الأدب في العصر المملوكي
ازدهرت الحركة الأدبية في العصر المملوكي ازدهاراً كبيراً. فقد نشأت مدرسة مصرية شهيرة اختصت بتأليف الموسوعات في شتى النواحي الأدبية والسياسية والتاريخية والاجتماعية والإنسانية.
ورأس هذه المدرسة في مصر، شهاب الدين النويري، صاحب الموسوعة الشهيرة باسم نهاية الإرب في فنون الأدب. وقد بلغ من قيمتها وموسوعاتها أن ترجمت للغة اللاتينية منذ القرن الثامن عشر. ويعد بن دانيال، الأديب والطبيب القبطي، من أشهر أدباء مصر في العصر المملوكي، (توفى عام 710هـ / 1310م)، وهو صاحب أول محاولة لمسرحيات خيال الظل في العصور الوسطى. حيث جمعت مثل هذه المسرحيات بين الشعر والنثر الفني. كما أن قصص ألف ليلة وليلة قد احتوت على مواد مصرية قصصية كثيرة يمكن تحديد تاريخها بالقرن 8 هـ/ 14 م.
وفي العصر المملوكي كان السلاطين والأمراء وكبار الجاه يرون تقريب العلماء والشعراء مظهراً من مظاهر الشرف والنبل. فكانت منازلهم وقصورهم موئلاً للأدباء والشعراء.
وازدهر النثر الفني والشعر، حيث تم الاحتياج إلى الكتاب في ديوان الإنشاء، وبرع في ذلك الأديب بن عبد الظاهر (توفي 692 هـ/ 1293 م)، حيث عينه بيبرس كاتباً للسر بديوان الإنشاء.
ويعكس شعر العصر المملوكي كافة جوانب المجتمع المملوكي السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة.[1]
كما ازدهرت المناظرات الأدبية والشعرية المختلفة، ومن أشهر شعراء العصر المملوكي بن الجزار وبن الوراق والمناوي المصري. واشتهر الصلاح الصفدي كأحد أهم مؤلفي الموشحات في العصر المملوكي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اللغة
جاء المماليك إلَى البلاد العربية أطفالاً ويافعيْن، وتعلموا من العربية – العامية – ما يُيسِّرُ لهم أداء واجباتِهم (الدينية خصوصاً)، وغالباً ما استُخدموا متُرجميْنَ لَهم، وكان لِجهلهم دورٌ في لجوء الأدباء إلَى العامية وابتعاد الشعراء عن البلاط، لذا كان الشعراء المحترفون قلةً، وتراجعتِ اللغة العربية على صعيد الاستخدام الأدبِي لمخالطة اللغات الأعجمية لها، فاللغة الفارسية سيْطرتْ على العراق وفارس، وظهر مع المماليك الأدب التُّركي الذي لَم يكن مكتوباً فأخذ من الأدب العربي والفارسي، فأثَّرت هذه العوامل على اللغة العربية، فالأتراك يتكلمون التركية المتعددة اللهجات كلغة (الغُز)، وبم يعفروا من العربية إلاَّ ما يَخدم واجباتِهمُ الدينية، وحاولوا الكتابة بالعربية فكان لهم تأثيْرٌ سلبِيٌّ عليها، وكذا كان شأن الفرس.
الشعر
ارتبطت المناسبات التاريخية وآثار مصر في العصر المملوكي ارتباطاً وثيقاً بالشعر. فقد مدح السلطان بيبرس البندقداري عند افتتاح المدرسة الظاهرية، ومدح السلطان برقوق شعراً عندما تم افتتاح مدرسته في بين القصرين. وقال ابن إياس شعراً في السلطان الغوري بعد فراغه من بناء مصطبة وان لم يخل الشعر حول الغوري من هجاء.
وعندما سقطت إحدى منارات مسجد السلطان حسن (762 هـ / 1361 م) واعتبر الناس ذلك نذيراً بزوال الدولة، حتى سارع الشاعر بهاء الدين السبكي (توفى 773 هـ / 1372 م) ليجعل من ذلك بشير سعد للسلطان والدولة إذا ما سقطت المئذنة إلا إجلالاً للقرآن الذي يقرأ تحتها.
