أدب شعبي
الأدب الشعبي فنُّ القول الذي تنتجه جماعة شعبية. يتناقله أبناؤها بوصفه ذخيرة مشتركة مشاعة بينهم. وهو أحد فنون التعبيرات الفنية الشعبية التي هي، بدورها، فرع من التراث أو المأثورات الشعبية.
حدود المصطلح. لا يصبح القول أدبًا إلا إذا صيغ صياغة فنية؛ أي حكَّمت هذا القول معايير فنية، وكان له ضوابط في التركيب، واتخذ شكلاً تقره الذائقة الجمالية المشتركة بين أبناء الجماعات الشعبية الذين يتناقلونه.
ولا يكتسب الأدب صفة الشعبية، إلا إذا كان صادرًا عن جماعة شعبية معينة، بمعنى أن يكون هذا الأدب منتميًا إلى الذخيرة الإبداعية المحفوظة لجماعة شعبية، وأن تكون هذه الجماعة هي التي تتداول إبداعاته، ويتناقله أبناؤها باعتباره ملكًا مشاعًا بينهم، ويتبنونه ويحافظون عليه بوصفه معبرًا عن قيمهم ومثلهم ورؤاهم المشتركة. ==مقوّمات الأدب الشعبي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجماعية
المقوم الأساس للأدب الشعبي هو كونه جمعيًا. فكون هذا الأدب صادرًا عن الجماعة الشعبية يؤثر في طبيعته وتركيبه وخصائصه المميزة. وجماعية الأدب الشعبي تباين فردية الإنتاج الأدبي الذي يؤلفه أفراد يعبرون عن ذواتهم ورؤاهم الخاصة، حتى وإن تناولوا موضوعات ذات طابع اجتماعي، وسواء ألفوا باللغة الفصحى أم باللهجة العامية.
وجماعية الأدب الشعبي لا تعني أن نشوء أي نص من نصوصه يتم بوساطة كل أبناء الجماعة الشعبية مجتمعين. فالصورة الأولى من أي نص تظهر ـ عادة ـ بمبادرة من أحد أبناء الجماعة الشعبية الموهوبين. ولكن هذه الصورة الأولى من النص، عندما تلقى قبولاً ويتداولها سائر أبناء الجماعة الشعبية، تمر بعمليات متوالية من التعديل، بالحذف والإضافة والصقل. وهي تنتقل من راوٍ إلى آخر، ومن فئة إلى فئة، ومن جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان. ولا ترجع عمليات التعديل إلى آلية النسيان أو ضعف الذاكرة البشرية عن الحفظ التام للنصوص، بقدر ما ترجع إلى فاعلية الذائقة الجماعية، وأثر القيم المشتركة ودور المصالح والرؤى الجماعية التي لاتنفك تحدث آثارها على الصورة الأولى للنصوص. ونتيجة لهذا، تتحول الصور الأولى للنصوص إلى صور جيدة مغايرة، تمثلت الوجدان الشعبي وتشربت قيم الجماعة ورؤاها. وهذه النتيجة هي أحد أسباب احتفاء باحثي الأدب الشعبي بالصور المتغيرة والروايات المتعددة للنصوص نفسها، وانشغالهم بها عن البحث عن الصورة الأولى أو النص الأم، اللهم إلا بقصد الكشف عن البعد التاريخي للنص. كما كانت هذه النتيجة أحد أسباب اختلاف نظرتهم إلى دور المؤلف، سواء كان معلومًا أو مجهولاً، وانشغالهم بدور الراوي والجمهور المشارك في أداء النص.
الشفهية
تتم عمليات إنشاء نصوص الأدب الشعبي وروايتها وحفظها بالطريق الشفهي، دون اعتماد على التدوين والكتابة في معظم الحالات التقليدية. والمشافهة، بالنسبة للأدب الشعبي، ليست مجرد وسيلة لتناقل النصوص، ولا هي مجرد قناة تمر منها النصوص وتعبر، بل هي عامل مؤثر في تكوين النصوص وصياغتها، تسمها بميسمها. ومن ثم برزت من بين الخصائص الأسلوبية لنصوص الأدب الشعبي خصائص بعينها تتوافق مع شفهيتها؛ مثل شيوع التكرار، والميل إلى تحوير الكلمات واللعب بها، والاستقلال النسبي لوحدات هيكلها البنائي، واعتماد منطق التصوير الفني فيها على التراوح بين الإلماح والتفصيل، والارتكاز على الإشارات المختزلة سواء إلى التصورات المرجعية أو إلى المظاهر الواقعية.
