ثورة العشرين
ثورة العشرين 1920 | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
مسيرات ثورة العشرين في بغداد. | |||||||
| |||||||
المتحاربون | |||||||
الثوار العراقيون
| |||||||
القادة والزعماء | |||||||
سير أرنولد ويلسون |
مهدي الخالصي محمد حسن أبو المحاسن | ||||||
القوى | |||||||
120,000 رجل[1] (لاحقاً أعيد تسليحهم ب15,414 رجل إضافيين)[1] 63 طائرة[1] | 131,000[2] | ||||||
الضحايا والخسائر | |||||||
400 قتيل[3] 600 فقيد[3] 1,100-1,800 مصاب[3] 11 طائرة مدمرة[4] | 6,000[5]-10,000 قتيل[4][6] | ||||||
2,050-4,000 قتيل؛[3] 4,800-6,150 مصاب[3] |
ثورة العشرين، أو الثورة العراقية ضد البريطانيين، أو الثورة العراقية الكبرى، بدأت في بغداد في صيف 1920 بمظاهرات شعبية خرج فيها العراقيون، وشملت احتجاجات الضباط الساخطين من الجيش العثماني القديم، ضد الاحتلال البريطاني للعراق. حازت الثورة زخماً عندما امتدت إلى المناطق ذات الأغلبية الشيعية في الفرات الأوسط والأدنى. كان الشيخ مهدي الخليصي من أشهر القادة الشيعة للثورة.
تعاون السنة والشيعة أثناء الثورة وكذلك التجمعات القبلية، سكان الحضر، والكثير من الضباط العراقيين في سوريا.[7] كانت أهداف الثورة هي الاستقلال عن الحكم البريطاني وتأسيس حكومة عربية.[7] على الرغم من أن الثورة قد حققت بعض النجاح الأولي، في نهاية أكتوبر 1920، تمكن البريطانيون من قمع الثورة. بالرغم من أن الثورة انتهت إلى حد كبير في نهاية 1920، إلى إنها استمرت جزئياً حتى عام 1922.
أثناء ثورة العشرين، اندلع تمرد آخر ضد البريطانيين في شمال العراق قام به الأكراد، الذين حاولوا الحصول على الاستقلال. كان الشيخ محمد البرزنجي من أبرز قادة الثورة الكردية .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية
شهد العراق في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى اتجاهاً سياسياً رئيسياً وأساسياً في أوساط المثقفين المتعلمين والعاملين في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان يطمح إلى الخلاص من الهيمنة العثمانية، وأن اختلفت مواقف القوى فيه وتوزعت على مجموعتين: إحداها كانت تسعى إلى الخلاص التام من الدولة العثمانية باعتبارها استعماراً تركيا مفروضاً على العراق وباقي الدول العربية الخاضعة بالقوة للهيمنة العثمانية، تلك الهيمنة التي بذلت أقصى الجهود من أجل تتريك المنطقة بأسرها وبضمنها العراق من جهة، وجماعة أخرى كانت تريد الحفاظ على العراق ضمن الدولة العثمانية "المسلمة"، خوفاً على فقدان الوحدة الإسلامية حتى من حيث الشكل والخشية من الوقوع تحت سيطرة "الكفار!" المسيحيين الإنگليز، مع ضرورة تمتع العراق بالحكم المستقل نسبياً أو الإدارة الذاتية من جهة أخرى. وإذا كان الاتجاه الأول قومياً عربياً إلى حدود ملموسة إذ لم يكن الوعي القومي، سواء العربي أم الكُردي قد تبلور حينذاك، فإن الاتجاه الثاني كان في الغالب الأعم دينياً إسلامياً متزمتاً، وكلاهما كان قد تأثر بشكل واضح بالاتجاهات الوطنية والقومية العربية والتأثيرات الدينية والسياسية المباشرة وغير المباشرة لحركات المعارضة السياسية في كل من إيران وتركيا. أما في فترة الحرب العالمية الأولى فكانت الجماعات السياسية في العراق قد انقسمت إلى اتجاهين ملموسين أحدها يرفض التعاون مع بريطانيا باعتبارها دولة أجنبية غير إسلامية أو استعمارية مسيحية "كافرة!"، وكانت تمثله في الغالب الأعم المؤسسات والقوى الدينية ومجموعات من شيوخ العشائر التي تأثرت كثيرا بمواقف وفتاوى شيوخ الدين. أما الاتجاه الثاني فكان يرى ضرورة التعاون مع بريطانيا وفرنسا ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا من أجل الخلاص من الهيمنة العثمانية المتخلفة والقاسية على العراق وسكانه، وكانت القوى القومية الحديثة التكوين ومجموعات من المثقفين والمتعلمين والتجار هي المعبرة عن هذا الاتجاه. ومن حيث المبدأ كان التياران لا يتطلعان إلى أي شكل من أشكال الخضوع لهذه السيادة أو تلك بل من أجل حصول العراق على استقلاله الناجز. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها تحول الموقف المتباين في الاتجاهات السياسية لتلك الجماعات في العراق إلى مجموعة أولى كانت ترفض بأي حال الهيمنة البريطانية وتريد الاستقلال التام والناجز، ومجموعة ثانية كانت تجد أن لا مناص من التعاون مع بريطانيا وتأمين استمرار وجودها في العراق لحماية العراق من التفكك ومساعدته على التقدم , وبمعنى آخر: كانت إحدى المجموعتين تقف بحزم وبلا مساومة ضد الانتداب وترى فيه نكثاً للعهد البريطاني إلى الشريف حسين بن علي ولا تقبل بغير الاستقلال الناجز، وأخرى كانت ترى في الاحتلال البريطاني والانتداب فرصة لحصول العراق على الوحدة والاستقلال من خلال التعاون مع بريطانيا. وقد تبلور هذان الاتجاهان نسبياً في المجموعة التي شكلت الحكومة ووافقت على الانتداب وأيدت فيما بعد عقد المعاهدة العراقية-البريطانية، في حين قادت المجموعة الأخرى انتفاضة السليمانية وثورة العشرين وناهضت الوجود البريطاني في العراق، رغم التباين في الأهداف بين قوى انتفاضة السليمانية وقوى ثورة العشرين حينذاك. وفي هذا الأمر الحيوي اشتد الخلاف وتمايزت القوى وتوزعت على هذين الاتجاهين حتى بعد قيام الدولة العراقية الجديدة، رغم أن عملية التبلور والاصطفاف بين جماعات الاتجاهين لم تكن سريعة ولا تامة، بل كانت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية متداخلة وينتقل بعضهم من موقع إلى آخر دون أن يشعر بتغيير كبير في مواقفه أو تبدل في سياساته. ولا شك في أن قوى المجموعة الأولى قد توسعت بقوى جديدة واغتنت حركتها في مجرى النضال ضد الهيمنة البريطانية بمضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وطنية وقومية جديدة، في حين غاص الاتجاه الثاني أكثر فأكثر وسنة بعد أخرى في عملية التعاون مع بريطانيا من مواقع عدم التكافؤ وتنفيذ إرادة الدولة المحتلة والمنتدبة على العراق وتأمين مصالحها في العراق على حساب مصالح الشعب والاقتصاد العراقي. ولا شك في أن الجانب الديني المحافظ وغير المتنور قد لعب دوره في رفض الوجود البريطاني خشية على مواقعه الدينية في أوساط المجتمع وخشية من الانفتاح الحضاري للسكان على الحضارة الغربية وما يمكن أن يحركها صوب بناء حياة أفضل والخلاص من التخلف الاجتماعي والغوص في الغيبيات والبدع المضرة بحياة الناس.
العوامل المؤدية للثورة
كان العراقيون عموماً - سواء أكانوا من العرب أم من الكُرد أم من أتباع القوميات الأخرى – قد وقفوا ضد الهيمنة العثمانية، وسعوا للخلاص من صيغة الحكم المركزي المباشر المفروضة على البلاد. مع أن عدداً غفيراً من العراقيين ، لم يكن يرفض بالضرورة استمرار العلاقات الروحية- الدينية مع السلطنة العثمانية. على الرغم من أنه كان يعلم بأنها قد فقدت مضمونها الديني، وتراجعت علاقتها الروحية مع الناس؛ بسبب سياسات الاضطهاد والقهر والحرمان التي مارستها والتي تعرض العراقيون من جرائها إلى أشد المحن، وأقسى ألوان العذاب - سواء أكانوا من أبناء المدن أم من سكان الريف والبادية.[8]
وقد حصلت الكثير من الحركات والهبّات والتمردات التي قام بها سكان الريف والبدو المستقرين إلى حدّ ما لمواجهة ظلم الولاة الأتراك وقسوة الجندرمة وجباة الضرائب والأتاوات. ولم تكن المدن بمنأى عن اضطهاد الحكام العثمانيين. وقد شهدت بغداد بشكل خاص، - ومعها المدن الأخرى - الكثير من الحركات السياسية المناهضة لإجراءات السلطنة العثمانية التعسفية. كانت الاستفزازات العثمانية، تثير الناس في المدينة وفي الريف، وتدفع بهم لمقاومة الاحتلال العثماني. كتب السيد قاسم عبد الهادي - في رسالة الماجستير، التي نال عليها درجة جيد جداً - عن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق من قبل القوات البريطانية بصواب ما يلي: "أعلن دباغو الأعظمية، الذين كان لهم الثقل العددي في المنطقة، وحاولوا الاعتصام بعد أن اجتمعوا في إحدى القاعات، منذ أوائل شهر محرم الموافق تشرين الثاني عام 1912 وقرروا الامتناع عن العمل، إلى أن يتم رفع أجورهم، وفاوضهم رئيس صنف الدباغين الشيخ (الجلبي) وأقنعهم بالعودة إلى أعمالهم، وهو رد فعل مباشر إزاء حالات التعسف التي وقع تحت نيرها العمال واضربوا للمرة ثانية في أوائل ديسمبر عام 1913، وكان يقودهم هذه المرة عبد الهادي الأعظمي أحد مثقفي المنطقة، وفعلا تركوا أعمالهم هذه المرة وطالبوا برفع أجورهم بمقدار 25% فاضطرت الحكومة إلى تحقيق رغباتهم فعادوا إلى العمل. ويعد هذا إنجازا للمضربين في الضغط على الحكومة في نيل حقوقهم منها". ثم يشير في مكان آخر إلى "الأوضاع السياسية والاجتماعية لبغداد قبيل الاحتلال البريطاني لها" قائلاً:
"لقد خلق الوجود العثماني الطويل الأمد في العراق مشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة، أدت إلى تدهور الواقع الحياتي، فقد كانت الضرائب الكبيرة التي تجنيها القوات العثمانية بسبب أو بآخر، فضلا عن الفساد الإداري والمالي الذي عاشه العراق بسبب هذا الوجود ، فكان ضباط التجنيد يبيعون قرارات الإعفاء من الخدمة الإلزامية لقاء مبالغ مالية كبيرة ، وكانت السلطات العثمانية تقوم ، بمصادرة موجودات الأهالي كحلي النساء والنقود الذهبية ومنحهم أوراق مالية (النوط) بدلا عنها ، فضلا عن مصادرة البضائع التجارية كالأقمشة الحريرية وغيرها، وأصدرت المحكمـة العسكرية العثمانية غرامات وعقوبات شديدة بحق كل من يرفض القبول بالأوراق المالية. ما جعل الأهالي يرفضون مساعدة ومسانـدة الجـيش العثماني في فـرض سيـطرته عـلى الأحـداث والثورات التـي تهـدد الوجود العثماني".
منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وجدت بعض القوى العربية والكُردية وغيرها نفسها أمام أحد أمرين : إما أن تكون مع الدولة العثمانية وتبقى تعاني من جورها وتخلفها، ومما يرتبط بذلك من معاناة وعذاب وشدة، وإما أن تكون مع بريطانيا وبقية الحلفاء؛ لتحصل على الحرية والاستقلال والتقدم والوحدة، في ضوء الوعود التي أعطتها الحكومتان البريطانية والفرنسية لقادة العرب والكُرد في آن واحد. وقد أدى ذلك إلى انقسام الناس في العراق إلى جبهتين:
- الجبهة الأولى: أيدت الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية المسلمة، ودعم قواتها في العراق ضد القوات البريطانية، وأيدت مقاومة احتلال البريطانيين للعراق على اعتبار أنه احتلال أجنبي، مستعمر، كافر في آن واحد؛ تجب محاربته لدواع وطنية ودينية. لذلك خاضت جماعات غفيرة في المعارك جنباً إلى جنب مع الأتراك في البصرة ضد القوات البريطانية. ولم يكن العرب من الوسط والجنوب وحدهم يشاركون في معارك البصرة، بل كان المتطوعون الكُرد يشاركون أيضاً في معارك الجهاد ضد الإنكليز. فصاحب كتاب "الداوودية.. ماضيها وحاضرها" يذكر على سبيل المثال لا الحصر: كيف تطوعت مجموعات من الكُرد للجهاد ضد الإنكليز، وكيف غادرت إلى البصرة للمشاركة في القتال مع العرب والأتراك . واستشهد في هذه المعارك عدد من شيوخ العشائر الكُردية، ومنهم: "نامق آغا؛ رئيس عشائر الداوودية ،وشيخ قادر؛ رئيس عشائر البادوا، وشيخ لطيف؛ رئيس عشائر الطالبانية، وميرة سور؛ رئيس عشيرة البرزنجة وأفراد آخرون من فرسانهم". ويشير الدكتور عبد الله الفياض إلى مشاركة الكُرد في النشاط الجهادي ضد القوات البريطانية فيقول: "وقد أسفرت الدعوة للجهاد عن تجمع عدد من أهالي المدن والعشائر يتراوح بين 10 - 15 ألف مقاتل بينهم 1500 مجاهد من الكُرد".
كما لعبت بغداد دوراً ملموساً، في التعبئة إلى جانب الدولة العثمانية من منطلق ديني واضح. معلنة ارتباطها بدعوة شيخ الإسلام (خيري أفندي) مفتي الدولة العثمانية، لما أصدر في 7 نوفمبر 1914 فتوى ذكر فيها الجهاد فريضة عينية على جميع المسلمين، الذين يعيشون في الدولة العثمانية أو في خارجها. وأعلنت كذلك ارتباطها بدعوة الخليفة العثماني إلى الجهاد، الذي استطاع أن يكسب تأييد العراقيين له عن طريق إعلان الجهاد المقدس. وقد رأى علماء النجف وكربلاء وبغداد والكاظمية، أن تعضيد الدولة العثمانية لابد منه؛ فأفتوا بالجهاد في سبيل الإسلام، ولاسيما عندما استغاث أهل البصرة بالعلماء، فأبرقوا لهم من مختلف الأطراف يطلبون منهم الجهاد والنفير العام، وقد ورد في إحدى البرقيات التي أرسلها رؤساء البصرة إلى الكاظمية وزعمائها جاء فيها:
.
كما اصطفت للجهاد إلى جانب الترك مجموعة من الشخصيات الدينية والثقافية العراقية حينذاك. منهم عبد الرحمن الكيلاني، وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، والحاج داود أبو التمن، ومحمد فاضل الداغستاني، وشوكت باشا، والشيخ حميد الكيلدار، والسيد محمد الصدر، ومحمد مهدي البصير، ورفعت الجادرجي، والشيخ أحمد الداوود، وسواهم من الشخصيات السياسية والاجتماعية.
- الجبهة الثانية: - وهي الأكبر - ساندت القوات البريطانية بعد الوعود التي أعطيت للشريف (حسين) وللعراقيين في الحصول على الحرية والاستقلال. وكانت البهجة عظيمة لدى جماهير غفيرة من العراقيين؛ بانتصار البريطانيين على الأتراك. سيشير إليها الدكتور على الوردي. ولكن الصورة ستتغير بعد فترة وجيزة من احتلال بريطانيا التام للعراق، ولن يتبقى للجماهير من خيار سوى خيار المواجهة مع بريطانيا، التي حلّت محل الدولة العثمانية في استعمار البلاد. وقد أيقظ الموقف المعادي للقوات البريطانية، ووعودها الباطلة وعياً - وإن لم يكن ناضجاً - بطبيعة الاستعمار الحديث وأهدافه، وبالنتائج التي ستترتب من جراء ذلك الاحتلال. كان هذا الوعي مزيجاً متشابكاً يصعب تفكيكه، أو التركيز على جانب منه دون الجوانب الأخرى. كان مزيجاً من الوعي القومي، والوطني، والديني، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والنفسي. وكان يحمل في طياته أصداء تجارب العراق المريرة تحت السيطرة والاحتلال، وذكرى الاجتياحات الكثيرة التي تعرض لها في فترات مختلفة من تاريخه القديم والحديث. ولا ننسى أن شيوخ الدين، كانوا يبذلون جهوداً كبيرة للتركيز في دعايتهم على الجانب الديني، وعلى تكفير البريطانيين والدولة البريطانية؛ على اعتبار أنّ سكان بريطانيا كانوا في غالبيتهم من أتباع الديانة المسيحية. فكان لدعايتهم البدائية نتائج سيئة، خالفت مبدأ الاعتراف بالآخر من النواحي الدينية والمذهبية، وخالفت مبدأ التسامح الديني المتبادل بين المسلمين، وأتباع الديانة المسيحية، بإظهار عدائها بشكل سافر للدين المسيحي - مع أن أتباع الديانة المسيحية هم مواطنات ومواطنون عراقيون مسيحيون، و ليسوا بكفرة؛ بل أصحاب كتاب يعترف الإسلام بدينهم ويجله - في بلد كالعراق مكون من قوميات وأديان متنوعة متعددة، تعيش بوئام جنباً إلى جنب فوق أرض مشتركة.
إن دراسة وقائع تلك الفترة، وإخضاعها لمنهج التحليل الموضوعي، ستساعد الباحث على اكتشاف مجموعات من العوامل، التي كانت وراء انفجارها، والتي يمكن توزيعها في مجموعتين منفردتين على حدا، تليهما أربع مجموعات أخرى متتالية. ويمكن تسميتها بالعوامل الداخلية والخارجية حيناً، وبالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والنفسية حيناً آخر.
داخلياً
العوامل السياسية
تشير الدراسات التي تناولت هذه الفترة من تاريخ العراق المعاصر - وكذا المضابط والبيانات التي صدرت حينذاك، والصحف التي عالجت مهمات الثورة - إلى أن الهدف المركزي لثورة العشرين، تمثل في تطلع العراقيين إلى الاستقلال والحرية، وإلى التخلص من السيطرة الأجنبية البريطانية؛ أي في النضال من أجل إقامة الدولة العراقية المستقلة. وهي مفاهيم حديثة - بطبيعة الحال - لم تكن مألوفة في حياة العراقيين قبل ذلك التاريخ. فجلُّ ما كان يطرحه العاملون في الحقل السياسي حتى ذلك الوقت، كان مقتصراً على الحصول على الحكم اللامركزي في إطار الدولة العثمانية. ومن الملفت للنظر في هذا النضال؛ مساهمة مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية الريفية فيه؛ إذ كان الريف في ذلك الحين، يضم السواد الأعظم من سكان العراق؛ حيث المعاناة اليومية من الضغوط والاستبداد والجهل والمرض والفقر. وهي معاناة كانت منتشرة بين سكان كثير من المدن العراقية أيضاً، وبين البدو من بعض القبائل والعشائر المتنقلة، أو شبه المستقرة. وإذا كانت المدن العراقية، تشهد قبل ذاك صراعات بين الريف والمدينة من جهة، وبين البادية والمدينة من جهة ثانية - كانت المدن تتعرض إلى اجتياحات القبائل المستمرة - فإنها ولأول مرة تعيش في جوّ من التعاون والتنسيق لصالح فكرة الخلاص من الهيمنة البريطانية . وقد برز لأول مرة في تاريخ العراق، دورُ شيوخ الدين المتميز في النشاط الجهادي. كما في معارك البصرة، ومعارك التعبئة لثورة العشرين. وتجلت أهمية شيوخ الدين في قدرتهم على التأثير على شيوخ العشائر وأفرادها، وفي تمكنهم من توحيد كلمتهم وجمع شملهم حول مطالب معينة، يتوجهون بها إلى سلطات الاحتلال البريطانية ولو في حدود نسبية. وهي ظاهرة ذات جانبين، أولهما: ارتباطها بطبيعة القضايا، التي تسعى المؤسسات الدينية لتحقيقها. وثانيهما: تعبيرها عن تبعية غالبية سكان الريف لشيوخ العشائر المتحالفين مع المؤسسات الدينية وشيوخ الدين؛ تبعيةً لم تكن بالضرورة سائرة باتجاهات إيجابية في جميع الأحوال، أو يمكن أنها لم تكن إلا تعبيراً عن غياب التنوير الديني والاجتماعي. وبرزت هذه الظاهرة بظهور دور المؤسسات الدينية في إيران في طرحها لمشروع المشروطية؛ (الحركة الدستورية) في بداية القرن العشرين وسعيها لتعبئة الناس من حولها. وإذا كانت الأوساط الدينية الوطنية، وشيوخ العشائر، وبعض ملاكي الأراضي الزراعية، وبعض الشخصيات الاجتماعية والمثقفة؛ أو الأفندية من أبناء الفئات الميسورة والبرجوازية الصغيرة، قد لعبت دوراً متميزاً وقيادياً فيها، كلٌّ منها بحسب طبيعة منطقتها التي دارت فيها رحى الثورة؛ فإن جموع الفلاحين الواسعة، وأبناء العشائر، وكادحي المدن المشاركة في الثورة، شكّلت جيشها الأساس، ووقودها المحرك. والجدير بالإشارة أن غالبية أبناء الفئات المتوسطة، التي شاركت في الثورة، أو قدمت الدعم المالي والسياسي لها، كانت تنحدر من أصل ريفي، أو من الأسر الميسورة وأشراف المدن. ولكنها كانت في الوقت نفسه من ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات. ومن هنا برزت تلك العلاقات المتشابكة بين الفئات المدينية المتوسطة (أو بدايات تكون البرجوازية العراقية الجديدة) وكبار ملاكي الأراضي الزراعية مرتبطة بعلاقات اقتصادية وروحية قوية مع شيوخ الدين الشيعة خاصة. وكانت بغداد العاصمة النموذج المتميز في المشاركة، ولاسيما من جانب المثقفين وشيوخ الدين.
وقد تجلت نشاطات هذه القوى الاجتماعية السياسية، في فعاليات الأحزاب والجمعيات السياسية، التي تشكلت في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي: حزب العهد العراقي، الذي انشطر عن جمعية العهد التي تشكلت في عام 1913 بمبادرة من القائد العسكري والسياسي (عزيز المصري) في ظل الحكم العثماني، وجمعية حرس الاستقلال، والجمعية الوطنية الإسلامية ذات الطابع المحلي. وعمدت هذه الأحزاب إلى شرح الأهداف السياسية للفئات الاجتماعية المختلفة، ثم طرحتها في شعارات محددة بغية تعبئة الناس وتحريك الشارع في سبيل انتزاع الاستقلال. رغم وجود بعض التمايز بين طبيعة حزب العهد العراقي وجمعية حرس الاستقلال الناشئ عن الاختلاف النسبي في التمثيل الاجتماعي لمصالح الفئات الاجتماعية المختلفة.