أمَّا البلاط فلم يعدِ الشعراء يتكسبونَ من الشعر، لعدم فهم الحكَّام الشعر فأُغلق الباب في وجههم، وكانَ الأعيان الأغنياء كذلك، فانكفأ الشعراء على أنفسهم، وامتهنوا المهن والحرف كالكحَّال والجزَّار والورَّاق وغيْر ذلك، فأضحى الأدب هوايةً يُمارسونَها أحياناً، فأنتجتْ أدباً مختلفاً عن العصور السابقة، فلم يعد في قصائدهمُ المقدمة الطلليةُ والنسيبُ مثلاً، وكثُرتِ المقطعات لأنَّها استجابةٌ لدفقةٍ شعوريَّةٍ سريعةٍ، وكان الشاعر يضع نصب عينيهِ المتلقِّي الجاهل لقلة الثقافة حتَّى ولو كان المتلقِّي وزيراً، ولذا شاع في شعرهم السهولة والوضوح وامتزاج العامية بالفصحى، وانتشرت الصنعةُ والمبالغةُ والتكلُّفُ، وهي موجودة في العصر العباسي ولكنَّ أدباء هذا العصر بالغوا فيها لمحاولة مجاراة الأقدميْن، فاستخدموا كل المحسنات البديعية والصنعة البيانية، وصارت الألفاظ قريبةً من العامة، واستمرتِ الأجناسُ الأدبيةُ السابقة كالغزل والمدح (الذي قلَّ لعدم وجود الحكَّام العرب) والرثاء وغيْر ذلك. [2]
كان الشعراءُ المحتَرفونَ قلةً حينها، فلم يعودوا يتكسبونَ بالشِّعْرِ لعدم فهْمِ الحكَّامِ والنبلاءِ (الأغنياءِ – الأعيانِ) الشعرَ، فأُغلقَ البابُ أمام الشعراءِ، وأوَّل من أحسَ بِهذا التغييْرِ الشعراء الذيْنَ استشعرُوا أنَّهمْ محاصرونَ فالبلاطُ مغلقٌ في وجوههِم لكونِ الحاكمِ غريباً لا يفهمُ العربيَّةَ فلا يَهتزُّ للمدحِ ويُغدقُ العطايا، كما وجدوا الجمهورَ جاهلاً غارقاً في الأميَّةِ، فتقوقعُوا وصاروا يكتبونَ شعرَهم في مناسباتٍ كهوايةٍ، ويكرِّرونَ أنفسَهمْ في الأغراض التقليدية بِما حفظوهُ من التُّراثِ، وحاولُوا تفسيْرَ قصور إنتاجِهمُ الأدبِيُّ عند مقارنتهِ بأدبِ الازدهارِ، وكانوا مقتنعيْنَ بِما نسميِّهِ الدوافعَ والأسباب، وهذا الدافعُ إمَّا خارجِيٌّ وإمَّا داخلِيٌّ، قال أحد الشعراء:
أنَـا فِي جيْـلٍ خسـيْسِ | وقَـبِـيْـلٍ وزمـانِ |
أمـدَحُ السلطانَ كَيْ | يصـْـبِـحَ مَـالِي فِي أَمـانِ |
أكـذا كـانَ أبُـو تَمَّـا | مٍ قَبْـلِي وابْـنَ هانِي |
فيلقي باللائِمةِ على أبناءِ عصرهِ، ويَمدحُ السلطان ولَمْ يَجِدْ كأبِي تَمَّامٍ وابنِ هانِئٍ من يتبنَّاهُ ويُغدقٌ عليهِ العطاءَ، فيمدحهُ خوفاً على مالهِ وحسب.