ونتيجة لبروز السمة الشفهية للأدب الشعبي، وظهورها الواضح على سطح تداوله وروايته، ظن بعض الدارسين المعاصرين أن الشفهية هي مقوم الأدب الشعبي الوحيد، أو على الأقل المقوم الأساس، لذا آثروا استخدام الأدب الشفهي وفضلوه على مصطلح الأدب الشعبي، مؤكدين تمايزه عن الأدب المكتوب.
وعلى كل حال، وسواء اتفقنا بالكامل أو جزئيًا مع هذا الرأي أو لم نتفق، يبقى لهذا الاتجاه ميزة تأكيده على أن أدبية الأدب لا تنتج عن كونه مكتوبًا أو شفهيًا، وإنما تنتج عن فنِّيته، وأن شفهية نصوص الأدب الشعبي لا تنتقص من أدبيتها.
العراقة
لا يصبح النص الأدبي الشعبي شعبيًا بالمعنى الدقيق، إلا إذا تبنته الجماعة الشعبية. ولن يتأتى هذا التبني إلا بعد أن يتم تقبل النص وتداوله. وخلال ذلك، يتم تعديله وصقله وفق تقاليد الجماعة الشعبية وذائقتها ورؤاها. وهذه العمليات تحتاج إلى قدر من الزمن إلى أن يستوي (ينضج) النص متفاعلاً مع معايير الجماعة وقيمها. وبسبب هذا، اشترط دارسو الأدب الشعبي مرور زمن مناسب على تداول النص، وتواتر أدائه، لكي يطمئنوا إلى تمام سيرورته، ويتثبتوا من تبني الجماعة الشعبية له.
ولأن المأثور الشعبي ـ بما فيه نصوص الأدب الشعبي ـ هو ديوان الجماعة الشعبية، وهو سجل منجزاتها الثقافية وحصيلة خبرتها ومعارفها، فإن مكوناته تحفل بأصداء ما اكتنزته الذاكرة الجمعية، وما بقي ساريًا من حصيلة هذه الخبرة المتراكمة، وما ظل متصل الحضور من منجزاتها. ومن هنا نفهم السبب في وفرة ما تحمله نصوص الأدب الشعبي من إشارات إلى الرصيد الثقافي للجماعة، فضلاً عن وفرة العناصر والمكونات التي تستمر في الوجود وتواصل حضورها عبر الزمن.
إن إدراكنا لدور البعد الزمني وفاعلية الذاكرة الجمعية في صياغة نصوص الأدب الشعبي يجعلنا نفهم طبيعة هذه النصوص فهمًا أرشد وما يسمها من عراقة. ولعل أولى نتائج هذا الإدراك تغيير تلك النظرة التي استمرت طويلاً تنظر إلى نصوص الأدب الشعبي على أنها بقايا أثرية من عهود سالفة، أو على أنها تنتمي وحسب، إلى عالم الأولين الذي مضى وانقضى. بينما نحن نعرف الآن أن نصوص الأدب الشعبي المنقولة عن رواية شفوية هي نتاج زمن روايتها، مهما كان في هذه النصوص من طبائع الزمن السابق أو ملامح لعروق مدها التواصل الثقافي مع العهود الماضية. فمهما كان في نصوص الأدب الشعبي من أصداء للخبرة الجمعية الماضية، فإن الصوت الجلي الموجود فيها هو صوت الخبرة الجمعية الحاضرة.
الامتزاج
لا تُنْتَج مكونات المأثور الشعبي، ومن بينها نصوص الأدب الشعبي، ولا تُؤَدَّى كنشاط مستقل أو كفاعلية مقصودة لذاتها، كما هو معهود في مجالات الثقافة الرسمية وفنونها وآدابها، وإنما يتم إنتاج مكونات المأثور الشعبي وأداؤها في أثناء ممارسة أبناء المجتمع الشعبي لمشاغل معاشهم ووقائع حياتهم. ومهما تمايزت جوانب من مكونات المأثور الشعبي، فإنها تظل وجهًا من وجوه العمل في حياة الجماعة الشعبية، ومظهرًا من مظاهر تحقيقها لوجودها. وفي العادة، لا تظهر مكونات المأثور الشعبي إلا متداخلة مع ممارسة من ممارسات الحياة الجماعية وممتزجة بها.
