جان جولي إليونور ده لسپيناس
جان جولي إليونور ده لسپيناس Jeanne Julie Éléonore de Lespinasse (عاشت 9 نوفمبر 1732 – 23 مايو 1776) امتلكت صالوناً بارزاً في فرنسا.
اختارت جولي لمسكنها الجديد بيتاً ذا طوابق ثلاث عند ملتقى شارع بلشاش بشارع سان-دومينيك، ولم يكن يبعد غير مائة ياردة من بيت المركيزة الديري ولم تبلغ معاناتها مبلغ الإملاق، فقد تلقيت بالإضافة إلى عدة معاشات صغيرة، معاشين مقدارهما 2.600 جنيه من "دخل الملك (1758 و1763)، بناء على إلحاح شوازيل فيما يبدو، ثم إن مدام جوفران وهبتها بناء على اقتراح دالامبير راتبين سنويين منفصلين مقدارهما ألفا جنيه وألف كروان. وأعطتها المرشالة دلكسمبورج طقماً كاملاً من الأثاث.
وما إن استقرت جولي في مسكنها الجديد حتى أصيبت بالجدري إصابة شديدة. كتب ديفد هيوم إلى مدام دبوفليه يقول "أن الآنسة دليسبيناس مريضة مرضاً خطراً، ويسرني أن دالامبير نس فلسفته في لحظة كهذه"(108) والواقع أن الفيلسوف كان يمشي مسافة طويلة كل صباح ليقوم على خدمتها إلى جوار فراشها حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم يعود إلى حجرته في بيت مدام روسو. وتماثلت جولي للشفاء، ولكنها باتت ضعيفة عصبية باستمرار وغلظت بشرتها وشابتها الندوب. وفي وسعنا أن نتصور ما يعنيه هذا لامرأة لم تجاوز الثانية والثلاثين ولم تتزوج بعد.
وقد شفيت في الوقت المناسب لتعنى بدالامبير الذي لزم فراشه في ربيع 1765 إثر ألم في معدته أشرف به على الهلاك. وراع مارمونتيل أن يراه ساكناً "حجرة صغيرة سيئة الإضاءة، سيئة التهوية، تحوي سريراً ضيقاً جداً كأنه النعش.(109) وعرض صديق آخر هو المالي قاتلية على دالامبير أن يستعمل بيتاً فسيحاً قرب التامبل. وارتضى الفيلسوف الآن في أسف أن يترك المرأة التي آوته وأطعمته منذ طفولته. وقال دكلو في دهشة "يا لليوم المدهش! لقد فطم دالامبير!" وكانت جولي تقطع الرحلة كل يوم إلى مسكنه الجديد وترد له رعايته الأخيرة لها بإخلاصها الفياض. فلما نقه إلى حد يتيح له التحرك رجته أن يشغل بعض الحجرات في الطابق الأعلى من بيتها، فذهب في خريف 1765، ودفع لها إيجاراً معتدلاً. ولم ينسَ مدام روسو، فكان يزورها كثيراً، ويقتسم معها بعض إيراده، ولا يكف عن الاعتذار عن انفصالهما "أيتها الحاضنة المسكينة، يا من تحبينني أكثر مما تحبين أبناءك!"(110).
وزعمت باريس حيناً أن جولي خليلته. وأيدت المظاهر الزعم. فقد كان دالامبير يتناول طعامه معها، ويكتب لها الرسائل، ويدير لها أعمالها، ويستثمر لها مدخراتها، ويجمع لها إيرادها. وكانا أمام الناس يظهران معاً على الدوام؛ وما دار بخلد مضيف أن يدعو الواحد دون صاحبه. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ القوم-حتى المتقولون منهم-يتبينون أن جولى لا هي بالخليلة ولا الزوجة ولا العاشقة لدالامبير، إنما هي مجرد أخت وصديقة. ويلوح أنها لم تدرك قط أن حبه لها كان كاملاً وإن لم يستطع أن يعرب عنه، وتقبلت السيدتان جوفران ونكير-وكلتاهما مضرب المثل في الفضيلة-هذه العلاقة بين دالامبير وجولي على أنها حب أفلاطوني. ودعت صاحبة الصالون العجوز كليهما لندوتيها.
