مالك بن الحارث الأشتر
مالك بن الحارث النخعي المشهور بالأشتر (37 هـ) (657 م). كوفي من مقاتلي العرب الأشداء.
شارك في معركة اليرموك ضد الروم، وكان من أبطالها، وفيها شترت عينه بالسيف أي جفنها السفلي ولذلك عرف بالاشتر. وهو من قبيلة النخعي توجد في جنوب اليمن ليومنا هذا، وهي مشهورة بالشجاعة والكرم. وقد أرسله أبو عبيدة بن الجراح، قائد جيش الخلافة في بلاد الشام، بعد معركة حلب في أكتوبر من عام 637 ميلادي إلى إعزاز ليفتحها. وحلب وإعزاز بلدتان هامتان تقعان في شمال سوريا كان فيهما حاميات رومية.
كان ممن عملوا على إخماد نار الفتنه التي أشعلها الوليد بن عقبة مرارا بالكوفه (الوليد بن عقبه أخ الخليفة عثمان بن عفان بالرضاع وهو من عينه أميراً على الكوفة) حتي افتضح أمر الوليد حين صلى بالناس صلاة الفجر أربع ركعات من أثر الخمر التي كان لا يفارقها. بعدها تزايدت الفتن وتطاير غضب الناس من ظلم الأمراء الأمويين في سائر بلاد المسلمين فتظاهر أهل مصر بقيادة محمد بن أبي بكر وأهل العراق حيث كان مالك الأشتر أبرزهم في المدينه المنوره وحول دار الخلافة. قام علي بن أبي طالب بتجنيد أولاده الحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم للصـد عن الخليفه الثالث عثمان بن عفان وحين منع المتظاهرين الماء عن دار الخلافه أوصل علي بن أبي طالب الماء للخليفه الثالث بيده ولم يجرأ أي من المتظاهرين على قطع طريقه، حينها كان مالك الأشتر ممن أطاعوا أمر علي بن أبي طالب وطالبوا بعدم إراقة دماء المسلمين إنما إقتصرت مطالبتهم على عزل الأمراء الأمويين الظالمين واستبدالهم بمن يخاف الله ويخشاه، بيد أن مطالبتهم بذاك لم تجد وكل محاولاتهم ذهبت بها رياح مروان بن الحكم (وزير الخليفة الثالث وزوج ابنته مريم والذي أرجعه الخليفة عثمان لمدينة الرسول الأكرم وعينه وزيرا ومستشارا بعدما طرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينه بحياته، كما استمر تنفيذ حكم الطرد هذا في عهد كلا من الخليفتين الأول والثاني). أفعال مروان وتجاسره على الحشود المتظاهره أثار الناس أكثر مما أدى ببعض المتآمرين من دخول دار الخلافة خلسة وتمكنهم من قتل الخليفه الثالث عثمان بن عفان وهو يصلي في مـحرابه. بعد هذه الفاجعه تبادل أطراف الفتن أصابع اللإتهام كلا ليعزز ملكه ويضمن مكانته. وحين بايع الناس علي بن أبي طالب كان مالك الأشتر أول من بايعه وكان من المقربين منه.
في موقعة الجمل المشهورة تصارع مع عبد الله بن الزبير بن العوام وكان أيضا من الأبطال، وابن الزبير يومئذ مع خالته عائشة أم المؤمنين. فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره. وفعلا ذلك مرارا وابن الزبير ينشد :
اقتلاني ومالكا*****واقتلا مالكا معي
يريد الأشتر النخعي. ولولا قال الأشتر لقتلا جميعا، لأن اسم مالك لم يكن مشهوراً بين الناس.
أرسله علي بن أبي طالب واليا على مصر بالعهد المشهور الذي نقراه إلى اليوم في نهج البلاغة وقرر معاوية بن أبي سفيان التخلص من مالك باعتماده على عمرو بن العاص الذي وعد أحد رجاله أن يسقي السم لمالك مقابل اعفائه من الضرائب مدى الحياة، وعندما نزل مالك الاشتر عند إحدى البيوتات المصرية مكر عميل عمرو بن العاص به ووضع السم في العسل. [1] [2] [3]
وروي ابن الأثير في الكامل والسيوطي في أخبار مصر:
قال عنه علي بن أبي طالب حين بلغه خبر وفاته: جزى الله مالك خيراً، كان عظيما مهابا، أكبر من الجبل، وأشد من الصخر، والله لقد تزلزلت بموته عالم وأمة، وفرح بموته عالم وأمة، فلمثل مالك فلتبكي البواكي.