أكد حزب العهد العراقي في منهاجه السياسي، على العمل من أجل تحقيق: "استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية وداخل حدوده الطبيعية... " . في حين شددّت جمعية حرس الاستقلال على ما يلي: "تسعى الجمعية المذكورة وراء استقلال البلاد العراقية استقلالاً مطلقا." ولكن الجمعية ركزت من جديد على مسألتين مهمتين في هذا الإطار، وهما: الوحدة الوطنية لكل العراقيين أولاً، ثم تأمين العلاقة العضوية بين نضال العراق وبقية الأقطار العربية من أجل الوحدة العربية ثانياً. ولم تشذ الجمعية الوطنية الإسلامية عن هذا النهج السياسي؛ بل رفعت شعار استقلال العراق ومقاومة الاحتلال الأجنبي.
وبدلاً من الاستجابة لمطالب العراق، ومراعاة مشاعر الشعب، ورغبته في الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية؛ أصدرت عصبة الأمم قراراً مجحفاً أثناء انعقاد مؤتمر سان ريمو بتاريخ 25 نيسان/إبريل 1920؛ وضع بموجبه العراق تحت الانتداب البريطاني. وكان هذا القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وفجرت الثورة في يونيو من نفس العام. وقد جاء قرار المؤتمر هذا على ضوء ثلاث حقائق أساسية هي:
1- كانت عصبة الأمم، تمثل من حيث المبدأ مجموعة الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، والتي سعت إلى تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها؛ فكان لها بالتالي تأثير مباشر على قرارات عصبة الأمم، والمؤتمرات التي كانت تعقدها. ولاسيما بريطانيا التي كانت تعتبر الدولة الاستعمارية الأكثر قدرة وتأثيراً في الأحداث؛ والأكثر نفوذاً في عصبة الأمم حينذاك.
2- كانت المساومات فيما بين الدول الكبرى حينذاك، وبخاصة تلك التي دارت بشأن النفط الخام العراقي، قد سمحت لبريطانيا أن تمرر مشروع الانتداب على العراق من دون أن يلقى اعتراضاً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي التي وافقت على توزيع أسلاب الدولة العثمانية، على الرغم من صدور إعلان المبادئ، أو شروط الرئيس الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ القاضي بمنح الشعوب التي كانت تحت الاحتلال، حق تقرير المصير. وتمكنت بريطانيا من خلال تلك المساومات إلى إرضاء فرنسا؛ فأصبحت سوريا ولبنان - وكانتا قبل ذاك مع فلسطين، جزءاً من ولاية الشام الخاضعة للدولة العثمانية - من نصيب فرنسا. أما العراق وفلسطين فأصبحا من نصيب بريطانيا.
3- ولا شك في أن سلطات الاحتلال البريطانية، لم تكن تعتقد بقدرة العراقيين على خوض النضال ضد القوات البريطانية المنتصرة والمعسكرة في العراق. ولم تكن تتوقع نشوب ثورات ضدها أصلاً؛ لأنّ قوى عراقية كثيرة كانت تقف إلى جانب بريطانيا، وتؤيد سياستها في العراق، وعلى رأسها نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الگيلاني. كما أن الاستقبال الحار الذي استقبلت به القوات البريطانية في البصرة، أعطى المسؤولين البريطانيين الانطباع وكأن العراقيين لا يرفضون الانتداب. علماً بأن المس بيل - وكانت المساعدة المباشرة للمندوب السامي البريطاني في العراق السير برسي كوكس - كانت تتوقع حدوث مشكلات كبيرة لبريطانيا في العراق. إن هي رفضت الاستجابة لتطلعات العراقيين في إقامة الدولة العراقية المستقلة.
لقد جاء قرار عصبة الأمم بشأن العراق حاسماً وجائراً. ورد في لائحة الانتداب ما يلي: "بناء على نص المادة "132" من معاهدة الصلح، الموقع عليها في سيفر في اليوم العاشر من شهر أغسطس 1920، التي بموجبها قد تنازلت تركية عن كل حقوقها وتملكها في العراق إلى الدول المتحالفة الرئيسية؛ وبناء على المادة 94 من تلك المعاهدة، التي بموجبها قررت هذه الدول الكبرى، وفقا للفقرة الرابعة من المادة 22 من الفصل الأول "عهد جمعية الأمم" بأن تعترف بالعراق دولة مستقلة، يشترط عليها قبول المشورة الإدارية والمساعد من قبل منتدب؛ إلى أن تصبح قادرة على القيام بنفسها وحدها، وأن تحديد تخوم العراق - سوى ما هو مقرر في المعاهدة المذكورة - واختيار المنتدب، تتفق عليه الدول الرئيسية المتحالفة. وبما أن الدول المتحالفة الرئيسية قد اختارت صاحب الجلالة البريطانية منتدباً من قبلها على العراق، …." .
وأوردت لائحة الانتداب شروط الانتداب، وحقوق بريطانيا على العراق، التي كانت بمثابة فرضٍ لهيمنة عسكرية وسياسية واقتصادية ومالية غير محدودة، وغير محددة بوقت معين. وقد جوبه هذا القرار، بالرفض الكامل من جانب المجتمع العراقي، في حين وافقت عليه بعض القوى – حين لم تجد في واقع الحال مخرجاً أو حلاً آخر لها - إذ كان عليها بحسب اعتقادها، أن تذعن للواقع الموضوعي القائم، إلى أن يقيض لها أن تعمل على التخلص التدريجي من تلك الهيمنة. ومن بين هؤلاء كان (فيصل بن الحسين) وكذلك العديد من الضباط العراقيين، الذين ساندوا (الحسين بن علي) شريف مكة في تحالفه مع بريطانيا في الحرب. إن حركة الاستقلال الوطني، التي انتعشت في تلك الفترة، انعكست بوضوح في البيانات والمضابط، التي رفعها رجالات الثورة، وفي الفتاوى التي أصدرها شيوخ الدين؛ تلك الرافضة للانتداب والاحتلال. جاء في المذكرة التي رفعها رجال الثورة إلى الحاكم السياسي البريطاني في النجف في 6 أغسطس 1920 ما يلي:
أولا- إننا نطالب أن يؤلف الشعب باختياره، مؤتمرا عراقيا قانونيا، يجتمع أعضاؤه في عاصمة البلاد بغداد، ومهمته تأليف حكومة عربية، مستقلة كل الاستقلال، عارية عن كل تدخل أجنبي، يرأسها ملك مسلم.
ثانيا- نطلب رفع الحواجز عن ارتباط الشعب العراقي، وتفاهمه مع الشعوب الأخرى، بحرية المواصلات، وكافة المنشورات والمطبوعات.
ثالثا- نطلب تمكين الأمة عن عقد مجتمعاتها وإقامة منتدياتها في سائر مناطق العراق". ويمكن أن يتلمس القارئ بوضوح، أن المسؤولين عن صياغة هذه المذكرة، كانوا يدركون تماماً العلاقة الوطيدة القائمة بين التحرر من السيطرة الاستعمارية وبين الحصول على الحرية والديمقراطية والصحافة الحرة. فضلاً عن أهمية إقامة علاقات مفتوحة ومستمرة مع الأقطار المجاورة؛ لتسهيل وصول الصحافة والثقافة للسكان، وكذلك لتسهيل طلاعهم على ما كان يجري في تلك البلدان، ولنشر المعلومات عن العراق في تلك الصحافة. وبخاصة في الوقت الذي بدأت فيه الإدارة البريطانية بانتهاك الحقوق والحريات، والتضييق على الناس، وعلى الصحافة، وعلى دخول صحف الأقطار العربية والمجاورة إلى العراق. كتب الأستاذ محمد مهدي البصير حول موضوع الحريات ما يلي: إن من "أهم الأغلاط التي أثارت سخط الشعب على الحكومة ووقعت في نفوس المفكرين من أبنائه أسوأ وقع … خنق الحرية الفكرية ، ومنع إصدار أي جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية…. وقد أدت مصادرة حرية الصحف في البلاد؛ إلى رغبة لا حد لها في قراءة الجرائد السورية الحرة وصحف مصر.»
أما الزعيم الديني المعروف محمد تقي الحائري الشيرازي، أحد زعماء الثورة وقادتها البارزين، فقد أصدر نداءً؛ اعتُبر بمثابة فتوى دينية وقرار سياسي موجه إلى أبناء الشعب العراقي، يدعوه فيه إلى النضال، وتأييد المقاومة المتصاعدة ضد المحتلين الأجانب ورد فيه ما يلي:
"أما بعد فإن إخوانكم في بغداد، والكاظمية، والنجف، وكربلاء، وغيرها من أنحاء العراق، فقد اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع، والقيام بمظاهرات سلمية، وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات، مع المحافظة على الأمن، طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية، ...فالواجب عليكم، بل على جميع المسلمين، الاتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف. وإياكم والإخلال بالأمن، والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض، فإن ذلك مضر بمقاصدكم، ومضيع لحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم، وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل، والنحل التي في بلادكم، في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولا تنالوا أحدا منهم بسوء أبدا". ثم أعقب ذلك بفتوى صريحة ذات أهمية فائقة في مجرى تطور أحداث الثورة واستخدام السلاح ضد المحتلين حيث جاء فيها ما يلي: "مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالباتهم، رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا أمتنع الإنكليز من قبول مطالبهم" . وكما يلاحظ، فإن هذه الفتوى كانت صريحة في مقاصدها، واضحة في تأكيدها على عدد من النقاط المهمة، التي كانت تعتبر يومئذ حقاً ثابتاً من حقوق الشعوب، وهي كذلك ما تزال تعتبر حقاً ثابتا إلى وقتنا الحاضر، ومنها: حق الشعب العراقي في النضال؛ من أجل انتزاع حقه في الاستقلال والسيادة الوطنية، وحقه في ممارسة جميع أساليب النضال لتحقيق هذا الهدف، إذا ما وجد أن المستعمر يرفض الاستجابة لهذا الحق المشروع. وأن تحقيق هذه الأهداف يتطلب وحدة وطنية صلدة، بعيدة عن التفرقة القومية والدينية والطائفية، أو بعيدة عن الاختلافات الفكرية والسياسية، وبعيدة عن المساس بالناس أو بمصالحهم بسبب الاختلاف في القومية أو الدين أو الطائفة أو غيرها. ومما يجدر ذكره هنا: أن الإمام (محمد تقي الحائري الشيرازي) كان واحداً ممن تسلحوا بوعي سياسي، وحس وطني سليم؛ استطاع أن يجنِّب الثورة والثوار المزالق المحتملة، والصراعات الداخلية غير المبررة. وتبين الفتوى آنفة الذكر بأن شيخ الدين، كان يدعو إلى قيام حكومة إسلامية منذ البداية، وكان يريد أن يطبع الدولة العراقية بطابع الدين الإسلامي. بالرغم من أنّ العراق كان متعدد الأديان والمذاهب. أما السيد (محمد كاظم اليزدي) فكان له موقف مخالف له. إذ حصر مهمة شيوخ الدين بالوظائف الدينية والاجتماعية. ولم يكن مخطئاً في هذا، بل كان على صواب تام في معالجة هذه المسألة. وكان من الناحية العملية قد اتخذ موقفاً يتفق بهذا القدر أو ذاك مع موقف النقيب عبد الرحمن الگيلاني.
ورغم بُعد العراق عن الساحة السياسية الأوروبية، وعن الحركات الفكرية الدائرة في أوروبا - بسبب الهيمنة العثمانية القاسية التي حجرت عليه الفكرَ والمعلومات والاتصالات الخارجية - فإن الفئات المثقفة والواعية من الشعب العراقي، قد استقبلت بعض الأفكار البرجوازية الديمقراطية الحديثة القادمة من فرنسا عبر الثوار السوريين . إذ كانت أفكار الثورة الفرنسية وشعاراتها الأساسية “ الحرية والإخاء والمساواة" واسعة الانتشار نسبياً في ولايتي مصر والشام. وكان إطلاع جماعات من العراقيين عليها، يتم عبر المجلات والصحف وبعض الكتب - على قلتها - سواء أكانت تأليفاً أم ترجمة. أو عبر الاحتكاك المباشر. لقد وجدت تلك الأفكار طريقها إلى المثقفين والأفندية العراقيين على قلتهم، فألهب الحماس فيهم، وحركهم ضد المستعمرين وعمق من وعيهم. وكان أغلب المثقفين العراقيين من حملة هذا الفكر التحرري، ينحدرون من عائلات ميسورة، ومن صفوف الضباط الذين درسوا في الأستانة، ومن أبناء الفئات المتوسطة حديثة التكوين، وأشراف المدن، ومن قلة من أبناء البرجوازية الصغيرة. وكانت هذه الأفكار تحمل مضامين تقدمية معادية للاحتلال والاضطهاد وكانت ضد علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية، التي كانت تترسخ يوماً بعد آخر، منذ استكمال احتلال العراق من جانب القوات البريطانية. وإلى جانب هذا الاتجاه الفكري، برزت بعض الأفكار التي كانت تدعو للعدالة الاجتماعية، ومن جملتها بعض الأفكار الثورية والاشتراكية، التي وجدت لها صدى طيباً انتشر بين الناس، ولكنْ في محيط ضيق. وكان حملة هذا الفكر آنذاك، مجموعة صغيرة من المثقفين من أبناء الفئات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، الذين استلهموا فكرهم من ثلاثة مواقع أساسية هي: التراث الحضاري المنقطع النظير للشعب العراقي، بما حوى من نزعات مادية وعقلانية، تمثلت في حياة ونشاط الحركات الفكرية في الإسلام، وظهرت لدى جمهرة من المسلمين الأتقياء وغيرهم من سكان العراق على مدى القرون الماضية. وهي أجلى ما تكون في بعض ممارسات وأقوال (عمر بن الخطاب) و(علي بن أبي طالب) ونشاطات (أبي ذر الغفاري) و(الحلاج). كما نرى آثارها في ثورة الزنج، وفي حركة القرامطة بوجه خاص...الخ. هذا أولاً. ثانياً: الفكر الاشتراكي المعاصر، الذي انتشر في أوروبا في تلك الفترة، فحرك الملايين من الشغيلة؛ لمواجهة الاستغلال الرأسمالي، وقد ارتبط باسم ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، وبالثورة الألمانية.
والموقع الثالث الذي استلهموا منه أفكارهم هو: الواقع المزري الذي كانت أوساط واسعة من سكان العراق تعيش فيه؛ حيث كانت مظاهر البؤس والفاقة والحرمان والتخلف الاجتماعي، تضرب أطنابها في كل البلاد. حيث التثقيف الديني في فترة الحكم العثماني، يؤكد أن الفقر والغنى، الشبع والجوع هما من حكم الله، ولا مرد لحكمه! وأن المحروم في دنياه سعيد في آخرته. ولم تكن هذه التربية الدينية، سوى التجسيد الحي لفعل شيوخ الدين، الذين يعمدون – بقصد أو غير قصد - إلى تخدير يقظة ووعي الشعوب، وهي عملية مطابقة لما أكده كارل ماركس حين قال: "إن الدين أفيون الشعوب" أي أن الدين يُستخدم كأفيون من المستغِلين وأتباعهم؛ لتخدير عقول الناس؛ كي ينسوا أوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية المزرية.
كانت منافذ وصول الفكر الاشتراكي المعاصر متعددة: فمن مصر كانت تصل المجلات والكتب التي - على قلتها - كانت تثير وتحرك عقول القراء، وتطرح عليهم أسئلة كثيرة. وكانت هذه المطبوعات تطرح الفكر الاشتراكي بوجه عام وتمتدحه. أو قد تنتقده أحياناً. وكانت أفكار سلامة موسى وشبلي شميل - مثلاً - غير بعيدة ولا غريبة عن قراء العربية المثقفين. كما كانت هذه الأفكار تصل من إيران، أو تأتي عبرها حاملة صدى الحركات الثورية في روسيا، التي كان لها تأثير منذ فترة مبكرة من القرن العشرين - أو ربما منذ نهاية القرن التاسع عشر - على مفكري إيران، الذين سينقلون بدورهم تأثيره الملموس إلى عدد من المثقفين في العراق. وكان لسفر وعودة العراقيين القادرين على السفر إلى أوروبا، وإلى بعض البلدان العربية، واحتكاكهم المباشر بالحركات العمالية والفكرية والسياسية هناك أثره المادي المحسوس على فكر هؤلاء الرواد؛ الذين سيدخلون العراق حاملين تلك الأفكار والتجارب لنشرها بين أوساط المثقفين. وفي هذا المجال، يرد اسم (حسين الرحال) الذي قضى فترة من الزمن في ألمانيا، وعاشر أحداث ثورة 1918 التي قادتها منظمة سبارتاكوس الشيوعية، وهي الثورة التي راح ضحيتها القائدان الشيوعيان كارل ليبكنخت، وروزا لوكسمبورغ، اللذان اغتالتهما الشرطة الألمانية إثر فشل الثورة. ولا ينبغي في كل الأحوال، أن يتمَّ هنا تصويرُ هذا الدور، الذي ساهم في يقظة الوعي السياسي والفكري للعراقيين - رغم أهميته - تصويراً مبالغاً فيه؛ لأنَّ طبيعة الأوضاع الفكرية والاجتماعية المتخلفة المعقدة آنذاك، وضعف العلاقات مع الخارج، وصعوبة الحصول على الأخبار والمعلومات من الدول الأخرى؛ ما كانت تسمح بأن يتسع تأثير هذا الدور في أهل العراق، إلا في حدود ضيقة.
وقبل الانتهاء من هذه الفقرة، لا بد من الإشارة إلى عامل مهم من عوامل تحريك وتوعية المجتمع حينذاك ألا وهو: عامل الصحافة السياسية الوطنية، التي كانت تُعدُّ مرآة عاكسة لواقع المجتمع، وللمشكلات السياسية التي يواجهها، وللحالة النضالية التي كان عليها. كانت الصحافة قبل الثورة، تمارس دوراً يندد بالهيمنة الاستعمارية البريطانية الجديدة، ويفضح غاياتها وأغراضها، ويكشف الغطاء عن المشكلات التي بدأ المواطن العراقي يتعرض لها في ظل سلطة الاحتلال البريطانية. كما كانت الصحافة تلعب دوراً بارزاً في بلورة أهداف الحركة الوطنية ومهماتها، وتساهم في توسيع ميادين الثورات، وتأجيج الروح الحماسية في نفوس المناضلين. وقد وجدت في فترة الثورة جريدتان هما: "الفرات" و "الاستقلال" لم تستمرا في العمل والنشر طويلاً، إذ أنهما كانتا شوكة حقيقية في عيون المستعمرين وأعوانهم، وأداة ثورية فعلية بيد المناضلين الثوار . وكانت منبراً لبعض قادة الثورة، الذين قاموا بالتحرير فيها، فسلطوا الضوء على المشكلات، التي كانت تواجه المجتمع، فاضحين نوايا البريطانيين السياسية والاقتصادية في العراق، ويعمقون الفجوة التي كانت تفصل حقيقةً بين الادعاء بتحرير العراق من الهيمنة العثمانية، وبين واقع سقوط العراق تحت احتلال استعماري جديد بريطاني الجنسية والهوية.
ولو أن بريطانيا - كما يخيل لي - مارست سياسات أخرى، غير السياسة التي مارستها في الواقع؛ لأمكنها التأثير الإيجابي في المجتمع، وإخراجه من ظلمات العهد العثماني إلى نور الحضارة الغربية الحديثة، ولأمكنها أن تساهم بدور فعال في تنشيط التنوير الديني والاجتماعي، الذي تعطل في مصر أيضاً بفعل تلك العوامل التي عاشها العراق. إذ كانت سياسة وزارة المستعمرات البريطانية قاسية جداً، ومحافظة جداً على مبدأ تحقيق الأهداف الاستعمارية، ولهذا لم يستطع الفكر الديمقراطي البريطاني الولوج في حياة العراق، ونفوس العراقيات والعراقيين بالصورة التي تساعد على التفاعل والتفاهم ومنح الناس حقوقهم المشروعة؛ التي تعطلت لفترة غير قصيرة. لقد كانت وزارة المستعمرات البريطانية، تريد تحقيق نجاحات اقتصادية سريعة على حساب شعوب المستعمرات، وتريد أن تنقل هذه النجاحات على أكتاف الشعوب ومنها الشعب العراقي. وكان لهذا الفعل تأثيره السلبي المباشر على حياة وسلوك الناس، استشعروه رغم التخلف الفكري والحضاري، الذي ساد المجتمع العراقي. وهو تخلف انطبعت آثاره على المؤسسة الدينية أيضاً. ولكن هذه المؤسسة، حين تتهم القوات البريطانية بالكفر - ربما بدافع الخوف من اتهام المثقفين لها بالوقوف إلى جانب المستعمر البريطاني - ستلعب دوراً مفيداً في إضعاف الاستفادة من الوجود البريطاني في العراق، وستسهم في دفع المجتمع العراقي بقوة إلى الأمام في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مجال التنوير الديني. إن تجربة الاحتلال البريطاني للعراق وعواقبها وتداعياتها، يمكن لها أن تقدم درساً حياً للمجتمع العراقي في المرحلة الراهنة، التي تشهد واقع وجود قوات احتلال أمريكية وبريطانية ودولية أخرى في العراق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العوامل الاقتصادية
لم تكن العوامل السياسية سوى الوجه الثاني للعملة. أما وجهها الأول، فتمثَّل بالعوامل الاقتصادية، التي كانت تقف وراء تطور النشاط السياسي، والعمليات المسلحة المناهضة لقوات الاحتلال البريطاني، التي بادرت إلى استخدام السلاح، لإخماد المقاومة. بدأ التحرك السياسي والعسكري ضد الإنگليز في النجف في عام 1918 وتجلى في ثورة السليمانية عام 1919 ثم في ثورة العشرين، التي اتسع نطاقها ليشمل مناطق واسعة من العراق، ولاسيما وسط وجنوب العراق. كما سيتسع في كل المدن التي كانت المؤسسة الدينية فيها ذات تأثير كبير على السكان مثل: بغداد، الكاظمية، كربلاء، النجف. مما يمكِّننا من تلمس العلاقة الجدلية بين المصالح الاقتصادية للمؤسسة الدينية وشيوخ الدين من جهة، ومصالح الفئات الاجتماعية التي قادت العمليات العسكرية من شيوخ العشائر والفلاحين، الذين انغمسوا في الثورة فكانوا وقودها المحرك من جهة أخرى.
