البنائية (الفنون)
البنائية Constructivisme نزعة في الفن التشكيلي، ظهرت في روسية في بداية القرن العشرين، وذلك بعد قيام ثورة أكتوبر السوفييتية التي كان روادها قد وضعوا تصوراً لمجتمع جديد، يسوده مفهوم جديد للعدالة الاجتماعية. وتبنت جماعة من الفنانين الطليعيين آنذاك هذه الرؤية، فبدؤوا بالبحث عن أشكال جديدة لفن يسهم في تكوين ذاك المجتمع. تعود البنائية في أصولها إلى النزعتين التكعيبية[ر] والمستقبلية[ر] في التصوير والنحت، أسسها فلاديمير تاتلين[ر] (1875-1953) Vladimir Tatlin، الذي كان متأثراً بأفكارالنزعتين المذكورتين. وقد شرح الكاتب والناشر الفني الفرنسي هنري كانوايلر Henry Kahnweiler التكعيبية بقوله: «بناء مستويات على نسق «سقالة البناء»، بحيث تجعل الضوء يعزز الشعور بصلابة البناء لا أن يضعفه أو يمحوه». ويقول بيكاسو[ر] في هذا الصدد: «أود أن أرسم الأشياء بشكل يستطيع المهندس أن يبنيه اعتماداً على لوحاتي». كان بيكاسو يرغب في تنظيم التشكيل ببرمجة عقلانية مثل عمل الآلة المبرمج، لكنه شعر، في الوقت نفسه، بأن العصر في حاجة إلى نوع من الفن السحري أو فن اللاوعي، مؤاساة روحية للإنسان المثقل بالآلية، ولذلك لم يُلزم نفسه بجعل الآلة معبوداً رمزياً، لكنه تنبأ بتطور سريع للفن التشكيلي مع تطور الثورة الصناعية التي ولدت الهندسة التي أسهمت في التطور الصناعي. وقد يكون المستقبليون هم أول من تقبل عصر الآلة مثالاً جمالياً، لكنهم قدّسوا مفاهيم السرعة والقوة التي تمثلها الآلة أكثر مما قدروا نتائجها الفعلية. وبعد عام 1914 حاولت جماعة من الفنانين الطليعيين في موسكو أن تطبق التقانات والمفاهيم الهندسية على «البناء التشكيلي»، وبذا أُطلق على أعمالهم في هذا المجال اسم «بنائيات».
كان أبرز دعاة هذا التطور الجديد فلاديمير تاتلين، المصوّر أصلاً. وقد يعزى التأثير الكبير في النزعة البنائية لرواد الفن في فرنسة، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة إلى مجموعات اللوحات التي اقتناها من فرنسة جامع اللوحات الروسي سيرغي شيشكين، الذي هيأ لفناني موسكو معرفة آنية بالحركات الرائدة في باريس. وكان تاتلين قد التقى بيكاسو عام 1913 في باريس وشاهد منحوتاته واستلهمها. وكان بيكاسو يصنع تلك المنحوتات من صفائح المعدن والخشب والورق المقوّى على هيئة أشكال نافرة Reliefs، تمثل غيتارات موسيقية وأقداح خمر، ولكن تاتلين بنى طبقاته النافرة بعد عودته إلى موسكو من غير ذلك الحافز التشبيهي، بل كانت أعماله تمثل بنائيات تجريدية محضة. والحق أن تاتلين استمد شيئاً من بيكاسو وصار من أتباع المستقبليين الإيطاليين. أما الفنان البنائي الآخر كازيمير ماليفتش[ر] (1878-1935) Kazimir Malevitch فقد بدأ باستنباط نظريته في التجريد الهندسي التي أطلق عليها اسم Suprématisme أي مذهب الأوجيّة[ر]، ومن الجائز أن يكون تاتلين وماليفتش قد اطلعا على البيان المستقبلي الذي أصدره المصور والنحات الإيطالي أومبيرتو بوتشيوني[ر] (1882-1916) Umberto Boccioni في نيسان 1912 ودعا فيه إلى استعمال الزجاج والخشب المقوّى والإسمنت في الأعمال