وكان امتحاناً قاسياً لعطف الأم الذي أبدته مدام جوفران نحو الآنسة دليسبيناس ألا يصدر عنها أي احتجاج حين افتتحت هذه صالوناً خاصاً بها ذلك أن جولي ودالامبير كانا قد صنعا من الأصدقاء عدداً بلغ من الكثرة رجالاً ونساءً، وكلهم تقريباً ذائع الصيت أو رفيع المرتبة. وكان دالامبير يقود الحديث، وجولي تضفي على الندوة كل مفاتن الأنوثة ودفء الضيافة. ولم يقدم فيها غداء أو عشاء، ولكنها اشتهرت بأنها أعظم صالونات باريس حفزاً للعقول، اختلف إليها طورجو، ولموميني دبريين، اللذين سيرقيان سريعاً إلى مكان مرموق في الحكومة؛ ونبلاء مثل شاستللوكس وكوندرو رسيه، وأحبار مثل بوامون وبواجيلان، وشكاكون مثل هيوم وموريلليه، ومؤلفون مثل مابليه، وكوندياك، ومارمونيل، وسان-لامبير. حضروا أول الأمر ليروا دالامبير ويستمعوا إليه، ثم ليحظوا بتلك المهارة المتعاطفة التي كانت جولي تستدرج بها كل ضيف في ميدان تفوقه الخاص, ولم يحظر أي موضوع هنا، فكانت تناقش أدق مشكلات الدين أو الفلسفة أو السياسة، ولكن جولي-التي دربتها مدام جوفران على هذا الفن-عرفت كيف تهدئ من ثائرة الثائرين وترد النزاع نقاشاً. وكانت الرغبة في عدم الإساءة إلى المضيفة الرقيقة هي القانون غير المكتوب الذي بعث النظام في هذه الحرية. وفي ختام حكم لويس الخامس عشر كان صالون الآنسة دليسبيناس
في رأي سانت-بيف "أكثر الصالونات رواجاً، وأحفلها بالزوار المتشوقين إليه، في جيل كثر فيه الألمعيون"(111).
ولم يقدم صالون آخر لزواره مثل هذا الإغراء المزدوج، فقد بدأت جولي رغم ندوب وجهها وعدم شرعية نسبها تصبح الحب الثاني لعشرة أو يزيد من الرجال المرموقين. وكان دالامبير في قمة قدراته. يقول جريم: "كان في حديثه كل ما يعلم العقل ويمتعه. فكان يسلم نفسه بيسر ورغبة لأي موضوع يدخل السرور على نفوس أكثر السامعين، مدخلاً فيه معيناً لا يكاد ينضب من الأفكار، والنوادر، والذكريات العجيبة، وما من موضوع أياً كان جفافه أو تفاهته في ذاته لم يملك سر إضفاء المتعة والطرافة عليه. وكان في كل فكاهاته أصالة رقيقة عميقة.(112)
ثم استمع إلى ديفد هيوم يكتب إلى هوراس ولبول: "إن دالامبير رفيق لطيف المعشر كامل الفضائل. وقد دل على ترفعه عن المنفعة الشخصية والطمع الباطل بفرضه عروضاً من قيصرة روسيا وملك بروسيا....وله خمسة معاشات، أولها من ملك بروسيا، وثانيها من ملك فرنسا، والثالث يتلقاه بوصفه عضواً في أكاديمية العلوم، والرابع بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، والخامس من أسرته. ولا تزيد جملتها كلها على ستة آلاف جنيه في العام. وهو يعيش على نصف هذا المبلغ عيشة كريمة، ويهب النصف الآخر للفقراء الذين له بهم صلة. والخلاصة أنني لا أكاد أعرف رجلاً، إلا القليلين،يفضله نموذجاً للشخصية الفاضلة الفيلسوفة.(113) أما جولي فكانت نقض دالامبير في كل شيء خلا يسر الحديث ورقته. ولكن بينما كان هذا الموسوعي واحداً من آخر أبطال حركة التنوير، ينشد العقل والقصد في الفكر والعقل، كانت جولي، بعد روسو، أول صوت واضح للحركة الرومانسية في فرنسا، مخلوقاً (في عبارة مارمونتيل) "أوتي أنشط تصور، وأحر روح، وأشد الخيالات تأججاً منذ سافو"(114). فلم يفقها أحد من الرومانسيين، في عالم الحقيقة أو القصص لا هلويز روسو، ولا روسو ذاته؛ ولا كلاريسيه رتشاردسن، أو مانون بريفوست-في رهافة الحس أو حرارة حياتها الباطنة. كان دالامبير موضوعياً، أو حاول أن يكون كذلك، أما جولي فكانت ذاتية إلى حد الاستغراق الأناني في النفس أحياناً. ومع ذلك "كانت تشارك المحزونين ألمهم، وقد جاهدت جهاداً محموماً لكي ينتخب شاستللوكس ولاهارب عضوين في الأكاديمية، ولكنها حين أحبت نسيت كل شيء، وكل إنسان آخر. نسيت أولاً مدام دودفان، وثانياً دالامبير نفسه".