شاعَ حينذاكَ ما يُسمَّى بالمصادرةِ، حيثُ يأمرُ السلطانُ بأخذِ أموال الناسِ وتَجريدِهمْ منها، كما كانَ الْمُصادَرُ يُعذَّبُ بِما خبَّأهُ من أموالٍ عن عيونِ السلطانِ، وكانتِ المصادرةُ تشملُ العوامَّ والشعراء والأمراء وأصحاب المناصب، يقولُ أحد الشعراءِ:
لِمَنْ أبوحُ بشعري حيْنَ أنظمُهُ | أمْ من أخِصُّ بِما فيهِ مِنَ الزَّبـَدِ |
إمَّا جَهُولٌ فلا يدري مواقعَـهُ | أو فاضلٌ فهْو لا يَخلُو مِنَ الحسدِ |
فعامةُ الناسِ جاهلةٌ لا تعرفُ قيمة الشعرِ، والعارفُ بهِ يقف ضد الشعرِ حسداً، فلا يَجدُ من يَفهمُهُ ففضَّلَ السكوتَ. وهناكَ هوَّةُ ثقافيَّةٌ بيْنَ طرفيِنِ لَم يعودا متفاهِميْنِ، ولو كانَ تقصيْرٌ في الشعرِ فلأنَّ الظروفَ لا تساعدهُ، يقولُ الشاعرُ عن قلَّةِ الإنصافِ:
قالوا:
رفضْتَ كلامَ الشِّعْرِ مطَّرِحاً | فقلتُ : من قلَّةِ الإنصافِ في زمنِي |
لا المدْحُ يورثُـنِي مالاً أُسَـرُّ بهِ | ولا الْهِجاءُ إلَـى مولَـىً يقرِّبُنِي |
وتكلَّمَ آخرونَ عن نظريَّةِ الدوافعِ والأسبابِ، فلا ثوابَ على المدحِ ولا اعتذارٌ فماتتْ موهبتُهمْ لعدم وجود الأسباب، يقولُ السرَّاجُ الورَّاقُ:
وكانَ النَّاسُ إنْ مُـدِحُوا أثَـابُوا | ولِلْكُـرماءِ بِالْمَـدحِ افْتِـخارُ |
وكانَ العذرُ منْ وقْـتٍ لـوقْتٍ | فَصِرْنَـا لا عَطـاءٌ ولا اعتِذارُ |
ويسخرُ الشاعرُ أبو الحسيْنِ الجزَّارُ في النصفِ الثانِي من القرن السابع للهجرةِ من ممدوحٍ تركِيٍّ لا يفهمُ العربيَّةَ، مجسداً الهوة الثقافيةَ :
وكَمْ قابلْـتُ تركياً بِمدحِـي | فكادَ لِما أُحاولُ منـهُ يَحنقْ |
ويلطِمُنِي إذا ما قلْتُ ( ألطِنْ ) | ويرمقنِي إذا ما قلْتُ (يرمِقْ) |
وتسقطُ حُـرمتِي أبَداً لديْـهِ|فلو أنِّيْ عطسْتُ لقالَ (يَمشِقْ)}}
استخدمَ كلماتٍ تركيَّةٍ لبيانِ مدى الهوَّةِ الثقافيَّةِ بيْنَ الطرفيْنِ، فليسَ لأبياتِهِ قيْمةٌ فنيَّةٌ سوى تَجسيْدِ ما كانَ يَحصلُ بيْنَ الطبقةِ الحاكمةِ والمحكومةِ.
فالشعرُ أصبحَ هوايةً لا احتِرافاً وصارَ لكلِّ شاعرٍ مهنةٌ، فالسرَّاجُ الورَّاقُ كان ينسخُ الكتبِ، والبوصيْري افتـتحَ كتَّاباً لتعليْمِ الصبيانِ، وأبو الحسيْنِ الجزَّار كانتْ مهنتهُ الجزارةَ وبيَّنَ أنَّهُ بعملهِ الجديد أصبحتِ الكلابُ ترجوهُ لتأكلَ، بينَما كان بالشعرِ يقصدُ الكلابَ وهي توريةٌ للأغنياءِ، فيقولُ:
لا تلمنِي يا سيِّـدي شرفَ | الدينِ إذا ما رأيتنِي قَـصَّابـا |
كيفَ لا أشكرُ الْجزارةَ | ماعشْـتُ حِفاظاً وأرفضُ الآدابا |
وبِها أضحَتِ الكلابُ تَرجينِى وبالشعرِ كنْتُ أرجو الكلابا | {{{2}}} |
هنا استخدمَ كلماتٍ من معجمهِ الخاصِّ كاستخدام (ترجينِي) بدل (ترجونِي).
