت قرارها بموت صديقه الذي أحب، ومن هنا يقرر السعي وراء حلم الإنسان ـ حلم الخلود ـ فيشد رحاله إلى اوتنبشتم الخالد البعيد يسأله عن سر الحياة والخلود:
بداية الدرب الذي سار فيه جلجامش وعر وصعب، ويتطلب جهدا مضاعفا لاجتيازه، ومع هذا استطاع أن يقطع جزءا لا بأس به من هذا الدرب، فرغم وجود الجبال الشاهقة وما يتبعها من وديان سحيقة، استطاع تجاوزها والاستمرار في دربه، لكن لم تقتصر الصعوبات على طبيعة الطريق وحسب بل كان هناك عوائق أخرى تتمثل بوجود الأسود المنتشرة في الطريق، فيشعر بالخوف ـ وهنا إشارة إلى إنسانية جلجامش، وأيضا على الوحدانية التي يعيشها ـ ، إلا انه يتخلص من خوفه ويقضي عليها ويستمر في مسيره إلى أن يصل إلى جبل ماشو، وهذه الجبال عظيمة ليست كباقي الجبال، فهي التي تحجب الشمس في غروبها وشروقها عن العالم، ـ وهنا يعطينا النص الملحمي فكرة الشروق والغروب التي كانت سائدة في العصور الرافدية القديمة ـ ومن هنا نجد جلجامش استطاع الوصول إلى بوابة الشمس ونهاية الأرض، ويستنتج من ذلك قدرة الإنسان إلى الوصول إلى أي مكان يريد، إذا امتلك الإرادة والعزيمة.
جاء وصف الجبال "التي تحرس الشروق والغروب، قممها ترتفع مثل جدار السماء، جذورها تغوص عميقا حتى العالم السفلي" ليعطي الهيبة لها، فهي شاهقة جدا تلتقي مع قمة السماء، وتمتد جذورها إلى "العالم السفلي" كناية على رسوخها عميقا في باطن الأرض، وهنا نجد صورتين لهذه الجبال واحدةً قبل الصعود إليها، والثانية بعد الوصول إلى قمتها، وهذا يدل على اهتمام كاتب الملحمة بأدق تفاصيل المكان، وأيضا على اهتمامه برسم صور جمالية تحمل الخيال نحو آفاق أسطورية، كما يستدل منها على المجهود الذي استطاع جلجامش أن يبذله للوصول إلى مبتغاه.
وهناك يشاهد مخلوقات مخيفة وغريبة لم يعرفها من قبل، نصفها إنسان والنصف الآخر عقرب، وهي توقع الرعب والهلع في من يشاهدها، "فنظر إليهم موت" كما أن حضورهم ـ الإحساس بوجودهم ـ "يخيم على الجبال" وهنا يشعر جلجامش مرة أخر بالرعب والخوف، وسنحاول هنا نوضح حالة جلجامش، التعب والإجهاد والجوع والعطش والوحدة، طبيعة الطريق شاق وصعب، مخلوقات أسطورية لم يشاهدها من قبل، يتجاوز كل هذا و"نظر في وجهه" فنجد الإصرار، والقدرة على السيطرة على الذات وإبداء مظاهر تنم على الإقدام رغم هول الموقف، وأيضا المقدرة على التفكير ـ الايجابي ـ وضع أسوء الاحتمالات ـ الموت ـ. وهذا التصرف من جلجامش جعل الحيرة والاندهاش والاستغراب يقع برجل العقرب، فيندفع منادياً زوجته "جاءنا رجل جسمه جسم إله" ثم يتبع كلامه بمجموعة من الأسئلة " ما الذي جاء بك؟ كيف جئت تعبر المسافات؟ ما قصدك؟ما بغيتك؟" وهذا دليل على التعجب والاندهاش والحيرة والإعجاب الذي تركه جلجامش على رجل العقرب، فقد تخطى حواجز وموانع طبيعية وتجاوز مخلوقات مرعبة من الأسود الذي نجح في القضاء عليها، ومن ثم الاستمرار في طريق أكثر صعوبة ووعورة ومشاهدة المخلوقات صاحبة الجلالة المرعبة، وهنا يتبين لنا حجم الإرادة والقوة التي يتمتع بها جلجامش.
يجيب جلجامش على سيل الأسئلة التي دفعها رجل العقرب دفعة واحدة بكلمات بسيطة تعبر عن فلسفته الرافضة للتسليم بالموت الذي قدر على البشر:
بسب أنكيدو الذي أحببت كثيرا |
كلمات واضحة ومختصرة ومكثفة، تعبر عن رفض جلجامش بقدر الإنسان الذي وضع من قبل الإلهة، وكذلك يظهر رفضه الانصياع لهذا القدر والتسليم بما هو كائن، فيبحث عن شيء لم يفكر به احد من قبل، لكي يبقى حيا لا يفنى كالإلهة الخالدة، فيكون جواب جلجامش أكثر إثارة للاستغراب والاندهاش والاستحسان عند رجل العقرب، فكان يتوقع منه الإسهاب في الحديث لكنه أوجز وأوضح في ذات الوقت، فيرد رجل العقرب عليه بما يعرف عن الطريق المؤدي إلى اوتنبشيتم:
قال رجل العقرب: لا عهد لي برجل قطع المسافات |
كلام رجل العقرب محبط للعزيمة، ولا يحمل شيئا من التفاؤل، ولكن عزيمة جلجامش وإرادته لا تتزحزح قيد أنملة، فرغم قسوة المعلومة عليه، ونفيها واستحالتها للوصول للهدف الذي ينشد، وإعطاء وصف محبط للطريق، فهو مظلم كما انه طويل ووعر وشاهق، فيرد جلجامش ردا حازما صارما قاطعا:
أنا ذاهب مهما يكن الشقاء |
رده كان يحمل العزيمة والإصرار والصلابة، وكذلك أللامبالاة اتجاه الصعوبات مهما بلغت شدتها، الموقف المبدئي جاء ليكون أنموذجاً لمن يفكر بالتراجع عن مواقفه، فنجد جلجامش يحث كل إنسان على الاستمرار وبذل الجهد ليحقق مبتغاه ـ حتى لو كان ذلك شبه مستحيل، أو (شاذ) فعليه التقدم إلى الأمام ولو كانت الصعوبات مضطردة ومتصاعدة. فاستخدام جلجامش لكلمة "أنا ذاهب" في نهاية كلامه لم يرد منها التأكيد على موقفه وحسب بل يراد منها إنهاء النقاش مع رجل العقرب بفتح الباب له لينتقل إلى موقع متقدم في الطريق الذي سلك، يفتح الباب ويدخل جلجامش في دهاليز الظلام وحيدا:
تفاصيل دقيقة لكل (عشرة ساعات مضاعفة) تعداها جلجامش تعطينا حجم المشقة والتعب والوحشة التي عانى منها، المسافة طويلة جدا تقدر ب130 كيلومتر حسب النص الملحمي، وهو طريق مظلم تماما، ويترك الوحشة في نفس الإنسان، من هنا كان صراخ جلجامش في منتصف الطريق، تذكاراً لنا بأنه إنسان مثلنا تماما يبدي الانفعال اتجاه المواقف التي تؤثر عليه وفيه، فكانت صرخاته كأنها تعطيه دفعة لإكمال النصف المتبقي من الطريق. وقد استطاع عبد الحق فاضل أن يرسم لنا هذا المشهد بدقة متناهية وبفنية عالية تكاد أن تجعلنا نندمج مع الأحداث تماما.