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: لو اقسم أحد بأن الله لم يخلق في العرب والعجم شخصا أشجع من مالك إلا أمير المؤمنين علي لم يأثم.[4]
قال المزي: روي عن عبد الله بن سلمة قال: دخلنا على عمر بن الخطاب معاشر وفد مذحج، فجعل ينظر إلى الأشتر ويصرف بصره، فقال لى: أمنكم هذا؟ قلت: نعم. قال: ماله قاتله الله، كفى الله أمة محمد شره والله إني لأحسب للمسلمين منه يوما عصيبا.
دفن مالك في قرية القلج وكانت بعيدة عن الفسطاط القديمة آنذاك وهي الآن ما زالت تسمى القلج وهي احدة أحياء المرج (والمرج هي المدخل الشمالي الشرقي لمدينة القاهرة والمدخل الجنوبي لمحافظة القليوبية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سيرته
إنه مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي كنيته: أبو إبراهيم. ولقبه الأشتر (لإصابته برموش عينيه)، وكبش اليمن (لأنّه المقدّم على جيش الإمام عليّ وحامل رايته). ولد في اليمن في بني نخع، الذين انتقلوا إلى الكوفة بعد امتداد الإسلام، ثم توزّع أفراد نخع على مدن العراق. ورغم أن مالكاً أسلم على يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وحسن إسلامه، فإن شهرته تقوم على كونه كان قائداً لجيش الإمام، وحامل لوائه.
وصفه عارفوه فقالوا: كان فارساً مغواراً، مديد القامة، مهيب الطلعة. وكان عالماً، شاعراً، وكان سيد قومه بلا منازع. أرسله أبو عبيدة بن الجرّاح إلى سعد بن أبي وقّاص، مع جماعةٍ، ليشدّ أزره في العراق.. وكان قد اشترك في موقعة اليرموك فأبلى فيها بلاءً حسناً. ثم انحاز بعد ذلك إلى جانب الإمام علي عليه السّلام، فوضع نفسه تحت تضرّفه.
اتّهمه خصومه بضلوعه في فتنة مقتل عثمان. وقد رافقها هرجٌ ومرجٌ شديدان. وبعد ذلك يُفاجأ مالكٌ بازدحام الناس على أمير المؤمنين في داره، متهافتين على بيعته بجلبة وضوضاءٍ وإصرار. فيقول في نفسه: ما أبعد الليلة عن البارحة!.. لطالما كان هؤلاء يمنعونه من الخلافة، وبالقوة، ويحولون بينه وبينها!. وينزل الإمام عليه السّلام على رغبة هؤلاء الناس الذين ضاقت بهم داره، وهم يتوسلون مستعطفين: ومن لها غيرك با أبا الحسن ؟. اتق الله فينا! الآن!..
ويفكر مالك الأشتر في هذا الأمر الطارئ مليّاً، وهو الذي يعرف صاحبه عليّاً كرم الله وجهه والمنطلق الذي يصدرُ عنه. إنه الذي لا تعدلُ الدنيا في عينيه «عفطة عنز» أو «جناح بعوضة» ما لم يُقم حقاً.. أو يُزهق باطلاً! ولكن الرياح ـ في هذه الأيام ـ تجري بما لا تشتهي السفن: فهذا طلحةُ والزبير يبايعان علياً كرم الله وجهه خليفةً، ثم لا يلبثان أن يخرجا من المدينة، لينضمّا إلى عائشة في وقعة الجمل.