ذلك أنه في 1766 دخل الصالون نبيل شاب هو المركيز خوزيه دمورا إي جونزاجو، ابن السفير الأسباني، وكان في الثانية والعشرين، وجولي في الرابعة والثلاثين وكان قد زوج في الثانية عشرة من فتاة في الحادية عشرة، ماتت عام 1764. وأحست جولي بعد قليل بسحر شبابه، وربما بسحر ثرائه. وسرعان ما نضج تعلق الواحد منهما بصاحبه فتعاقدا على الزواج. فلما سمع أبوه بالأمر أمر بأداء واجبه العسكري في أسبانيا. وذهب مورا، ولكنه لم يلبث أن استقال من وظيفة الضابط. وفي يناير 1771 بدأ يبصق الدم، فذهب إلى بلنسية التماساً للراحة، فلما لم يشفَ هرع إلى باريس وجولي. وانفقا معاً أياماً سعيدة كثيرة، مما روح عن بلاطها الصغير وأثار في نفس دالامبير ألماً دفيناً. وفي 1772 استدعي السفير إلى أسبانيا، فأصر على أن يصحبه ابنه. ولم يرضَ الأب ولا الأم بزواجه من جولي، فانفصل فوراً عنهما وبدأ رحلته إلى الشمال ليعود أليها، ولكنه مات بالسل في بوردو في 27 مايو 1774. في ذلك اليوم كتب لها يقول "كنت في طريقي إليك، ولابد أن أموت، ياله من قضاء بشع!...ولكنكِ أحببتني، وتفكيري فيكِ ما زال يسعدني، إنني أموت في سبيلكِ!" ونزعوا من أصابعه خاتمين، احتوى أحدهما على خصلة من شعر جولي، ونقش على الآخر هذه الكلمات "كل الأشياء تزول، ولا يبقى غير الحب" وكتب دالامبير الشهم عن مورا يقول "إنني آسف لشخصي على فقد ذلك الرجل الحساس الفاضل الخلق، الرفيع الفكر، أكمل من عرفت من الناس...وسأذكر ما حييت تلك اللحظات الغالية التي أحبت فيها نفس بهذا الطهر والنبل والقوة والتهذيب الاختلاط بنفسي".
ومزق نبأ موت مورا قلب جولي، وزاد الخطب فداحة أنها منحت حبها في الوقت نفسه لرجل آخر. ذلك أنها في سبتمبر 1772 التقت بالكونت جاك-أنطوان دجيبيير، البالغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، والذي كان قد أبلى بلاءً حسناً في حرب السنين السبع. أضف إلى ذلك أن كتابه "دراسة شاملة للتكتيك" أشاد به القواد ورجال الفكر رائعة في هذا الميدان، وقد قدر لهذا الكتاب أن يحمل نابليون نسخة منها عليها تعليقات بخط يده خلال حملاته جميعاً. و"المقال التمهيدي" للكتاب الذي ندد بجميع الأنظمة الملكية صاغ المبادئ الأساسية لسنة 1789 قبل اندلاع الثورة بعشرين عاماً. وفي وسعنا أن نحكم على الإعجاب الذي أغرقه الناس على جيبير من موضوع اختير للنقاش في أحد الصالونات الكبرى: "أيهن تحسد أكثر من غيرها: أم المسيو دجيبير، أم أخته، أم خليلته؟"(117) وكان له بالطبع خليلة-هي جان دمونسوج، آخر وأطول غرام له. وقد حكمت عليه جولي حكماً قاسياً قس لحظة مرارة إذ قالت:-
"إن الاستخفاف، بل القسوة، التي يعامل بها النساء مصدرها قلة اعتباره لهن...فهو يراهن معابثات، مغرورات، ضعيفات، كاذبات، طائشات، واللاتي يحسم فيهن رأيه يراهن متعلقات بالخيل، ومع أنه يضطر إلى الإقرار بوجود خصال حميدة في بعضهن، فهو لا يقدرهن لهذا السبب تقديراً أعلى، بل يرى أن فيهن رذائل أقل، لا فضائل أكثر"(118).