جلبت سنوات الحرب العالمية الأولى معها مشكلات اقتصادية جمة لسكان العراق. فإلى جانب المعارك الحربية، التي كانت تجري على الأرض العراقية، ومحاولات الدولة العثمانية تجنيد العراقيين للقتال إلى جانبها في معاركها ضد الإنكليز، واستخدام الانكليز لأعداد غفيرة من المواطنين في أعمال السخرة في معسكراتهم، وفي شق الطرق ونقل السلاح، استخداماً سيلعب دوراً بارزاً في تقليص الإنتاج الزراعي؛ فإن سلطات الاحتلال البريطانية، وقوات الجيش العثماني ستمارسان في آن معاً، سياسة الاستيلاء على المحاصيل الزراعية - كشكل من أشكال استيفاء الضرائب لتغطية نفقات الحرب - من دون أن تتكفلا بدفع تعويض مالي لأصحاب المحاصيل، أو قد تدفعا تعويضاً مالياً لكنْ محدوداً قليلاً، لا يفي بحاجات أصحابها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى واقع مرير تمرغ فيه سكان العراق. كتب الدكتور عبد الله النفيسي في هذا الصدد يقول: "كان إصرار الإدارة البريطانية على تحصيل الضرائب المفروضة على كل محصول زراعي، وعلى كل محصول بستان تحصيلاً كاملاً أمراً مكروهاً لدى الفقير والغني على السواء حتى أن القبائل، كقبيلة بني حچيم من لواء المنتق مثلاً، وجدت نفسها سنة 1919 مرغمة على دفع ضرائب فادحة وذلك لأول مرة في تاريخها. وكان تحصيل الواردات، في تلك السنة نفسها، في لواء المنتفق، أعلى تحصيل في الفترة الواقعة بين 1916 - 1928. وإليك ثبتاً بواردات المنتفق من سنة 1916 - 1918:
السنة | القيمة بالجنيه |
---|---|
1916 | 52,464 |
1919 | 1,661,823 |
1922 | |
1926 | 1,002,659 |
1928 | 1,277,233 |
ففي لواء المنتفق مثلاً، ارتفعت ضريبة الدخل على كل فرد من أقل من خمسة روبيات في سنة 1916 إلى خمس شلنات في سنة 1919، وبعد اضطرابات سنة 1920 عادت وانخفضت ثانية سنة 1922 إلى شلن. … وكانت المبالغ المحصلة من لواء المنتفق والديوانية والشامية، وهي ثلاثة ألوية شيعية، في سنة 1920 تقدر بـ 5533100 شلن أو قرابة ربع مجموع الدخل من الألوية العراقية وعددها أربعة عشر لواءً. وكانت المبالغ المخصصة في الألوية الثلاثة 1929440 شلناً.
كما أدّتِ العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من العراق؛ إلى تدمير المزيد من قنوات الري والبزل، وإلى تخريب المزارع، وتلف المحاصيل الزراعية، وإلى إرغام أعداد كبيرة من الفلاحين على ترك الريف والهجرة إلى المدن. إذ أن أغلب العمليات العسكرية، تركزت في المناطق الزراعية من الفرات الأوسط وجنوب العراق. وقد لعب التجار الكبار، والوسطاء دورهم الطفيلي المعروف، في اغتنام فرصة الحرب؛ فاغتنوا اغتناء سريعاً على حساب الكادحين. واستفادت من هذه الأوضاع مجموعات قليلة من التجار والإقطاعيين وکبار الملاکين، التي تعاونت مع المحتلين الجدد، وساهمت بتشديد الاستغلال على الفلاحين. وإذا كانت إجراءات إقرار التشريعات العثمانية بخصوص الأرض الزراعية، التي تم اغتصاب مساحات واسعة منها من الفلاحين على مدى القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وتسجيلها بأسماء الشيوخ وكبار موظفي الدولة وأشراف المدن وتجارها؛ قد أثارت سكان الريف، وفجرت ينابيع الغضب في نفوسهم على المحتلين، وشحذت منهم الهمم لمقاومة قوات الاحتلال. فإن سلطات الاحتلال البريطانية منذ سنة 1918 قد عمدت إلى ممارسة سياسة مماثلة لسياسة العثمانيين؛ أغضبت الفلاحين والكثير من الشيوخ الذين حرموا من الأرض ؛ بسبب مواقفهم الوطنية من سلطات الاحتلال في أثناء الحرب العالمية الأولى، أو في الأعوام التي تلتها. فنظموا العديد من المضابط، والتحركات المعادية للإنكليز في مناطق عديدة، وبخاصة في الفرات الأوسط والجنوب. وكان لهذه التحركات السياسية دورها في تعبئة الفلاحين، وأبناء المدن وإلى تعميق مضمون التناقضات الاجتماعية مع سلطات الاحتلال.
ورداً على تلك التحركات، قامت سلطات الاحتلال بإعداد وتنفيذ حملات عسكرية "تأديبية" شرسة ضد الفلاحين من أبناء العشائر. فكان منها التصدي لانتفاضة تلعفر وثورة السليمانية ودير الزور والنجف. ومنها قمع التحركات الأخرى في بغداد وغيرها من المدن، مما أجج الوضع العام بأكمله. ومع أنَّ العلاقات ما بين العشائر أو ما بين الشيوخ المستغِِلين والفلاحين المستغََلين لم تكن طبيعية. إذ كانت تشوبها التناقضات وضعف الثقة والصراعات. إلا أن شيوخ الدين والأحزاب السياسية ساهموا في تخفيف تلك التناقضات، وتمكنوا من السيطرة على الصراعات وزرع الثقة في النفوس من أجل مواجهة مشتركة ضد الاحتلال البريطاني. يشير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) إلى أن ثورة العشرين كانت: "وليدة عاملين خطيرين أولهما الضغط والاستغلال الاقتصادي واستنزاف جهود العاملين في الزراعة خاصة- والعراق قطر زراعي قبل كل شئ- والاستيلاء على مواردها من الخامات بأبخس الأثمان وردها بعد استخدامها في الصناعة الحديثة لتصريفها في أسواق هذه البلاد بأعلى الأثمان، وهذا هو جوهر الاستعمار الحديث... أما العامل الثاني في اندلاع الثورة فهو ذلك الضغط السياسي أو الحجر على الأفكار والحيلولة بين أبناء البلاد وبين التعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، واختيار حكامهم وحكوماتهم بملء إرادتهم ثم للمحاولات التي بذلتها السلطة المحتلة لفرض نوع من السيطرة الاستعمارية المباشرة على العراق". ويتضمن مقتطف الشيخ محمد رضا الشبيبي تأكيداً صريحاً على الوعي السياسي والاجتماعي لعدد من قادة الثورة يومئذ، وفهمهم للأسباب التي دفعتهم للمشاركة بالثورة.
وما خلا ذلك، فإن ظروف الحرب، أوجدت بذاتها نوعاً من الحركة التجارية النشيطة نسبياً في الأسواق المحلية، استفادت منها مجموعات من التجار. إلا أنها اقترنت بإفقار شديد للكادحين من ذوي الدخل المحدود؛ بسبب نقص فرص العمل، والتشرد وارتفاع أسعار السلع والخدمات (التضخم النقدي) ، وكذلك النهب المتواصل والمتنوع للمحاصيل الزراعية والإيرادات من جانب سلطات الاحتلال الإنكليزي؛ وبعض الإقطاعيين وتجار الجملة، أنتجت في بعض مناطق العراق مجاعات بشعة. ومنها المجاعة التي وقعت في الموصل، والتي أودت بحياة الألوف من السكان. ويورد الدكتور الوردي في هذا الصدد ما يلي: "ولكن هذه المنافع التي جناها قسم من الناس تقابلها مضار أصابت القسم الآخر منهم. فقد ارتفعت أسعار الحبوب ارتفاعاً فاحشاً كاد يؤدي إلى مجاعة في بغداد. فقد كان سعر طغار الحنطة في الحلة في العهد التركي يتراوح بين 8 و10 ليرات، فارتفع في عهد الاحتلال إلى مائة ليرة. وفي بغداد ارتفع سعر الطغار إلى 120 ليرة. وحدثني أحد شيوخ المشخاب فقال: إن طغار الشلب كان سعره في العهد التركي يتراوح بين 35 و50 ليرة".
وبعد استكمال احتلال العراق من جانب القوات البريطانية، عمدت سلطات الاحتلال إلى تنفيذ سياسة تستهدف تحقيق مصالحها الاقتصادية؛ وتعزيز تلك القواعد الاجتماعية، التي تخدم مصالحها على الأمد الطويل. وهي تلك الفئات والعناصر التي سعت قبل ذاك بسنوات، إلى بناء علاقات جيدة مع الشركات التجارية البريطانية والقنصليات العاملة في العراق. فعمدت سلطات الاحتلال إلى تعزيز علاقاتها بالبرجوازية الكومبرادورية الجديدة، التي ساهمت بتكوينها، وسعت إلى فرض وجودها وتحصين مواقعها من جهة، وإلى تعزيز علاقاتها بالإقطاعيين، الذين شجعتهم على بسط نفوذهم وتأثيرهم على عشائرهم في المناطق التي يقيمون فيها من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها بمجموعة من الضباط العراقيين، التي كانت تعمل قبل ذاك في القوات العثمانية، ثم انقلبت ضد القوات التركية، وساهمت في مشروع الشريف (حسين) واتفاقه السياسي مع الإنكليز. وإلى العمل على اختيار مجموعة من الناس من أبناء العائلات الميسورة والمعروفة؛ لتعيينها في وظائف إدارية، ترتبط بسلطات الاحتلال، وتخضع لإشرافها. وكانت هذه الخطوات هي البداية الأولى لتكوين البيروقراطية العراقية الحديثة؛ التي ارتبطت مصالحها - بهذا القدر أو ذاك - بمصالح الوجود البريطاني في العراق، فخدمت مصالحه مؤثرة إياها على مصالح المجتمع العراقي. ولكنها اعتمدت في بعض الأحيان على من كان يعتبر من "المنبوذين" في المجتمع؛ فأساءت إلى من كان يعتبر من "الأشراف" والشيوخ والمحترمين في المجتمع. وقد كان لهذا التصرف نتائج سلبية برزت في علاقة الشيوخ ومجموعات من الأشراف مع القوات والسلطات البريطانية. وقادت سياسة سلطات الاحتلال البريطانية، التي تضمنت اختيار شيخ من شيوخ العشائر في منطقة معينة، ومنحه راتباً ثابتاً للمحافظة على أمن المنطقة؛ إلى إثارة إشكالات سياسية وصراعات بين العشائر، التي كانت تقطن في المنطقة ذاتها، والتي لم يتم الاتفاق معها. فكان المال - ولا يزال – يلعب دوراً كبيراً في كسب رضا أو كراهية العشائر العراقية. وهو ما أدركته جيداً مس (بيل) فتعاملت معه بذكاء كبير.
ومع ذلك كانت هذه السياسية قصيرة النظر، وجلبت لبريطانيا الكثير من المتاعب، إضافة إلى ذلك فإنها كانت تهدف إلى تشديد الخلافات بين شيوخ العشائر؛ ليسهل عليها السيطرة عليهم جميعاً. وهذا ما حصل مع الشيخ (ضاري الظاهر) رئيس عشائر (الزوبع) ليكون مسؤولاً عن الأمن والنظام في منطقته على سبيل المثال لا الحصر.
وعمدت تلك السلطات إلى الاعتراف بالتشريعات، التي صدرت في العهد العثماني؛ فأقرت عمليات توزيع أراضي الدولة على رؤساء العشائر والشيوخ وكبار موظفي الدولة في العهد العثماني. لكنها حرمت الفلاحين والشيوخ الوطنيين - في بعض مناطق الفرات الأوسط بصورة خاصة - المعادين لسلطات الاحتلال من الأراضي الزراعية. ولم تكتف بذلك، بل قامت سلطات الاحتلال البريطانية في هذه الفترة بتوسيع عمليات منح الأراضي الزراعية باللزمة. كما عملت على توسيع نشاط الشركات البريطانية لزراعة المحاصيل الصناعية ولاسيما القطن، واستولت على مساحات معينة من أكثر الأراضي الزراعية خصوبة ووضعتها تحت تصرف تلك الشركات.
إن أكثر العوامل التي حركت الفلاحين والملاكين معاً، إضافة إلى عامل الشعور الوطني والديني، هي تلك الأساليب التي مارستها سلطات الاحتلال الاستعمارية في السيطرة على المحاصيل الزراعية والموارد المالية على أساس جباية الضرائب من السكان. وقد تفننت أكثر من العثمانيين في إيجاد الصيغ والحجج لتحقيق ذلك، ومن جملتها فرض "التبرعات" الإلزامية على المواطنين في المدينة والريف. وتشير بعض المصادر إلى أن الضرائب المفروضة على السكان، قد تضاعفت أكثر من ثلاث مرات خلال فترة وجيزة. كتبت جريدة (المانجستر گارديان) تهاجم الإدارة البريطانية في العراق في سنة 1920 لا لأنها لم تحقق آمال العرب في الحرية والاستقلال فحسب، بل لأنها رفعت ضرائبهم إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه قبل الاحتلال البريطاني. وتنوعت الضرائب فكان منها: ضريبة النخيل، وضريبة المحاصيل الزراعية المختلفة، وضريبة الملك، وضريبة الدفنية...الخ، ومنها العمل على جمع التبرعات للصليب الأحمر، وبناء الملاجئ للجنود في بريطانيا، وإقامة تمثال لقائد حملة احتلال بغداد الجنرال (مود)،...الخ. كتبت جريدة "الفرات" بهذا الصدد قائلة: "لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة، التي أهلكت الحرث والنسل، وأتت على الأخضر واليابس، فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر، واستخرجتم المخ من العظم، وضاعفتم الخراج أضعافاً للزراع، فأصبحوا يسألون الناس إلحافاً وأنتم تسألونهم فوق الجهد، وتكلفون نفوسهم فوق الوسع. أهذا عدلكم؟".
وكانت إدارة المعتمد البريطاني تجبي نوعين من الضرائب من السكان: ضريبة العين وضريبة النقد. وكانت هذه الضرائب لا تخضع لمعايير سليمة، وتتم على أساس التخمين بالنظر. وكان الخاسر دائماً هو الفلاح المنتج. وتشير تقارير الحكام السياسيين في المناطق الزراعية، إلى أن جلّ وقتهم قد صرف للاهتمام بالشؤون المالية، التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى جباية الضرائب غير المشروعة للإدارة البريطانية. كتب حاكم الديوانية في سنة 1918 لدائرة الحاكم الملكي ببغداد يقول: يجب أن نقرر هنا بأن جزءاً كبيراً من وقت الحاكم السياسي مخصص للقضايا المالية أو القضايا التي ترتبط بها بصورة غير مباشرة" . فمن هنا يتبين لنا بأن الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة في الريف والمدينة - وهي تشكل غالبية السكان - كانت تتعرض إلى عمليات نهب منظمة وجشعة واستغلال شديد من جانب سلطات الاحتلال البريطانية، تساوت مع أساليب أجهزة الولاة العثمانيين. إضافة إلى استغلال الشيوخ، وكبار ملاك الأراضي الزراعية، والبرجوازية التجارية والربوية المتنقلة بين الريف والمدينة . ومن هنا أيضاً يتبين بوضوح لِماذاَ كانت جموع الفلاحين الجيشَ الأساسي لهذه الثورة الوطنية.
العوامل الاجتماعية والدينية
في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، برزت بعض مظاهر التفكك البطيء جداً في العلاقات الأبوية في الريف العراقي؛ لأسباب ارتبطت بدور العلاقات السلعية الجديدة التي كانت قد نمت بفعل حركة الرأسمال التجاري الغربي في العراق، وسعي جمهرة الإقطاعيين الصغيرة، وكبار الملاكين في تشديد الاستغلال على الفلاحين، ونزوح مزيد من العائلات الفلاحية إلى المدن - رغم بؤس المدن ذاتها حينذاك - وانتزاع مزيد من الأراضي الزراعية العائدة للفلاحين، من جانب الإقطاعيين وكبار الملاكين بدعم من سلطات الاحتلال البريطانية، التي قامت بتوزيع الكثير من الأراضي الزراعية على مؤيديها من شيوخ العشائر. وكان الفلاحون في ريف الوسط والجنوب وفي ريف كُردستان وعموم الشمال - رغم تشابك العلاقات العشائرية والأبوية بينهم وبين رؤساء عشائرهم - يعانون من مصاعب جمة. وعلى الرغم من هذه المصاعب، ورغم ضعف الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجمهرة الواسعة والأساسية من الفلاحين؛ وأبناء العشائر في ريف المناطق العربية والكُردية، استطاعت هذه الفئة أن تحافظ على علاقاتها العشائرية، وعلى خصائصها وطبيعتها الأساسية في العراق لفترة طويلة لاحقة، استمرت إلى ما بعد تشكيل الحكم الوطني. وكانت العلاقات العشائرية من جانب، والعلاقات الدينية من جانب آخر؛ تتحكمان بقوة بسلوك الفلاح، والبدوي شبه المستقر، وابن البادية المتنقل. بالرغم من أنَّ نسبة عالية من هؤلاء لم يلتزموا – بسبب طبيعة عيشهم - بأركان الدين كالصلاة والصوم والزكاة على سبيل المثال لا الحصر. كما كان تأثير العلاقات العشائرية والدينية على سكان المدن كبيراً؛ لأنَّ أغلب قاطني المدن كانوا من أصل فلاحي أو ريفي.
ويلاحظ في هذا السياق وجود تمايز نسبي بين المناطق العربية والكُردية. إذ كان التزام الفلاح الكُردي المسلم بالشعائر الدينية، كالصلاة والصوم..الخ أقوى من التزام البدوي أو الفلاح العربي المسلم بها. وهذه الظاهرة لا تعني أن احترام الفلاح للدين وشيوخ الدين كان قليلاً، ولا تعني أن التزامه بتنفيذ الفتاوى التي يصدرونها والمشورات التي يقدمونها للناس كان ضعيفاً. وإنه لجدير بالإشارة أن شخصيتين كانتا تؤثران بقوة على سلوك الفلاح والمواطن في الريف عموماً - وكذلك على أولئك الذين هجروا الريف واتخذوا من المدينة موطنا لهم حيث استمروا في ممارسة عاداتهم وتقاليدهم الفلاحية لفترة طويلة من الزمن - وهما شيخ العشيرة أو البيگ والأغا والإمام أو السيد أو الملا بالنسبة للمسلمين، والقس بالنسبة للمسيحيين، و الحاخام بالنسبة لليهود، والأمير بالنسبة للإيزيديين، وشيوخ الدين بالنسبة للصابئي المندائي.
وقد نشأت في الريف العراقي علاقة اقتصادية متينة بين أطراف ثلاثة، وهم: الفلاح، شيخ العشيرة، عالم الدين أو ممثله في الريف. فالفلاح هو المنتج الفعلي والوحيد للخيرات المادية في الريف. ويتضمن إنتاجه الريع الذي يقتطعه منه شيخ العشيرة، أو المالك للأرض الزراعية، أو مالك حق التصرف بها، أو الإقطاعي. وكان شيخ الدين يتسلم حصة من الإنتاج، تقتطع أساساً من الإنتاج الضروري للفلاح، إضافة إلى حصوله على حصة إضافية، تمنح له من الشيخ، أو مالك الأرض، أو الإقطاعي. وهي في كل الأحوال تعتبر جزءاً من الريع، الذي يفرض على الفلاح تقديمه بصور مختلفة. وفضلاً عن هذا فإن الفلاح كان يتوجب عليه أن يدفع الضريبة التي تفرضها الدولة عليه من حصته من الإنتاج. ولا شك في أن شيوخ الدين الشيعة كانوا يعيشون أساساً على هذه الحصة؛ لأنهم كانوا لا يتسلمون راتبا من الدولة كما هو حال شيوخ الدين السنة. هذا بالإضافة إلى ما كان يصلهم من زكاة وغيرها من سكان المدن، ومن الزوار القادمين من بلدان أخرى، أو ما يأتيهم من الهدايا والعطايا والزكاة، التي كانت ترسل لهم من مختلف بقاع العالم، أينما وجد أتباع للمذهب الشيعي الإثني عشري أو الجعفري. وعلى هذا الأساس كانت علاقة شيوخ الدين، بالفلاحين وبالإقطاعيين أو بشيوخ العشائر، قوية بالمقارنة مع علاقة شيوخ الدين السنة، الذين كانت علاقتهم المالية محصورة بالحكم؛ إذ كانت الدولة هي التي تدفع رواتبهم الشهرية. وفضلاً عن هذا فإن الفلاح كان يقدم جزءاً من محصوله نقداً أو عيناً إلى السادة وشيوخ الدين العاملين في العتبات المقدسة - إضافة إلى القرابين (النذور) التي يلتزم بها الفلاح كل عام لأسباب كثيرة أمام الله والأئمة - وتدفع في الغالب الأعم عينا. ولوحظ خلال تلك الفترة، أن زيادة حجم الضرائب المجباة من قبل سلطات الاحتلال البريطانية؛ أدت إلى تقليص كبير في الحصة المتبقية للفلاحين من صافي الإنتاج أولا، وإلى تقليص حصة الإقطاعي، أو المالك، وشيخ العشيرة ثانيا . وأدت كذلك إلى تقليص حصة شيوخ الدين، والمقلدين، والسادة ثالثاً. وقاد هذا إلى تدهور كبير في مستوى معيشة الفلاحين، وفي مستوى معيشة شيوخ الدين إلى حد ما وخاصة الصغار منهم. وكانت هذه المسألة واحدة من بين أهم المسائل أو الأسباب الكامنة وراء تحرك شيوخ العشائر، وملاكي الأراضي، وشيوخ الدين في المناطق الشيعية. إضافة إلى الحس الوطني والواجبات الدينية، التي ستوظف لمقاومة سلطات الاحتلال البريطانية.
العوامل النفسية
مع أنّ علاقات واسعة وطويلة، نشأت بين مجموعات من البريطانيين العاملين في الشركات التجارية، أو في التنقيبات عن الآثار، أو في القنصليات البريطانية ذات النفوذ الواسع والعلاقات المتينة مع العراقيين داخل العراق؛ فإن البريطانيين لم يدركوا تماماً طبيعة المجتمع العراقي العشائري، البدوي منه أو الريفي. ولم يفهموا أهمية وضرورة احترام كرامة الإنسان والعشيرة، والابتعاد عن توجيه الإهانات شتماً أو ضرباً أو تمادياً باللفظ الجارح، وتجنب الاعتقالات دون مبررات ومسوغات توجبه .إضافة إلى الأساليب المرهقة في جباية الضرائب والإتاوات وما شاكلها. كما أنهم عمدوا إلى تغيير أساليب التعامل مع العراقيين، خلافاً لأساليب تعامل الدولة العثمانية مع العراقيين. سواء من حيث فرض الانضباط والالتزام بالنظام، أم من حيث مضمون المساواة في المجتمع، التي سماها الدكتور على الوردي "عدالة مكروهة" ؛ أي عدالة تنفيذ الالتزام بالنظام من جانب شيوخ العشائر أو أفرادها.
