پوليزيانو
أنجلو أمبروجيني Angelo Ambrogini المشهور بكنيته، التي تؤنگل إلى پوليتيان Politian، الإيطالية پوليزيانو Poliziano، اللاتينية پوليتيانوس Politianus[1] (من مسقط رأسه، مونتهپولچيانو، باللاتينية مونز پوليتيانوس Mons Politianus) (عاش 14 يوليو 1454 - 24 سبتمبر 1494) كان باحثاً كلاسيكياً وشاعراً فلورنسياً إيطالياً، وأحد محيي اللاتينية الإنسانية. وقد استخدم قصيدته التعليمية مانتو Manto، المكتوبة في عقد 1480، كمقدمة لمحاضراته عن ڤرجيل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السيرة
أفاد أدباء فلورنسا من عونه ومثلهن فأخذوا يزيدون في كل يوم ما يكتبونه باللغة الإيطالية، وأخرجوا على مهل اللغة التسكانية الأدبية التي أضحت نموذجاً ومثلاً تحتذيه شبه الجزيرة كلها. ويصفها فاركي Varchi المتحمس لوطنيته: » بأنها ليست أحلى واغنى لغات إيطاليا وأكثرها ثقافة فحسب، بل إنها تفوق في هذا كله جميع اللغات المعروفة في هذه الأيم(12)«.
وبنما كان لورنزو يحيي الأدب الإيطالي، كان في الوقت عينه يواصل في جد وحماسة مشروعا جده فيجمع كا ما يستطيع من الكتب الأدبية اليونانية والرومانية القديمة ليفيد منها العلماء في فلورنس. من ذلك أنه بعث بوليتيان وجون لاسكارس John Lascaris إلى كثير من المدن في إيطاليا وخارجها لشراء المخطوطات القديمة، وقد جاء لاسكارس من دير واحد عند جبل آثوس بمائتي مخطوط، منها عشرون لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في أوربا الغربية. ويقول بوليتيان إن لورندسو كان يود لو سمح له بأن ينفق كل ثروته، بل ويرهن أثاث بيته ليبتاع الكتب. وكان يستأجر النساخين لينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات، ويجيز في نظره ذلك لغيره من المولعين بجمع الكتب أمثال ماثياس كورڤينوس Matthias Corvinus ملك المجر وفد ريجو Federigo دوق أربينو أن يرسلوا نساخين من عندهم ليعيدوا نسخ ما في مكتبة آل ميديتشي من مخطوطات.. وقد ضمت هذه المجموعة بعد موت لورنزو إلى المجموعة الأخرى التي وضعها كوزيمو من قبل في دير سان ماركو، وكانت المجموعتان تضمان في عام 1495 تسعة وثلاثين والف مجلد منها ستون وأربعمائة باللغة اليونانية. وخطط ميكل أنجلو فيما بعد داراً فخمة لهذه الكتب، وأطلق عليها الخلف أسم لورندسو فسماها المكتبة اللورنتيانية Bibliotheca Laurentiana. ولما أنشأ برناردو تشينيني Bernardo Cennini مطبعة في فلورنس (1471)، لم يسخر لورندسو من الفن الجديد، كما سخر منه صديقه بوليتيان أوفد ريجو دوق أربينو، بل يبدو أن ما سوف يتمخض عنه نظام الحروف المتنقلة من إمكانيات، واستخدم العلماء لمقابلة النصوص المختلفة حتى تطبع الكتب القديمة بأعظم الدقة المستطاعة في ذلك الوقت. وشجع ذلك بارتولوميو دي لبري Bartolommeo di Libri فطبع النسخة الأصلية من مؤلفات هومر (1488) برعاية العالم المدقق دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondyles، وكذلك أصدر جون لاسكارس النسخة الأصلية من مؤلفات يوربديز (1494)، والمختارات الشعرية اليونانية، ومؤلفات لوتشيان Lucian، وطبع كرستوفورو لندينو Cristoforo Landino أشعار هوراس (1482)، وڤرجيل، وپلني الأكبر، ودانته، وكانت لغة هؤلاء الثلاثة وإشاراتهم تحتاج في هذا الوقت إلى شيء من الإيضاح. وفي وسعنا أن نستشف روح ذلك العصر إذا عرفنا أن فلورنس كافأت كرستوفورو على أعماله العلمية بأن أهدت إليه بيتاً فخماً.