فهنا استطاع هذا العاشق للنص الملحمي أن يشكل لنا صورة ما حدث مع جلجامش في الطريق المظلم والطويل، ومن يرد أن يتماهي مع النص الملحمي عليه قراءة "هو الذي رأى" للشاعر.
نعود إلى الملحمة فبعد انقشاع الظلام يظهر النور الخافت ثم يعم الضياء منتصرا على الظلمة، وهنا نجد الرمزية التي يحملها النص، فيكون بروز الإشعاع بداية الانتصار لجلجامش وتحقيقه للهدف الذي سعى إليه. تستمر الموانع والمعيقات أمام جلجامش لكن بطريق وأشكال جديدة، فمع انقشاع الظلام وبروز النور يظهر أمام جلجامش مشهد بديع مذهل، بستان من الأشجار التي تحمل الجواهر والأحجار الكريمة:
كان شجر العقيق يحمل ثمارا |
المشاهد الجميلة التي يشاهدها جلجامش قد توحي للقارئ بانتهاء المعيقات والصعاب، وهنا ينتهي مشواره الطويل، وقد آن الأوان لكي يستريح من عناء السفر والترحال، لكن في حقيقة الأمر تم تغير أساليب وأشكال الصعاب والمعيقات ليس أكثر، فهنا نجد تذكير جلجامش بمباهج الحياة وعليه أن يستمتع بها، متخليا عن هدفه المجنون ـ الخلود ـ فيظهر له الإله شمس محدثا:
جلجامش أين تهيم على وجهك |
الإله شمس صديق جلجامش يخاطبه مؤكدا استحالة التخلص من قدر البشر ـ الفناء ـ وناصحا إياه العودة إلى الديار، فكان سؤال الإله شمس في بداية حديثه يحمل العتب والاستغراب لإقدام جلجامش على تحمل هذا الكم من التعب والإرهاق والإجهاد وراء غاية لن تدرك أبدا، ويحمل كلامه أيضا عدم رضاه على هذا الفعل، وكانت كلمة " الحياة التي تنشدها لن تجدها" تحمل الإحباط مضاعفا بالنسبة لجلجامش الذي تربطه المحبة به، فكان الإله شمس في كافة المواقف الأنفة إلى جانبه وهو من قدم له المساعدة والعون في أكثر من موقف، وهذا ما جعل كلامه ذو تأثير خاص على جلجامش.
يستمر الإله شمس في حديثه حول قدر البشر وإنهم لا بد أن يكونوا فانين ما دام هناك حياة على الأرض، وهنا حسم شمس كلامه بإغلاق الطريق أمام جلجامش، ومع كل هذا الكلام من إله محبوب وقريب من القلب إلا أن الإنسان جلجامش جاء رده يحمل شيئا من اللين والهدوء، ولكن ما زال مصرا على الاستمرار في الدرب الذي سلك:
أجابه جلجامش، أجاب شمش العظيم قائلا |
رد جلجامش جاء مختلف بأسلوبه وحدته عما سبقه من ردود مع رجل العقرب، فهنا نستنتج من كلام جلجامش بأنه على يقين باستحالة تحقيق مسعاه، وبصعوبة الطريق، إلا أن ذلك لن يكون حائلا دون متابعة الطريق، وكان سؤاله "بعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري، أأضع رأسي في باطن الأرض؟" فالسؤال المنطقي الذي طرحه كان بمثابة رد مقنع على الإله شمس، فالجواب على سؤاله يكون ضمنا بعدم التوقف وإكمال المسير، ونجد أيضا فيها التبرير لما يسعى إليه وكأنه يطلب الصفح والمساعدة من شمس، وبعد هذا يطرح جلجامش فلسفته وفكرته عن قدر الإنسان التي يجب أن يتغير ويتبدل، ليكون الإنسان كالآلهة خالدا وينعم بما تنعم به من خلود ونعيم. فكانت كلماته عن الشمس " لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور" بمثابة تأكيد على الحب والارتباط بالإله شمس ولكن بطريقة غير مباشرة. وهنا يقنع شمس بضرورة استمرار جلجامش في طريقه، وهذا ما يستنتج من النص الذي ينقطع هنا، لنجده أمام سابتيم صاحبة الحانة المقدسة ويكون معها هذا الحوار:
استخدمت سابتيم أو سيدوري ذات الكلمات التي قيلت لجلجامش من قبل، كلمات التسليم بالقدر وبما هو محتوم على البشر، كلماتها تحمل الترغيب وليس الترهيب كما كانت في السابق، فتذكره بكل نعم ورفاهية الحياة، من لذة الطعام وفرحة الرقص ورفاهية المكان ونشوة النصر على الأعداء، وشهوة الجنس ومتعة النساء،وهنا تقول له كامرأة تعلم هذا الأمر جيدا "إنها تجد المسرة في أحضانك" كتأكيد وإثارته كرجل بطبيعته يميل ويحب مثل هذا الكلام، وأخيرا تقول له عن المتعة والسعادة التي تواكب فعل الجنس، وهو إنجاب الأولاد فتقول "ونظر إلى الصغير على يديك" كناية عن استمرار حياة جلجامش من خلال هذا الصغير، وأيضا دعوة مبطنة منها ليوقف مسيرته ويعود أدراجه إلى مدينته، ثم تكمل حديثها ليتقبل القدر بطيب خاطر "وتقبل طائر الموت" ولا ندري لماذا تم تقديم "كن شكورا من كل ذلك" ولم تأخرها إلى نهاية حديثها، جلجامش بطبيعته رافضاً كل ما يصدر من الآلهة وهو في صراع معها منذ أن قرر مع صديقه انكيدو التوجه إلى غابة الأرز، واستمر هذا الصراع بعد اهانة الربة عشتار ثم قتل ثور السماء والحكم على انكيدو بالموت من قبل الإله انليل.