وكان أحد العوامل البارزة في كراهية الناس للحكم العثماني، يكمن في التعامل غير الإنساني، وفي الإساءات المتكررة من جانب السلطات العثمانية وأجهزة الجندرمة للعراقيين وهم في بلادهم. ومنها حملات الجندرمة العسكرية والإهانات والضرب وما إلى ذلك. والمعلومات المتوفرة عن الأساليب التي استخدمها الحكام السياسيون، والعسكريون البريطانيون، في المناطق التي كانت تحت إشرافهم على العراقيين كثيرة - ابتُدئ باستخدامها بمجيء نائب الحاكم الملكي العام (أرنولد ولسن) وانتهت بنهاية آخر ممثل لبريطانيا، امتلك سطوة الحكم في مناطق العراق المختلفة – تشير إلى أنها كانت أساليب قهرية ذات طبيعة ازدرائية، تتسم بالتعالي والاحتقار والعسف إزاء سكان البلاد من عرب وكُرد وغيرهم. إذ كان بعضهم يسعى إلى تركيع العراقيين بحجة أنهم يرفضون الانصياع للقوانين والتعليمات والأوامر. كتب كمال مظهر أحمد بهذا الشأن يقول: "تكررت في كُردستان نفس صورة التعنت والتعالي للحكام والضباط السياسيين الإنكليز، الذين أثاروا بتصرفاتهم استياء مختلف الفئات الاجتماعية في الوسط والجنوب. فإذا كان رجل حاكم النجف السياسي گرينهاوس (Greenhause) يستعملون السوط حينما كان يمر لفتح الطريق أمامه، فأن زميله الميجر سون كان يعيد الشيء نفسه بفظاظة أكبر في السليمانية، ويفرض غرامات يومية على عدد من الناس البسطاء بحجج واهية , بل كان يجبر الجميع على أن يرفعوا فروض الطاعة لأصغر موظف لديه" . وجاء في وثيقة لجمعية العهد - فرع الموصل - بشأن الإهانات التي كانت توجه للمواطنين، والتي كانت تزيد من غضبهم وكراهيتهم للإنكليز، ما يلي: "لم تترك الحكومة الاحتلالية شيئاً من أنواع الشدة والقسوة إلا واستعملته مع الأهلين , وأن أدنى خطأ يصدر من أحد الناس يكون جزاؤه الضرب على عجزه مجرداً عن الثياب حتى أن الدم كثيراً ما كان يتطاير من جسده وتبقى مواضع السياط قروحاً لا تندمل مدة طويلة. أما الجزاء النقدي الذي قد شكل أعظم منبع لواردات حكومة الاحتلال فأن المحكومين يعدونه نعمة كبرى إزاء العذاب الجسماني والحقارة التي توجه إليهم بتشغيلهم بالأشغال السافلة".
وكشفت جريدة "الفرات" طريقة تفكير البريطانيين بالعراقيين وتصورهم لهم، وأسلوب تعاملهم اليومي معهم، حين كتبت مقالاً افتتاحياً عن الإنكليز جاء فيه ما يلي: "شاهدنا قوماً ليسوا من البشر أفسدوا البلاد واضطهدوا العباد وسحقوا القوانين العامة وهتكوا حرمة الشرايع الموضوعة وهدموا دعائم النظام الاجتماعي الجديد .. قلّب صفحات التاريخ القديم والحديث فلا تجد سوى الإنگليز أفسدوا النظام وأسقطوا حقوق الإنسان، فلا حرية ولا طمأنينة، ونزعوا الملكية وهي من حقوق الإنسان المقدسة لأنها من لوازم الحرية والمساواة، نعم فهم كما أسقطوا حقوق الإنسان المدنية أسقطوا حقوقه السياسية , فعاد ولا حق له، محروماً من كل مميزاته، محروماً من عمومياته وذاتياته" . ولا شك في أن هذا القول فيه الكثير من المبالغة؛ إذ لم تكن للإنسان من مواطني الدولة العثمانية أية حقوق، ولا تقارن معاملة الانجليز للإنسان بمعاملة الجندرمة العثمانية له. ومع ذلك فإن أساليب الاستعمار في إخضاع السكان، كانت تشبه - من حيث المبدأ - أساليب العثمانيين من بعض الوجوه.
والآن دعونا نقرأ ما كتبه (ستيفنسن لونگريگ) عن العراقيين في كتابه المسمى "العراق الحديث من سنة 1900 إلى سنة 1950" يقول: "لقد كانت الصحافة ضعيفة التزود بالمعلومات، وغير مسؤولة ومتطرفة في الحس الوطني، ومعادية للأجانب بصفة قاسية. كان يجري تنظيم التظاهرات بصفة أيسر وبالقليل من النفقات وبأي اتجاه سياسي يراد. أما الأحزاب فلم تكن في الغالب سوى محض عصابات من الشخصيات، ليست لها تنظيمات متواصلة أو واسعة، أو أية سياسة ثابتة ما خلا سياسة معاداة الإنكليز. وكان يسمح بحرية الكلام إلى حد إبداء الآراء المتطرفة التي يندر أن تكون معتدلة. وكان العنف أو المقاطعة ينتظر أية سياسة واضحة، مهما كانت تلك السياسة حكيمة أو مخلصة، إذا ما بدا عليها بأنها سوف تفشل في ميدان الحمية القومية". وهو يدلُّ على عجز هذا الكاتب البريطاني – وهو من ضباط الحملة العسكرية في العراق أثناء الحرب العالمية الأولى، تولى عدة مناصب استشارية في الحكومة العراقية، وكان حاكماً سياسياً لكركوك - عن رؤية الأسباب التي حملت العراقيين على النظر بهذا المنظار إلى البريطانيين، وبتعبير أدق، الاستعمار البريطاني، الذي جاء محتلاً، وتصرف كمحتل فقمع ثورتي 1919 و1920 وفرض على العراق معاهداته واتفاقياته، وكرّس فيه مصالحه. ثم راح يوجه التهمة للعراقيين أنْ وقفوا من السياسة البريطانية هذا الموقف، وتصرفوا إزاء البريطانيين في العراق هذا التصرف.
وليست ببعيدة عن ذاكرة العراقيين، حادثة الشيخ (ضاري) مع الضابط البريطاني (ليجمن). إذ وجه (ليجمن) العديد من الإهانات المتلاحقة للشيخ (ضاري) لأنه رفض تجديد التعاون معهم. من بعد أن كان تعاون معهم لفترة من الزمن. يذكر الدكتور علي الوردي في معرض حديثه عن هذه الواقعة ما يلي: "يروى أن (ليجمن) كان لا يتردد عن إهانة (ضاري) في بعض الأحيان حتى أنه خاطبه ذات مرة باسم "الشيخ ضارط"، وتلك إهانة لا يتحملها رجل كالشيخ (ضاري) ذي الجذور البدوية الأصيلة. ويروى أيضاً: أن (ليجمن) أولم في أحد الأيام، وليمة لرؤساء عشائر منطقته، كان ضاري من بينهم. ولما دعوا إلى تناول الطعام، اتجه ضاري نحو صدر القاعة؛ لكي يجلس مع الرؤساء الكبار، فتقدم منه (ليجمن) وخاطبه أمام الحاضرين قائلاً: "قم ليس هذا مكانك". فظهر أثر الغضب واضحاً على وجه ضاري إلى الدرجة القصوى" . ويذكر الدكتور الوردي أيضاً: أن (ليجمن) كان في حديث مع الشيخ (ضاري) فجاء إلى المخفر سائق سيارة وأخبر "عن حادثة سلب وقعت بالقرب من سدة الترك، فظهرت أمارات الغضب على وجه (ليجمن) فالتفت نحو (ضاري) قائلاً: "هذي كلها حركاتك. وأنت تعمل تشويشات في الطريق". فأخذ (ضاري) يعتذر له بأنه لا علم له بهذه الأمور. وعند هذا التفت (ليجمن) نحو آمر الشبانة (عبد الجبار الجسام) الذي كان واقفاً بالقرب منه موعزاً إليه أن يتوجه مع نفر من رجاله لمطاردة اللصوص. ثم أضاف (ليجمن) إلى ذلك طالباً من عبد الجبار أن يأخذ معه (خميس بن ضاري) لكي يعاونه في مطاردة اللصوص. وعلى أثر مغادرة (عبد الجبار) للمخفر بصبحة (خميس بن ضاري) قُتل (ليجمن). وقد اختلفت الروايات في كيفية مقتله اختلافاً عجيباً. ومن يطلع على تلك المحاضر (محاضر المحاكمة) يشعر شعوراً واضحاً بأن (ليجمن) وجه إلى (ضاري) إهانة لم يتحملها، ولاسيما أنها جاءت بعد إهانات أخرى سابقة، ولعلها كانت (لضاري) القشة التي قصمت ظهر البعير. وعند هذا أشار (ضاري) إلى أبنه (سليمان) الذي كان واقفاً بالقرب منه قائلاً "دگوه". فأطلق (سليمان) النار من بندقيته على (ليجمن). وعند هذا قام (ضاري) وأخرج سيفه من غمده وأهوى به على (ليجمن) بضربة على رأسه وصدره. وسمع أحد الشهود (ليجمن) في تلك اللحظة وهو يقول " لا .. لا .. لا .." بينما سمعه شاهد آخر يقول "يازي يا ضاري .. يازي يا ضاري ..". ثم سقط (ليجمن) على الأرض يتخبط بدمائه. وأسرع رجال (ضاري) بعد ذلك فقتلوا خادم (ليجمن) وسائق سيارته، وسلبوا كل ما كان لدى الشبانة من بنادق وخيل وملابس".
ويورد الدكتور (الوردي) الكثير من نماذج الإساءة للعراقيين، التي كان يراد بها تحطيم معنويات الناس وكرامتهم وإذلالهم. مما رفع من درجة الحقد والكراهية لدى الناس، وعمّق فجوة انعدام التفاهم بين الطرفين. هذا على الرغم من أن الإنكليز الذين جاءوا إلى العراق محتلين، كانوا - من حيث المظهر - أكثر تحضراً - بما لا يقاس- من حكام الدولة التركية العثمانية المتخلفة، التي جثمت طويلاً فوق صدور العراقيين. والحكايات التي تروى عن الميجر (ديلي) حاكم الديوانية (القادسية) أو عن الكولونيل (ليجمن) حاكم الدليم (الأنبار) وعن غيرهم كثيرة جداً. وربما كان في بعضها شيء من المبالغة. إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإطار العام لحقيقة الأوضاع التي كانت سائدة حينذاك في العراق. فعلى سبيل المثال لا الحصر يورد الدكتور علي الوردي بهذا الصدد ما يلي: "الواقع أن القصص التي تروى عن فظاظة ديلي كثيرة، وهي لا تخلو من مبالغة طبعاً، غير أنها لا تخلو من حق أيضاً. يروي فريق المزهر الفرعون: أن ديلي أصدر أوامره بأن كل خيال يأتي إلى الديوانية يجب أن يترجل عن ظهر حصانه قبل وصوله إلى البلدة بخمسمائة متر، وأن يخلع عقاله ويسير مشياً على الأقدام. وقد غضب ديلي مرة على أحد رؤساء عفك فحكم عليه بغرامة مقدارها 25 كيلو من الروبيات، فاضطر الرجل أن يذهب إلى السوق ويأتي بكيس الروبيات يحمله على كتفه. وكان ديلي إذا استدعى إليه بعض رؤساء العشائر الكبار لأمر من الأمور تركهم ينتظرون مقابلته يوماً أو عدة أيام، وإذا سمح لأحدهم أخيراً بالدخول عليه تركه واقفاً بينما هو ينظر في الأوراق التي بين يديه. ثم يرفع عينه متسائلاً: "أنت شاسمك؟ لويش جاي؟". أو الإهانة التي وجهها لأحد الشيوخ المعممين، الشيخ هادي، عندما رآه يتبول في حديقة بيته، فاستدعاه معنفاً إياه: "أنت شيخ هادي ليس تصير شيخ مطي"، ثم فرض عليه غرامة قدرها عشر روبيات فدفع الشيخ الغرامة صاغراً".
ليس من شك في أن الحكام المباشرين، الذين عينوا في العراق حينذاك، لعبوا دوراً كبيراً في اختيار الأساليب التي يرونها مناسبة، في تنفيذ سياسات الحكومة البريطانية في العراق؛ لكونها ترتبط مباشرة بسبل التعامل مع البشر بوجه خاص. وهذا يعني أن طبيعة هؤلاء الحكام المباشرين، وسلوكهم الشخصي، واتجاهاتهم الذاتية، كانت تشارك - بهذا القدر أو ذاك - في التأثير على تلك الأساليب وتلوينها من حيث الشدة أو اللين ، ولكن السياسة العامة للحكومة البريطانية، وأهدافها المقرَّر تنفيذُها في العراق، تبقى هي المسؤولة الأولى عن التعامل اللاإنساني من جانب موظفي وزارة المستعمرات، والقوات المسلحة البريطانية. إن الحكومة البريطانية باختصار هي المسؤولة وحدها عن نتائج سياستها التي انتهجتها في العراق. ويبدو السيد حسن شبر محقاً إلى حد بعيد حينما أشار في هذا الصدد إلى هذه النقطة: " لقد حاولت الحكومة البريطانية تبرير هزيمتها السياسية وأخطائها الكبيرة في العراق، بإلقاء تبعة ما حدث على أرنولد ولسن نائب الحاكم الملكي العام في العراق. لكنه تبرير غير مقنع , لأن ولسن كان ينفذ القرارات الصادرة من لندن".
لقد تعامل ولسن بحقد، وذهنية استعمارية شديدة العداء للآخر، ونقل هذه الذهنية إلى غالبية العاملين معه من البريطانيين في أنحاء العراق. ولكن هذه الذهنية كانت تسيطر أيضاً على العاملين في وزارة المستعمرات في لندن، وعلى ذهنية أولئك المهيمنين على الحكم الاستعماري في الهند. يواصل حسن شبر تقويمه لسياسة ولسن فيقول: "إن سياسة ولسن الحاقدة، وممارساته القاسية، ونزعته الاستعمارية الشديدة، التي يريد من خلالها إحكام السيطرة المباشرة على العراق. وقد جعلت الأنظار تتوجه إليه على أنه المخطئ الأول. فلم يكن ولسن يتعامل بمرونة سياسية , إنما بأسلوب استعماري خشن" . وهذا يقتضي التأكيد على حقيقة تاريحية مهمة، وهي: أن السياسة الرسمية للدولة البريطانية، هي التي كانت تحدد سير العملية الاستعمارية، وترسم اتجاهاتها العامة. ولكن المنفذين لها، لعبوا مع ذلك دوراً كبيراً في صياغة طبيعة الأساليب والأدوات والممارسات، التي اتخذوها لتنفيذ تلك السياسة. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإن (ولسن) يتحمل مسؤولية قسط وافر من ممارساته العدوانية في العراق، التي لم تكن خالية من العنصرية والفظاظة. ينقل (حسن شبر) عن (أرنولد ولسن): أنه عندما علم بالاتهامات التي وجهت له، باعتباره المسؤول المباشر عن تلك الأخطاء، قال: "لا أعتقد أن أي شيء فعلته، أو كان أن أفعله، كان سيغير مجرى الأحداث بصورة جوهرية … وإذا كانت حكومة صاحب الجلالة ترغب في الاستفادة من خدماتي ككبش فداء , فإني لن أحاول تفادي هذا المصير".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العوامل الخارجية
لم يكن الانقسام في المجتمع العراقي – وهو انقسام بدأ مع الحرب العالمية الأولى، ودخول الدولة العثمانية في الحرب إلى جانب ألمانيا، وما تلا ذلك من إعلان الوقوف إلى جانب بريطانيا من جانب الشريف حسين في عام 1916 وإعلان الثورة العربية على الدولة العثمانية - قد توقف بعد انتهاء الحرب، واستسلام الدولة العثمانية، واحتلال العراق من قبل بريطانيا؛ بل اتخذ أبعاداً جديدة، وأضيفت إليه عوامل وقوى جديدة، واتخذ له وجهة أخرى؛ فأصبح الأمر يطرح نفسًه في سؤالٍ على النحو الآتي: من الذي يقف إلى جانب الوجود البريطاني في العراق، ويعتبره ضرورياً لتطور العراق؟
ومن يقف ضد الوجود البريطاني في العراق، ويدعو إلى نيل الاستقلال والسيادة الوطنية؟ إن الفترة بين 1918 و1920 كانت فترة تبلورت فيها المواقف بوضوح بين بريطانيا التي تريد البقاء - وخاصة بعد تسلم (ويلسون) المسؤولية في العراق خلفاً للسير (وليم كوكس) . وهو الذي كان راغباً في ربط العراق بالهند ربطاً محكماً لتبقى مستعمرة دائمة لبريطانيا – وبين غالبية العراقيين في موقفهم الداعي إلى الاستقلال. وإن الاختلاف في المواقف بين العراقيين تركز بالأساس بين أوساط معينة من الشعب العراقي - لم يكن مستوى الوعي آنذاك يسمح حقاً بالتعرف على نوايا الاستعمار البريطاني، أو أغراضه في العراق. فلم يكن سهلاً مثلاً على الفلاحين الخاضعين لتسلط شيوخهم، والمحرومين من نعمة القراءة والكتابة، أن يصلوا إلى مصادر المعلومات، أو يطلعوا على مجريات الصراع في العراق والمنطقة؛ فيدركوا أبعاد الصراع واتجاهاته – ولم تكن هذه الأوساط إلا مجموعات من المثقفين والأفندية وشيوخ الدين، ومجموعات من شيوخ العشائر المتنورة، وأبناء الميسورين، وأبناء الطبقة المتوسطة. وكانت هذه الاختلافات في المواقف، تبرز في موضوعات الدعاية العراقية المناهضة للوجود البريطاني، التي اتخذت في حينها صيغاً مختلفة، تراعي مستوى وانتماء الجماعات التي يراد إيصالُ المعلومة إليها. ففي الوقت الذي كان يجري الحديث فيه عن الدين، وعن التباين بين المسلمين والبريطانيين الكفار (المقصود هنا المسيحيين البريطانيين) في الأوساط الدينية، وفي الريف، وفي صفوف فقراء المدن والكادحين - وكان هذا الحديث يستخدم طريقة سيئة بلا شك، بعيدة عن الصحة، ذات أهداف مغرضة، تسيء لأتباع الديانات الأخرى – نجد صيغاً أخرى مختلفة من الدعاية، تمارس من قبل المثقفين العراقيين من الأفندية، تتجه نحو فضح الأهداف الرئيسة للهيمنة البريطانية، التي تريد استثمار موارد العراق وخيراته، واستغلال شعبه، وتجهد في نشر الأنباء عن نكث بريطانيا وعودها في تحقيق الوحدة العربية أو في تحقيق الحكم الذاتي للكُرد، في أوساط الشعب العربي والشعب الكُردي معاً.
ولعب العامل الخارجي العربي والإقليمي والدولي، دوراً مهماً في تنشيط الكفاح الداخلي، وفي تفجير الثورة العراقية. فثورة العشرين مثلاً، التي جاءت استكمالاً لانتفاضة النجف في عام 1918 وكذلك ثورة السليمانية عام 1919 , قد تأثرتا بالعوامل الخارجية التالية:
- اطلاع الأوساط العراقية – تلك الأكثر احتكاكاً بالمعلومات القادمة من الخارج، عبر الصحافة العربية وغيرها - على ما تنشره الصحف البريطانية، وعلى ما يدور من نقاشات في مجلس العموم البريطاني حول مطالبة العراقيين بالاستقلال، أوحول التحركات السياسية والنضالات المسلحة، التي كانت تؤرق الأوساط البريطانية وسلطات الاحتلال، وتثير جمهرة غفيرة من الشعب البريطاني، من دافعي الضرائب، ومن المجندين في الخدمة في العراق، كانت تطالب الحكومة البريطانية بالانسحاب من العراق، ومنح البلاد استقلالها، باعتبار الاستقلال مطلباً عراقياً ملحاً. وكان هذا النقاش يشجع العراقيين، عندما كان يبث في المضايف والمجالس الدينية والشعبية. وكان يحفز الناس ويدفعهم إلى التفكير بالمشاركة في العمل؛ من أجل هذا الهدف. كما كانت الأوساط العراقية الواعية على اطلاع على المبادئ، التي طرحها الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون، حول حرية واستقلال الشعوب، والتي روجت لها الدعاية الأمريكية في صراع الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا؛ لغاية في نفسها وهي: أن تحتل الولايات المتحدة موقعاً لها تحت الشمس، وموقعاً لها في المياه الدافئة. ولا شك في أن الحركات المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، والصراعات الدولية، والخوف من تطور الأوضاع في غير صالح الدولتين، أرغمت الحكومتين البريطانية والفرنسية على إصدار بيان سياسي، تضمن التأكيد على الرأي الذي أذاعه الجنرال مود عشية احتلاله بغداد، بأن المحتلين جاءوا محررين لا مستعبدين. وقد جاء في البيان ما يلي: "إن الغاية التي ترمي إليها كل من فرنسة وبريطانية العظمى في خوض غمار الحرب في الشرق من جراء أطماع ألمانية، هي تحرير الشعوب التي طالما رزحت تحت أعباء استعباد الأتراك تحريراً تاماً نهائياً، وتأسيس حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من رغبة نفس السكان الوطنيين ومحض اختيارهم. وتنفيذاً لهذه الغايات قد اتفقت كل من فرنسة وبريطانية العظمى على تشجيع ومساعدة إنشاء حكومات وإدارات وطنية في كل من سورية والعراق، وقد حررها الحلفاء فعلاً، وفي الأقطار التي يسعى الحلفاء إلى تحريرها، والاعتراف بهذه الأقطار بمجرد تأسيس حكوماتها تأسيساً فعلياً". وكان لهذا البيان الذي صدر في نوفمبر عام 1918 تأثير إيجابي لصالح النضال ضد الهيمنة البريطانية على العراق، بعكس ما توقعته كل من بريطانيا وفرنسا.
وكانت مس (گرترود بيل) واعية لوجهة تطور الأحداث في العراق. نقل الدكتور عبد الله فياض عنها ما روت في الثاني عشر من يناير 1920 قالت: "أبتهل إلى الله أن يهدي قادة الرأي في وطننا ويجعلهم يفهمون أن الأفضل أن نعترف بطموح العراقيين السياسي منذ البداية وألا نحاول أن نضغط على السكان. ومن يعلمنا بأننا قد نفقد سيطرتنا على العراق خلال سنة واحدة أو أقل. وذلك لأن عوامل الاضطراب من الشمال والشرق آخذة مجراها وربما يكون لهذه العوامل تأثيرها في أهل العراق. ليتني أتمتع بتأثير أكثر مما أتمتع به الآن حتى أقنع الآخرين بوجهة نظري. وقد كتبت حول هذا الموضوع إلى إدوين "Edwin" هذا الأسبوع , وسأكتب إلى السير هرتزل "A. Hirtzel" ".
ورغم كل مصاعب الارتباط بين العراق، وبقية الأقطار العربية والبلدان المجاورة، فإن نضال العراقيين بمختلف فئاتهم الاجتماعية، لم يكن معزولاً تماماً أو منفصلاً عن النضالات السياسية القائمة في تلك الأقطار أوبلدان الجوار. كانت لأحداث تلك البلدان تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على الوضع في العراق؛ فثورة 1919 في مصر وتحركات البرجوازية والقوى الوطنية الأخرى في سوريا ولبنان عام 1918، والحركة (المشروطية) في إيران، والحركة الدستورية، وصعود الكمالية في تركيا خلال الفترة ما بين 1919-1921 كانت لها جميعاً أصداء مدوية في العراق، أيقظت تطلعات فئات معينة من أبناء الشعب العراقي. وكانت بلاد الشام، التي نصب فيصل بن الحسين في عام 1919 ملكاً عليها، تشمل سوريا ولبنان وفلسطين. وكانت خاضعة للاحتلال البريطاني الفرنسي، مع أن القائد العام لقوات الحلفاء في المنطقة كان بريطانياً . وكانت الأحداث فيها تغلي مطالبة بإلغاء الاحتلال ومنح سوريا الاستقلال، وأصبح شعار "سوريا للسوريين" هو السائد. وبعد عودة فيصل من جولته في أوروبا إلى دمشق، أمكن تشكيل المجلس الوطني، وعقد اجتماع له صدرت عنه مجموعة من المقررات ذات الأهمية البالغة، ومن بينها:
"1- الاعتراف باستقلال سوريا، وبضمنها فلسطين كدولة ذات سيادة، وتنصيب الأمير فيصل ملكاً عليها، والاعتراف باستقلال العراق.