وها هو ذا معاوية الرابض في الشام والياً منذ عشرين عاماً، يرفضُ أن تجتمع في بني هاشم النبوة والخلافة. وإذا أجمع المسلمون على ذلك، فشرط الإبقاء عليه والياً على الشام أولاً، والاقتصاص من قتلة عثمان ثانياً!.. ويزفر الأشتر زفرةً كاللهب.. حقاً إن الأجواءَ مدلهمّة الجنبات، تُنذر بشر مستطير! ويعزل الإمام علي معاويةَ، فحرام إبقاؤه متحكماً في رقاب المسلمين وأموالهم وأعراضهم. ولكن العزل شيءٌ، والقدرة على تنفيذه شيء آخرُ. وتقوم عائشة فتجيّش الجيوش! ويأبى معاوية مبايعة أميرالمؤمنين، ويمتنع بأهل الشام، وبالمال يصرفُه ذات اليمين وذات الشمال! وتقرع طبول الحرب! فيعبّئ الإمام جنده. ويلاقي بهم جيوش أعدائه من أهل البصرة وغيرهم، وقد تقدّمتهم عائشة على جمل، فكانت حرب الجمل!
وينضمّ طلحة والزبير صاحبا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، إلى عائشة، ثم لا يلبث الزبير أن ينسحب من المعركة، وقد ذكّره الإمام علي كرم الله وجهه بقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، للزبير في إحدى المناسبات: « ستقاتله يوماً وأنت له ظالم! وتدور رحي المعركة. فيهزُّ مالك الأشتر لواء الإمام كرم الله وجهه مدمدماً: الويل للناكثين! ويقتحم بمن خلفه قلب جيش العدو،.. وحول الجمل تتناثر أشلاء، وتسيلُ دماء! ولا تمتدّ يد لتمسك بخطام الجمل إلا وتُبتر، فتتناثر أكفٌّ ومعاصم تناثرَ أوراق الخريف في ريحٍ عاصف، ويرغي الجمل، ويُزبدُ، وعلى ظهره حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والناسُ يحوطونها من كل اتجاهٍ إحاطة السوار بالمعصم! ويتقدم مالك، وينتهي إلى عبد الله بن الزبير، ابن إخت عائشة، فيضربه بالسيف على رأسه، ويضربُهُ عبد الله ضربةً خفيفة، ويعتنق كل منهما خصمه، آخذا بخناقه، فيسقطان إلى الأرض يعتركان ويصيح ابن الزبير: « اقتلوني ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي! ». ويحمل أصحابُ الإمام علي وعائشة فيخلّصونهما.
ولم يعلم أصحابُ عائشة أن الذي فاتهم هو الأشتر، إذ بهذا اللقلب كانوا يعرفونه.. ولو عرفوه أنه هو، لقتلوه!. وتشتدُّ المعركةُ ضراوة، ولا تمتدّ يد لتأخُذَ بخطام الجمل إلا ويقتل صاحبها! وينادي علي عليه السّلام: أعقروا الجمل، فإنه إن عُقر تفرّقوا! فتتناولُ السيوف عرقوبَيه، فيخورُ، وينهار! ويتقدم محمد بن أبي بكر، أخو عائشة، فيحتملها إلى قبةٍ، ثم يشيعها الإمام علي كرم الله وجهه في هودجٍ، محفوظةً مكرمةً إلى بيتها. وتدور الدائرة على أصحاب الجمل، وإذا بهم بين قتيل، أو جريح، أو مهزوم! ويعود الأشتر من موقعةِ الجمل، وله في إحراز النصر سهمٌ كبير! وهكذا، تسكن عاصفة موقعة الجمل، ولكن.. لتهبَّ بعدها عاصفة موقعة صفين! وها قد عبَّأ معاويةُ لهذه الحرب الجند، وجيّش الجيوش، واستعمل المال لمن يسيل لعابُه لمرأى المال، ووعد بالمناصب من لهم بها مطمع.. وتوعَّدَ أعداءهُ بجيشٍ جرّار أوّلُهُ في العراق وآخره في الشام. وقبل تصادُم الجيوش في ساحة الوغى، تثورُ بينه وبين الإمام علي كرم الله وجهه حربُ الرسائل. لنستمع إلى واحدةٍ من رسائل الإمام علي كرم الله وجهه إلى معاوية بن أبي سفيان، فكلماتها نصالٌ قواتلُ! إلى معاوية! فأنا أبو حسنٍ قاتلُ جدك وأخيك شَدْخاً يوم بدر!.. وذلك السيفُ معي. وبذلك القلب ألقى عدوي، ما استبدلتُ ديناً، ولا استحدثتُ نبياً! وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مُكرَهين! وأمّا طلبُك إليَّ الشام، فإنّى لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتُك أمس!.. وأما قولُك: « إن الحرب قد أكلت العرب الاّ حُشاشات أنفسٍ بقيت » ألا مَن أكله الحقُّ فإلى الجنَّة، ومن أكَلَهُ الباطلُ فإلى النار!.