حديث سيدوري جاء بعدما فشلت عملية الترهيب، فكانت المرأة اللطيفة الناعمة التي يتدفق منها الحب والحنان وسيلة اخرى لثني جلجامش عن الطريق الذي سلك، وكانت كلماتها منسجمة مع حالتها كأنثى، من هنا كانت لها الوقع الأكبر في نفس الرجل جلجامش، لكن دوافع جلجامش اكبر من أن تقف في وجهها كافة اللذات والشهوات، فيرد عليها:
كيف اقدر أن اسكن كيف أستريح |
لقد جعل جلجامش من نفسه مسؤولا عن إرجاع انكيدو إلى الحياة، وهذا العبء ثقيل جدا على جلجامش، لعدم وجود أي مساعدة له، ووجود العديد من الكلمات المثبطة والمحبطة ومن أشخاص كثيرين منهم الصديق وغير الصديق، والمتمعن لمسيرة جلجامش يجد المعيقات والصعوبات منها الطبيعي، الجبال والوديان والأسود ورجل العقرب، ومنها نفسي، الكلام الذي سمعه من كل من قابلهم، من هنا نجده يحمل طاقات جسدية يستطيع من خلالها تجاوز الصعوبات والعوائق الطبيعية، وطاقات معنوية هائلة تمكنه من عدم التراجع أمام أي كلمات مهما كان مصدرها ومصدرها، ومع هذا يستمر في طريقه الذي سلك متجاهلا كل ما سمع وعازما على مواصلة الطريق إلى اوتنابشتيم الخالد.
أمام إصرار جلجامش تستسلم سيدوري وتتركه ليكمل ما بدأه، وتخبره عن مكان الملاح أورشنابي الموجود في الغابة، والذي بدوره سيرشده إلى مكان تواجد أوتنبشتم، يذهب إلى الغابة ويشاهد الشخص المعني، فيستغرب الملاح من هيئة جلجامش ويكون حوار طويل بينهما، يطرح جلجامش فلسفته الرافضة للموت:
أطول كلام لجلجامش مع كل من قابل، وهذا يعني انه أصبح اقرب إلى هدفه، من هنا كان الاسترسال في الكلام، لكي يدفع بالشخص المقابل إلى التعاطف مع الهدف الذي يسعى إليه، وهذا ما حدث فعلا، إذ يطلب الملاح من جلجامش أن يقوم بالاستعداد لرحلة ليوصله إلى مبتغاه ـ اوتنبشتيم:
أرفع الفأس يا جلجامش بيدك |
نجد جلجامش لأول مرة في رحلته يكون مطيعا وينفذ ما يطلب منه، فرغم أن الطلب فيه من الاستعلاء وفية من المشقة الجسدية الشيء الكثير، إلا انه ينفذه بكل سرعة وإتقان ودون تلكؤ، فما طلب منه سيكون أدوات مهمة جدا لكي يصل إلى مبتغاه:
بدأت الرحلة بركوب السفينة، تتقاذفهم الأمواج، لكن إصرار جلجامش يمكنه من تجاوزها ويستطيع أن يقطع رحلة شهراً ونصف في ثلاثة أيام، يصل مياه الموت فيتم استخدام المجاديف، وبعد نفاذها يستخدم جلجامش رداءه كشراع، إلى أن يتمكن من وصول الشاطئ، وهكذا يصل جلجامش إلى مكان تواجد الخالد اوتنبشتم.