على أنه كان وسيماً، وسلوكه كاملاً، وحديثه يجمع بين الغنى والشعور، وبين العلم والوضوح، قالت مدام دستال "كان حديثه أكثر ما عرفت تنوعاً، وحيوية، وغنى"(119).
ورأت جولي أنها محظوظة بإيتاء جيبير لندواتها، وأفتتن الواحد منهما بشهرة صاحبه، فنشأت بينهما علاقة أصبحت من جانبه غزوة عارضة، ومن جانبها غراماً قتالاً. وهذا الغرام الفتاك هو الذي أحل رسائلها إلى جيبير مكاناً مرموقاً في الأدب الفرنسي وبين أكثر وثائق العصر كشفاً. ففيها أكثر حتى مما في "جولي أو هلويز الجديدة" لروسو (1761)، تلقى إرهاصات لحركة الرومانسية في فرنسا تعبيرها الحي.
وفي أول رسالة باقية إلى جيبير (15 مايو 1773) نراها واقعة في حبائل غرامه، ولكن كان يمزقها تأنيب الضمير لانتهاكها ميثاق الوفاء لمورا. فكتبت لجيبير وهو راحل إلى ستراسبوج تقول:
رباه! بأي سحر، وبأي قدر، استطعت أن تفتني؟ لم لم أمت في سبتمبر؟ كان يمكن أن أموت آنئذ فأعفى....من اللوم الذي ألوم به نفسي الآن..إنني أشعر بهذا وآ أسفاه، إنني ما زلت أستطيع الموت في سبيله، فمل من مصلحة لي أضن ببذلها له...أواه، أنه سيصفح عني! لقد عانيت كثيراً! ولقد أضنى جسدي وروحي طول ما ألم بي من حزن. وطاش عقلي حين تلقيت خطابه. في ذلك الحين رأيتك أول مرة، في ذلك الحين تسلمت نفسي، في ذلك الحين أدخلت عليها السرور، ولست أدري أيهما كان أحلى-أن أشعر بذلك السرور، أو أن أدين به لك.(120)
وبعد ثمانية أيام سقطت كل أسباب دفاعه: "لو كانت صغيرة جميلة، فاتنة جداً، لما أعياني أن أتبين الكثير من الافتعال في مسلككِ معي، ولكن بما أنني لست من هذا كله في شيء، فإنني أجد في مسلككِ عطفاً وشرفاً أكسباكِ نصراً على روحي إلى الأبد.(121)
وكانت أحياناً تكتب بكل التحرر الذي كتبت بها إلواز لأبيلار: "أنت وحدك الذي يستطيع في هذا الكون أن يمتلك كياني ويتربع فيه..وقلبي، وروحي، لا يمكن أن يملأهما سواك....إن بابي لم يفتح اليوم مرة دون أن يخفق قلبي، ومرت بي لحظات كنت أخشى فيها أن اسمع اسمك، ثم كان يحطم قلبي ألا أسمعه. أن كثيراً من المتناقضات، وكثيراً من الانفعالات المصطرعة، صادقة، وتفسرها كلمة واحدة: أحبك.(122) وزاد الصراع بين الغرامين من الاضطراب العصبي الذي ربما كان مصدره تعطش آمالها إلى تحقيق المرأة لذاتها، واستهدافها المتزايد للسل، وكتبت إلى جيبير 6 يوليو 1773 تقول:
"إن روحك رغم اضطرابها ليست كروحي التي لا تفتأ مترددة بين التشنج والاكتئاب. وأنا أتعاطى السم (الأفيون) لأهدئ نفسي. وأنت ترى أنني عاجزة عن أن أهدئ نفسي؛ فأرشدني، وقوني، وسأصدقك، وستكون سندي.(123) وعاد جيبير إلى باريس في أكتوبر، وقطع علاقاته مع مدام دمونسوج، وباح بحبه لجولي. فقبلته شاكرة، وأسلمت له جسدها-في الحجرة المؤدية لمقصورتها في الأوبرا (10 فبراير 1774)(124) وقد زعمت فيما بعد أن هذه الفعلة التي اقترفتها وهي في الثانية والأربعين، كانت أول زلة لها من "الشرف" و"الفضيلة"(125) ولكنها لم تنح على نفسها باللوم:
"أتذكر الحال التي وضعتني فيها، والتي اعتقدت أنكَ تركتني عليها؟ حسناً أود أن أقول لك أنني بعد أن أفقت سريعاً، قمت ثانية (والكلمتان كتبتهما بحروف مائلة) ورأيت ذاتي غير هابطة عن مقامي قيد أنملة....وربما تعجب لأن آخر الدوافع التي جذبتني إليك هو الوحيد الذي لا يبكتني عليه ضميري.....فبذلك الاستسلام، بتلك المرتبة النهائية من نكران نفسي وكل مصلحة شخصية لي، أثبت لك أنه ليس هناك غير خطب واحد في الأرض لا طاقة لي باحتماله-وهو أن أغضبك وأفقدك. فذلك الخوف يجعلني أبذل لك حياتي"(126).
"ونعمت حيناً بنشوات السعادة. وكتبت إليه (لأنهما أخفيا عن الناس علاقتهما وسكن الواحد بعيداً عن صاحبه). لقد ظللت أفكر فيك طوال الوقت. وأنا مستغرقة فيك استغراقاً يجعلني أفهم شعور العابد نحو إلهه."(127) أما جيبير فلم يكن بد من أن يمل غراماً يسرف هذا الإسراف في سكب نفسه دون أن يترك لقوته أي تحد. وسرعان ما راح يهتم بالكونتيسة دبوفليه، ويستأنف غرامه بمدام دمونسوج (مايو 1774). وعاتبته جولي، فرد في فتور. ثم نمى إليها في 2 يونيو أن مورا مات في طريقه إليها وهو يبارك اسمها. فتردت في حمى من الندم والحسرة وحاولت أن تسمم نفسها، ولكن جيبير منعها. وراحت خطاباتها إليه يدور أكثرها حول مورو، ومبلغ سمو هذا النبيل الأسباني عن أي رجل عرفته في حياتها. وقلت رؤية جيبير لها وزادت لقاءاته بمونسوج. وعللت جولي نفسها بالبقاء على الأقل خليلة من خليلاته، فكانت ترتب له الزيجات، ولكنه رفض عرائسها، وفي أول يونيو 1775 تزوج الآنسة دكورسيل، وكانت فتاة غنية في السابع عشرة. وكتبت له جولي خطابات مفعمة بالحقد والاحتقار، مختتمة بتوكيدات الحب الذي لا يموت(128). وقد استطاعت طوال حمى غرامها كلها أن تخفي طبيعتها عن دالامبير، الذي خيل إليه أن سببها هو غياب مورا ثم موته. فرحب بجيبير في صالونها، وكون صداقة مخلصة معه، وكان يرسل بشخصه الرسائل المختومة التي تكتبها لعشيقها. ولكن لحظ أنها فقدت اهتمامها به، وأنها كانت أحياناً تستاء من وجوده. والواقع أنها كتبت لجيبير "لولا أنه يبدو عقوقاً بالغاً مني لقلت أن رحيل دالامبير يعطيني نوعاً من السرور. إن حضوره يثقل روحي. وهو يجعلني قلقة مضطربة النفس، فأنا أشعر أنني غير مستحقة أبداً لصداقته وطيبة قلبه.."(129) فلما ماتت كتب إلى "روحها" يقول:
"ليت شعري لأي سبب لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أحزره، تغير فجأة ذلك الشعور الذي كان من قبل غاية في الرقة نحوي...إلى شعور الغربة والنفور؟ ما لذي صنعت مما يسيء إليكِ؟ لمَ لم تشكِ إليّ إن كان لكِ مبرر للشكوى؟...أم أنكِ أيتها العزيزة جولي...قد أسأت إليّ إساءة أجهلها، وكان يحلو لي كثيراً أن اغتفرها لو علمت بها...لقد كنت عشرين مرة على وشك أن ألقي بنفسي بين ذراعيكِ، وأن أطلب إليكِ أن تخبريني ما جريرتي، ولكني خشيت أن تصدني هاتان الذراعان..."