وهرع العلماء إلى فلورنسا بعد أن أغراهم بذلك اشتهار آل مديتشي وغيرهم من أهل فلورنسا بما يغدقونه عليهم من الهبات، واتخذوا هذه المدينة عاصمة الثقافة الأدبية. وكان من هؤلاء العلماء ڤسپازيانو دا بستتشي Vespasiano da Bisticci الذي كان يعمل بائعاً للكتب وأميناً للمكتبات في فلورنسا، وإربينو، وروما، ثم ألف سلسلة بليغة محكمة في سير أعيان الرجال خلد فيها أسماء كتاب ذلك العصر وأنصار العلم فيه. وأراد لورنزو أن ينمي التراث الذهني للوع البشري وينقله إلى الأجيال القادمة فأعاد إلى الوجود الجامعة القديمة في بيزا والمجمع العلمي الأفلاطوني في فلورنسا ووسع نطاقهما. ولم يكن مجمع فلورنس العلمي كلية رسمية بل كان هيئة من العلماء المولعين بفلسفة أفلاطون، يجتمعون في فترات غير منتظمة في قصر لورنزو بمدينة فلورنسا أو في قصر فتشينو الريفي في كارِگي Careggi، ويطعمون معاً، ويقرءون بصوت عال محاورة من محاورات أفلاطون أو أجزاء منها، ثم يتناقشون فيما تحتويه من آراء فلسفية. وكان المجمع يحتفل باليوم السابع من نوفمبر، وهو الذي يزعمون أن أفلاطون ولد ومات فيه، احتفالا لا يكاد يقل روعة ومهابة عن الاحتفالات الدينية، فكانوا يتوجون بالأزهار تمثالا نصفياً يعتقدون أنه تمثال أفلاطون، ويوقدون أمامه مصباحاً كما توقد المصابيح أما صور الآلهة. وقد اتخذ كرستوفورو من هذه الاجتماعات أساساً للحديث الخيالي الذي سماه جدل الكملدولينين Disputationes Camaldulenses (1468) وذكر فيه كيف زار هو وأخوه دير الرهبان الكملدولينين، والتقى فيه بالشابين لورنزو وجوليانو ده مديتشي، وليون باتستا ألبرتي وستة آخرين من علية أهل فلورنس، وكيف كانوا يضطجعون على الكلأ قرب عين ماء جارية، ويوازنون بين حياة المدينة المسرعة القلقة، وسكنى الريف الصحي الجميل، وبين حياة النشاط وحياة التأمل والتفكير، وكيف كان ألبرتي يمتدح حياة التفكير الريفي، بينما كان لورندسو يقول إن العقل الناضج يؤدي أكمل وظيفته ويجد أعظم ما يرضيه في خدمة الدولة وفي تجارة العالم(13). وكان بين من يحضرون مناقشات المجمع العلمي الأفلاطوني بوليتيان، وبيكو دلا ميرندولا ومرسيليو فيتشينو Marsilio Ficino وقد بلغ من إخلاص مرسيليو للمهمة التي ندبه لها كوزيمو أن خصص حياته كلها تقريباً لترجمة أفلاطون إلى اللغة اللاتينية، ولدراسة الأفلاطونية، وتعليمها، والكتابة عنها. وكان في شبابه وسيم الخلق إلى درجة جعلت عذارى فلورنسا يشغفن به حباً. ولكن عنايته بهن كانت أقل من عنايته بكتبه، وقد ضل عن دينه وقتاً ما، وخيل إليه أن الأفلاطونية أسمى من الدين قدراً، وكان يلقب طلابه »بأحبائه في أفلاطون« بدل »أحبائه في المسيح«(14)، وكان يحرق الشموع أمام تمثال نصفي لهذا الفيلسوف، ويمجده كما يمجد القديسين(15)، ولم تكن المسيحية وهو في هذه النشوة تبدو له إلا أنها أحد الأديان الكثيرة التي تخفي كثيراً من عناصر الحق في طيات عقائدها المجازية وطقوسها الرمزية، وظل كذلك حتى ردته كتابات القديس أوغسطين، وشكر الله على شفائه من مرض خطير، إلى الإيمان بالدين المسيحي، وبلغ من شدة إيمانه أن أصبح قسيساً حين بلغ سن الأربعين، ولكنه ظل مع ذلك متحمساً للأفلاطونية، يقول إن سقراط وأفلاطون قد جاءا بعقيدة للتوحيد لا تقل نبلا عما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وأنهما هما أيضاً ق نزل عليهما الوحي نزولا مصغراً، كما نزل في الواقع على جميع الناس الذين يخضعون لحكم العقل. وحذا لورنزو وبعض الكتاب الإنسانيين حذوه فسعوا إلى تفسير الدين المسيحي تفسيراً يقبله الفيلسوف دون أن يعملوا على استبدال دين جديد بهذا الدين. وظلت الكنيسة جيلاً من الزمان أو جيلين (1447-1534) تبتسم لهذه المخاطرة وتتسامح مع القائمين بها حتى جاء ساڤونارولا وشنع بها وقال إنها خداع وتضليل. وكانت الشخصية الساحرة الجذابة التي لا يعلو عليها إلا لورنزو نفسه هي شخصية الكونت جوفاني بيكو دلا ميراندولا. وكان بوليتيان يعجب ببيكو إعجابا نبيلا كريماً، ويصحح شعره بعد أن يقدم لذلك أجمل اعتذار. على أن نجمه لم يلمع بالقوة والسرعة اللتين لمع بهما نجم بيكو، وإن كان أكثر منه نفاذاً إلى بواطن الأمور، وأعظم منه ثقافة وتهذيباً.