يتعرض لامتحان صعب جدا ـ خاصة لرجل أنهكه التعب وطول السفر ومشاقه ـ امتحان النوم، ويقرر اوتنبشتم أن يعود جلجامش خالي اليدين، إلا أن زوجته تحثه على إعطاء شيء لجلجامش نظير المجهود الهائل الذي بذله، فيحدثه اوتنبشتم قائلا:
أن اعتراف اوتنبشتم بأهمية العمل الذي قام به جلجامش يأتي كتأكيد على انه استطاع انتزاع الاحترام من الآلهة رغم خلافه معها، فانتزاع الاحترام من الخصم يمثل قمة الانتصار، فكانت الهدية التي منحت لجلجامش ـ عشبه الخلود أو عشبه إعادة الشيخ إلى صباه ـ تمثل الغاية التي سعى إليها، فكان أول ما فكره فيه جلجامش شد الرحال إليها، ورغم وجودها في مكان خطر وصعوبة اقتلاعها إلا انه فعل ذلك واستطاع الحصول على مبتغاه ـ عشبه الخلود ـ بعد امتلاكه لعشبه الخلود يبدأ جلجامش ـ بالتخطيط لكيفية التصرف بهذا الكنز، وهنا يتبين لنا بأننا أمام شخص يتفانى في إنكار الذات لصالح المجموع، كالتأكيد على عظمة تلك الشخصية، وأيضا على مسؤوليته اتجاه الشعب الذي يحكم، وهذا الأمر ـ توزيع ألعشبه ـ جاء ليؤكد على تفاهة أي هدف يحصل عليه الإنسان، وكأي شخص يحصل على مبتغاه، فعل جلجامش واخذ يفكر بطريقة جديدة ـ تقديم هذا الكنز لأهل أوراك ـ وهنا نجده قد تمرد أكثر على الإلهة فهو لم يعد يطلب الخلود لشخصه فقط بل يريد ذلك لمجمل الشعب في أوراك ولكل الناس، أي حصول الإنسان أيا كان على الخلود، وهنا سيكون بالتأكيد ثورة كبرى ضد الآلهة وقدرها على البشر.
ونستطيع القول أن مجلس الآلهة الذي اجتمع مرتين بسبب جلجامش، مرة ليخلق ندا له ومرة لينتقم منه وإرجاعه إلى عهده السابق ـ مقارعة أهل أوراك ـ هو تأكيد على الأهمية والخطورة التي يسببها لها، ونعتقد بان جلجامش لو أراد الحصول على الخلود لذاته لفعل، إلى انه سعى إلى "قلب نظام الأشياء" من خلال تجاوز القدر المحتوم على الإنسان. ولكن نهاية الرحلة التي بدأها جلجامش لا تكون كما يريد، يعود مع اورشنابي إلى أوراك وفي طريق يشاهد بئرا، ينزل ليشرب منها، وعندئذ تأتي الحية وتأكل ألعشبه ويعود جلجامش خالي اليدين فيقول كلمات تحمل الحزن واليأس والحسرة معا:
لمن يا اورشنابي تعبت يداي |
الطوفان
يبدأ اللقاء بين جلجامش واوتنبشتم بحديث طويل، عن سبب الرحلة التي قام بها جلجامش ويتكلم أوتنبشتم عن القدر الذي وجد على الأرض إلا أن جلجامش الرافض لهذا القدر ينطق بكلمات جارحة لاوتنبشتم " ظننت أني سأجدك بطلا جاهزا للمعركة بينما تقيم هنا مسترخيا على ظهرك" ويطلب منه بصيغة الأمر أن يقول له عن الكيفية التي حصل بواسطتها اوتنبشتم على الخلود، فيبدأ بسرد قصة الطوفان الأسطورية التي ما زالت حية إلى هذه الساعة.
مرة أخرى يتم ذكرى اجتماع الآلهة للتأمر على البشر، وهذا الاجتماع هو اخطر اجتماع تم لهذه الآلهة، طرحت الآلهة الإبادة الجماعية لبني البشر، الإله ايا يخبر اوتنبشتم بالمؤامرة الآلهية، ويطلب منه أن يهدم بيته ويبني سفينة، وان يضع داخلها نطفة كل حي، ويعطيه القياسات لهذه السفينة، الطول والعرض متساويان ويتم بناء السفينة فعلا.
علو الجدار مئة وعشرون ذراعا. |
وبعد هذا الاستعداد لاوتنبشتم وبعد أن قام ببناء السفينة الكبيرة والتي أخذت منه جهدا جبارا وأزال بيته بيده يأتي ذلك الغضب الآلهي – الطوفان:
الصورة التي ذكر فيها الطوفان تجعل القارئ يشعر بالرعب لما فيها من دقة الوصف لذلك الطوفان، فعبارة "لاح في الصباح" يكون الناس نيام أو في بداية الاستيقاظ، الصباح يحمل معنى يوم جديد أملاً جديداً، ولا حمل معنى الدمار والخراب والموت، في بداية هذا الصباح ظهرت الغيوم السوداء قادمة نحو هدفها ـ الأرض ـ، وكان يسمع الرعد الذي يصدره الإله هدد، وجاء الذكر لهذا الإله هدد ليعطي فعل الرعد الرهبة، فلفظ – هدد ـ يحمل بين مخارجه فعل المدمر، هذا الإله هو صاحب نزول المطر وما يتبعها من برق ورعد، ونجد بانه صفاته تتناسب مع لفظ اسمه، وهو في الاساطير البابلية والكنعانية لا يمكن مقاومته ويحمل القوة والجبروت معا، وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى إزالة الحواجز أمام المياه السفلية والسدود أمام المياه السطحية ، وهذا أعطى صورة الهول الذي حل بالأرض، فان المياه تنزل من السماء وتخرج من السدود والبحار والانهيار وتخرج من باطن الأرض مع نار البرق وصوت الرعد المدوي، كل هذه تحدق بالأرض وتخطف الأبصار، فتخفي الرؤيا تماما وتكون الظلمة هي السائدة فلم يعد هناك شيء يرى، الإنسان لا يرى الإنسان، والآلهة لا ترى الإنسان ، وهذه الكارثة التي حلت على الإنسان والأرض معا جعلت الآلهة ترتعب وتهرب صاعدة إلى السماء، إذا كانت الآلهة ارتعبت وهربت صاعدة إلى السماء، فكيف سيكون حال الإنسان؟.