2= نقض اتفاق سايكس – بيكو، ووعد بلفور، وكل مشروع يرمي إلى تقسيم سوريا وإنشاء دولة يهودية في فلسطين.
3- رفض الوصاية السياسية، التي ينطوي عليها نظام الانتداب المقترح،.. ".
وقد كان لهذه المقررات - وهي عشرة - تأثير واضح على المجموعات العراقية التي كانت حينذاك في سورية، سواء أكان أفرادها من المدنيين أم من العسكريين الذين انخرطوا في القوات المسلحة السورية. فحركتها هذه المقررات، وقادتها باتجاه عقد اجتماع لها، معتبرة نفسها ممثلة للشعب العراقي. وقد تمخض الاجتماع عن اتخاذ قرارات تضمنت مايلي :– حسبما ذكر جورج أنطونيوس الذي كتب يقول : "اجتمع المؤتمر السوري في دمشق يوم 8 مارس (1920) وقرر إعلان استقلال سورية وبضمنها فلسطين ولبنان كدولة ذات سيادة شكل الحكم فيها ملكي دستوري والمناداة بالأمير فيصل ملكاً، ثم اجتمع الزعماء العراقيون واتخذوا قراراً مماثلاً بشأن العراق الذي انتخبوا الأمير عبد الله ملكاً عليه , وقد أضيف على قرار المؤتمر تحفظ يبقي للبنان حقه المكتسب في الحكم الذاتي ضمن نطاق الوحدة السورية وتقرر كذلك أن تقوم الإدارة في سوريا والعراق على أساس اللامركزية وهي الفكرة التي كانت موضوع الخلاف القديم بين الترك والعرب".
ولم يكن التأثير الوارد من سوريا مقتصراً على الجانب التطبيقي، بل تجاوزه إلى التأثير الفكري والسياسي، الذي تجلى في الصحافة السورية، التي كانت تصل إلى العراق. وكذلك في الأخبار التي كانت تتناقلها المجالس العراقية، وشيوخ الدين، وشيوخ العشائر في مضايفهم. وكان السوريون متأثرين بفكر الثورة الفرنسية التحرري، الذي نشرته البرجوازية المنتفضة من جور النظام الإقطاعي في عام 1789 رافعة شعارات "الحرية والإخاء والمساواة" التي انتقلت بدورها إلى الأوساط العراقية العاملة في السياسة، والمهتمة بقضايا تحرر العراق. ويقال أن الأمير فيصل لم يكن يرسل الدعاة إلى بغداد؛ لتحريك الناس والقبائل من أجل الاستقلال فقط، بل كان يرسل الأموال بالاعتماد على القوات البريطانية المرابطة في سورية أيضاً . ولكن استطلاع الرأي الذي قام عبد الرزاق الحسني في حينها، مع مجموعة لها شأن من قادة الثورة من جهة ، والمعلومات التي استطاع الحصول عليها الدكتور عبد الله فياض من جهة ثانية، تشير إلى أن الثوار، لم يحصلوا على مساعدات مالية من الأمير فيصل في سوريا.
- وإلى جانب التأثير المباشر لسوريا على الحركة السياسية المناهضة لبريطانيا في العراق؛ لعبت ثورة 1919 المصرية بقيادة سعد زغلول – كما أشرنا من قبل - دوراً محفزاً لتلك الأوساط، التي كانت على إطلاع على أخبار الثورة من جهة، وعلى فكر الثورة من جهة ثانية، وهو الفكر الذي كان يتجلى في ما تنشره الصحافة المصرية من معلومات وقيم نضالية ضد الهيمنة الأجنبية، ومن أجل استقلال مصر والدول الإسلامية الأخرى. وكانت تلك المعلومات تتسرب إلى الناس في المدينة على وجه التخصيص . وكانت التحركات الفلاحية في الريف المصري، تنتقل أخبارها إلى الريف العراقي أيضاً، فيجري الحديث عنها في مضايف الشيوخ وفي مجالس المدينة. كتب محمد مهدي البصير - نقلاً عن الدكتور الوردي - يقول: "إن أخبار سعد زغلول والشعب المصري من جهة، وأخبار الملك حسين وأنجاله في الحجاز وسوريا من جهة الأخرى , كانت حديث الخاص والعام في العراق وقلما خلا مجلس من ذكرها" .
- وكان للعلاقات بين العراق وإيران، ومجيء الزوار الإيرانيين إلى مدن مثل كربلاء والنجف والكاظمين وغيرها من مدن العتبات المقدسة، ومدن جنوب العراق، واحتكاكهم المتواصل بالناس وبشيوخ الدين؛ تأثير خاص سلك اتجاهين هما: تبادل وجهات النظر حول تطور الحياة السياسية في إيران، ودور شيوخ الدين وتجربتهم في النضال من أجل الدستور في الحركة؛ التي عرفت منذ بداية القرن العشرين بالحركة المشروطية، والموقف من الهيمنة البريطانية على إيران من جهة، ونقل أخبار ثورة أكتوبر البلشفية الاشتراكية، والثورة الألمانية، ودور العمال والفلاحين في هذه الثورة من جهة ثانية. ولم تكن كل أخبار الثورة، ولا كل المعلومات التي تصل عنها واضحة المعالم بالضرورة أو مفهومة الأهداف. إذ أن بعض الصحف كانت تشكك بأهداف الثورة ومواقفها من العراق أو الدول العربية، ولكن بعضها الآخر كان يشير إلى الدور، الذي لعبته الثورة البلشفية، في نشر المعلومات والوثائق والمؤامرات التي حاكتها، والاتفاقات التي عقدتها قبل ذاك الدول الاستعمارية لتقسيم مناطق النفوذ بينها. ولاسيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. وفي الوقت الذي يجب أن لا تتم المبالغة فيه بدور هذه الثورات البعيدة عن العراق؛ لقلة الأخبار التي كانت ترد إلى الناس العراقيين عنها؛ يكون من الخطأ نكران أي تأثير فكري وسياسي غير مباشر لها على الحركات السياسية في المنطقة العربية، أو في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ويتجلى هذا في العديد من كتابات الحكام السياسيين البريطانيين في العراق وفي غيرها، وفي الأخبار التي كانت تصل إلى العراقيين، وتتجلى في ما كانت تتناقله المجلات أو الصحف التي يطلع عليها بعض المثقفين من السليمانية أو من غيرها من مدن العراق. ولا شك في أنَّ المصادر التي تشير إلى وجود صلة مباشرة بين رجال ثورة العشرين - سواء أكانوا من شيوخ الدين أو من غيرهم - برجال الثورة الروسية أو بالقنصلية السوفييتية في إيران شحيحة جداً، ولم يؤكدها رجال الثورة، الذين قيل أنهم كانوا على صلة بالسوفييت. كما في حالة المرزا محمد رضا الشيرازي، وهو ابن حجة الإسلام والمسلمين العلامة المرزا محمد تقي الحائري الشيرازي، الذي لعب دوراً قيادياً في الثورة، وأعطى فتاوى تنشط التحرك ضد المحتلين البريطانيين، والذي ورد ذكره وهو يجيب عن أسئلة الدكتور عبد الله فياض الواردة في كتابه المشار إليه سابقاً "الثورة العراقية الكبرى" .
- ومع ذلك فإن الأحداث التي وقعت قبل وأثناء وبعد ثورة العشرين، تؤكد وجود تأثير ضئيل غير مباشر لثورتي شباط البرجوازية 1905 وأكتوبر الاشتراكية في روسيا القيصرية في عام 1917 ثم إقامة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، على أوساط معينة من قادة الثورة، انتقل من خلالهم إلى المقاتلين في جيش الثورة. وفي هذا الصدد يورد (فولفو) في كتابه عن تاريخ الأقطار العربية المعاصر ما يلي:
"وإلى العراق وسوريا، تسربت أنباء الثورة الروسية عن طريق خط الجبهة القفقاسية حيث كان يتجابه الجيشان الروسي والتركي (ففي 1916 خاضت القوات الروسية غمار المعارك ضد الأتراك قرب خانقين، أي في أراضي العراق)، وكذلك عن طريق إيران والهند. وبين جنود الجيش التركي الذي يضم كثيرين من العرب، انتشرت بسرعة أنباء الحركة الثورية البادئة التي قام بها جنود الجبهة القفقاسية الروسية والمجموعة من القوات الروسية في إيران، ونبأ إطاحة العمال والجنود في روسيا بحكم الملاكين العقاريين والرأسماليين. وكانت واسعة الشعبية على الأخص الأنباء القائلة أن الجنود الروس يطالبون بوقف الحرب على الفور، وعقد الصلح، وتقسيم الأرض بين الفلاحين." ثم يواصل فيقول: " وإلى المناطق الجنوبية من بلاد ما بين النهرين، تسربت أنباء الثورة في روسيا بصورة رئيسية عن طريق إيران والهند، فأن جيش الاحتلال البريطاني في العراق كان يتألف على الأغلب من جنود هنود. ولن نبالغ إذا قلنا إن شعوب العراق قد شعرت مباشرة بتأثير الثورة الروسية". وجاء في البرقية التي أرسلها السير (أي. تي. ولسن) الحاكم الملكي العام في العراق، إلى وزير الهند في 12/8/1920 تشخيص 14 سبباً للثورة على الاحتلال الإنكليزي. وفي السبب الخامس يذكر ولسن ما يلي: " نقاط الرئيس ويلسون الأربع عشرة، وما أنتجته من هياج وتأثير زاده أثراً الشريف، والأتراك، والبولشفيك من متطوعين ومأجورين".
- وكان للعمال الهنود، الذين عملوا في الموانئ العراقية، وفي الثكنات والمنشآت العسكرية والإنتاجية، دور محسوس في إعطاء صورة واقعية عن حقيقة الاستعمار الإنكليزي في الهند؛ وعن المصائب التي تعاني منها شعوب الهند نتيجة لذلك.
- وكان لتركيا تأثير مباشر على القوى، التي رفعت السلاح - باسم الجهاد الإسلامي ضد الكفار – في وجه القوات البريطانية التي احتلت البصرة في عام 1915. والمعلومات التي كانت بريطانيا تنشرها حينذاك، تؤكد وجود تلك الصلة، حيث كانت تصل الأسلحة والأموال إلى الحركات السياسية المناهضة لبريطانيا في العراق. والأهم من هذا هو أن الحركة الدستورية لعام 1908 - ومن ثم الثورة الكمالية - كان لهما تأثير مباشر على الحركة السياسية العراقية المطالبة بالحرية واللامركزية في علاقاتها مع الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. أي أنها كانت من المحفزات الأولى السابقة للتحرك والثورة على بريطانيا.
لقد كان لهذه العوامل وغيرها، تأثير مباشر وغير مباشر، على شيوخ الدين، والمثقفين، والموظفين الأفندية، وشيوخ العشائر في بادئ الأمر، ثم تنتقل من خلالهم إلى جمهرة أخرى من الناس، حتى تصل إلى عموم الشارع العراقي. أضف إلى ذلك المعاناة المباشرة للسكان من ظلم البريطانيين - الذي أشرنا إليه سابقاً - إذ أنها ساهمت في تحفيز همم العراقيين، ودفعت الكثيرين منهم إلى تغيير موقفه تغييراً إيجابياً من الانتصار البريطاني على الدولة العثمانية في بدايته، وإلى المطالبة بتنفيذ التعهد الذي التزمت به بريطانيا أمام الشريف (حسين) والالتزام أمام العراقيين ببيان الجنرال مود المتضمن أنهم جاءوا محررين لا محتلين، أو بالبيان الفرنسي البريطاني المشترك الذي صدر في عام 1918.
القيادة والتنظيم
كانت قيادة ثورة العشرين، تتكون من مجموعة من شيوخ الدين، وشيوخ العشائر، وبعض كبار ملاك الأراضي الزراعية، ومجموعة من الثوار المنحدرين من صفوف الفئات المتوسطة والميسورة؛ ومن صغار البرجوازيين، والمثقفين والمهتمين بالشؤون الوطنية والقومية والفكر التقدمي. والغالبية العظمى من هؤلاء كانت لا تنتمي إلى أحزاب سياسية، باستثناء قلة منهم كانت في قيادة أحزاب تلك الفترة، أو من المؤيدين لأهدافها الوطنية والقومية والاجتماعية العامة. تميزت قيادة الثورة بالجرأة والرغبة في تحقيق المهمات، ولكنها كانت تفتقد وحدة القيادة، والانسجام الفكري، أو التنسيق المطلوب. وإذا كان الريف والمدن المجاورة له، خاضعة لتأثير وسلطة شيوخ الدين البارزين، وشيوخ العشائر من مالكي الأراضي الزراعية، فإن مدينة بغداد والبصرة والموصل، كانت تحت تأثير الأحزاب السياسية، وأبناء العائلات الميسورة المشاركة في الثورة، وتأثير بعض المثقفين والتجار الوطنيين البارزين والوجوه الاجتماعية. ومن الخطأ هنا تقدير دور وتأثير شيوخ الدين تقديراً يقلل من شأنه على سكان المدن، الذين لم يتخلوا عن تقاليدهم وعلاقاتهم القديمة بالريف العراقي؛ لأنها كانت واسعة وعميقة يصعب التخلي عنها . وكان هناك تباين واسع في رؤية المشكلات القائمة، وأساليب المجابهة، بين أعلام الثورة. حيث كان الأسلوب العشائري- الفلاحي- الفردي هو الغالب المهيمن على تصرفات الثوار، وعلى مراكز اتخاذ القرارات و الخطط والتنفيذ. كما أن طبيعة قيادة الثورة، من حيث تكوينها والشخصيات المشاركة فيها، كانت تفتح مسالك عديدة للمساومة مع سلطات الاحتلال البريطانية، ومع الشخصيات العراقية تلك التي وقفت في وجه الثورة، وتعاونت مع قوات الاحتلال. وصحيح أنّ البنية الاقتصادية، والمواقع الاجتماعية، والمواقف السياسية والفكرية، والمصالح العامة والخاصة، لم تكن متناقضة تمام التناقض، إلا أنها كانت متشابكة شديدة التعقيد، يستطيع المتتبع لها أن يشخصها في عدد من شيوخ العشائر، وكبار مالكي الأراضي الزراعية، الذين كانوا يخشون على الأراضي التي بحوزتهم من المصادرة في حالة فشل الثورة. وفي بعض رجالات حزب العهد وبخاصة أولئك الضباط، الذين أطلق عليهم لقب الضباط الشريفيين (نسبة إلى الشريف حسين شريف مكة)، والذين كان لتخاذل العديد منهم، وارتداد بعضهم الآخر أثناء العمليات العسكرية للثورة، أثره البارز في إضعاف وتفكك قيادة الثورة وجيشها. وفي انعدام التوازن في قدرات المعسكرين، من حيث الكفاءة القتالية، والتنظيم والتسلح، والوحدة القيادية، والاتصالات بين مناطق العمليات الثورية المختلفة لصالح القوات البريطانية. وفي مساهمة الفئات المتوسطة حديثة التكوين العاملة في قطاع التجارة والنقل. فهي رغم كونها أكثر حزماً واستعداداً للمجابهة، إلا أنها كانت أكثر ضعفا وأقل خبرة وأدنى قدرة على التأثير وحسم الأمور، وكان عدد المؤيدين والمشاركين منها في الثورة يكاد لا يذكر، بالقياس إلى عدد الثوار من أبناء الريف؛ لأنّ دورها الرئيس تمركز في المدن، حيث لم يكن للمدن ذلك الدور المتميز في الثورة ما عدا بغداد، التي كان لتلك الفئات الاجتماعية دور بارز، في نضج العملية الثورية، وفي التعبئة والحشد والمواجهة السياسية مع قوات الاحتلال البريطاني.
هكذا كانت طبيعة قيادة الثورة، أما الفلاحون فقد شكلوا جيشها الأساس، بجانب أعداد قليلة من أبناء المدن من العاطلين عن العمل، ومن أشباه البروليتاريا ذوي الأصل الفلاحي، ومن العمال، وبعض الكسبة والحرفيين، والمثقفين والمتعلمين ممن استجاب لنداء القوى الدينية، والأحزاب السياسية أمثال: حرس الاستقلال، وحزب العهد، والجمعية الوطنية الإسلامية. ولا يصعب هنا تفسير النسبة العالية من الفلاحين وسكان الريف المشاركين في الثورة، فالفلاحون آنئذ كانوا يشكلون غالبية سكان العراق، وكانت أوضاعهم المزرية، والتدهور الشديد الذي يعاني منه الريف يدفع إلى الثورة. لقد لعب انخراط الفلاحين بكثرة في الثورة، والجيش والقيادة، دوره البارز الملموس في النجاحات الفعلية، التي تحققت في معارك الثورة عند بدايتها، ثم في النتيجة المؤلمة التي انتهت إليها العمليات العسكرية؛ بنجاح قوات الاحتلال في ضرب وتحطيم البنية التي كانت تعتمد عليها الثورة. وتعود أسباب هذا النجاح: إلى التبعثر الفلاحي والتباعد والانتشار الواسع على مناطق العراق. وإلى القيادات الفردية للعشائر المشاركة في الثورة. وإلى صعوبات الاتصال بين الثوار؛ بسبب رداءة الطرق وانعدام الوسائل الأخرى التي تخدم عملية التنسيق بين العشائر والقيادة، وبين الريف والمدينة، بالإضافة إلى قلة التدريب، وضعف الانضباط، وسوء الإعداد، وقلة ورداءة وقدم الأسلحة، التي كانت في حوزة الثوار وندرة العتاد، وإلى الاعتماد الرئيس على الخصائص المميزة للفلاحين في تلك المعارك، التي وإن كانت ذات تقاليد رجولية شرقية وجريئة وعلى استعداد عالٍ للتضحية، إلا أنها كانت مغامرة، وعفوية، وقلقة، وغير منظمة، وغير ملتزمة، وغير عقلانية في آن واحد. وإذا كان الهدف الرئيس واضحاً لبعض القيادات المشاركة في الثورة، فإنه لم يكن واضحاً تماماً لدى عدد كبير من جيش الثوار، ولم يكن موحداً.
وخلال فترة مقاومة الاحتلال البريطاني - ما بين الحرب العالمية الأولى وثورة العشرين - استنزفت قوات الثورة الكثير من طاقاتها وقدراتها الفعلية. فانتفاضة تلعفر ودير الزور والسليمانية والنجف، وهبّات غيرها في مواقع أخرى، قد مكنت سلطات الاحتلال، من توجيه الضربات المنفردة لها؛ مما عطل مساهمة بعض تلك المناطق في ثورة العشرين مساهمة فعالة، ولكنه لم يستطع أن يعطل تعاطفها معها وتأييدها الضمني لها.
الثورة
واقعة الرميثة
في 25 يونيو رفعت عشيرة الظوالم وهي فرع من بني حجيم راياتها معلنة الحرب على الإنجليز وفي يوم 30 من نفس الشهر استُدعيَ الشيخ شعلان أبو الجون وهو رئيس عشيرة الظوالم إلى السراي الحكومي في بلدة الرميثة والتي تقع في جنوب العراق وقد لبى الشيخ شعلان طلب الاستدعاء وحضر إلى السراي في ظهر ذلك اليوم [9]. وقد أبدى الشيخ شعلان كثيرا من الشراسة في مقابلته مع المعاون الحاكم السياسي في الرميثة الملازم هيات مما دفع الأخير إلى حجزه وتوقيفه في السراي بقصد إرساله إلى مدينة الديوانية بواسطة القطار [10]. وعند هذا التفت الشيخ شعلان إلى أحد مرافقيه الذي جاء معه طالبا منه إخبار ابن عمه الشيخ غثيث الحرجان بأنه في حاجة إلى عشرة ليرات عثمانية وإنها يجب أن ترسل إليه قبل موعد القطار ولما وصل الخبر إلى الشيخ غثيث عرف من إن الشيخ شعلان بحاجة إلى عشرة رجال أقوياء من العشيرة بدلا من الليرات العشر وبعث الرجال إلى السراي بغية تحرير الشيخ شعلان. وبعد مهاجة السراي من قبل الرجال العشرة تم تحرير الشيخ شعلان وعاد هو إلى مضارب عشيرته سالما وكانت هذه الحادثة الشرارة التي اطلقت الثورة [11].[12].وبعد هذه الحادثة حصلت عدة معارك في أهمها معركة البو حسان، العارضيات الأولى والعارضيات الثانية [13].وكما تم قصف بلدة الرميثة لأول مرة بالطائرات إثناء المواجهات [14]. وقد كانت هذه المواجهات بين كر وفر تارة للعشائر وتارة للإنجليز ولم تنجح جهود الوساطة التي بذلتها العشائر في المنطقة في حل هذه المشكلة بين الطرفين [15]. ومع استمرار المعارك بين العشائر الثائرة وما بين الإنجليز قرر آية الله السيد محمد تقي الشيرازي القيام بواسطة لوقف القتال وقد قرر هو بأن يرسل وفدا إلى مدينة بغداد لغرض مقابلة آرنولد ويلسون الحاكم السياسي للعراق المعين من قبل االإنجليز لغرض المفاوضة وقد اختار لهذا الغرض رجلين هما السيد هبة الدين الشهرستاني والمرزا محمد الخراساني [16]. وعند وصول الوفد المفاوض إلى مدينة بغداد إتصل بالقنصل الإيراني لكي يكون وسيطا لدى الحاكم السياسي آرنولد ويلسون غير أن ويلسون رفض الوساطة فعاد الوفد المفاوض إلى مدينة كربلاء بدون أية نتيجة تذكر [17]. وقد كتب الشيخ فتح الله الأصفهاني برسالتين أحدهما إلى الحاكم السياسي البريطاني آرنولد ويلسون والأخرى إلى العشائر الثائرة في الرميثة وذلك في شهر تموز ولكن جهوده لم تفلح في حل المشكلة بين طرفي النزاع [18].
إعلان الثورة في المشخاب
في 11 يوليو اجتمع رؤساء العشائر في المشخاب في مضيف الشيخ عبد الواحد الحاج سكر وقرروا البدء بإعلان الثورة وفي اليوم التالي تم إعلان الثورة وتم رفع رايتها وتقدمت جموع العشائر نحوأبو صخير لمحاصرتها[19]. بدأ حصار أبو صخير في يوم 13 تموز واشتركت فيه عشائر آل فتلة، الغزالات ,آل شبل وآل إبراهيم وفي يوم 14 من نفس الشهر أرسل الإنجليز زورقا بخاريا يحمل عددا من الجنود وبعض مواد التموين وكانت الباخرة الحربية فاير فلاي تسير وراء الزورق لحمايته فحاولت العشائر الاستيلاء عليه وجرى تبادل شديد بالنيران بين الباخرة الحربية والعشائر [19].