واتخذ أنجيلس باسوس Angèlus Bassus كما كان يسمى نفسه أول الأمر-أو أنجلو أمبروجيني Angelo Ambrogini كما كان يسميه بعضهم-اتخذ اسمه الذي اشتهر به اكثر من غيره من الأسماء من مونتي بولدسيانو Monte Poliziano في مؤخرة مدينة فلورنسا. ودرس اللاتينية بعد أن قدم إلى فلورنسا على كرستوفورو لندينو Cristoforo Landino كما درس اللغة اليونانية على أندرونيكوس سالونيكا Andronicus Salonica، والأفلاطونية على فتشينو، وفلسفة أرسطو على أرجيروپولوس Argyropoulos. وبدأ وهو في السادسة عسرة من عمره يترجم هوميروس إلى لغة يونانية قوية مليئة بالمصطلحات اللغوية إلى حد بدت معه وكأنها من أعمال العهد الفضي للشعر الروماني إن لم تكن من عهده الذهبي. ولما أتم ترجمة الكتابين الأولين بعث بالترجمة إلى لورندسو، فشجعه هذا الأمير- أمير أنصار الأدب والفن، اليقظ لكل ما يجده من جودة وامتياز-على الاستمرار في عمله، وأقامه في بيته واتخذه معلماً خاصاً لأبنه بيرو، وأمده بكل ما يحتاجه. ولما تحرر بوليتيان بفضل هذا العون من كل عوز أحذ ينشر النصوص القديمة ومن بينها قوانين جسفتيان وأظهر فيها من غزارة العلم واصالة الحكم ما أكسبه ثناء العالم الأدبي كله. ولما نشر لندينو أشعار هوراس قدم لها بوليتيان بقصيدة تضارع في لغتها اللاتينية، وتركيب جملها، وأوزانها الشعرية المعقدة قصائد هوراس نفسه. وكان يستمع إلى محاضراته في الأدب القديم آل ميديتشي، وبيكو دلا مير ندولا، وطلبة من الأجانب- رويتشلن، وگروسين Grocyn وغيرهما- بعد أن ترددت فيما وراء الألب أصداء شهرته في العالم، والشعر، والخطابة بلغات ثلاثة. وكان من عادته في كثير من الأحيان أن يبدأ محاضرته بقصيدة لاتينية طويلة يقرضها لتلك المناسبة خاصة، وكان من هذه القصائد قصيدة جزلة جميلة النغم سداسية الأوتاد تروي تاريخ الشعر من هوميروس إلى بوكاتشيو. وكشفت هذه القصيدة هي وغيرها من القصائد التي نشرها بوليتيان بعنوان السلفيات عن اسلوب لاتيني سهل، سلس، فياض، قوي الخيال إلى حد جعل الكتاب الإنسانيين ينادون به أميراً عليهم على الرغم من صغر سنه، وسرهم أن اللغة النبيلة التي كانوا يأملون إعادتها قد علمها بوليتيان تعليما بعث فيها الحياة من جديد. وقد جعل بوليتيان من نفسه كاتباً لاتينياً من طراز الكتاب اللاتين الأقدمين، غير أنه مع ذلك أصدر في يسر وخصب إنتاج طائفة متتابعة من القصائد باللغة الإيطالية لا نجد لها نظيرا في كل ما كتب بين بترارك وأريوستو، فلما أن فاز جوليانو أخو لورنزو في مثاقفة أقيمت عام 1475 وصف بوليتيان هذه المثاقفة في قصيدة مثمنة الأوتاد، رخيمة النغم، رشيقة العبارة، ثم امتدح في قصيدته سيمونتا الحسناء جمال حبيبة جوليانو الأرستقراطي بشعر بليغ عذب جعل شعر الغزل الإيطالي من ذلك الوقت ينمو نمواً جديداً في رقة اللفظ وقوة الشعور. ويصف بوليتيان على لسان جوليانو خروجه إلى الصيد والتقائه بسيمونتا وغيرها من الفتيات يرقصن في الحقل فيقول:
وجدت الحورية الحسناء التي ألهبت قلبي بنار الحب
ذات مزاج لطيف، نقي، فطين تقف وقفة رشيقة، يشع منها الحب والأدب، والقداسة، والحكمة، والظرف، وجهها القدسي حلو رقيق. تفيض منه البهجة وتتمثل في عينيها السماويتين جنات الخلد؛ وكل ما نتمناه نحن الخلائق الفانين المساكين من نعيم؛ وقد أرسلت من رأسها الملكي وجبينها الوضاء غدائر ذهبية تساقط مسترسلة في بهجة وحبور؛ وأخذت الحسناء تسير بين المغنيين، وقد انتظمت خطاها ونسقت على وقع الأنغام الشجية وأرسلت إلىَّ من عينيها خلسة، وهما لا تكادان ترتفعان عن بساط الحقل، شعاعاً قدسياً مختلساً وكأن شعرها قد دبت فيه الغيرة مني، فسد طريق هذا الشعاع الوضاء وحجبه عن ناظري ولكنها، وهي التي ولدت ونشأت في السموات العالي لتثني عليها الملائكة الكرام، لم تكد ترى هذا الظلم حتى رفعت بأنقى يد وأنصعها غدائرها العاصية، وتبدت لي بطلعتها الرقيقة الحلوة، ثم أرسلت من عينيها نظرة حادة ملتهبة من نظرات الحب القوية، وقعت على عيني فألهبتها، حتى لم أدر كيف نجوت من الاحتراق بذلك اللهيب |
وانشأ بوليتيان في حب معشوقته إبوليتا ليونتشينا Ippolita Leoncina أغاني غرامية أوفت على الغاية في الرقة والحنان، ثم أطلق العنان للأنغام التي كان يفيض بها قلبه فأنشأ أغاني مثلها يتخذ منها أصدقاؤه رقى يتخلصون بها من حيائهم. ولم يفته حفظ أقاصيص الفلاحين الشعرية، فلما حفظها صاغها من جديد في صورة أدبية مصقولة، ثم انتقلت في صورتها الجديدة إلى الشعب وذاعت بين أفراده، ولا تزال لها أصداء تتردد في تسكانيا إلى يومنا هذا، وقد وصف في قصيدته حبيبتي السمراء فتاة ريفية حسناء تغسل وجهها وصدرها عند ماء، وتتوج شعرها بالأزهار»وكان ثدياها كورد الربيع، وشفتاها حمراوين كالورد«، وذلك بوصف قديم لا يمل الإنسان سماعه. وأراد بوليتيان أن يؤلف من جديد بين التمثيل، والشعر، والموسيقى والغناء، كما حدث في مسرح اليونان الديونيسي، فوضع في يومين أثنين، كما يؤكد هو ويقسم، مسرحية غنائية في 434 بيتاً غنيت للكردنال فرانتشسكو جنزاجا Francesco Gonzaga في منتوا (1472). وقد سماها قصة أورفيوس وتحدث فيها عن موت يوريديس Eurydice زوج أورفيوس، وكيف ماتت من عضة ثعبان، حين كانت تحاول الهرب من راع هام بحبها، وكيف اتخذ أورفيوس البائس المسكين طريقه إلى الجحيم، وسحر بلوتو بقيثارته فلم يسمع إله العالم السفلي إلا أن يعيد له يوريديس على شريطة ألا ينظر إليها حتى يخرج من الجحيم كله، فاختطفت منه وأعيدت من فورها إلى الجحيم، وحيل بينه وبين تعقب خطاها. وأثر ذلك في أورفيوس وتملكته نوبة من الجنون فكره النساء كلهن، وأوصى الرجال بأن يغفلوا النساء، ويشبعوا أنفسهم بالغلمان كما أشبعها زيوس بجانيميد. واستشاطت مينادات (أرواح) الغاب غضباً من احتقاره النساء، فانهلن عليه ضرباً حتى فارق الحياة، وسلخن جلده، ومزقن أطرافه من جسمه، وأخذن يغنين وهن مبتهجات لانتقامهن منه. وقد ضاعت الموسيقى التي كانت تصاحب الشعر، ولكن في وسعنا أن نضع ونحن آمنون مسرحية أورفيوس بين أولى المسرحيات التي تبشر بظهور المسرحيات الغنائية الإيطالية.
