قضية القلادة الماسية
في يونيو 1783 عاد أكسل فون فرسن إلى فرنسا بعد أن أبلى بلاء حسناً في الدفاع عن أمريكا وكسب الفخار في يوركتاون، فوجد ماري أنطوانيت في روعة حسنها الذي تركها عليه قبل ثلاث سنين. وحتى في 1787، حين كانت في الثانية والثلاثين، وجدها آرثر ينگ "أجمل امرأة" رآها في البلاط ذلك اليوم(1). ولم تتردد في تأييد طلب جوستاف الثالث إلى لويس السادس عشر أن يعين فرسن الوسيم كولونيلاً للفوج السويدي الملكي في الجيش الفرنسي- مما سيتيح له قضاء وقت غير قصير في فرساي. واعترف أكسيل لأخته صوفي بأنه يحب الملكة، وأنه يتعقد أن حبه يلقى استجابة منها. وما من شك في أنها كانت تحس الود الحار نحوه، وقد تبادلا الرسائل الرقيقة بعد ثمانية أعوام عقب المحاولة الباسلة التي بذلها لتهريبها هي والملك من فرنسا، غير لأن دعوتها لصوفي أن تأتي وتعيش بقربه توحي بعزمها على أن تحتفظ بشعورها نحوه في نطاق الحدود اللائقة(2). ولم يكد يؤمن ببراءتها أحد في البلاط غير زوجها. وأكدت علاقتها الآثمة أغنية ذاعت بين عامة الشعب تقول:
إن شئت أن تعرف
ديوثاً، وابن زنا، وامرأة فاجرة،
فانظر إلى الملك، والملكة.
والأمير ولي العهد(3).
ولقد لخص لوي- فيليب د سيجور الأمر في هذه العبارة: "لقد فقدت سمعتها ولكنها صانت فضيلتها"(4).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القضية
وفي 25 مارس 1785 ولدت ماري أنطوانيت ابناً ثانياً سمي لوي- شارل. وسر الملك سروراً عظيماً فوهبها قصر سان- كلو الذي كان قد اشتراه من الدوق أورليان بستة ملايين من الجنيهات. وأدان البلاط غلو تقديره للملكة، ولقبتها باريس على سبيل التهكم (السيدة العجز)(5). وقد استخدمت نفوذها على زوجها لتوجيه تعيينه للوزراء والسفراء وغيرهم من كبار القوم وحاولت دون جدوى أن تغير من كراهيته للتحالف مع النمسا، وزادت جهودها هذه من كره الشعب لها.
وفي هذا الجو من عداء الشعب لـ "النمساوية" L, Autrichienne كما كانوا يلقبونها نستطيع أن نفهم تصديق الناس لقصة القلادة الماسية. وكانت هذه القلادة ذاتها أمراً لا يصدق، فهي خيط من 647 ماسة قيل أنها تزن 2.800 قيراط(6) وكان اثنان من جواهرية البلاط هما شارل بومر وبول باسانج- قد اشتريا ماساً من نصف العالم ليصنعا قلادة لمدام دوباري، واثقين من أن لويس الخامس عشر سيبتاعها لها. ولكن لويس الخامس عشر مات، فمن تراه يشتري الآن حلية باهظة الثمن كهذه؟ وعرضها الجوهريان على ماري أنطوانيت لقاء 1.600.000 جنيه، فرفضتها لغلوها الشديد(7) وهنا تصدر الصورة الكاردينال برنس لوي- ريينه- إدوارد دروهان.