الملحمة تخبرنا بعد ذلك أن عشتار أخذت في النحيب لهذا الوضع الذي لا يحتمل، عشتار التي كانت موافقة على الطوفان تراجعت عن موقفها وأخذت الموقف النقيض وليس المعارض فقط، فأخذت تطالب بوقف الطوفان:
ستة أيام وست ليالي تنفخ الرياح. |
العودة إلى وصف الطوفان جاء ليعيد الهول الذي تركه هذا الطوفان على الارض ومن عليها، فقد استمر ستة أيام وست ليال كاملة، لم يترك ما هو حي على وجه الأرض باستثناء ما حمل معه أوتنبشتم في سفينته، وبعد هذا الهدوء للإعصار تتركز الأحداث على السفينة وما عليها ، يشاهد أوتنبشتم النور ثم جبلا وعلى ظهر هذا الجبل تستقر السفينة وتبقى راسية عليه مدة ستة أيام وفي اليوم السابع يرسل اوتنبشتم حمامه إلا أنها لا تجد مكانا تحط عليه، فتعود إلى السفينة، ثم يخرج سنونو فلا يجد هو الآخر مكانا يحط عليه، فيعود إلى السفينة، ثم يخرج غرابا لا يعود إلى السفينة، فيعرف اوتنبشتم بان المياه انحسرت، فيأخذ في إخراج الكائنات التي معه وتبدأ الحياة من جديد على الأرض، لقد جاءت الملحمة حاقدة بشكل واضح على الآلهة وخاصة الإله انليل في أكثر من موقع في الملحمة وجاء هذا الموقف منه واضح في نهاية الملحمة ولتأكيد هذا الأمر حول هذا الإله انليل قالت الملحمة عنه:
ليجتمع كل الآلهة حول الذبيحة. |
هذا الموقف الشاذ الذي يقفه الإله انليل من الإنسان هو موقف الحاقد المتسلط ، ومع أننا لا ندري عن السبب الذي دفع انليل لمثل هذا الموقف، إلا انه يبقى موقف متشنج، وهذا تأكيد آخر من الملحمة على ظلم الآلهة التي تتحكم بمصير الإنسان حسب أهوائها، فهي تفعل كل شيء ضد الإنسان، وهي من تكون الخاطئة وليس الإنسان، وهذا واضح من خلال موافقتها على الطوفان الذي أزال الحياة من الأرض، فجاءت الملحمة وكأنها عبارة عن صراع الإنسان مع قرارات الآلهة المدمرة.
وتأتي أهمية ذكر هذه الأسطورة لتكررها في التوراة، وإذا قارناها مع تلك التي ذكرت في التوراة نجد بان هناك التشابه الكبير بين الحدثين من حيث سبب ذلك الطوفان وحجم السفينة وأقسامها والذين دخلوا فيها وعدد الأيام التي استمر فيها الطوفان ورسوخها على الجبل وإطلاق الحمامة والغراب كل ذلك جاء ليؤكد بان الأسطورة الملحمية هي السابقة عن تلك التوراتية بألف وخمسة عام، وهذا يعطي الأهمية التاريخية لهذه الملحمة، وأخيرا نستطيع القول بان هذه الأرض هي أول من علم العالم الإرادة، وكيف يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحلم " الهدف أدنى من الإرادة ، مهما كان هذا الهدف صعباً وحتى مستحيلاً، فاسع إلى الهدف أيها الإنسان " وكان جلجامش يطالبنا بعدم التسليم لكل ما نحن نرفضه أن كان أشخاص أو أماكن أو الآلهة هذا جلجامش المعلم لكل الرافضين في العالم، يقول بعدم الاستسلام للواقع أبد، اوهو مازال حيا خالدا كما أراد أن يكون ورغم مرور ما يقارب خمسة آلاف عام على رحيله إلا انه ما زال يعيش بيننا ويعلمنا تلك الفلسفة التي كانت أداة من أدوات الحرب التي خاضها، فجلجامش المعلم ما زال حياً خالدا وسيبقى حتى نهاية الكون كذلك.
الروايات
الرواية الأكادية القياسية
الروايات البابلية القديمة
تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أورك الذي كان والده بشرا فانيا ووالدته إلهة خالدة وبسبب الجزء الفاني من دمه يبدأ بادراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. في الملحمة نرى أن جلجامش لم يكن ملكا محبوبا من قبل سكنة أورك حيث كانت له عادة سيئة وهو ممارسة الجنس مع كل عروسة جديدة في ليلة دخلتها قبل أن يدخل بها العريس وكان يجبر الناس على بناء سور ضخم حول أورك.
قام الناس بالدعاء من الآلهة بأن يجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجاب الآلهة وقامت احدى الالهات واسمها أرورو بخلق رجل وحشي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية ياكل الاعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش ويرى بعض المحللين أن هناك رموزا إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.
كان أنكيدو يخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذي كانوا يقتاتون على الصيد فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش الذي أمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها وبهذه الطريقة سوف يبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك جلجامش وبدات خادمة المعبد وكان اسمها شامات وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار بتعليم أنكيدو الحياة المدنية من كيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ ثم تبدأ باخبار أنكيدو عن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل أن يدخل بهن أزواجهن وعندما يسمع أنكيدو هذا الشيء يستشيط غضبا ويقرر أن يتحدى جلجامش في مصارعة كي يجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الإثنان بشراسة حيث أن الإثنان متقاربان في القوة ولكن في النهاية تكون الغلبة لجلجامش ويعترف أنكيدو بقوة جلجامش وبعد هذه الحادثة يصبح الأثنان صديقين حميمين.
يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة لكي يبقى اسمه خالدا فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز ويقطع جميع أشجارها ولكي يحقق هذا يجب عليه القضاء على حارس الغابة الذي هو مخلوق ضخم وقبيح واسمه هومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كان المكان الذي يعيش فيه الألهة ويعتقد أن المكان المقصود يقع الأن في منطقة بين إيران والبحرين.
الصراع في غابة الأرز
يبدأ جلجامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهو يناول الشرائع إلى الملك حمورابي وأثناء الرحلة يرى جلجامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدو الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل حارس الغابة يطمأن جلجامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة.
عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة هومبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لجلجامش وأنكيدو حيث يقع هومبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الإثنان على هومبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب آلهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الآلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بهومبابا.
بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم جلجامش بالانتشار ويطبق شهرته الآفاق فتحاول الآلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من جلجامش ولكن جلجامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبرياءها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الامساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله.
بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فيقرر الآلهة على قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت آلهة فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.
رحلة جلجامش في بحثه عن الخلود
بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكي يجد جلجامش سر الخلود عليه أن يجد الانسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الآلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المؤكولات ويلبس أاحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى المعداوي، أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بامر الآلهة وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح, وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا, إذا تمكن جلجامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و 9 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إبجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود, يغوص جلجامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.
عودة گلگامش إلى اوروك
بعد حصول گلگامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى اوروك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو افضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت گلگامش وحزن أورك على وفاته.
القصائد السومرية
تأثير لاحق
تُرجمت ملحمة جلجامش إلى العديد من لغات العالم، وقد بقيت حية منذ أن كان جلجامش ملكا على اوراك سنة 2700 ق م إلى هذه الساعة، وكان للملحمة الصدى الواسع في الأرض التي خرجت منها ـ الهلال الخصيب ـ فهناك ثلاث ترجمات في بلاد الرافدين ،طه باقر وسامي سعيد الأحمد وعبد الحق فاضل، وثلاث في بلاد الشام، فراس السواح و أنيس فريحة و وديع بشور، هذا بالإضافة إلى ما كتب عن الملحمة من دراسات وتحليلات عديدة، وكان لكل ترجمة من هذه الترجمات ميزة وأفضلية على غيرها، من هنا لم نقتصر على ترجمة واحدة وإنما أخذنا النصوص من أربع ترجمات متوفرة لدينا.
لابد من الإشارة إلى أهمية الملحمة عالميا والوقوف على المكانة التي تحتلها، حيث أنها تشكل أول عمل أدبي متكامل أنتجه الإنسان على وجه الأرض، وقد اعتبرها بعض النقاد والمحللين أفضل ما أنتج من أدب العصر القديم، ومع أن هذا الكلمات يمكن أن يكون فيها إجحاف بحق الملحمة وبحق العصر الذي كتبت فيه ـ فجر السلالات السومرية ـ إلا أننا سنبدأ منها لنؤكد حقيقة أخرى، وهي أن الملحمة من أهم ما أنتج من أدب في تاريخ البشرية، وذلك من خلال إبراز المضامين الفكرية التي تحملها، ومن خلال الأسلوب الأدبي الفذ الذي حمل القضايا والهموم الإنسانية، والمتمثلة في التحرر والخلاص من الهيمنة الخارجية.
إن إرادة الإنسان تبرز وتسطع في الملحمة، وكأنها شمس تطرد وتحارب الظلام، ونستطيع التأكيد ـ بعد أن قرأة الملحمة ـ أن أول وأعظم عمل أدبي تناول مسألة الإرادة الإنسانية هو ملحمة جلجامش، لأنها ترسخ فكرة الإصرار والتصميم للحصول على الحرية والانطلاق نحو الفضاء الرحب، متخطية الصعاب والمعيقات ومتجاوزة التحديات، كما إنها الرائدة التي تناولت هذا الموضوع وبهذه الإرادة والتصميم.
إن إرادة جلجامش الإنسان تتفوق على حواجز الآلهة الوثنية، وهي تتخطاها وتحقق الانتصارات بشكل متواصل، وتم تجاوزها وتخطيها تباعا إلى أن وصل جلجامش هدفه ـ الخلود ـ، والملحمة تتناول موضوع صراع الإنسان و الآلهة، بشكل مباشر وصريح ـ حديث عشتار مع جلجامش ومطلبها الاقتران به، وقتل خمبابا حارس غابة الأرز، وبحث جلجامش عن الخلود بعد موت انكيدو، وبشكل غير مباشر المسار العام لأحداث الملحمة، وقد تم التطرق أيضا إلى الحياة السياسية في مدينة اورك، والتي قلبت مفهومنا عن نظام الحكم في ذلك العصر، والتي أوضحت بان مفهوم الحاكم المطلق لم يكن موجودا، بل هناك نظام حكم يعتمد على المشورة والمناقشة قبل التنفيذ.
إن جلجامش الإنسان الذي ولد على هذه الأرض، قام ببناء مدينة حديثة وجعل فيها الأنظمة ـ الديمقراطية ـ مما جعلها رائدة عصرها في تكوين الحضارة والثقافة الإنسانية، إن مفهوم الحرية ـ الرأي والفكر ـ كان سمة العصر، والإنسان هو أعظم شيء، لا يوجد من هو أعلى منه مكانة، حتى القديسين والآلهة هم ما دون الإنسان، هذا ما يقوله لنا جلجامش في الملحمة التي كتبت في حدود 2700 ق م، وبقيت حية إلى هذا اليوم.[1]
إن الاستمرارية التي فرضتها الملحمة على مر العصور، كانت نتيجة تناولها وطرحها للهموم والأفكار التي تورق الإنسان ـ الخلاص من القدر المحتوم ـ الموت والفناء ـ ولاحتوائها على المغامرة و الكائنات الأسطورية، لقد استمرت الملحمة حية ومتداولة وهي مكتوبة بين شعوب المنطقة أكثر من 2100عام، وهذا ثبت تاريخيا حيث اكتشف في مكتبة اشور بانيبال ألواح الملحمة، وأعوام حكم اشور بانيبال تننهي عام 626 ق م الميلاد، كما وجد علماء الآثار أجزاءً منها في إيران والأناضول وسوريا وفلسطين بالإضافة إلى العراق، هذا ويؤكد الانتشار الواسع للملحمة والزمن المديد الذي بقيت حية بين سكان المنطقة، أن احتواء الملحمة على قصة الطوفان جاء ليضيف بعداً آخر لها، يتمثل بالتأكيد على تواجد الرسل والرسالات السماوية، التي تميز منطقتنا عن غيرها، وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد جلجامش شخصية حقيقية حكم اورك فعلا، وهو الملك الخامس الذي حكم المدينة، وينسب نفسه إلى تموزي الحاكم السابق للمدينة.