هذا الامتزاج لا ينطبق على تداخل مكونات المأثور الشعبي مع مناشط حياة الجماعة الشعبية فحسب، بل إنه يمتد إلى التداخل بين مكونات المأثور الشعبي نفسها، وإلى امتزاج أداء مظاهرها بصورة متزامنة. ومن الشواهد الواضحة على هذا امتزاج أداء الشعر وتزامنه مع الإيقاع الموسيقي والغناء، ومع التعبير التشكيلي بالتزين بزينة مخصوصة، ومع التعبير الحركي، وذلك عند أداء رقصة تقليدية. وترتبط الرقصة، بدورها، بسياق احتفالي أو مناسبة شعائرية جماعية، لها وظيفتها في حياة الجماعة الشعبية.
كما أن الامتزاج لا يحدث فقط بين مكونات المأثور الشعبي والممارسات الجماعية، ولا يتم بين فروع المأثور الشعبي فحسب، وإنما يجري الامتزاج أيضًا داخل كل فرع من هذه الفروع بين أنواعها وأجناسها. والشاهد على ذلك ما يجري من امتزاج في فرع الأدب الشعبي نفسه، بين أنواعه وأشكاله وعناصره. ومثال ذلك ما يتم من دخول الشعر في بعض أشكال السرد القصصي، وتحرك مقاطع شعرية بين غناء العمل والرثاء والغزل رغم تباعد المجالات.
وإدراك أثر خصوصية الامتزاج المتراكب في مكونات المأثور الشعبي، هو ما يدفع إلى التنبيه إلى مبدأ منهجي ينبغي مراعاته عند التعامل مع نصوص الأدب الشعبي. ويقوم هذا المبدأ على التعامل مع أي نص أدبي شعبي باعتباره جزءًا متكاملاً مع سياقه الأدائي، لا يجوز انتزاعه ولا التعامل معه كنص لغوي وحسب، ولا ينبغي النظر إليه كظاهرة أدبية معزولة ذات وجود مستقل. ==تصنيف الأدب الشعبي
تمتاز نصوص الأدب الشعبي بالوفرة الهائلة، الأمر الذي يجعل التعامل معها وتفهم خصائصها صعبًا، دون القيام بتقسيمها إلى فروع وتصنيفها في أنواع فنية. وقد قام دارسو الأدب الشعبي بجهد متواصل لإتمام هذه العملية التصنيفية وفق أسس منهجية مراعين خصائص نصوص الأدب الشعبي وسماتها المشتركة. وإذا تركنا التصنيفات التخصصية التي يأخذ بها الباحثون المتخصصون، ووقفنا عند أيسر هذه التصنيفات وأكثرها شيوعًا، سنجد أن عامل امتزاج الظواهر الشعبية، بين مقومات الأدب الشعبي، يظهر على السطح مهيمنًا على تفريع التصنيف وتحديد الأنواع والأشكال؛ إذ يرتكز محور عملية التصنيف على السياق الذي يُؤَدَّى فيه كل نوع، ويدور حول المناسبة التي يُروى فيها. وهو ما يتضح من التصنيف الشائع التالي:
الأنواع الشعرية
وهي تشمل: 1- أغاني العمل. وهي الأغاني المرتبطة بأنواع العمل ومراحله المختلفة. 2- أغاني البيت. وهي ما يتم ترديده عند هدهدة الأطفال أو تنويمهم أو ملاعبتهم. 3- أغاني الصبية. وهي الأغاني المصاحبة لألعاب الصبية وتجمعاتهم. 4- أغاني الأعراس، وتؤدّى في أثناء مراحل العرس وإجراءاته المختلفة. 5- أغاني السمر. وهي الأغاني المصاحبة للتعبير الحركي وتبادل المسامرة. 6- أشعار السمر، ويتم ترديدها خلال مجالس السمر، مثل القصائد البدوية وأشعار القبائل. 7- الشعر القصصي المُغنّى، ويُروى في تجمعات المناسبات، وخاصة الدينية منها. 8- أشعار السير الشعبية، ويتم ترديدها في جلسات الاستماع، سواء في رواياتها النثرية أو في صياغاتها الشعرية.
الأنواع النثرية
وهي تشمل: 1- قصص البيوت والأسرة، وتُروى للسمر البيتي وتنويم الصغار، مثل السبحونة ونحوها. 2- قصص مجالس السمر، وتتواتر في مجالس الكبار بوصفها تاريخًا أو أمثولة للاعتبار أو القياس. 3- السيرة الشعبية، وترتبط روايتها بمجالس مخصوصة ومناسبات محددة. 4- النوادر الشعبية. 5- الألغاز الشعبية. 6- الأمثال الشعبية.
ومن الواضح أن الأنواع الثلاثة الأخيرة لا تُؤدَّى على انفراد، وإنما تؤدى في تجمعات لتقوم بوظائف بعينها يتوقعها المشاركون.