وأما استواؤنا (أي: تعادلنا) في الحرب والرجال.. فلسْتَ بأمضى على الشك مني على اليقين.. وليس أهلُ الشام بأحرص على الدنيا، من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك: « إنّا بنو عبد مناف »، فكذلك نحن.. ولكن، ليس أميةُ كهاشمٍ، ولا حربٌ كعبدالمطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريحُ (أي: ذو الحسب والأصل) كاللصيق، ولا المُحقّ كالمبطل، ولا المؤمنُ كالمُدغِل. ولبئس الخلفُ خلفٌ يتبع سلفاً هوى في نار جهنم. وذكرتَ أنه ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبدالمطلّب عن الأعداء ناكلين (أي: هاربين)، وبالسيف مخوَّفين؟! وأنا مُرْقِلٌ (أي: زاحف) نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان. وقد صَحِبتْهم ذريّةٌ بدريّةٌ، وسيوفٌ هاشميةٌ، وقد عرَفَتْ مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدِّك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد!.. »
ويلتقي الجيشان في صفين!..ويُنظّم الإمام عليه السّلام جيشه، فيسند قيادة الخيّآلة إلى مالك الأشتر، أما الرجّآلة فعليهم عمار بن ياسر. وتبدأ المعركة بالمبارزة، يُقتلُ فيها الفارس.. وتتطور إلى مناوشاتٍ يُقتلُ فيها بضعُ عشراتٍ من الجنود.. وتنتهي بالتحاماتٍ، تتقصّف فيها رماح، وتتكسّر سيوفّ وتبلغ المعركة أوجَها « ليلة الهرير »: الأشتر في الميمنة، وعبد الله بن عباس في الميسرة، وفي القلب علي أميرالمؤمنين عليه السّلام.. وكانت ليلةً طحنت من الفرسان آلافاً!.. وقد بلغ فيها القتلُ والقتالُ ذُرويتهما. أما النتيجة فسجال، إذ لا منتصرٌ ولا منهزمٌ!.
ولا يقبل الأشتر ذلك، أو يرضى به، فيطلب إليه فرسان قبيلته بني مذحج، فيأتونه ملبّين.. ويصيح فيهم: « كيف ذلك ؟! وأنتم أبناءُ الحرب، وأصحابُ الغارات، وفتيانُ الصياح، وفرسان الطِراد، وحتوفُ الأقران! والَّذي نفسي بيده، ما من هؤلاء (وأشار إلى أهل الشام) رجلٌ على مثل جناح بعوضةٍ من دِين! » ويكرُّ.. ويكرون، فلم يقصد كتيبةً إلا كشفها (أي: هزمها) ولا جمعاً إلاّ حازه، وما زال ذلك دأبُه حتّى أوشك أن يصل إلى السرادق الذي فيه معاويةُ وعمرو بن العاص!.. ودعا معاوية بفرسه فركبها، يطلبُ لنفسه النجاة، ثم طأطأ برأسه قليلاً، يفكرُ، ولمح وزيرَه عمرو بن العاص يرميه بنظراتٍ حِداد، فيها من المعاني ما فيها! فترجّل عن الفرس وعاد. عند ذلك قال عمرو: اليوم صبر، وغداً فخر! وعند ارتفاع ضحى الجمعة، يترجّلُ الأشتر عن صهوة جواده، ويزحف بأصحابه نحو الأعداءِ زحفاً شاقاً، بطيئاً، وكأنه يخوض في غابةٍ من السلاح. فأهل الشام مستميتون دفاعاً. ويشجع الأشتر أصحابه بقوله: إزحفوا قيد هذا الرمح. ويتم له ذلك. ثم يقول: إزحفوا قيد هذا القوس. فإن فعلوا سألهم مثل ذلك!. ويضيق مالك بذلك ذرعاً، وكذلك أصحابه يضيقون، إنّ حرباً بطيئة كهذه لَتُزلزل الأعصاب!. فيعتلي جواده، ويصيح بمن حوله: « من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر ؟ » فاجتمع له خلقٌ كثير، وسلَّم الراية لحيَّان النخعي، وصاح: « شدوا شدَّةً، فدىً لكم خالي وعمي.. تُرضون بها الربّ. وتعزّون بها الدِّين.