علاقتها بالكتاب المقدس
تأثيرها على هومر
تحليل علمي
يقول العالم «سبايزر» في تعليقه على طبيعة ملحمة جلجامش: إن ملحمة جلجامش تتعامل مع أشياء من عالمنا الدينوي مثل الإنسان والطبيعة، والحب والمغامرة، والصداقة والحرب.. وقد أمكن مزجها جميعاً ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي ألا وهو «حقيقة الموت المطلقة».. إن الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره المحتوم، عن طريق معرفة سر الخلود، من رجل الطوفان، ينتهي بالفشل في نهاية الأمر، ولكن مع ذلك الفشل يأتي شعور هادئ بالاستسلام، ولأول مرة في تاريخ العالم، نجد تجربة عميقة بهذا المستوى البطولي بأسلوب شعري رفيع، وهذا ما جعلها تنال إعجاب الناس في كل العصور، والأزمنة، لذلك وجدت أجزاء منها في أماكن عديدة خارج بلاد الرافدين، وتم ترجمتها إلى لغات كثيرة، ولاحظ الباحثون أن تأثيراتها وجدت في ملحمتي «هوميروس» (الإلياذة والأوديسا)، وهناك من قارب «اكيليس» بطل الإلياذة ورفيقه باتروكليس بالبطل جلجامش ورفيقه أنكيدو.[2]
في دراسة للدكتور علي القاسمي عن «عودة جلجامش» يرى أن ملحمة جلجامش تصدت لثلاث قضايا هي: الحياة والحب والموت..
ولنبدأ من النهاية بالموت، لأن النهاية ليست أقل شأناً من البداية.. إن موت أنكيدو جعل صديقه جلجامش يتيه في بيداء الحزن والأسى والوحدة... لقد انغمس جلجامش في تفكيره الحزين عن الكيفية التي يمكن للإنسان أن يتخلّص بها من الموت ليبقى مخلداً كالآلهة، لو كان الإنسان قد توصل إلى ذلك لما مات صديقه انكيدو، ولما ارتعب خوفاً من الموت المرتقب، ولهذا كله ينطلق جلجامش في رحلة الأهوال والمخاطر للحصول على نبتة الحياة في أغوار المحيطات.
يقطع جلجامش أصقاع الأهوال والبراري، ويعبر مياه الموت ويغوص في أعماق المحيط، ويحصل على تلك النبتة.. نبتة الخلود، ليحملها إلى أرض أوروك «الوركاء» ويقوم بزراعتها ويكثرها، لينالها جميع أهالي المدينة، والنبتة هنا، هي رمز الحياة، رمز المعرفة، معرفة سر الخلود، ولكن جلجامش يفقد النبتة، وهو في طريقه إلى الوطن، فقد ابتلعتها الأفعى عندما كان جلجامش نائماً، وعندما أفاق من نومه، لم يرَ سوى أفعى تنساب إلى جحرها بنشاط متجدد مخلفة وراءها جلدها القديم بعد أن نزعته، وهنا يعتصر الأسى قلب جلجامش، ويتوقف في حانة على الطريق ليشرب حتى الثمالة والدموع تنهمر من عينيه فترأف صاحبة الحانة لحاله، وتطلب منه أن يغتنم الحياة الآفلة ويتمتع بالصبح مادام فيه، ولكن جلجامش يقرر أن يفعل شيئاً يخلّد ذكره وفكره، إن لم يستطع أن يخلّد جسمه وشكله، فيعود إلى مدينته الوركاء، ويقوم بإرساء قواعد العدل في البلاد، وينشر المدارس والتعليم بين العباد، فالمعرفة تهب الحياة معنى ومذاقاً متجددين.
الألواح المسمارية
استعادت استعادة العراق في 23 سبتمبر 2021، لوحًا مسماريًا أثريًا عمره 3500 عام يحتوي على جزء من "ملحمة جلجامش"، بعدما تبيّن للسلطات الأميركية أنّه سُرق من متحف عراقي عام 1991، ثمّ تم تهريبه بعد سنوات عديدة إلى الولايات المتّحدة.
استلمت سفارة العراق لوح حلم جلجامش في متحف سميثسونيان في واشنطن وبحضور وزير الثقافة والسياحة والاثار والدكتور ليث مجيد رئيس الهيأة العامة للاثار والتراث وسينقل للعراق بطائرة خاصة.
واللّوح الأثري مصنوع من الطين ومكتوب عليه بالمسمارية ويُعرف اللوح باسم رقيم حلم جلجامش، ويبلغ عمره 3,600 عام ويحمل جزءا من قصيدة سومرية من ملحمة جلجامش. ووفقًا للسلطات الأميركية، فإنّ هذا الكنز الأثري سُرق من متحف عراقي عام 1991 خلال حرب الخليج الأولى، ثم اشتراه عام 2003 تاجر أعمال فنيّة أميركي من أسرة أردنية تقيم في لندن وشحنه إلى الولايات المتحدة، من دون أن يصرّح للجمارك الأميركية عن طبيعة الشحنة.
وبعد وصول اللوح إلى الولايات المتّحدة، باعه التاجر عام 2007 لتجّار آخرين مقابل 50 ألف دولار وبشهادة منشأ مزوّرة.
وعام 2014، اشترت أسرة غرين التي تمتلك سلسلة متاجر "هوبي لوبي" والمعروفة بنشاطها المسيحي، اللوح بسعر 1.67 مليون دولار، وذلك بقصد عرضه في متحف الكتاب المقدس في واشنطن.
لكن عام 2017، أعرب أحد أمناء المتحف عن قلقه بشأن مصدر اللوح، بعدما تبيّن له أنّ المستندات التي أُبرزت خلال عملية شرائه لم تكن مكتملة.