وكان الكاردينال ثمر ناضجة لأسرة من أعرق الأسر الفرنسية وأغناها، قيل أن دخله بلغ 1.200.000 جنيه في لعام. رسم قسيساً في 1760، وعين مساعداً لعمه رئيس أساقفة ستراسبورج، وبصفته هذه رحب رسمياً بماري أنطوانيت أول مرة دخلت فيها فرنسا (1770). فلما وجد ستراسبورج ميداناً يضيق به الطموح، عاش أكثر وقته في باريس، حيث أنضم إلى الحزب المناوئ للنمسا والملكة. وفي 1771أوفده لويس السادس عشر إلى فيينا مبعوثاً خاصاً لاستطلاع المناورات النمساوية لتقسيم بولندا. واغتاظت ماريا تريزا ممن الولائم الباذخة التي كان يولمها ومن بثه الشائعات الفاضحة عن ولي العهد الجديد. واستدعاه لويس السادس عشر إلى باريس، ولكن الأقارب الأقوياء أقنعوا الملك بأن يعينه كبير المتصرفين في المبرات الملكي (1777). وبعد عام رقي القس المرح الوسيم إلى رتبة الكاردينالية، وفي 1779 أصبح رئيساً لأساقفة ستراسبورج وهناك التقى بكاليوسترو فوقع تحت تأثير سحر المشعوذ وانطلت عليه دعاواه. وإذ كان روهان قد ارتفع إلى هذا المقام العالي بهذه السرعة الكبيرة، فقد خيل إليه أن في وسعه الطموح إلى تقلد منصب كبير وزراء لويس السادس عشر، شريطة أن يكفر عن سنوات معارضته للملكة. وكان من أسباب لهوه في باريس مدام دلاموت- قالوا، المرأة الجذابة الذكية. وكانت جان دسان- ريمي دفالوا هذه تدعي أنها تحدرت من هنري الثامن ملك فرنسا وإحدى خليلاته. ولكن أسرتها فقدت ثروتها، فاضطرت جان إلى الاستجداء في الشوارع. وفي 1775 أكدت الحكومة نسبها الملكي، ومنحتها معاشاً قدره ثمانمائة فرنك. وفي 1780 تزوجت أنطوان دلاموت، وكان ضابطاً في الجيش يهوى الدس والتآمر، خدعها في أمر دخله، فكان زواجهما على حد قولها رباطاً بين القحط والمجاعة(8). وقد انتحل لقب كونت، فأصبحت جان مونتيسة دلاموت، وبهذه الصفة راحت ترف حول باريس وفراساي، وتغزو قلوب الرجال بما سمته "مظهر العافية والشباب (الذي سميه الرجال التألق)، وبشخصية غاية في الحيوية والمرح"(9). فلما أصبحت خليلة للكاردينال (1784)(10)، ادعت أن لها صلات وثيقة جداً في البلاط، وعرضت أن تنال له موافقة الملكة على أهدافه. فكلفت ريتو دفيليت تقليد خط جلالته، وجاءت الكردينال برسائل حب زعمت أنها من ماري أنطوانيت، وأخيراً وعدت بأن ترتب له لقاء مع الملكة. ثم دربت مومساً تدعى "البارونة" أوليفيا على انتحال شخصية الملكة، وفي "بستان فينوس" بفرساي، في جوف الليل البهيم، التقى الكاردينال فترة قصيرة بهذه المرأة، وحسبها أنطوانيت، ولثم قدمها، وتلقى منها وردة عربوناً للتصالح (أغسطس 1784)، أو هكذا تروي "الكونتيسة"(11).
ثم غامرت مدام دلاموت الآن بخطة أكثر جرأة لو نجحت لوضعت حداً لفقرها. ذلك أنها زورت خطاباً من الملكة يخول لروهان شراء القلادة باسمها، وقدم الكردينال الخطاب إلى بومر، فسلمه هذا الجوهر (14 يناير 1785) بعد تعهد كتابي منه بدفع 1.600.000 فرنك منجمة. وأخذ روهان الماسات إلى الكونتيسة، وبناء على طلبها إلى ممثل مزعوم للملكة. أما تاريخ الماسات بعد ذلك فغير مؤكد، ويبدو أن الكونت دلاموت أخذها إلى إنجلترا وباعها قطعة قطعة(12).