مؤتمر الكوفة
في يوم 17 يوليو عقد في مدينة الكوفة مؤتمرٌ لعقد هدنة ما بين الثوار في منطقة لواء الشامية والنجف والإنجليز وقد حضر المؤتمر عن الجانب الإنجليزي الميجُر توربري الحاكم الإنجليزي للواء الشامية والنجف [20]. ومثل الثوار بالإضافة إلى رؤساء العشائر الموجودة في المنطقة كل من الشيخين عبد الكريم الجزائري وجواد الجواهري اللذان كان مندوبين عن الشيخ فتح الله الأصفهاني وقد تم الاتفاق أخيرا ما بين الطرفين على هدنة تكون مدتها أربعة أيام ابتداء من اليوم الأول من شهر ذو القعدة لسنة 1338 هجري الموافق ليوم 17 تموز حيث تنسحب حامية أبو صخير إلى الكوفة من دون أن يصيبها أي أذى وقد تعهد من جانبه الميجر نوربري بمراجعة الحاكم العام ببغداد حول مطاليب الثوار في اللواء وهي:
- العفو العام عن جميع العراقيين بمن فيهم أهل الرميثة، الشامية والدغارة.
- توقف جميع الحركات العسكرية وإصلاح سكة الحديد ونقل القوات العسكرية من مكان إلى آخر.
- إطلاق سراح جميع المعتقلين والمنفيين خصوصا ابن المرجع الشيعي الميرزا محمد تقي الشيرازي
- تشكيل المؤتمر العراقي [21]
.[22].ولم تستمر الهدنة الموقعة ما بين الطرفين التي كان أمدها أربعة أيام إذ تم إختراقها من قبل كلا الجانبين في اليوم الثالث أي في يوم 19 تموز ويرجع السبب الرئيسي في خرق الهدنة من قبل الثوار هو أن الكثير منهم قد ندموا في إعطاء هذه الهدنة وتخليص حامية أبو صخير من الحصار بعد أن كثر عليهم النقد والتجريح.[23].حيث هاجم ثوار المنطقة خمسة شخاتير وهي محملة بالموؤن والعتاد لنقلها لغرض إمداد حامية الكوفة وفي الوقت نفسه هاجم نفر من أهل الكوفة السراي الحكومي الموجود في المدينة وقاموا بالاستيلاء عليه [24]. وبعد هذا التاريخ أضطر رؤساء العشائر المترددون إلى الانضمام إلى الثوار تحت ضغط الرأي العام الذي كان يعد كل من لا ينضم إلى الثورة كافرا نصرانيا [25]. وقام الثوار ومن إنضم معهم بحصار الحامية الإنجليزية الموجودة في الكوفة والتي كان يقدر عدد أفرادها ب 750 شخصا مؤلفة من الجنود ,الشبانة ,الشرطة والموظفين وكأ يرأس الحامية الميجر نوربري وقد بدا الحصار الفعلي للحامية في يوم 21 تموز وأناط الثوار بأمر الحصار بعلوان الحاج سعدون رئيس بني حسن [26]. وقد كانت الحامية قد تحصنت في الخانات المشرفة على النهر كما كانت الباخرة الحربية آير فلاي قد رست في النهر تجاه الحامية لحمايتها [27]. وقد كانت الطائرات الإنجليزية تقوم بالإغارة على الكوفة طيلة مدة الحصار على الحامية وفي يوم 24 تموز ألقت إحدى الطائرات ثلاث قنابل على جامع الكوفة الكبير فأدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس الذين كانوا متواجدين في الجامع [28]. وقد استمر حصار الثوار للحامية الإنجليزية زهاء ثلاثة أشهر وفي يوم 17 من شهر تشرين الأول وعند الساعة الثامنة صباحا وصلت القوات الإنجليزية إلى الأطراف الشمالية من البلدة وكان الثوار متجمعين في البلدة وبعد معركة ما بين الطرفين استطاعت القوات الإنجليزية دخول البلدة وكان ذلك عند الساعة التاسعة والنصف من صباح نفس اليوم [29].كما تم في اليوم نفسه فك حصار الحامية الإنجليزية وفي يوم 20 من نفس الشهر استعادت القوات الإنجليزية المدفع الذي كان الثوار قد غنموه منهم في معركة الرارنجية والذي كان قد أستعمل في قصق الحامية الإنجليزية إثناء فترة الحصار لها [30]
انتشار الثورة في الفرات الأوسط
في 22 يوليو سقطت بلدة الكفل بأيدي المجاميع المسلحة من ثوار المنطقة. وفي يوم 24 يوليو حصلت معركة ما بين القوات الإنجليزية بقيادة الكولونيل لوكن وما بين المجاميع المسلحة من الثوار عبد الواحد الحاج سكر وقد حصلت هذه المعركة عند قناة الرستمية في منطقة الرارنجية والتي تبعد عن بلدة الكفل بمسافة ثمانية أميال وقد عرفت هذه المعركة باسم معركة الرارنجية [31]. حيث هاجم الثوار القوات الإنجليزية في عصر ذلك اليوم وقبيل غروب الشمس من ثلاث جهات جنوب، الشرق والغرب وقد استمرت المعركة قرابة ستة ساعات حقق الثوار نصرا كبير حيث غنموا مايقرب 52 رشاشا وعدد لا يحصى من الحيوانات والأعتدة والنقود [32]. بينما قدر عدد قتلى الإنجليز في تلك المعركة حوالي 20 قتيلا وبلغ عدد الجرحى حوالي 60 جريحاً و318 مفقودا [33]. وفي المنطقة القريبة من مدينة الديوانية وبالتحديد في شمال المدينة بمسافة 42 كيلومترا عند تفرع نهر الدغارة عن نهر الفرات كانت للمشاكل العشائرية دورها في اندلاع الثورة في تلك المنطقة حيث كانت للخلافات القائمة ما بين سعدون الرسن رئيس آل حمد من عشيرة الأقرع وعلوان الجحالي رئيس آل زياد وتحالف الأخير مع الإنجليز ضد سعدون الرسن دوره في إشعال نار الثورة في تلك المنطقة [34]. ومما زاد الأمر تعقيداً هو مقتل علون الجحالي بيد أفراد من آل حمد بعد وشاية علون الجحالي للإنجليز وقيام القوات الإنجليزية بإحراق ونهب مضيف سعدون الرسن بعد هذه الوشاية [35]. وعندها تم إعلان الثورة حيث هاجم سعدون الرسن ومن معه من آل حمد بلدة الدغارة وتمكنوا من الاستيلاء على مخفر البلدة وبعد قرابة الثلاث أسابيع وبعد حدوث معركة الرارنجية أخذ الكثير من شيوخ المنطقة بالانضمام إلى الثورة ومساندة آل حمد في قتالهم ضد الإنجليز وبعدها تم الاستيلاء على بلدة عفك [36]. وبعد الانتصارات التي حققتها العشائر في عفك والدغارة ضد القوات الإنجليزية أبرق قائد القوات الإنجليزية في العراق الجنرال هالدين إلى قائد حامية الديوانية الجنرال كوننغهام يأمره بالانسحاب من المدينة إلى مدينة الحلة بواسطة القطار [37]. وقد جمع الإنجليز قواتهم وكل ما لديهم من سلاح وطعام في قطار واحد بلغ طوله ميلا وقد تحرك القطار من محطة الديوانية في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 30 تموز [37]. وقد إستغرقت رحلة القطار حتى وصل إلى مدينة الحلة مدة 11 يوما ويرجع السبب في ذلك هي إن العشائر المنضوية تحت لواء الثورة كانت يقتلعون قضبان السكك الحديدة قبل وصول القطار فيضطر القطار إلى التوقف ويقوم عماله بإصلاح القضبان المعطوبة. وفي إثناء فترة التصليح تهاجم العشائر القوات الإنجليزية فتنشب جراء ذلك معارك دامية ما بين الفريقين وقد كان الإنجليز يعمدون أحيانا إلى إحراق بعض القرى والتي تقع بالقرب من قضبان سكة الحديد وذلك جراء تعاون سكان هذه القرى مع الثوار [38]. وفي يوم 31 تموز بدأت العشائر المناوئة للإنجليز ومن معها من ثوار الذين جاؤوا من مختلف المناطق الجنوبية بالهجوم على مدينة الحلة وقد شن الهجوم من الجهتين الغربية والجنوبية [39]. ولكن الهجوم اخفق إخفاقا تاما وتراجع الثوار عن الحلة واختلفت المصادر في إحصاء عدد القتلى بين كلا الطرفين وتشير المصادر الإنجليزية إن خسائر الثوار بلغت حوالي 149 قتيل اما خسائر الإنجليز فبلغت تسعة قتلى وأقل من عشرين جريحاً[40]. ولم تقتصر خسائر الثوار على هذا الحد فحسب بل إنهم عندما انسحبوا من الحلة توقفوا في منطقة الطهمازية وهي أرض مكشوفة ففاجاتهم طائرة إنجليزية وأمطرتهم بوابل من القنابل فأدى ذلك إلى سفوط مايقرب 22 قتيلا وجرح مايقرب من 30 شخصا [41]. بعد الهزيمة التي لحقت بالعشائر من قبل القوات الإنجليزية نشبت عدة معارك ما بين الطرفين حول سدة الهندية والمسيب والتي تعاقب للسيطرة عليها جموع العشائر الثائرة ومن ثم الإنجليز الذين قاموا باسترداد هاتين البلدتين بعد سيطرة تلك العشائر لهاتين البلدتين لعدة أيام [42]. وفي يوم 14 آب توجهت قوة إنجليزية بإتجاه مدينة كربلاء ولكن هذه القوة واجهت مقاومة شديدة من قبل الثوار والعشائر بالقرب من نهر الحسينية حيث إضطرت على إثرها هذه القوة الإنجليزية إلى التراجع [43].
جبهة السماوة
معركة الخضر
الخضر وهي قرية صغيرة تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات. في 30 يوليو وصل إلى هذه القرية السيد هادي المقوطر قادما من مدينة النجف ليحرض سكان القرية للانضممام إلى الثورة ضد الإنجليز [44].وقد تم له ما أراد إذ بدأت العشائر الساكنة في تلك المنطقة بتخريب خطوط سكك الحديد والتلغراف المارة بالمنطقة [45]. أمر قائد القوات الإنجليزية في العراق الجنرال هالدين القوات المتمركزة في محطة قطارات الخضر بالانسحاب فورا إلى مدينة الناصرية حيث قامت العشائر التي انضمت للثورة حينها بالهجوم على المحطة وكان ذلك في 13 أغسطس حيث كانوا يرمون المحطة بوابل من الرصاص وقد كان يوجد في المحطة قطار عادي وقطاران مدرعان ولكن سرعان ماحصل حادث للقطار المدرع الأول وأدى ذلك إلى مشكلة فخرجت القوات الإنجليزية بالقطار العادي فقط وقد وصل هذا القطار إلى محطة أور سالما في مساء نفس اليوم [46].
معركة البواخر
كانت حامية مدينة السماوة مؤلفة من قسمين أحدهما رئيسي بقيادة الكولونيل "هاي" وكان يعسكر على النهر في موضع يسمى شاطي حسيجة بالقرب من المدينة والثاني كان بقيادة الكابتن "رسل" وقد كان يعسكر حول محطة قطار المدينة التي كانت تقع بالقرب من سور المدينة وكانت حامية السماوة بكلا قسميها قد أصبحت مطوقة بعد انسحاب الإنجليز من قرية الخضر وأخذ الثوار يضيقون على أفراد الحاميتين بالحصار يوما بعد يوم [47]. في يوم 26 آب تحركت من مدينة الناصرية نحو خمسة بواخر ثلاث حربية وإثنتان عاديتان وذلك لنجدة القوات الموجودة في السماوة وبعد معارك ضارية ما بين الثوار والبواخر وصلت باخرتان حربيتان وباخرة عادية إلى حامية السماوة بعد انسحاب إحدى البواخر الحربية في يوم 27 آب وعودتها إلى مدينة الناصرية وتمكن الثوار من الاستيلاء على إحدى البواخر العادية [48]. وقد سقطت المحطة بيد الثوار بعد معارك طاحنة بينهم وبين القوات الإنجليزية وذلك عندما حاولت القوات الإنجليزية الخروج من معسكر المحطة بواسطة إحدى القطارات حيث سقط عدد كبير من القتلى من كلا الطرفين إثناء المواجهات [49]. وبعد هذه المعركة قام الثوار بالحصار على معسكر الحامية الرئيسي والذي كان بقيادة الكولونيل هاي وطلبوا منه الاستسلام إلا أن الكولونيل هاي رفض الطلب وقد دام حصار الحامية قرابة الشهرين إلى ان تم إنقاذها في يوم 14 تشرين الثاني [50].
سقوط السماوة بيد الإنگليز
أرسل قائد القوات الإنجليزية في العراق برقية إلى الجنرال كونغهام والذي كان مشغولا بقمع التمرد في منطقة ديالى يطلب فيها منه العودة إلى بغداد وذلك في يوم 16 أيلول [51]. حيث قام هالدين بإرساله إلى مدينة الناصرية وفي يوم 1 تشرين الأول تحرك الجنرال كونغهام بقواته من مدينة اور متجها نحو الشمال وفي يوم 6 من نفس الشهر وصل إلى بلدة الخضر حيث استطاع احتلالها بعدما لقي مقاومة من قبل الثوار المتواجدين فيها وقد قامت القوات الإنجليزية إثناء سيرها نحو مدينة السماوة بإحراق القرى الموجودة على ضفتي نهر الفرات الموجودة بالقرب من بلدة الخضر [52]. وفي يوم 12 من نفس الشهر وصلت القوات الإنجليزية بالقرب من السماوة وفي اليوم التالي تقدمت هذه القوات باتجاه المدينة فوجدت مقاومة شديدة من الثوار المتمركزين حول المدينة وبعد معركة ضارية انسحب الثوار من مواقعهم التي كانوا متحصنين فيها وفي يوم 14 دخلت القوات الإنجليزية المدينة ولم تجد فيها أية مقاومة وتم فك الحصار عن الحامية الإنجليزية والتي كانت محصورة في شاطيء حسيجة بالقرب من المدينة [53]. وكما حدثت في يوم 12 تشرين الثاني معركة ما بين القوات الإنجليزية والثوار من عشائر بني حجيم عند جسر السوير والذي يعرف كذلك عند المصادر الإنجليزية بجسر الإمام عبد الله والذي يقع على بعد 6 كلم شمال مدينة السماوة قدر فيها عدد قتلى العشائر بنحو 50 شخصا والكثير من الجرحى وعدد قتلى الإنجليز تترواح ما بين 40 إلى 50 قتيلا [54]. وعلى إثر هذه المعركة إستدعى الجنرال كونغهام إليه شخصا يدعى بالسيد محمد لمفاوضة عشائر بني حجيم وبعد مفاوضات ما بين الطرفين تم أخيرا توقيع اتفاق في مدينة السماوة ما بين الطرفين في يوم 20 تشرين الثاني على شروط التسليم مع قبيلة بني حجيم وفخودها حيث جرى تسليم بلدة الرميثة بعد توقيع هذا الاتفاق ما بين الطرفين وتجدر الإشارة كذلك من إن الإنجليز لم يقوموا باعتقال أي فرد من شيوخ بني حجيم [55].
الثورة في كربلاء
أصبحت مدينة كربلاء في عهد الثورة ذات أهمية كبرى وذلك لسببين وهي وجود المرجع الشيعي الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي فيها وكذلك قرب المدينة من جبهات القتال [56]. وبعد معركة الرارنجية التي حدثت يوم 25 تموز قررت كربلاء الانضمام إلى الثورة حيث اجتمع رؤساء البلدة بمعاون الحاكم السياسي محمد خان بهادر وطلبوا منه تسليم كل مالديه من صلاحيات إلى هيئة وطنية ينتخبها رؤساء البلدة فطلب منهم محمد خان مهلة يومين [57]. وقد حاول محمد خان بهادر خلال هذه المهلة الالتفاف على رؤساء البلدة بالاتفاق مع مدير شرطة المدينة ولكن محاولته فشلت وعندئذا التجأ كل من محمد خان بهادر ومحمد أمين ومعهم عريف بالجيش الإنجليزي لدار الشيخ محمد رشيد الصافي وبعدها تطوع الشيخ فخري كمونة بحماية الثلاثة وقام بإخراجهم من المدينة بإمان [57].[58]. وفي اليوم التالي اجتمع رؤساء البلدة ووجهاؤها بالشيخ الشيرازي وتقرر عندئذ تشكيل مجلسين لإدارة المدينة هما الشعبي والوطني مهمتهما الإشراف على المدينة وجباية الضرائب فيها وتعين الموظفين والشرطة [59]. وبعد وفاة الشيخ محمد تقي الشيرازي في يوم 17 آب تم حل المجلسين اللذين تشكلا بعد إعلان الثورة في كربلاء [60]. وبعد وفاة الشيرازي ظهرت الحاجة لتعين متصرف في مدينة كربلاء يشرف على شؤون الأمن والنظام وذلك حسما للخلافات التي بدت بوادرها بالظهور بين رؤساء ومشايخ المدينة من أجل السلطة فتقرر اختيار محسن أبو الطبيخ متصرفا على المدينة [61]. حيث جرى تنصيب أبو طبيخ في يوم 6 تشرين الأول [62]. قامت القوات الإنجليزية بشن هجوز واسع في المناطق الوسطى وذلك لاسترداد ما فقدته من مدن ومناطق وكان لسقوط مدينة الهندية (طويريج) في يوم 13 تشرين الأول بيد القوات الإنجليزية الأثر الأكبر في نشر الخوف والرعب ما بين الأهالي في مدينة كربلاء عندها قرر وفد يمثل شيوخ ووجهاء المدينة بالذهاب إلى مقر قوات الإنجليزية والمتمركز في مدينة الهندية لغرض تسليم مدينة كربلاء للقوات الإنجليزية بدون قتال. وقد وصل وفد كربلاء إلى الهندية في يوم 17 تشرين الأول [63]. وقابلوا القائد الإنجليزي ساندرز والذي طلب منهم الذهاب إلى بغداد وذلك لمقابلة السير برسي كوكس بعد أن اعادته الحكومة البريطانية حاكما مدنيا على العراق وحين قابل الوفد السير برسي كوكس قدم لهم الأخير ستة شروط ومنها تسليم 17 مطلوبا إلى الحكومة البريطانية [64]. فجرى تنفيذ جميع الشروط الإنجليزية أما بخصوص المطلوبين 17 فقد ألقي القبض على 10 منهم أما الباقين فقد لاذوا بالفرار [65].
القادة في كربلاء
- قادة بني مسعود:
1_ الشيخ شعلان آل عيفان آل كنين
2_ الشيخ نعمة آل فوّاز الهتيمي
3_ الشيخ نايف آل عبد عون الهتيمي
4_ الشيخ متعب آل فوّاز الحاج سعود
5_ الشيخ عثمان الحاج علوّان
6_ الشيخ متعب آل حمزة
7_ الشيخ عبد آل محمد البداحي المسعودي
8_ الشيخ ضيغم آل راشد الهنداسي المسعودي
9_ الشيخ عبد الكريم العوّادي المسعودي
10_ الشيخ حسّون آل صالح الشبابي
- قادة بني أسد:
1_ الشيخ فخر الدين آل كمونة
2_ الشيخ هادي آل محمد آل كمونة
3_ الشيخ عبد الحميد آل كمونة
4_ الشيخ هادي آل كمونة
5_ الشيخ فخري آل كمونة
- قادة اليسار الطائية:
1_ الشيخ جبر آل عباس اليساري
2_ الشيخ حمود آل ناصر اليساري
3_ الشيخ عودة آل رستم اليساري
- قادة آخرون:
1_ السيد عبد الوهاب آل وهاب
2_ السيد أحمد آل ضياء الدين
3_ سيد عبد الكريم الصافي
4_ الشيخ عبد النبي آل عوّاد
5_ السيد مهدي الرشيدي
6_ السيد رضا الشروفي
7_ الشيخ عبد الأمير المنگوشي
8_ الشيخ رشيد الحميري
9_ الشيخ عزيز آل جعفر
10_ الشيخ إبراهيم ابو الوالدة
11_ الشيخ عبد الرزاق الملا موسى
12_ الشيخ عبود الأشمل
13_ الشيخ علي القنمبر
14_ الشيخ طليفح آل حسون
15_ علاسر الحاج علوان
الثورة في النجف
أعلنت الثورة في مدينة النجف في يوم 21 تموز وعند إعلان الثورة في المدينة انسحب معاون الحاكم السياسي للمدينة حميد خان من السراي الحكومي بهدوء وبدون أي مشاكل [66]. وأصبحت مدينة النجف بعد إعلان التمرد تحكم نفسها بنفسها شأنها شأن جميع المدن العراقية التي أصبحت لاتخضع لسلطة الإدارة البريطانية المتواجدة في العراق حيث تقرر في النجف تشكيل مجلسين هما الجلس التشريعي ومجلس تنفيذي على أن يكون عدد أعضاء المجلس التنفيذي للمدينة أربعة أشخاص وهو رؤساء المحلات الأربعة الموجودة في النجف وعلى ان يكون عدد أعضاء المجلس التشريعي ثمانية أشخاص يجرى انتخابهم من المحلات حيث جرت الانتخابات في يوم 25 آب [67]. وقد تمت مبايعة الشيخ فتح الله الأصفهاني لكي يكون المرجع الأعلى لدى الشيعة بعد وفاة الشيخ محمد تقي الشيرازي وذلك في شهر آب [68]. انتهز الحاكم البريطاني على العراق آرنولد ويلسون هذه المناسبة وأرسل رسالة إلى الشيخ فتح الله الأصفهاني وذلك بعد انتقال المرجعية الدينية له في يوم 27 من آب يعرض فيها الصلح [69]. وعند وصول رسالة ويلسون إلى الأصفهاني إستدعى الأخير حاشيته ومستشاريه للمداولة في الأمر وعندها انقسم الجمع إلى فريقين فريق يريد المفاوضة مع الإنجليز لغرض الصلح وفريق رفض ماعرضه ويلسون [70]. وقد اشتد الجدال بين الفريقين وكانت الغلبة فيه للرافضين للمفاوضة مع الإنجليز حيث أرسل الشيخ الأصفهاني رسالة إلى ويلسون يعلن فيها رفضه للصلح [71]. في يوم 18 تشرين الأول وصل إلى مقر الكولونيل الإنجليزي ووكر وفد من أهالي النجف لتسليم المدينة لهم بدون أية شروط [72]. كما أبدى الوفد استعداده لقبول ماتفرضه عليهم الحكومة الإنجليزية من الشروط التي تراها مناسبة وملائمة [73]. وقد كانت أولى شروط القائد الإنجليزي للوفد هو تسليم الأسرى الذين كانوا معتقلين في خان شيلان بالنجف فجرى تنفيذ الطلب وسلم الأسرى في اليوم الثاني إلى القوات الإنجليزبة ولكن الإنجليز لم يعلنوا جميع شروطهم للوفد وذلك لإنشغال قواتهم في قتال في مناطق أخرى وفي صباح يوم 16 تشرين الثاني تلى الإنجليز على علماء ووجهاء النجف بقية الشروط عليهم وذلك بعد أن قاموا بحشد العديد من قواتهم بالقرب من المدينة وقد تم تنفيذ جميع شروط الإنجليز وبعدها دخلت تلك القوات المدينة وقامت بإغلاق باب السور وقامت بمنع الدخول والخروج من وإلى المدينة إلا بإذن منها وقد استمر هذا الحال لمدة 24 يوما [74].[75].