ونلحظُ التكلفَ عندَ الشعراءِ، فالشاعرُ شهاب الديْنِ أحْمد بن عبد الله الدمشقِي المعروف بابن عرب شاه، كتب سيْرة (عجائب المقدور في سيْرة تيْمور)، وكانَ الشاعرُ من رهائنِ تيْمور في حملتهِ على الصيْنِ وعاد بعد وفاتهِ، وأرَّخ الأحداث في الكتاب بلغة السجعِ وفيهِ تكلُّفٌ زائدٌ، ويَخلطُ بيْنَ الفصحَى والعاميَّةِ والتُّركيَّةِ والفارسيَّةِ، ويسوِّغُ في خاتِمةِ الكتابِ هذا الأسلوب، فقالَ: (قلْتُ مضمِّناً شعراً:
والفكْرُ كالبحْرِ يبدي لِي جواهرَهُ *** مع الصَّفاءِ ويُخفيها معَ الكَدَرِ | {{{2}}} |
ويقولُ: (هذا وإنَّ الكلامَ لهُ مقاماتٌ، ولكلٍّ من الفصاحةِ والبلاغةِ درجاتٌ) وقدْ قيلَ:
إذا أحسسْتَ في لفظِي قصوراً | وخطِّي والبَرَاعَـةِ والبَـيانِ |
فلا ترتبْ لِفهمِي إنَّ رقصـي | على مقْـدارِ إيقاعِ الزَّمـانِ |
ويقولُمنها أنَّ الأفهامَ كانتْ مدركةً، وكذلك كانتْ قريْحةُ المتكلِّمِ متحرِّكةً، لقدْ صارتِ الأفهامُ جامدةً، والقرائِحُ خامدةً)، فهوَ على تأخُّرهِ يُدركُ قواعد الفصاحةِ والبلاغةِ ويطبِّقُها، ويشيْرُ أنَّهُ لو جاءَ بغيْرِ طريقِ السجعِ لرُفضَ كتابهُ، ويعترفُ بأنَّ العجزَ ليسَ من الآخرِ وإنَّما من الطرفيْنِ معاً.
وخرقَ الشعراءُ قواعد القصيدةِ التقليديَّةِ علَى عدَّةِ مستوياتٍ: هيكل القصيدةِ، والمعجم اللغوي، والموضوعات، فالبوصيْري صاحب المدائِحِ النبويَّةِ كانَ فقيْراً اشتغلَ مدرساً في مجلسٍ أقامهُ، ثُمَّ عرض عليهِ صديقٌ وظيفة الحِسبة وهي دينيَّةٌ فرفضها لأنَّهُ لا يفهمُ فيها ولا يريدُ دخول عالمَ الفسادِ فقالَ:
لاتظلمونِي وتظْـلِموا الحسبةْ | فليسَ بينِي وبينها نِـسبةْ |
غيْريَ في البَيْعِ وَالشِّرَا دَرِبٌ | وَليس في الْحالتيْنِ لِي دُرْبَةْ |
ما سِـوى حرفةِ الكتابةِ لِي | مِـنْ وَطَرٍ أبتغِي ولا إربةْ |
وَالشِّعْرُ مِيزَانُـهُ أُقَـوِّمُـهُ | وليس تَنْقامُ مِنْه لِي حَدْبَةْ |
خرقَ القواعد الشعريَّةِ بِمزجِ العاميِّ بالفصيْحِ، وخرقَ التراكيبَ حيْنَ جعلها عاميَّةً، وقدَّمَ وأخَّرَ كيفما اتفقَ، وقال أبياتُهُ عند الانفعال بالموقفِ كمعظم الشعرِ في عصرهِ، وأدركَ هؤلاء الشعراءُ قاعدة (لكلِّ مقامٍ مقالٌ) واستغلُّوها فدخلَ موضوعه مباشرةً، وتدنَّى المعجمُ اللفظيُّ كثيْراً فخلطهُ بالألفاظِ العاميَّةِ ليوصلَ كلامه لكلِّ الناسِ فالمقامُ يقتضي ذلكَ، كما استخدمَ التراكيبَ العاميَّةَ بألفاظٍ فصيحةٍ مثل (فليسَ بينِي وبينَها نسبةْ). ولَمْ تكنْ قصائِدهُمْ مقطعاتٍ فقطْ بل هناك قصائد طويلةٌ، كقصيدة البوصيْري عشيةَ العيدِ ولَمْ يكنْ لأولادهِ ثيابٌ وطعامٌ فقصدَ أحد المتنفذِّيْنَ قائلاً:
يا أيها المَوْلَى الوزِيرُ الذي | أيَّامُـه طَـائـعَـة ٌ أمْـرَهْ |
ومنْ لهُ منـزلة ٌ في العُلا | تَكِلُّ عَنْ أوْصافِـها الفِكْرَةْ |
إليكَ نَشْكُو حَـالَنا إنَّـنا | حاشاكَ من قومٍ أُولِي عسْرةْ |
في قِـلةٍ نَحنُ ولكـن لنا | عَـائلة ٌ فِي غَـايةِ الكَثْرَةْ |
وتَقعُ القصيدة بيْنَ ستيْنَ إلَى سبعيْن بيتاً، يستجديْ المولَى الوزير العربِي ويشكو فقر عيالهِ فبعدَ المقدمةِ يشرحُ أحوالَ أبنائِهِ في العيِدِ وليسَ عندهمْ شيءٌ:
وأقبَلَ العيْـدُ ومـا عِنْدَهُم | قَمْـحٌ ولا خـبْزٌ ولا فِطْرةْ |
وينتقلُ من الدراما المحزنةِ إلَى المواقفِ المضحكةِ لينالَ مطلبَهُ، في مشهدٍ مسرحيٍّ فأخت زوجتهِ الميسورة تُحرِّضُ زوجتهُ عليهِ، فيقولُ على لسان الأخت:
قومِي اطلبِي حقَّكِ منهُ بِلا | تَخلُّفٌ مِـنْكِ ولا فَـتْـرَةْ |
وإنْ تأبَّى فخُـذي ذقْـنَهُ | ثُمَّ انتفِـيها شعْـرةً شعْـرةْ |
فهَـوَّنَتْ قدري فِي نفسِها | فجاءتِ الزَّوجَةُ مُحْـتَـرَّةْ |
فاستقبلتْـنِي فهـدَّدْتُهـا | مِـنْ أوَّلِ الليلِ إلَى بكْـرَةْ |
تُمثِّلُ القصيدةُ نفساً شعرياً خاصاً، فلجأ للمبالغة المحببة كشعراء عصرهِ على طريقة الكاريكاتيْر في عصرنا، فهمْ يبالغونَ في الأمرِ إلَى حدِّ السخريةِ، واستخدمَ المعجمَ اللغويَّ الذي يَجمعُ العاميَّ والفصيْحَ لأنَّ المقامَ يقتضي هذا المقالَ، وعندما يستخدمُ تعبيْراً فصيحاً يَختارهُ من أدنَى التعبيْراتِ إلَى العاميَّةِ، لأنَّ المرسِلَ يتوجَّهُ إلَى متلقٍ (مُرسَل إليهِ) أقربُ إلَى الجاهل ولتصلَ إليهِ الفكرةُ اعتمدَ على قواعدِ الرسالةِ. والتقاطعُ بيْنَ شعراءِ هذا العصرِ واضحاً، ليسَ في أسلوبِ القولِ وطريقتهِ في المعجمِ اللغويِّ وحسب ولكن أيضاً في الموضوعات، فالمحورُ الأساسيُّ في حياتِهمُ الفقْرُ المدقعُ والجهلُ المطبقُ للجمهورِ، فعلى مستوى الموضوعاتِ نذكرُ على سبيل المقارنة الجزَّار والورَّاق، فأبو الحسيْن الجزَّار يتحدَّثُ عن نصفيةٍ (ستْرة) ولفقرهِ يغسلُها بالنشاء الذي يقوِّي نسيْجَ الثوبِ، مستخدماً التعابيْر والألفاظ العامية فيقولُ:
لِي (نصفيّةٌ) تُـعَـدُّ مـنَ الـعُـْمـ | ـر سنيناً، غسلتُها ألفَ غسلةْ |
لا تسلنِي عنْ مُـشْتَـراها فـفـيهـا | منذُ فصَّلتُها نشـاءً بِجُـملةْ |