"وظللت تسعة أشهر أترقب اللحظة التي أخبركِ فيها بما عانيت وما أحسست، ولكني وجدتكِ خلال تلك الشهور أضعف من أن تحتملي العتب الرقيق الذي كان عليّ أن أكاشفك به، واللحظة الوحيدة التي كان يمكنني فيها أن أكشف لك في غير خفاء عن قلبي المحزون الواهم هي تلك اللحظة الرهيبة، قبل موتك بساعات، حين سألتني الصفح عنكِ بطريقة مزقت نياط قلبي...ولكن عندها لم يعد فيكِ قوة لا للتحدث ولا لاستماع إليّ...وهكذا فقدتِ إلى الأبد لحظة العمر التي كانت ستكون لي أغلى اللحظات-اللحظة التي أخبرك فيها، مرة أخرى، كم أنتِ عزيزة عليّ، وكم شاطرتكِ بحبكِ، وما أعمق رغبتي في أن أنهي آلامي بكِ، وددت لو بذلت كل ما بقي لي من لحظات عمري لقاء تلك اللحظة الواحدة التي لن تتاح لي أبداً، تلك التي ربما كنت أستعيد بها حنانكِ إذ أكاشفكِ بكل ما في قلبي من حنان لك."
وساعد انهيار حلم جولي السل على الفتك بها، ودعي لعيادتها الطبيب بوردو (الذي التقينا به في قصة ديدرو "حلم دالامبير")، فصرح بأنه لا أمل في شفائها. ولم تبرح فراشها منذ إبريل 1776. وكان جيبير يذهب لزيارتها كل صباح ومساء. ولم يكن دالامبير يترك العناية بها إلا لينام. وكان الصالون قد توقف، لولا حضور كوندورسيه، وسوار، ومدام جوفران الطيبة، التي كانت هي ذاتها مشرفة على الموت. وفي أيامها الأخيرة أبت جولي أن تسمح لجيبير بزيارتها، لأنها لم تشأ أن تدعه يرى كيف شوهت التشنجات وجهها؛ ولكنها كانت ترسل العديد من الخطابات، وأكد لها هو أيضاً حبه: "لقد أحببتكِ من اللحظة الأولى التي التقينا فيها، أنكِ أغلى عندي من كل شيء في هذه الدنيا."(131) وكان هذا، ووفاء دالامبير الصامت، وقلق أصدقائها عليها، العزاء الوحيد لها في آلامها. وكتبت وصيتها، التي عينت دالامبير منفذاً لها، وعهدت إليه بكل أوراقها وأمتعتها الشخصية.
وجاء أخوها المركيز دفيشي من برجندية، وألح عليها في أن تتصالح مع الكنيسة وكتب إلى الكون دالبون "يسعدني أن أقول لك إنني أقنعتها بأن تتناول القربان على الرغم من "الموسوعة" كلها، وفي مواجهتها"(132).
وأرسلت كلمة أخيرة إلى جيبير: "يا صديقي، أنني أحيك...وداعاً" وشكرت دالامبير على وفائه الطويل، وتوسلت إليه أن يغفر لها جحودها، وماتت في تلك الليلة، في الساعات الباكرة من يوم 23 مايو 1776. ودفنت في اليوم نفسه، في كنيسة سان-سولييس، "دفن الفقراء" كما رغبت في وصيتها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الهامش
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.