الفنية، إضافة إلى شعر الحصان والجلد والقماش والمرايا والمصابيح الكهربائية. ألف تاتلين وماليفتش في موسكو مع كاندينسكي[ر]، والأخوين بفسنر[ر] أنطوان بفسنر Antoine Pevsner ونعوم غابو (1890-1977) Naum Gabo تجمعاً دعوا فيه إلى الفكر البنائي في الفن، ما لبث أن انتشر في أنحاء العالم. وانضم إلى البنائيين الكسندر رودشنكو (1891-1956) Alexandre Rodchenko الذي تقرب من الثورة السوفييتية وارتبط بها، وكان كذلك وجهاً طليعياً بين فناني أوربة فيما بين الحربين العالميتين. وقد جعله انتماؤه المزدوج للبحث الفني المعاصر وللثورة يعيش جدلية العلاقة بين الفن والمجتمع، الأمر الذي استدعى تجديده لذاته بلا هوادة، ولجأ إلى استغلال القدرات القصوى للخامات المتعددة التي قامت تجاربه عليها في لوحاته ومنحوتاته. تشتت الفنانون الروس بعد عام 1922، وانتقلت الفكرة البنائية بسبب هذا التشتت إلى خارج روسية، إلى أوربة وأمريكة إذ حاز الأخوان بفسنر وغابو شهرة جعلت بفسنر فرنسياً وغابو أمريكياً. وكان الأخوان أنطوان بفسنر وغابو على صلة بالتكعيبيين، وفي عام 1924 أقاموا معرضاً مشتركاً في باريس، واحتلوا مركزاً مرموقاً في جماعة «التجريد والإبداع» Abstraction Creation. وكان غابو في أثناء إقامته في برلين عام 1922 شارك إل ليسيتزكي (1890-1941) EL Lissitzky وإيليا أرنبورغ[ر] في تحرير مجلة بنائية للفنون حملت اسم «الشيء» Object، وصدرت بثلاث لغات هي الروسية والفرنسية والألمانية، وتضمنت أعمالاً لفنانين بنائيين مثل ليجيه[ر] (1880-1955) Fernand Leger ولوكوربوزييه[ر] (1887-1965) Ch. Edward J.Le Corbusier من فرنسة وهانس ريختر (1888-1976) Hans Richter من ألمانية وموهولي ـ ناغي[ر] (1895-1946) Laszlo Moholy-Nagy من هنغارية. وأقيم مؤتمر للبنائيين في دوسلدورف في عام 1922، ومنذ ذلك الحين أضحت البنائية حركة أوربية، تَعَززت بفضل إسهام عدد من فناني مدرسة «الباوهاوس»[ر] Bauhous البنائيين، المدرسة التي أسسها فالتر غروبيوس[ر] (1883- 1969) Walter Gropius في مدينة فايمار عام 1919. وكان للفكر البنائي تأثيره في نتاج الهولندي موندريان[ر] (1872-1944) Piet Mondrian. ومما تجدر الإشارة إليه أن مؤتمر ستوكهولم للبيئة عام 1972، اقترح تدريس المهندسين أسس الفن التشكيلي، ليسهم المهندسون في تجميل البيئة، ويحافظوا على جمالها وتوازنها، ويسهموا كذلك في تربية الذوق الجمالي للحيلولة دون تدهور البيئة. واستعمل الفنانون، وعلى رأسهم بيكاسو، خامات البيئة التالفة في إعادة بناء نماذج وأشكال جميلة وضعت إلى جانب العمارة المعاصرة في الأماكن العامة، والمتاحف والمعارض.
عبد الكريم فرج
الموضوعات ذات الصلة:
ـ الأوجية (النزعة -) ـ الباوهاوس ـ بفسنر (الأخوان -) ـ تاتلين (فلاديمير-) ـ التجريد ـ التكعيبية ـ المستقبلية.
مراجع للاستزادة:
ـ هربرت ريد، «النحت الحديث، تاريخ موجز»، ترجمة فخري خليل (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1994). ـ آلان باونيس، «الفن الأوربي الحديث»، ترجمة فخري خليل (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1994).