كـلّ يَـومٍ تُـكَـابِـدُ الـعـَصْـر | والـدقَّ مراراً ولا تُقِرُّ بِـعـمْلةْ |
هذا الموضوعُ نَجدهُ عند الورَّاق حيثُ التقاطعُ المدهشُ بينهما فيشكو الجوخة لباس الفقراءِ وعبَّرَ بأسلوبٍ ساخرٍ على لسانِها عن حال النفاقَ في عصرهِ:
هـذَا وجُـوخَتِي الزرقاءُ تَحسبُهـا | مِنْ نسـجِ داودَ في سَرْدٍ وإتقانِ |
قلَّبْـتُـها فغَـدتْ إذْ ذاكَ قائِـلَةً | سُبْحـانَ قلبِي بَـلاَ قلبِي وأبلانِي |
إنَّ النِّفـاقَ لَشـيءٌ لسْتُ أعـرفُهُ | فكيفَ يُطـلَبُ منِّيَ الآنَ وَجْـهانِ |
وهناكَ تقاطعٌ في المسكنِ، فصاحبُهما ابنُ دانيال الكحَّال كان يشارِكُهُما في كلِّ شيءٍ، واهتمَّ بتأليف تَمثيلياتٍ بسيطةً كوميديَّةً عن خيال الظلِّ، فيصفُ بيتَهُ في قصيدةٍ طويلةٍ فوصفَ بيتهُ وأثاثهُ ليدلَّ على فقرهِ، فتناولَ الموضوعَ على طريقة الشعراء الظرفاء، ويَختـتمُ بوصفِ ثوبِهِ المرقَّعِ، ومنها:
أصبحْتُ أفقرَ من يروح ويغتدي | ما في يدي من فاقةٍ إلاَّ يـدي |
في منـزلٍ لم يَحْوِ غيْري قاعِداً | فإذا رقدْتُ رقدْتُ غيْرَ مُمدَّدِ |
لَمْ يبقَ فيه سِوى رسومِ حصيْرةٍ | ومِخَدَّةٍ كانَـتْ لأمِّ الْمُهتدي |
ملقىً على طرَّاحَةٍ فِي حشْـوها | قَمْلٌ كمثلِ السُّمـسم ِالمتبدِّدِ |
والفأر يَركضُ كالخيولِ تسابقتْ | منْ كلِّ جرداءِ الأديمِ وأجرَد |
هذا ولِي ثوبٌ تَــراهُ مرقَّعـاً | مِنْ كلِّ لونٍ مثل ريشِ الهدهدِ |
ولغتهُ فصحى سليمةٌ مع استخدام بعض الألفاظ العاميَّةِ، وتقاطعَ معه في موضوع السكنِ ابن الأعمَى المتخصص بوصف الأماكن والأثاث، فيقولُ:
دارٌ سكنْـتُ بِهَا أقـلُّ صفاتِها | أنْ تكثُرَ الحشراتُ في جَنباتِها |
الْخيْرُ عنْها نَـازِحٌ مُـتَـبَاعِدٌ | والشرُّ دانٍ مِنْ جَميْعِ جِهاتِها |
وبعد المقدمةِ الاستهلاليَّةِ يتابعُ على طريقةِ الشعراء الظرفاء تضخيْمَ العيوبِ ويسهبُ في وصفِ الحشراتِ ويَختمُ ببيتٍ كالمطلعِ في حسن الختام، ومنها:
من بعضِ ما فيها البعوضُ عدمته | كم أعدمَ الأجفان طيبَ سباتِها |
وتبيْتُ تسندُها بَـراغيْـثُ متَى | غنَّتْ لَها رقصتْ على نغماتِها |
وبِها ذبابٌ كالضبابِ يسدُّ | عيْــنَ الشَّمسِ ما طربِي سوى غنَّاتِها |
وبِها منَ الْجرذانِ ما قَدْ قصَّرَتْ | عنهُ العِـتاقُ الجرْدُ في حملاتِـها |
دارٌ تبيْتُ الْجِـنُّ تَحرسُ نفسَها | فيها وتندِبُ على اختِلافِ لغاتِها |