ثم نزل، وضرب وجه دابته، وقال لصاحب رايته: أقْدِم بها. وحمل على القوم يقاتل كالأسد الهصور. فلمّا رأى الإمام عليٌّ عليه السّلام تقدّمَه أمدَّه بالرجال، فتقدم بهم، لا يثنيه شيء. ولاح النصر إلى جانب علي عليه السّلام وأصحابه. وبان الانكسار في معسكر أهل الشام، وارتسمت على وجوههم علائم الخذلان المبين! وإذا بالمصاحف، يرفعها أهل الشام على أسنّة رماحهم، قائلين: هذا كتاب الله بيننا وبينكم! فتتوقف فئة من جيش الإمام عن القتال، يطلبون من الإمام وقف القتال، فكيف يقاتلون من يطالبهم بالاحتكام إلى القرآن، والنزول على أحكامه ؟! فيجيبهم أميرالمؤمنين علي عليه السّلام: إنّها كلمةُ حق يُراد بها باطل. ويأمرهم بمواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة، وها هو الأشتر يوغلُ في صفوف الأعداء قُدُماً، فيمزقهم تمزيقاً، ويزيحهم عن مواقعهم، فيتراجعون القهقرى! ويصرون على إيقاف القتال، وعلى دعوة الأشتر للكف عن متابعة الزّحف. وينقسم عسكر الإمام، وتدُبُّ الفتنةُ بين صفوفه. فخيار الجند، وأكثرهم صلاةً، وأشدهم عبادةً، قد تمردوا على إمامهم، في أشد الساعات حرجاً. فياله من جيش، كل فردٍ فيه قائد! ولا يجدُ أميرالمؤمنين بُداً من الطلب إلى الأشتر بالعودة. ويرسل إليه، أمام القوم، رسولاً يحمل إليه طلبه، بالعودةِ والكف عن متابعة الزحف. ويُفاجأ الأشتر بذلك. فيتباطأ!..
ثم يرسل له رسولاً آخر يقول له: « أقبل إليَّ فإنَّ الفتنة قد وقعت ». ويرى الأشتر بأن مكيدة الأعداء قد انطلت على أصحابه، وإنها لفعلة عمرو بن العاص الداهية. فيقول للرسول الذي أنصت ينتظر جواباً: «ألا ترى إلى الفتح ؟! ألا ترى ماذا يلقون ؟! وعندما علم بأن الإمام أصبح بين يدي المتمردين من جيشهِ كالرهينة، عاد إليه على عجلٍ. ويُقبلُ الأشتر، فإذا بالقوم مجتمعون حول الإمام.. وبعينين تقدحان شرراً، ينظر إلى هؤلاء الخارجين على أرادة إمامهم ورأيه، وقد فرضوا رأيهم عليه فرضاً، ويدورُ بينه وبينهم هذا الحوارُ الملتهب: الأشتر: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن.. أحِينَ علوتُم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها.. وهم والله قد تركوا ما أمر الله به، فيها، وسنّة من أنزلت عليه، فأمهلوني فُواقاً (وهي المدة ما بين حلب الناقة وحلبها ثانية. إنها في حدود الساعتين تقريباً)، فإنّي قد أحسست بالفتح! الخارجون: لا. الأشتر: أمهلوني عَدْوَ الفرس، فإني قد طمعتُ بالنصر!. الخارجون: إذن ندخل معك في خطيئتك. الأشتر: خبّروني عنكم، متى كنتم محقين؟! أحين تقاتلون وخياركم يُقتَلون، فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون، أم أنتم الآن محقون وقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم، وهم خيرٌ منكم، في النار؟! الخارجون: دعنا منك يا أشتر!. قاتلناهم لله، وندعُ قتالهم لله! الأشتر: يا أصحاب الجباه السود!.. كنا نظنُّ صلاتكم زهادةً في الدنيا، وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا!.. ألا قبحاً يا أصحاب النيب الجلاّلة، ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً. فابعدوا كما بَعُد القوم الظالمون! ويغلظ لهم قولاً! فتثور ثائرتهم للاذع القول، وكأنه طعن المُدي!. فيسبّونه!. ويضرب وجوه دوابهم.. ويضربون وجه دابته!. ويتملئ صدر الإمام علي كرم الله وجهه غماً وهماً وهو يشهد رجاله ينقلبون عليه يتمردون. ويشفق من فتنةٍ تثور في عسكره، فتأتي على البقية الباقية منه.. إنّه لا يدري ماذا يفعل، وقد أُوقع في يده، فاعتراه حزن ثقيل مظلم، فلا رأي لمن لا يطاع! وكالبركان انفجر في وجوههم، وهو يتميز غيظاً وحنقاً: كُفُّوا! فكفوا!
تُرى، هل دار في خَلَدِ أحدٍ من هؤلاء المتمردين على إمامهم، والخارجين عن طاعته بأنهم هم « الخوارج » المارقون، الذين قيل فيهم أنهم « كلاب أهل النار »؟! ويتم التحكيم.. إنِ الحُكمُ إلا لله! ويختار أهل الشام عمرو بن العاص ممثلاً لهم. ويكون الإلحاح على الإمام علي كرم الله وجهه على القبول بأبي موسى الأشعري حَكَماً من طرفه. وتُكتبُ بذلك صحيفةٌ، تهافتوا على التوقيع عليها، وعندما دُعي مالك الأشتر للتوقيع عليها، شاهداً، قال: لا صحبتني يميني، ولا نفعتني شمالي، إن خُطّ لي في هذه الصحيفة اسم على صلحٍ وموادعةٍ. أوَ لست على بينة من ضلال عدوي؟! أو لستم قد رأيتم الظفر؟! ويبتسم أميرالمؤمنين ابتسامة إعجابٍ واعتزاز لقولٍ يصدر عن رجلٍ لا كالرجال العاديّين. وكان بعد ذلك من أمر التحكيم ما كان!..
ويعود كلٌ إلى بلده. ويردّ الإمام علي كرم الله وجهه الأشتر عاملاً له على الجزيرة (أي حاكماً على منطقة الجزيرة في الشام) وبلغ الأشتر أن الضحاك بن قيس، وكان أميراً على جيش معاوية في صفين، سار يريد « حرّان »، فأقبل الأشتر إليه، ونازله مع جنوده في «مرج مرينا» وهو مكان بين حرّان والرقّة. وانهزم الضحاك وأصحابه!. فالنصر تحت راية الأشتر حيثما كان. وطارد الأشتر الضحاك ومن معه، فحاصرهم في حرّان، وناداهم: ألا تنزلون أيها الثعالب الروّاغة.. الجُحر، الجُحْر (ثقب في الأرض تأوي إليه الحشرات والحيات) يا معاشر الضّباب! (جمع ضب: دويبة صحراوية ماكرة) ومضى، فمرّ بالرقة، فتحصنوا فيها. ثم تابع طريقة إلى قرقيسيا فتحصنوا.. فالأشتر، بالنسبة إليهم، سيفٌ من سيوفِ الله مسلول، لا يقوم أمامه شيء! وينصرف الأشتر بجنوده. وإذا بكتاب من الإمام علي كرم الله وجهه يقول له فيه: «إنّك ممن أستَظْهِرُ به على أقامة الدين، وأقمع به نخوة الإثم، وأسدُّ به ثغر المخوف، فأقدم عليَّ لننظر في ما ينبغي ».