وكاد بوليتيان أن يصبح من الشعراء العظام، ولكنه لم يبلغ من هذه المرتبة لأنه تجنب مساقط العواطف الثائرة، ولم يتعمق أغوار الحياة أو الحب، فهو ساحر على الدوام غير عميق على الإطلاق، وكان حبه للورنزو أقوى ما عرف من المشاعر، وكان يقف إلى جانب راعيه ونصيره عند مقتل جوليانو في الكنيسة، وكان هو الذي أنقذ حياة لورندسو بإغلاق أبواب غرفة المقدسات وإحكام مزاليجها في وجه المتآمرين، ولما عاد لورندسو من رحلته الخطرة إلى نابلي حياه يوليتيان بأبيات من الشعر تشف عن حب يكاد يزري به وبسيده، ولما مات لورندسو حزن عليه يوليتيان حزناً يجل عن العزاء، ثم أخذ غصنه يذبل شيئاً فشيئاً حتى مات بعد عامين من وفاته في ذلك العام المشئوم الذي مات فيه بيكو عام 1494 عندما كشف الفرنسيون إيطاليا.
إيطاليا ذاك الزمان
وإذا كانت جماعة لورنزو قد استطاعت أن تنتج هذه الآداب المتنوعة في جيل واحد، فإن من حقنا أن نظن-وسنجد في واقع الأمر- أن يقظة مثل هذه اليقظة قد وجدت في مدن أخرى غير فلورنس-في ميلان، وفراراً، ونابلي، وروما. والحق أن إيطاليا كانت قد أتمت المرحلة الأولى من نهضتها وتجاوزتها إلى المرحلة التالية، فقد أعادت كشف بلاد اليونان القديمة، ووضعت المبادئ الأساسية للدراسات القديمة، وجعلت اللاتينية مرة أخرى لغة ذات بهاء وجلال، وقوة وعنفوان. ثم فعلت أكثر من هذا: فقد كشفت إيطاليا من جديد الذي بين موت كوزيمو ولورنزو لغتها هي وروحها، وطبقت مقاييس اللفظ والأسلوب على اللغة القومية، وأنشأت شعراً قديماً في رومة، ولكنه أصيل و »حديث« في لغته وتفكيره، متأصل في شئونها ومشاكلها اليومية أو في مناظر الريف وأشخاصه. يضاف إلى هذا أن إيطاليا قد نهضت في جيل واحد، وبفضل بلتشي، بالمسلاة الفكهة فجعلتها أدباً راقياً، ومهدت الطريق إلى بوراردو Borardo وأريوستو Ariosto، بل إنها قد استبقت بسمات سرڤانتس Cervantes من خيلاء الفروسية وتنطعها وادعاءاتها، وأخذ عهد الدراسة يختنق تدريجياً، وحل بالخلق والإبداع محل المحاكاة، وبعث الأدب الإيطالي بعثاً جديداً بعد أن ذبل على أثر اختيار بترارك اللغة اللاتينية ليكتب بها ملحمته. ولم يمض بعد هذا الوقت الذي نتحدث عنه زمن طويل حتى كاد إحياء الأدب القديم أن ينسى في نضرة الثقافة الإيطالية وغزارتها، وهي الثقافة التي تزعمت العالم في الأدب وغمرته بفيض من الفن.
المصادر
- ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
- ^ Kraye, Jill (1997), Cambridge Translations of Renaissance Philosophical Texts: Moral philosophy, Cambridge University Press, p. 192