الثورة في ديالى
كانت أولى بوادر الثورة في ديالى قد ظهرت في يوم 6 آب [76]. وبعد يومين هاجمت عشيرة الكرخية دائرة المالية في منطقة مهروت والتي تبعد بنحوا 11 ميلا عن محطة بعقوبة وفي يوم 9 آب هاجمت نفس العشيرة محطة قطار أبو الهوا والتي تقع إلى الشمال من مدبنة بعقوبة وبذلك انقطع حركة القطارات ما بين مدينتي بغداد وخانقين [77]. وفي يوم 11 آب وصل إلى بعقوبة قوة إنجليزية بقيادة الجنرال يانغ [78]. والذي قام بتقسيم قوته إلى رتلين رتل صغير بقيادة الكولونيل وليامز هدفة تأديب القرى التي كانت واقعة على يعد 16 ميلا من سكة الحديد ورتل كبير بقيادة يانغ نفسه هدفه الوصول إلى مهروت. وقد نجح الكولونيل وليامز في مهمته العسكرية أما الرتل الذي كان بقيادة الجنرال يانغ فقد تعرض قبل وصوله إلى منطقة مهروت بمسافة 4 اميال لمقاومة عنيفة من العشائر التي كانت قد أعلنت التمرد على السلطات الإنجليزية حيث أرسل الرتل إلى بطلب النجدة من سريتي البنادق التي كانت متواجدة في مدينة بعقوبة. في الساعة 8 من صباح اليوم التالي التأم الرتلان معا وصارتا قوة واحدة وفي الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم وصل الرتل إلى بعقوبة حيث انسحبت من المدينة في وقت لاحق إلى مدينة بغداد [79]. أدى انسحاب الجنرال بجميع قواته إلى بغداد وما اعقبه من انسحاب الحاكم السياسي لبعقوبة مع موظفيه إلى تشجيع العشائر إلى إعلان التمرد وفي يوم 12 آب اقتحمت عشيرة الكرخية بعقوبة وقامت بأعمال سلب ونهب للمدينة [80]. قام وجهاء بعقوبة بعدها بتشكيل مجلس محلي لإدارة المدينة حيث تم اختيار محمود أفندي متولي لكي يكون رئيسا لهذا المجلس ويكون برتبة قائمقام حيث تم اتخاذ دائرة البريد مقرا لهذا المجلس المحلي ورفعوا فوقه علم الثورة العربية ذو الألوان الأربعة [80]. ولم يستطع المجلس المحلي الذي شكل في بعقوبة من ردع العشائر عن النهب والتعدي حيث أصبحت جميع القرى التي تقع بالقرب من بعقوبة مهددة بالغزو من قبل العشائر [81]. وفي يوم 13 آب وصلت إلى بغداد أول نجدة عسكرية قادمة من الهند وبعدها أخذت القوات بالوصول إلى بغداد من الهند بالتتابع. وقد أرسل الجنرال هالدين الجنرال كونغهام لإستعادة السيطرة على بعقوبة؛ حيث تمكن هذا الأخير من استعادة المدينة في يوم 27 آب بدون وجود أي مقاومة تذكر من قبل الثوار [82]. لم يقم الإنجليز بمعاقبة أهالي بعقوبة على تمردهم على الإنجليز بل اكتفوا بفرض غرامة مالية على اثنين من وجهاء المدينة وهما محمود أفندي المتولي والسيد حبيب العيدروسي [83]. في يوم 3 أيلول أصدر قائد القوات الأنجليزية في العراق الجنرال هالدين منشورا إلى عشائر ديالى [84]. حيث أعلنت غالبية شيوخ العشائر في المنطقة خضوعهم للقوات الأنجليزية بعد إعلان هذا المنشور ورفعوا العلم الأبيض حيث بدؤا يفدون على الجنرال كونغهام ويعلنون خضوعهم التام إليه وفي أوائل شهر تشرين الأول اجتمع شيوخ عشائر ديالى عند مقر الجنرال كونغهام وتعهدوا بأن يكتبوا على أنفسهم صكا بأن لايثورا على الحكومة وأن يقدموا الأموال التي قاموا بسرقتها وألا يقبلوا دخالي أي فرد من المتمردين (اي عدم ايواء الثوار) [85].
الثورة في دلتاوة (الخالص)
اندلعت الثورة في بلدة دلتاوة (الخالص) في نفس اليوم الذي اندلعت فيه الثورة في مدينة بعقوبة أي في يوم 12 آب حيث قامت عشيرة الكبيشات باقتحام البلدة من جهتها الشمالية ولم يقع في دلتاوة من النهب والتخريب كما حصل في بعقوبة؛ وذلك لأن أهالي البلدة وبالتعاون مع عشيرة الكبيشات قاموا بحفظ الأمن والنظام [86]. إضطر معاون الحاكم السياسي للبلدة الكابتن لويد ومن معه من موظفين إلى الاستسلام، وذلك بعد هروب عساكر السراي حيث قام الشيخ عبد العزيز الهويدراوي بحمايتهم، والذي كان أحد وجهاء البلدة [87]. وقد تم نهب دار السراي بعد سيطرة الثوار عليه وتم إنزال العلم البريطاني ورفع محله علم الثورة العربية.أعلن بعدها محمد أبو خشيم وهو أحد شيوخ الكبيشات من إن الحكم قد أصبح في يده وهو يطلب من الاهالي العودة لمزاولة أعمالهم اليومية وأعلن أبو خشيم كذلك العفو العام وقد تم استثناء شخص واحد من هذا العفو وهو أبو العيس والذي كان يشغل منصب الحاجب لدى الحاكم الإنجليزي للبلدة وكانت العشائر تنفر منه جدا [88]. ولم يستمر الحلف القائم ما بين أهالي البلدة وعشيرة الكبيشات إذ سرعان مانشبت الخلافات ما بين وجهاء البلدة والذين اغتاظوا من تنصيب محمد أبو خشيم تفسه حاكما على البلدة وكما ظهرت العديد من الخلافات بين العشيرة وأهالي البلدة منها الاعتداء على اليهود القاطنين في البلدة من قبل أفراد من عشيرة الكبيشات وغيرها من الأمور. وقد إضطر رؤساء البلدة ووجهاءها أخيرا إلى إخراج أفراد عشيرة الكبيشات من البلدة وقرروا بعدها تشكيل مجلس محلي لإدارة البلدة [89]. وقد كان قصف البلدة بالقنابل بواسطة الطائرات ابتداء من الإسبوع الثاني من التمرد الذي حصل في البلدة. في يوم 25 أيلول والذي كان يصادف يوم 10 محرم من سنة 1339 هجرية زحفت القوات الإنجليزية لاحتلال دلتاوة (الخالص) [90]. وكان أهالي البلدة مشغولين حينها بالمواكب الحسينية وبعد معركة ما بين الطرفين تمكنت القوات الإنجليزية من دخول البلدة.
معارك الآثوريين
كان للآثوريين معسكرا يقع على الضفة اليمنى لنهر ديالى بالقرب من جسر بعقوبة وكان يسكنه ما يقارب 40 الف آثوري ومعهم 10 آلاف أرمني. وكلهم كانوا قد نزحوا من مدينة أرومية الإيرانية خلال الحرب العالمية الأولى [91]. وعند نشوب الثورة في ديالى أصبح المعسكر هدفا لهجمات العشائر المتمردة على الإنجليز وصار المعسكر هدفا لهم وعندها صمم الآثوريون على الانتقام جراء ماحصل لهم من قبل الثوار حيث عبرت مفرزة منهم الضفة الأخرى من نهر ديالى وهاجمت أربعة قرى وتمكنت من نهب الحيوانات الموجودة في تلك القرى [92]. في يوم 17 آب خرج قطار من المعسكر متجها نحو مدينة بغداد وهو يحمل جماعة من الآثوريين ومعهم نساؤهم وأطفالهم وقد توقف القطار في بلدة خان بني سعد التي تقع بالقرب من بغداد فأعملوا فيها السلب والنهب مما استطاعوا هم حمله معهم وذلك انتقاما لما تعرضوا له من قبل العشائر الثائرة للإنجليز من قبل [92].
الثورة في منطقة كردستان
ساد نوع من الجو المشحون في مدينة أربيل منذ بداية أغسطس 1920 وفي 5 سبتمبر اشتد التوتر في المدينة جراء وصول أنباء عن قرب احتلال المدينة من قبل عشيرتي السورجي والخوشناو[93]. وفي نفس اليوم قام خورشيد آغا وهو أحد رؤساء العشائر الموالية للإنجليز ومعه 3 آلاف مقاتل بالدخول إلى المدينة [94]. وفي اليوم التالي كادت مشكلة بسيطة ما بين أحد مقاتلي خورشيد آغا وأحد أصحاب الدكاكين من اليهود أن تؤدي إلى نشوب الشرارة التي تلهب الوضع في المدينة لولا تدارك الأمر آمر الشرطة [95]. وفي صباح يوم 8 أيلول وصلت إلى مدينة أربيل طائرة تقل الحاكم البريطاني على العراق السير آرنولد ويلسون وقد اجتمع ويلسون إثناء وجوده بأربيل برؤساء العشائر الموالية للإنجليز ومن معهم من القوات الإنجليزية وقد غادر ويلسون في الساعة الثانية من بعد الظهيرة من نفس اليوم عائدا إلى بغداد [96]. في يوم 9 سبتمبر اجتمع الحاكم السياسي لمدينة أربيل الكابتن هي برؤساء عشائر خوشناو وتم الاتفاق على ان تسحب هذه العشيرة جميع قواتها المنتشرة حول البلدة مقابل إصدار عفو عام عن كل ما صدر منهم في الماضي وإعادة دفع مشاهراتهم التي كانو يقبضونها سابقا. وفي صباح يوم 14 سبتمبر وصل إلى اربيل رتل عسكري من القوات الإنجليزية قادم من كركوك أعقبه رتل آخر قادم من مدينة الموصل وبذلك عاد الهدوء إلى المدينة [97].
الثورة في شهربان
تم إعلان في بلدة شهربان (المقدادية) في يوم 14 أغسطس حيث قامت عشيرة بني تميم بالهجوم على البلدة وتعاون أهل البلدة مع العشيرة على نحو ماحصل في بلدة الخالص ولكن السراي الحكومي والذي كان يقيم فيه الإنجليز ومن معهم من جنود الشبانة لم يستسلم للمتمردين وبعد ساعات من المواجهة ما بين الطرفين تمكن الثورا من السيطرة على السراي الحكومي (القشلة) وذلك عند حلول وقت المساء وقد قتل في المعركة هذه خمسة بريطانيين والذين كانوا موظفين في السراي [98]. وبعد السيطرة على البلدة قام الثوار بقطع خط سكة الحديد المار بالبلدة وقد وقع في شهربان بعد تمكن الثوار من السيطرة على البلدة نوع من الاختلاف ما بين وجهاء البلدة وما بين عشيرة بني تميم وحصل من جراء ذلك معارك ما بين الطرفين [99]. في يوم 7 سبتمبر وصلت القوات الإنجليزية بقيادة الجنرال كونغهام بالقرب من البلدة وبعد معركة غير متكافئة ما بين العشائر والقوات الإنجليزية تمكنت الأخيرة من دخول البلدة وكان ذلك في يوم 9 أيلول [100].
الثورة في خانقين وقزلرباط
قامت عشيرة الدلو بقيادة رئيسها خسرو بك بالزحف على مدينة خانقين في يوم 14 أغسطس وتمكنت من احتلال المدينة بدون أي مقاومة تذكر وقد نهب الثوار ومن معهم دار السراي وجميع الدوائر الحكومية الموجودة في المدينة وقاموا بإنزال العلم البريطاني ورفعوا مكانه العلم العثماني وقام الثوار بتعيين خورشيد بك حاكما على المدينة [101]. كما ثارت عشائر قزلرباط على الإنجليز واحتلت البلدة وقاموا بنهب السراي الحكومي الموجود في البلدة. في صباح يوم 16 أغسطس قام ثوار خانقين بقيادة كريم خورشيد بك بالهجوم على معسكر باوة محمود والذي كان يتحصن فيه الإنجليز بعد وصول تعزيزات [102].إليه فدارت ما بين الفريقين معركة حيث انتهت باندحار الثوار تاركين وراءهم 15 قتيل [103]. في 19 أغسطس وصلت لمقربة من حانقين قوة إنجليزية بقيادة الكولونيل كاسكل بدون أي مقاومة تذكر وقام هذا الأخير مع قواته بإنزال العقوبة بالقرى التي التحقت بالثورة على الإنجليز وفي اليوم التالي إستطاع من احتلال خانقين وفي مساء يوم 24 أغسطس تم رفع الحصار عن حامية قرغان والتي كان يتحصن في الجنود الإنجليز والذي سبق لجأ إليها حاكم قرلزباط أحمد دارا وفي يوم 27 أغسطس استطاعت القوات الإنجليزية من السيطرة على قزلرباط [104].
الثورة في كفري
في يوم 22 أغسطس قام إبراهيم خان وهو أحد رؤساء عشيرة الدلو ومن معه بالصعود إلى أعلى جبل بابا شاه سوار المطل على مدينة كفري وأخذوا بإطلاق النيران على السراي الحكومي الموجود في البلدة [104]. قرر معاون الحاكم السياسي للبلدة الكابتن سالمون أن يخرج بنفسه إلى الجبل للتفاوض مع إبراهيم خان وما أن وصل الكابتن سالمون إلى الجبل حتى فوجئ باعتقال الثوار له وبعدها هاجم الثوار البلدة وقاموا باحتلال السراي الحكومي وقاموا بإنزال العلم البريطاني من فوقه وما ان وصل خبر احتلال البلدة من قبل الثوار إلى الحاكم السياسي لمدينة كركوك الميجر لونكريك حتى زحف هذا الأخير بإتجاه البلدة وبعد معركة دامية ما بين الطرفين انتصرت القوات الإنجليزية وتم أحتلال البلدة [105].
ثورة زوبع
بعد أنتصار الثوار على القوات الإنجليزية في معركة الرارنجية في يوم 24 يوليو قاموا بإرسال وفدا منهم ويدعى جدوع أبو زيد إلى العشائر الموجودة في بلدتي المحمودية والفلوجة يحملون فتاوي كبار علماء المذهب الشيعي وكان الشيخ ضاري أحد الذين إلتقاهم جدوع أبو زيد [106]. وعند إعلان الشيخ ضاري الثورة على الإنجليز صار يرسل نفرا من اتباعه لنهب المسافرين ما بين مدينة بغداد وخان النقطة [107]. وفي ظهيرة يوم 12 آب قابل الضابط الريطاني المدعو ليجمن في مخفر أبو منيصير الذي كان يقع بالقرب من خان النقطة وبينما كان الشيخ ضاري يتكلم مع ليجمن جاء إلى المخفر سائق سيارة يشكو من حادث سرقة تعرض له بالقرب من سدة الترك [108].حيث ظهرت إمارات الغضب في وجه ليجمن وقام بتوجيه الإهانات للشيخ ضاري فأوعز عندها هذا الخير إلى إبنه سليمان بأن يطلق على ليجمن النار وقام سليمان بما أمره والده الشيخ ضاري وبعد مقتل ليجمن تم قتل كل من خادم سيارته وخادمه وتم بعدها تم نهب كل ماوقعت به أيديهم في المخفر [109]. وفي اليوم التالي توحه الشيخ ضاري على رأس جمع من عشيرته وعشيرة المصالحة المتحالفة معه نحو محطة التاجي الواقعة إلى الشمال من مدينة الكاظمية بغية اقتلاع سكة الحديد ولكنهم لم ينجحوا إذ فاجأهم قطار قام من الشمال وأخذ يوجه عليهم نيران الرشاشات ففروا منه [110]. وفي يوم 15 آب قامت العشائر الثائرة على الإنجليز بمهاجمة أربعة بواخر كانت تسير على نهر الفرات وقد تمكنت العشائر من نهب هذه البواخر الأربعة وأحراقها جميعا [111]. في يوم 3 سبتمبر تحرك من بغداد رتل عسكري إنجليزي بقيادة الجنرال ساندرز بغية فتح الطريق الواصل ما بين بغداد والفلوجة وقد لقي هذا الرتل مقاومة شديدة من العشائر إثناء الطريق وفي يوم 20 سبتمبر تمكن الرتل من الوصول إلى خان النقطة وفي اليوم التالي تم هدم قلعة الشيخ ضاري وسويت بالأرض وتم قطع الماء عن أراضيه ثم واصل الرتل زحفه حتى وصل إلى بلدة الفلوجة في يوم 24 سبتمبر[112]. أدرك الشيخ ضاري خطورة الموقف وما آل عليه لذا أرسل ولده خميس مع قسم كبير من عشيرته إلى نصيبين داخل تركيا [113]. أما هو فقد أخذ بالتنقل من مكان إلى آخر إلى أن القي القبض عليه في سنة 1927 م.
الثورة في لواء المنتفق
كان لواء المنتفق الذي يسمى حاليا بمحافظة ذي قار يضم العديد من العشائر القوية. وأول بلدة أندلعت فيها شرارة الثورة في هذا اللواء هي بلدة قلعة سكر حيث أدى التوتر المتزايد في البلدة إلى هروب معاون الحاكم السياسي للبدة الكابتن كراوفورد بواسطة طائرة إلى مدينة الناصرية مركز هذا اللواء في يوم 12 آب إلى إعلان العشائر الثورة بشكل علني حيث قامت تلك العشائر بنهب السراي الحكومي الموجود في البلدة[114]. وعلى إثر ذلك اجتمع عدد من وجهاء ورؤساء البلدة في موضع يسمى المصيفي وكتبوا ميثاقا تضمن هذا الميثاق خمسة بنود [115]. وقد ذهب الموقعون على هذا الميثاق بعد توقيعه إلى بلدة الشطرة لغرض إعلان الثورة فيها وطرد الإنجليز منها ولكن أسباب معينة حالت دون إعلان الشطرة ثورتها وذلك بعد وصول الموقعين على ميثاق المصيفي إليها [116]. وقد وصل التوتر إلى أشده في بلدة الشطرة في يوم 25 آب حين وصل إليها العالم الديني الشيخ محمود خليلي مرسلا من الشيخ فتح الله الأصفهاني [117]. حينها أدرك معان الحاكم السياسي للبلدة الكابتن برترام توماس من إن الوضع قد خرج من السيطرة وفي يوم 28 آب هرب الكابتن توماس من البلدة بواسطة طائرتين أرسلتهما القوات الإنجليزية لغرض أخذه من البلدة حيث قام الأخير بتسليم السلطة في البلدة للشيخ خيون العبيد وهو أحد الشيوخ الذين ظلوا موالين للإنجليز [118]. وعند خروج الكابتن توماس من البلدة تعرض السراي الحكومي في البلدة للنهب من قبل أفراد العشائر الثائرة[119].
الثورة في سوق الشيوخ
في يوم 27 أغسطس زار بلدة سوق الشيوخ حاكم الناصرية السياسي الميجر ديجبرن والذي كان سابقا معاون الحاكم السياسي لها في عام 1918 [120]. حيث اجتمع هو برؤساء البلدة ووجاؤها محاولا إقناعهم بعد الانضمام إلى الثورة الحاصلة وقد كتب الميجر ديجبرن فور عودته إلى مدينة الناصرية تقريرا الحاكم البريطاني في مدينة بغداد آرنولد ويلسون [121]. وقد تمكن معاون الحاكم السياسي للبلدة الكابتن بلاتس ومن معه من البريطانيين من الهرب من البلدة في يوم 1 أيلول بواسطة باخرة بريطانية كانت راسية هناك وسارت بهم الباخرة نحو مدينة الناصرية فوصلوها بسلام [122]. ولم يحصل لسوق الشيوخ مثل ماتعرضت باقي بلدات لواء المنتفق من سلب ونهب للسراي الحكومي وتخريبها فقد تمكن الشيخ محمد حسن الحيدر من المحافظة على هذه الممتلكات جميعها [123].وفي يوم 4 سبتمبر خرجت من الناصرية باخرتان حربيتان ولما وصلت الباخرتان بالمقربة من الهور الواقع جنوب بلدة سقوط الشيوخ تعرضت كلتاهما لإطلاق نار كثيف من قبل الثوار ونشبت معركة ما بين الطرفين دامت قرابة النصف ساعة [123].
أحداث مدينة الناصرية
كانت في مدينة الناصرية حامية صغيرة ولقد كان بمقدور العشائر مهاجمة المدينة والاستيلاء على المدينة بسهولة وذلك لضعف حاميتها ولكن الوضع بشكل عام بدأ يتحسن في لواء المنتفق إذ قام روساء شيوخ المنتفق بالمجيء إلى الحاكم السياسي الموجود في مدينة الناصرية وذلك في شهر تشرين الثاني يعلنون فيها الولاء للإنجليز وذلك بعد فشل الثورات التي حدثت في منطقة السماوة والفرات الوسط [124].
أحداث متفرقة
أحداث مدينة سامراء
في يوم 28 أغسطس تعرضت مدينة سامراء لهجوم من قبل العشائر التي أعلنت التمرد والعصيان على الإنجليز وقد صمم رؤساء ووجهاء المدينة حماية معاون الحاكم السياسي للمدينة الميجر بري ومن معه 13 جندي بريطاني ومعهم ضابط برتبة ملازم أول وعدد من السواق الهنود والذين وصلوا إليها مؤخرا قادمين من مدينة كركوك [125]. بعدما طلبوا هؤلاء الحماية من العشائر الثائرة. ولم تتمكن العشائر الثائرة من اقتحام المدينة لمتانة سورها [126]. وقد قامت حينها العشائر الثائرة بضرب حصار على المدينة وقد جرت مفاوضات ما بين العشائر الثائرة وما بين رؤساء ووجهاء مدينة سامراء وفي يوم 30 آب إستطاع الإنجليز من فك الحصار على المدينة حينما وصلت إلى محطة سامراء من الشرقاط مفرزة بريطانية تعدادها 120 جنديا بقيادة الكولونيل ماكوسلاند ومن ثم قامت طائرتان إنجليزيتان وقامت بإلقاء القنابل على العشائر الثائرة حول المدينة وعندها تم فك الحصار [127].
أحداث عانة
في يوم 13 أغسطس اقتحمت بلدة عانة قوات من الثوار حيث كانت القوات التي كانت بإمرة منصور الطرابلسي الذين اقتحموا البلدة من جهة الشامية فجرى اشتباك مسلح بينهم وبين رجال عفتان الشرجي في محلة دلي علي ولكن رجال منصور رموا رجال الشرجي بالقنابل مما أدى إلى فرارهم [128]. وقد استمرت المعارك في بلدة عانة وقتا غير قصير وكان النصر فيها حليف للثوار المهاجمين وبعدها قام الثوار بمهاجة قلعة راوة المطلة على شاطئ نهر الفرات تجاه عانة وقد تمكنوا من الاستيلاء وأسر عدد من الجنود الذين كانوا من عشيرة الدليم والذين سرعان ماتم الإفراج عنهم [129]. وبعد أن تمت السيطرة على بلدة عانة بالكامل قام الثوار بتعين نجرس الكعود بمنصب القائمقام على البلدة وبعدها أرسل الثوار قوة لمطاردة فلول الإنجليز حيث زحف الثوار بقيادة منصور الطرابلسي بمحاذاة نهر الفرات وقاموا بالاستيلاء على مدينة حديثة وآلوس من غير مقاومة وقد أستمر الثوار بالزحف نحو القرى والبلدت بدون أن تواجههم أي مقاومة حتى أن وصل إلى السهيلية بالقرب من بلدة هيت [130]. حيث كان الإنجليز متحصنين فيها فتوقفت القوة عند ذلك عن الزحف [131].