أوارسل بومر فاتورة بالقلادة إلى الملكة فردت بأنها لم تطلبها قط وأنها لم تكتب قط الخطاب الذي يحمل اسمها. فلما وافى القسط الأول (30 يوليو 1785) ولم يعرض روهان غير ثلاثين ألف فرنك من المبلغ المستحق وقدره 400.000 عرض بومر الأمر على البارون دبروتوي وزير البيت الملكي. فأنبأ بروتوي به الملك. فاستدعى لويس الكردينال ودعاه لتفسير تصرفاته، فأراه روهان بعض خطابات زعم أنها من الملكة. وفطن الملك للتو إلى أنها مزورة وقال "ليس هذا خط الملكة، والتوقيع ليس له حتى الشكل المميز"(13)، واشتبه في أن روهان وغيره من الحزب المناوئ لزوجته قد بيتوا هذه المؤامرة لتشويه سمعتها. فأمر بزج الكردينال في الباستيل (15 أغسطس) وطلب إلى الشرطة البحث عن مدام دلاموت وكانت قد هربت إلى المخبأ تلو المخبأ، ولكن أمكن القبض عليها، فزجت هي أيضاً في الباستيل. كذلك قبض على "البارونة" أوليفيا، وريتو دفيليت، وكاليوسترو، الذي اشتبه خطأ في أنه مدبر المؤامرة، مع أنه في الواقع فعل قصاراه ليثبطها(14).
وأعتقد لويس أنه لا بد من محاكمة علنية لإقناع الشعب ببراءة الملكة، فعرض القضية على أعدائه، وهم برلمان باريس. وكانت المحاكمة أشد قضايا القرن في فرسنا إثارة لاهتمام الرأي العام، كما أصبحت قضية وارن هيستنجز في إنجلترا بعدها بثلاث سنين. وصدر حكم البرلمان في 31 مايو 1786. فأعلنت براءة الكردينال روهان، باعتباره مخدوعاً أكثر منه خادعاً، ولكن الملك حرمه مناصبه الرسمية ونفاه إلى دير لاشيز- ديو. وحكم على اثنين من الشركاء في الجريمة بالسجن، وبرئت ساحة كاليوسترو. أما مدام دلاموت فقد جردت من ملابسها علانية وضربت بالسوط في "الكوردمي" أمام قصر العدالة، ورسمت بحرف V (اختصاراً لكلمة Voleur أي اللصة) وحكم عليها بالسجن مدى الحياة في سجن سالبتريير، وهو سجن النساء سيئي السمعة. وبعد أن قضت عاماً في هذا المحبس الذي يورث الجنون فرت، ولحقت بزوجها في لندن، وكتبت ترجمة لحياتها شرحت فيها كل شيء، ثم ماتت في 1791.
واغتبط النبلاء وجماهير الباريسيين بتبرئة ساحة الكردينال وانتقدوا الملكة لإيصالها الأمر إلى محاكمة علنية، وكان الشعور العام أن شرهها المعروف للجواهر هو عذر الكردينال في تصديق الرسائل المزورة. وغالت الشائعات والأقاويل إلى حد اتهماها بمخللة روهان(15)، مع أنها لم تكن رأته خلال السنوات العشر السابقة للقبض عليه. ومرة أخرى صانت الملكة عرضها ولحق الأذى بسمعتها. قال نابليون "إن موت الملكة يجب أن يؤرخ من محاكمة القلادة الماسية"(16).
الهامش
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
المراجع
- Fraser, Antonia (2001). Marie Antoinette, The Journey. Anchor. ISBN 0-7538-1305-X.
- A Famous Necklace On the Necklace of Marie Antoinette, by E. Orpen, "Stories about Famous Stones".
- Alexander Lernet-Holenia: Das Halsband der Königin (The Queen's Necklace, Paul Zsolnay Verlag, Hamburg/Vienna, 1962, historical study on the affair of the diamond necklace)