وفي سبتمبر 2019، صادرت السلطات الأميركية هذه القطعة الأثرية إلى أن صدّق قاضٍ فدرالي في نهاية يوليو/ تموز على إعادتها إلى العراق. ورغم صغر حجمه، فإنّ قيمة هذا اللوح الأثري تُعتبر "هائلة".
قالت المديرة العامة لليونيسكو أودري أزولاي: إنّ إعادة هذا الكنز الثقافي إلى أصحابه يمثل "انتصارًا كبيرًا على أولئك الذين يشوّهون التراث". وأشارت إلى أنّ استعادة القطعة الأثرية "ستتيح للشعب العراقي إعادة التواصل مع صفحة من تاريخهم".[3]
في الثقافة العامة
انظر أيضاً
المصادر
الهوامش
- ^ "ملحمة جلجامش النص الكامل". الحوار المتمدن. 21 يناير 2014. Retrieved 1 أكتوبر 2015.
- ^ أسطورة جلجامش، الباحثون
- ^ "الثلاثاء 21 سبتمبر 2021". العربي. 21 سبتمبر 2021. Retrieved 25 سبتمبر 2021.
المراجع
- الجنس في العالم القديم، بول فريشاور، دار الكندي، دمشق، 1988.
- هو الذي رأى، عبد الحق فاضل، دار الرشيد، بغداد، 1981.
- جلجامش، فراس السواح، سومر للدراسات والنشر، نيقوسيا، قبرص، 1987.
- ملاحم وأساطير، أنيس فريحة، دار النهار، بيروت، 1979،
- عشتار ومأساة تموز، فاضل عبد الواحد علي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986.
- المنثلوجيا السورية، وديع بشور، مؤسسة فكر للابحاث والنشر، بيروت، 1984.
ترجمات الملحمة
- Jastrow, M. and Clay, A (1920). An Old Babylonian Version of the Gilgamesh Epic: On the Basis of Recently Discovered Texts.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link) - Sandars, N. K (2006). The Epic of Gilgamesh (Penguin Epics). London: Penguin. ISBN 0-14-102628-6.: re-print of the Penguin Classic translation (in prose) by N. K. Sandars 1960 (ISBN 014044100X) without the introduction.
- Mason, Herbert (2003). Gilgamesh: A Verse Narrative. Boston: Mariner Books. ISBN 978-0-618-27564-9. First published in 1970 by Houghton Mifflin; Mentor Books paperback published 1972.
- Kovacs, Maureen Gallery, transl. with intro. (1985). The Epic of Gilgamesh. Stanford University Press: Stanford, California. ISBN 0-8047-1711-7.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link) Glossary, Appendices, Appendix (Chapter XII=Tablet XII). A line-by-line translation (Chapters I-XI). - Ferry, David (1993). Gilgamesh: A New Rendering in English Verse. New York: Farrar, Straus and Giroux. ISBN 0-374-52383-5.
- Jackson, Danny (1997). The Epic of Gilgamesh. Wauconda, IL: Bolchazy-Carducci Publishers. ISBN 0-86516-352-9.
- Parpola, Simo, with Mikko Luuko, and Kalle Fabritius (1997). The Standard Babylonian, Epic of Gilgamesh. The Neo-Assyrian Text Corpus Project. ISBN 951-45-7760-4.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link): (Volume 1) in the original Akkadian cuneiform and transliteration; commentary and glossary are in English - George, Andrew R., trans. & edit. (2000). The Epic of Gilgamesh; The Babylonian Epic Poem and Other Texts in Akkadian and Sumerian. England: Penguin. ISBN 0-14-044721-0.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link) - Foster, Benjamin R., trans. & edit. (2001). The Epic of Gilgamesh. New York: W.W. Norton & Company. ISBN 0-393-97516-9.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link) - George, Andrew R., trans. & edit. (2003). The Babylonian Gilgamesh Epic: Critical Edition and Cuneiform Texts. England: Oxford University Press. ISBN 0-19-814922-0.
{{cite book}}
: CS1 maint: multiple names: authors list (link) - Mitchell, Stephen (2004). Gilgamesh: A New English Version. New York: Free Press. ISBN 0-7432-6164-X.
تحليل الملحمة
- Jacobsen, Thorkild (1976). The Treasures of Darkness, A History of Mesopotamian Religion. Yale University Press. ISBN 0-300-01844-4.
- Tigay, Jeffrey H. (1982). The Evolution of the Gilgamesh Epic. University of Pennsylvania Press. ISBN 0-8122-7805-4.
- Kluger, Rivkah (1991). The Gilgamesh Epic: A Psychological Study of a Modern Ancient Hero. Daimon. ISBN 3-85630-523-8.
- West, Martin Litchfield (1997). The East Face of Helicon: West Asiatic Elements in Greek Poetry and Myth. Clarendon Press. ISBN 0-19-815042-3.
- Best, Robert (1999). Noah's Ark and the Ziusudra Epic. Eisenbrauns. ISBN 0-9667840-1-4.
- Damrosch, David (2007). The Buried Book: The Loss and Rediscovery of the Great Epic of Gilgamesh. Henry Holt and Co. ISBN 0-8050-8029-5.
وصلات خارجية
- Translations of the legends of Gilgamesh in the Sumerian language can be found in Black, J.A., Cunningham, G., Fluckiger-Hawker, E, Robson, E., and Zólyomi, G., The Electronic Text Corpus of Sumerian Literature, Oxford 1998–.
- The 1901 full text translation of the Epic of Gilgamesh by William Muss-Arnolt
- An Old Babylonian Version of the Gilgamesh Epic by Anonymous, available at Project Gutenberg., edited by Morris Jastrow, translated by Albert T. Clay
- Gilgamesh by Richard Hooker (wsu.edu)
- The Epic of Gilgamesh, Complete Academic Translation by R. Campbell Thompson
- The Epic of Gilgamesh by Kovacs, M.G.,
- He Who Saw Everything: Verse Translation of the Epic of Gilgamesh by Temple, R.K.G.,