نتائج الثورة
كانت لثورة العشرين نتائج عديدة ومتداخلة، بحيث لا يمكن الادعاء بفشلها في تحقيق أهدافها الأساسية تماماً. كما لا يمكن الادعاء بأنها حققت تلك الأهداف التي سعى الثوار إليها. فالمعركة لم تكن في كل الأحوال متكافئة أو متوازنة بين الفريقين، والعوامل التالية تشهد على ذلك:
- امتلاك البريطانيين لجيش نظامي كبير نسبياً مؤلف من الإنگليز والمجندين الهنود، الذين تدربوا على القتال في الهند، في حين كانت قوات العشائر العراقية، تتكون من الفلاحين وسكان الريف، الذين لم يتدربوا تدريباً جيداً على استخدام الأسلحة الحديثة أو على النظام والانضباط العسكريين، أو على خوض المعارك النظامية.
- امتلاك القوات البريطانية أسلحة حديثة ومتنوعة، تدرب أفرادها على استخدامها طويلاً، في حين كان الثوار لا يمتلكون إلا أسلحة قديمة وبالية وكميات محدودة من العتاد. ولم يكن في مقدورهم على الدوام استخدام الأسلحة التي يغنموها في معاركهم ضد القوات البريطانية.
- كانت القوات البريطانية، تمتلك قيادة موحدة، وسرعة في الاتصالات وتنظيم العلاقات والالتزام بتنفيذ القرارات. في حين كانت قوات الثوار، لا تمتلك قيادة ميدانية موحدة. كما كانت العشائر تتصرف بحسب ما تمليه عليهم اجتهادات الشيوخ، الذين يتخذون القرارات على ضوء مصالحهم الخاصة القريبة، من دون أن يلجأوا إلى التنسيق الفعال مع بقية العشائر، إضافة إلى تخلف فن قيادة المعارك عند قادة الثوار. وكثيراً ما كان الانتماء العشائري، ومشكلات التراتبية العشائرية، يمنعان التعاون والتنسيق الضروريين للنجاح، ولا يمكّنان من التخلص من العفوية، التي أعاقت سير العمليات العسكرية لقوات الثورة. وكان الدكتور كاظم نعمة على حق حين أشار في كتابه "الملك فيصل الأول والإنكليز والاستقلال" إلى ما يلي: "وقد تعينت طبيعة الثورة المسلحة عسكرياً باعتبارات عدة. فيما أن العمليات العسكرية قد بدأت بين العشائر فإنها ظلت عفوية ومحلية وغير منسقة استراتيجياً ومقيدة بصورة شديدة بشحة المعدات والمؤن عند العشائر. ولذلك فأن هذه المقيدات لم تعن على تحقيق نتائج مادية كبيرة. وكان النجاح المبكر للعمليات العسكرية يعود إلى حقيقة أن الهجمات سددت إلى أهداف متناثرة دون الاكتراث بآثار ذلك على طبيعة الثورة المسلحة كافة. وحالما أفلحت العشائر في تحقيق نصر تعبوي، أخفقت العشائر في أن تدرك أنها بعملياتها المستقلة المنفصلة لن تقدر على مواجهة التعزيزات البريطانية. ولقد تأكدت من خلال الثورة قوة العشائر في أماكنها التقليدية، غير أن العمليات العشائرية المشتركة تطلبت تنظيماً وقيادة موحدة وهدفاً مشتركاً. ولكن لم تتحقق جميع هذه المتطلبات. فالعشائر لم تتجادل مع متطلبات التنظيم، كما أنها كانت ملازمة بشدة لقيادتها وولائها لرؤسائها. وكان بعض منهم على غير استعداد للتضحية بمنزلته العشائرية والاجتماعية مقابل غاية أعم وأشمل. ولذلك لم تتمخض عن العمليات قيادات عسكرية قادرة على مقاومة السلطات البريطانية، وإنما أضحى الشيخ رجل الاستراتيجية والرئيس الفعلي للجسد السياسي في منطقته بعد تفكك وجود السلطان البريطاني".
- لم يكن التنسيق بين المدن والريف ناجحاً، ولم يجر بينهما في انسجام. فالقوات العشائرية لم تكن لها ثقة بالأفندية ومثقفي المدن. على الرغم من أنَّ هؤلاء الأفندية ومثقفي المدن الثائرين، قدموا خدمات كبيرة للثورة عموماً، وبخاصة في مجال الإعلام للثورة والدعاية لأهدافها.
- ضعف مستوى وعي الفلاحين في الريف العراقي ضعفاً، لم يسمح لهم بتكوين فهم معمق لأهداف الثورة السياسية. لذلك كان التأثير المباشر للقوى الدينية عليها كبيراً.. ولم يكن هذا الوعي في مستوى واحد، بل كان متبايناً في فهم الوجهة والمهمات والغايات النهائية للثورة. ولم يكن العراقيون عموماً يشعرون بوجود وحدة فعلية أو وحدة وطنية بين سكان العراق يومئذ. ولكن هذه الشعور - وإنْ بقي في معظمه محصوراً ضمن مستويات معينة من الوعي السياسي والاجتماعي، ولدى فئات محدودة من المجتمع العراقي - سيتغير شيئاً فشيئاً في أعقاب ثورة العشرين وما تلاها من الأعوام والأحداث. كتب المللك فيصل الأول – وربما كان على حق فيما كتب - عن العراق وسكانه بعد سنوات، فقال: "وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى، أنه لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية، خالية من اية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميالون للفوضى مستعدون للانتفاض على أية حكومة كانت، …".
كانت ثورة العشرين تجربة سياسية غنية للشعب في مواجهة القوات البريطانية: أكدت استعداد الجماهير للقتال في سبيل الأهداف التي تسعى إليها. وعبرت في الوقت نفسه، عن نشوء نوع من الوحدة الوطنية بين العراقيين في مختلف مناطق العراق، ستجسد فكرة العيش المشترك لقرون طويلة في هذه المنطقة من العالم، التي ستصبح فيما بعد العراق الحديث بحدوده التقريبية الراهنة. كما أظهرت وجود أهداف مشتركة إلى حد ما بين تلك القوى، وبين أبناء الشعب العراقي: من عرب وكُرد وأقليات قومية ودينية. برغم المشكلات القومية والدينية والطائفية والإقليمية، التي جثمت بثقلها في قاع الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، والتي كانت الصراعات الإيرانية-التركية الطائفية القديمة، التي سخرت لأغراض استعمارية، واستهدفت تحقيق المطامع في الأرض العراقية، تغذيها وتؤججها. وكذلك الصراعات العراقية-الأجنبية البريطانية قد فعلت في العراق ما فعلته الصراعات الايرانية - التركية. وأثبتت الثورة أيضاً أنّ زوال الاختلاف والصراع بين الريف والمدينة، وبين البدو والريف، وبين البدو والمدينة، ممكنٌ حصولُه وتحقُّقه بالصورة التي عرفتها الفترة السابقة من تاريخ العراق. وأصبح معلوماً عند الجميع أنّ اشتراك فئات الشعب، بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه بالعمل الثوري ممكن بل ضروري لمواجهة سلطات الاحتلال البريطانية. وقد كشفت ثورة العشرين - رغم كل الايجابيات التي أشرنا إليها والتي لم تكن مكتملة بسبب ضعف مستوى الوعي لدى الشعب العراقي - عن نقاط الضعف في تلك العملية الثورية، وفي الواقع العراقي القائم حينذاك.
إن دراسة أسباب وأهداف ومجرى وقوى الثورة، مع محاولات الاستفادة من مختلف الدراسات التي صدرت عن الثورة ومن الوثائق التي نشرت حتى الآن عن ثورة العشرين، ستساعد الباحثين بلا شك، في صياغة العديد من النتائج، التي كان لها تأثير بارز على مسيرة العراق اللاحقة. ويمكن الآن تلخيص نتائج الثورة ثورة العشرين في السطور التالية: أولاً: عجزت الثورة عن تحقيق الهدف المركزي، الذي تمثل في التخلص من الاحتلال والانتداب البريطاني وطرد المحتلين، وأخفقت في تحقيق "الاستقلال التام الناجز" للبلاد. وكان هذا الفشل متوقعاً؛ بسبب طبيعة القوى الدولية والإقليمية والمحلية غير المتوازنة حينذاك، وبسبب الانتصار الذي حققته القوى الإمبريالية في الحرب العالمية الأولى، وقدرات القوات العسكرية البريطانية المتفوقة على مواجهة الثورة. وبنتيجة هذا الفشل؛ تسنى للمحتلين فرض نظام الانتداب فعلياً عليه، وترسيخ وجود القوات العسكرية، وفرض النظام والقوى التي كانت موالية لسلطات الاحتلال والمدافعة عن مصالح بريطانيا في العراق. وفي النهاية أمكن توفير مستلزمات، وشروط عقد الاتفاقيات الضرورية؛ للحصول على امتيازات التنقيب عن النفط الخام في الأراضي العراقية على وجه التخصيص، وعلى تكريس الوجود العسكري البريطاني.
ثانيا: وجهت القوى الإمبريالية، والرجعية المحلية المتحالفة معها، ضربة قوية للقوى والشخصيات الوطنية، وزجت بهم في السجون، أو نفتهم إلى الخارج، ووجهت ضربة قاسية لمصالحهم. كما أوجدت جواً ملائماً للمساومة، واستخدام مبدأ "الجزرة والعصا" مع قادة الثورة والمشاركين فيها. ونجحت – فعلاً - في كسب عدد منهم لاحقاً، لينضموا إلى جانبها، وإلى جانب الحكومات التي شكلتها.
ثالثا: بفعل طبيعة الثورة وأهدافها، توجهت قوى الاحتلال الأجنبي، إلى تكريس العلاقات العشائرية، والتمهيد لفرض سيادة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في البلاد، بالاعتماد على كبار ملاكي الأراضي الزراعية، والبرجوازية التجارية حديثة التكوين، وعلى عدد كبير من أتباع الشريف (حسين) من حلفاء الحرب ضد القوات العثمانية؛ ممن ارتبطت مصلحته بمصالح قوى الاحتلال البريطانية. وقد أدركت سلطات الاحتلال، أهمية وضرورة تكوين أجهزة عراقية للإدارة المحلية، وقوات الجيش، والشرطة الأمن الداخلي؛ لتكون أجهزة عراقية مستعدة للدفاع عن مصالح بريطانيا القديمة ومصالحها الجديدة في آن واحد. كما أدركت أن العراقيين، يتميزون بوعي سياسي متقدم إلى حد ما، رغم تخلف العراق الاقتصادي والاجتماعي العام، وانتشار الأمية بين صفوف السكان، الذين كان معظمهم من الفلاحين والبدو. وإذا كان هذا الواقع أملى على سلطات الاحتلال، أن تعير انتباهاً خاصاً لهذه الحقيقة، وأن تتعامل معها بوعي لصالح التطور العام في البلاد؛ فأقرت سن دستور مدني ديمقراطي وعلماني – نسبياً - في البلاد، فإنها أقرت في الوقت نفسه العمل بقانون العشائر، وفرضت مصادرة فعلية واسعة على الحريات، وممارسة شرسة لا تعبأ بمبادئ حقوق الإنسان، ولا بالديمقراطية التي نصت عليها في الدستور الذي اقترحته للبلاد.
رابعا: أكدت ثورة العشرين على وجود عجز بنيوي في تكوين القيادة الدينية-العشائرية؛ منعها عن السير الحازم في طريق النضال، أو من تحقيق وحدة الشعب العراقي بقومياته وأديانه وطوائفه المختلفة. ولكنها أبرزت في الوقت نفسه الدور الذي لعبته فئة الأفندية من المثقفين، وأظهرت طاقاتها الكامنة في العملية النضالية اللاحقة.
خامسا: برهنت ثورة العشرين على حقائق أخرى مهمة، كما تبلورت خلال الثورة جملة من الأمور المهمة خاصة بمستقبل العراق حينذاك، منها – على سبيل المثال - ما يلي: • منحت الثورة المجتمع العراقي الإحساس بالكيان الواحد، الذي لم يكن واضحاً في فترة الحكم العثماني. وقد اتخذ هذا ثلاثة اتجاهات رئيسة، هي:
- تضافر جهود العراقيين من العرب والكُرد. إذ شارك العديد من المدن والمناطق الكُردية بنشاط ظاهر مهم في ثورة العشرين. ومن قبلها في ثورة 1919 في السليمانية.
- تضافر جهود الريف والمدينة. وقد توّجت هذه الجهود؛ بالتخلي عن الصراعات التي عرفتها الفترات السابقة.
- تضافر جهود الفئات الاجتماعية المختلفة في النضال من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية. وازداد هذا الإحساس قوة أكثر فأكثر، في الفترة التي أعقبت قيام الدولة العراقية الجديدة. فكان لهذا التطور أهمية بالغة انعكست على اتجاهات النضال الوطني العراقي.
- قدرة واستعداد الشعب العراقي على خوض النضال من أجل حقوقه المشروعة.
- أحبطت المشروع البريطاني الطامع في جعل العراق جزءاً من التاج البريطاني - كما كان الحال في الهند - وعطل مشروعهم لتوطين عائلات بريطانية وأخرى هندية بأعداد كبيرة في العراق. كما لو كان العراق موطنهم الأصلي. نقل الدكتور (عبد الرحمن البزاز) نصاً يعبر عما كانت تطمح إليه وتطمع فيه سلطات الاحتلال البريطانية وممثلها (ولسون) جاء فيه: "إن العراق بقي قروناً عديدة يحكم حكماً مباشراً من قبل الأتراك ، وليس له أن يتطلع إلى أن يحكم نفسه بسرعة ، بل إن الإسراع في ذلك يضر العراق، وقد يؤدي ذلك إلى عكس المطلوب". ثم كتب الدكتور (البزاز) قائلاً: "وفي الواقع فإن جميع أقواله وأفعاله كانت تدل على عزمه على إبقاء العراق تحت السيطرة البريطانية الفعلية المباشرة مدة طويلة. ويؤيد هذا السماح للإنكليز المقيمين في العراق بجلب زوجاتهم وأطفالهم للاستقرار فيه. وقد دخل العراق في أواخر سنة 1919 فقط، أكثر من خمسمائة شخص , مما زاد في رعب العراقيين، وأكد لهم أن بريطانية تروم اعتبار العراق جزءاً من الإمبراطورية البريطانية" . ويشير (حسن العلوي) إلى عدد من القضايا، التي كانت تسعى بريطانيا لتحقيقها، من خلال هيمنتها على العراق، وتنصيب الشخصية المتمرسة في مكافحة الحركات السياسية في المستعمرات السير (أي. تي. ولسن) حاكماً عاماً في العراق، قائلاً: "وكان أعظم ما أنجزته ثورة العشرين أنها أجهزت على مشروع ولسن البريطاني، المتمثل بعدم الاعتراف بدولة عراقية أو حكم عراقي. وكان قد طرح الاتجاهات التالية:
1- تهنيد العراق بتهجير الألوف من الهنود إليه، وربطه بحكومة الهند في مقدراته ومصائره.
2- جعله مهجراً لليهود تحت ظل بريطانيا إلى جانب السيطرة على فلسطين وجعلها يهودية.
3- تقسيم العراق بفصل البصرة وإلحاقها بالهند حتى يصبح الخليج بحيرة إنكليزية هندية. ودفع الاحتلال بعض رجالها وملاكيها الممالئين له بتنظيم مضبطة في هذا المآل. وقد تزعم هذا الاتجاه (عبد اللطيف المنديل والشاوي) من البصرة.
4- تقدم الموصل إلى فرنسا وتستخدم فرنسا الأقليات بها لهذا الغرض.
وبالإجمال فأن الكولونيل ولسن كان لا يرى وجود علاقة للعراق بسائر البلاد العربية من الناحيتين السياسية والقومية وغيرهما".
- المشاركة الواسعة والغنية للفلاحين، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً وصبية، في النضال من أجل الأهداف الوطنية والاجتماعية.
- التأثير المتبادل للشراكة النضالية للشعب العراقي: بعربه، وكُرده، وأقلياته القومية والدينية، وبطوائفه المختلفة على العملية السياسية حينذاك. لقد كان لثورة العشرين، وثوارها الشجعان، الفضل الكبير في نشر وتعميق الحس الوطني، والعداء للاستعمار البريطاني والسيطرة الأجنبية، التي تجلت في المعارك النضالية، التي خاضها سكان العراق طيلة العقود التي أعقبت تلك الثورة، والتي سبقت وانتهت بثورة تموز عام 1958. وأدّت ثورة العشرين بشكل ملموس إلى إضعاف الروح الطائفية بين الشيعة والسنة، التي تضخمت كثيراً في فترة الحكم العثماني والصراع التركي – الفارسي. كما أدَّت إلى تعزيز روح الأخوة والتضامن بين أفراد الطائفتين.
- وفرضت طبيعة الثورة بالأهداف التي حملتها، على المحتلين الأجانب تغيير مخططاتهم، والتعجيل بإقامة الدولة العراقية الحديثة، في وقت كان المحتلون فيه ما زالوا إلى ذلك الحين يتشبثون بنظام الانتداب على العراق، ولم يتخلوا عنه إلا بعد عقد من السنين تقريباً.
- ومن النتائج المهمة التي تبلورت حينذاك، بروز العلاقة المتينة بين النضال الوطني والديمقراطي، وبين الطموحات القومية للعرب والكُرد في آن. وكان التفاعل والتأييد لثورة العشرين واضحاً وملموساً في الأقطار العربية.
واستناداً إلى ما سبق، يمكن القول بأن ثورة العشرين - رغم عجزها عن تحقيق أهداف الثوار بشكل مباشر لصالح العراق - شكلت نقطة تحول أساس في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط، وكانت السبب في تغيير سياستها إزاء العراق وفي قيام الدولة العراقية.
انظر أيضاً
المصادر
- ^ أ ب ت Lieutenant Colonel David J. Dean: Air Power in Small Wars - the British air control experience, Air University Review (Air & Space Power Journal), July–August 1983. Retrieved 16.05.2012.
- ^ Ibrahim Al-Marashi, Sammy Salama: Iraq's Armed Forces: An Analytical History, Routledge, 2008, ISBN 0415400783, page 15.
- ^ أ ب ت ث ج Tauber E. The Formation of Modern Syria and Iraq. P.312-314
- ^ أ ب خطأ استشهاد: وسم
<ref>
غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماةguardian
- ^ خطأ استشهاد: وسم
<ref>
غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماةtripp43
- ^ A Report on Mesopotamia by T.E. Lawrence The Sunday Times, 22 August 1920
- ^ أ ب Atiyyah, Ghassan R. Iraq: 1908-1921 A Socio-Political Study. The Arab Institute for Research and Publishing, 1973, 307
- ^ كاظم حبيب (2010-06-28). "ثورة العشرين (1920) في العراق". الحوار المتمدن. Retrieved 2014-08-17.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:236.
- ^ المس بيل. ص:448,447.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:237.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:60.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:247.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:243.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:244.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:250.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:251.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:254.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(أ). ص:261.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:265.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:270.
- ^ محمد علي كمال الدين. ص:114.
- ^ محمد علي كمال الدين. ص:116.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:271.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:272.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:343.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:344.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:348.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:147.
- ^ Haldane - p192.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:275.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:276.
- ^ Haldane - p102.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:280.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:281.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:282.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(أ). ص:284.
- ^ Haldane - p133.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:288.
- ^ جريدة العراق - 5 آب 1920.
- ^ فريق مزهر الفرعون. ص:273.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:293.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:294.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:298.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:299.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:300.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:304.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:305.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:307.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:308.
- ^ Haldane - p223.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:156.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:157.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:162.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:161.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:313.
- ^ أ ب سلمان هادي آل طعمة. ص:61.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:315.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:62.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:63.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:68.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:322.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:71.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:72.
- ^ سلمان هادي آل طعمة. ص:73.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:329.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:327.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:331.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:357.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:358.
- ^ علي الوردي ج:5(أ). ص:359.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:148.
- ^ جعفر محبوبة ج:1. ص:373.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:149.
- ^ جعفر محبوبة. ص:253.
- ^ Haldane - p152.
- ^ فيليب آيرلاند. ص:208.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:42.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:43.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(ب). ص:45.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:46.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:58.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:63.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:69.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:70.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:47.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:48.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:49.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:50.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:61.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:56.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(ب). ص:57.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:78.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:79.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:80.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:81.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:82.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:51.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:52.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:59.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:74.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:75.
- ^ Haldane - p158.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(ب). ص:76.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:77.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:85.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:86.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:87.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:88.
- ^ فريق مزهر الفرعون. ص:311.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:91.
- ^ Haldane - p174.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:93.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:101.
- ^ عبد الرزاق الحسني. ص:189.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:103.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:104.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:105.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:106.
- ^ Wilson: vol2.p371.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:111.
- ^ Haldane - p296.
- ^ أ ب علي الوردي ج:5(ب). ص:113.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:116.
- ^ Haldane - p234.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:124.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:126.
- ^ تحسين العسكري ج:2. ص:153.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:128.
- ^ علي الوردي ج:5(ب). ص:129.
- ^ تحسين العسكري ج:2. ص:155.
المراجع
- د. جعفر عباس حميدي ، التطورات السياسية في العراق ،1980 .
- عبد الرزاق الحسني ، تاريخ الوزارات العرقية ج1 .
- د. ماري پاترك ، سلاطين بني عثمان ، 1986 .
- د. چارلس تريب ، صفحات من تاريخ العراق المعاصر ، 2002 .
- د. مؤيد الونداوي ، العراق في التقارير السنوية للسفارة البريطانية.1992 .
- عبد الوهاب بيك النعيمي ، مراسلات تأسيس العراق,1920 - 1922 .
- كامل الجادرجي ، مذكرات كامل الجادرجي ، 1970 .
- فاروق صالح العمر ، المعاهدات العراقية - البريطانية .
قراءات إضافية
- Rutledge, Ian. Enemy on the Euphrates: The British Occupation of Iraq and the Great Arab Revolt 1914-1921. Saqi Books, 2014
- Tripp, Charles. A History of Iraq. Cambridge University Press, 2007
- Fieldhouse, D.K. Western imperialism in the Middle East 1914–1958. Oxford University Press, 2006
- Spector S. Reeva and Tejirian H. Eleanor.The Creation of Iraq, 1914–1921. Columbia University Press, 2004
- Atiyyah, Ghassan R. Iraq: 1908-1921A Socio-Political Study. The Arab Institute for Research and Publishing, 1973
- Vinogradov, Amal. “The 1920 Revolt in Iraq Reconsidered: The Role of Tribes in National Politics,” International Journal of Middle East Studies, Vol.3, No.2 (Apr., 1972): 123–139
- Lieb, Peter. “Suppressing Insurgencies in Comparison: The Germans in the Ukraine, 1918, and the British in Mesopotamia, 1920,” Small Wars & Insurgencies 23 (2012): 627-647