ويتساءل الأشتر: ما الأمر ؟. فيقال له: إن أهل مصر قد انتفضوا على محمد بن أبي بكر الذي ولاّه الإمام عليه السّلام عليهم، فقُتل.. وليس لهذه المهمة في مصر غيرك. ويسرعُ الأشتر، ممتثلاً أمر الإمام علي كرم الله وجهه. إنّه سيفه في شديد الملمّات وعند الخطوب الصَعاب. ويأمر الإمام علي كرم الله وجهه مالكاً بالتوجه إلى مصر، والياً على أهلها من قِبَله، ويُحمّله إليهم منه كتاباً: « إني قد بعثت عليكم عبداً من عبادِ الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكُلُ (أي لا يتراجع) عن الأعداء حذر الدوائر. من أشد عباد الله بأساً وأكرمهم حسباً. أضرّ على الفجّار، من حريق النار، وأبعدُ الناس من دنس وعار. وهو مالك بن الحارث الاشتر، فاسمعوا له وأطيعوا أمره في ما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف الله ». ولعمري، إنها لشهادةٌ من أميرالمؤمنين وسيد الوصيين كرم الله وجهه، في الأشتر، يلحق مجدُها وفخرُها وشرفها، النخعيين، وبني مذحج حتى قيام السَّاعة. ويعهدُ أميرالمؤمنين كرم الله وجهه إلى الأشتر عهداً، يحفلُ به نهج البلاغة، وكُتبُ السير والمغازي، فلا يدع شاردة ولا واردة يستقيم بهما الحُكم، ويحتاجهما الحاكم، إلا ويأتي على ذكرهما، ويجدُ حكام الدنيا في عهد الإمام علي عليه السّلام للأشتر برنامج عملٍ، ودستور حكم ليس لهما من نظير. ويوجس معاوية خيفةً من الأشتر المتوجه إلى مصر، وكان معاوية بها طامعاً، فبعث إلى رجل من أهل الخراج، يثق به، قائلاً: « إن الأشتر قد وُلّي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيتُ وبقيتَ، فاحتلْ بما قدرت عليه ».
فلما قدم الأشتر القلزم (أطلالها اليوم قرب مدينة السويس) أتاه الذي دسّه إليه معاويةُ قائلاً له: أيها الأمير، هذا منزلٌ فيه طعام وعلف، وإني رجلٌ من أهل الخراج. فنزل به الأشتر. وقُدّم للأشتر الطعامُ فتناول منه. ثم قُدّمت له شربةٌ من عسلٍ مسمومٍ، فلما شربها، استُشهد ـ رضوان الله عليه ـ لساعتِه. وعندما علم معاوية بموت الأشتر قام في الناس خطيباً: أما بعد: فإنه كان لعلي بن أبي طالب يمينان: قطعتُ إحداهما يوم صفين (يعني: عمار بن ياسر)، وقطعتُ الأخرى اليوم (يعني: مالك الأشتر). وقال في مناسبة ثانية حول هذا الأمر أيضاً: ـ إنّ لله جنوداً من عسل! (كنايةً عن مَكْرِه بدسّ السمّ في العسل، غدراً بالمؤمنين).. فذهبَتْ مثلاً!
ولما بلغ الإمام علياً كرم الله وجهه، شهادتُه، قال ـ وبصوته غصّة التياع ورنةُ حزن عميق: إنا لله، وإنا إليه راجعون! والحمد لله رب العالمين. اللهم إني أحتسبُه عندك، فإن موته من مصائب الدهر.. رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنتُ لرسولِ الله. ويدخل بعض أصحابه معزّين في الخَطْب الجلل، فيجدونه وقد استبدَّت به لوعةٌ ولهفةٌ مذهلتان، وهو يقول: لله درّ مالك!. وما مالك!. لو كان جبلاً لكان فنداً (أي: جبلاً عظيماً)، ولو كان صخراً لكان صلداً. على مثل مالك فْلتَبكِ البواكي، وهل موجود كمالِك ؟! لقد استكمل أيامه، ولاقى حِمامه، ونحن عنه راضون.. فرضي الله عنه، وضاعف له الثواب، وأحسن له المآب ». فيقول الحاضرون ـ وفي عين كلٍّ منهم تترقرق دمعة حرّى: آمين..