ففي قصيدتهِ الطويلةِ ثلاثة أمورٍ اهتمَّ بِها النقَّادُ في العصرِ المملوكي، وهيَ: المطلعُ والمقطعُ وحسنُ الختامِ، وشاعريتهُ في اختياره بَحْرٌ متناغِمٌ هو الكاملُ والقافيةُ وبراعتهُ في التصويرِ، ويتقاطع مع ابن الأعمى في وصفِ الجرذانِ التِي تَمرُّ مسرعةً لعدم وجود أثاثٍ يعيقُ حركتها، وفي بيت الختام يلخِّصُ الموضوع فالجنُّ تَخشى السكنَ في دارهِ فكيفَ هو؟
وأضافوا موضوع السخرية وهي ليستْ هجاءً كالأدبِ القديْمِ بل سخريةٌ من أنفسِهمْ، وخاصةً السخريةُ المرَّةُ في أحلكِ المواقفِ، فالبوصيْري عمل مرَّةً في ديوان الحسابات الذي يتطلَّبُ إجراء بعض العمليات الحسابيَّةِ، وكانَ غالباً بيْنَ يدي أهلِ الذمَّةِ وكانُوا لا يرغبونَ بهِ فتركهمْ ساخراً منهم:
يغالِطُنِي بعضُ النصارى جَهالةً | إذا أُوْجِبَ الْمُلغَى وألغى الْموجِبا |
وما كانَ مَنْ عدَّ الثلاثةَ واحِداً | بأعلَمَ منِّيْ في الحسابِ وأكْـَتَبَـا |
فطعنَ في عقيدتِهم ساخراً من معرفتِهم بالحسابِ لأنَّهم يعتبِرون الثلاثةَ (الأب والابن وروح القدس) واحداً رغم اختلافِها، من قبيل الفكاهةِ لاالتعصبِ. ولهُ قصيْدةٌ مشهورةٌ نال من مسؤولِيْ مصرَ عندما عاقبَ حاكمُ صنعاء بعض الشيوخِ بِحلقِ أنصاف لُحاهمْ، وهو عقابٌ نفسيٌّ فقال مستهزئاً ساخراً:
إنَّ حلقَ الذقنِ خيْرٌ للفتَى | يا بنِي الأعْـمامِ منْ أنْ تنتفا |
وَالذي حَلَقَ أنصافَ اللِّحى | كانَ في الأَحكامِ عَدْلاً مُنصِفا |
حَلَّقَ النصفَ بذنبٍ حاضرٍ | وعَـفا بالنِّـصفِ عمَّا سلفا |
وموطنُ السخريةِ أنَّ ترك اللحى علامةً على التُّقَى، وحلقها علامةً على الذنبِ والإساءةِ، فهو لَم يكن متعصباً دينياً بل ناقماً على المسؤوليْن المذنبيْنَ.
والمطيةُ عندهم دلالةٌ على المكانة الاجتِماعيَّةِ فِي عصرِهمْ، وكانت الخيولُ حكراً على الطبقةِ الحاكمةِ، وكانتْ هناك اسطبلاتٌ مشهورةٌ للسلطان تَهتمٌّ بالخيول، وأقل الأمراء مرتبةً يركبُ جواداً واحداً، وعامة الناسِ لهمُ الحميْرُ أو لا شيْءَ، وللقضاةِ والشيوخِ وموظفيْ الديوان ُ البِرْذونُ –كالبغلِ- وكانتْ المطيَّةُ عند الشعراءِ انعكاساً لحالتِهم، فيسخرُ ابن دانيال من مطيتِهِ ليصفَ الأحوال الاجتِماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ لعصرهِ:
قدْ كمَّلَ اللهُ برذونِي بِمنْـقصةٍ | وشانَهُ بعدما أعْماهُ بالـعَرَجِ |
أسيْرُ مثلَ أسيْرٍ وهوَ يعرجَ بِي | كأنَّهُ ماشياً يَنْـحطُّ من دَرَجِ |
واشتهرَ الجزَّارُ بِحمارهِ من خلال وصفهِ لهُ، فكانتْ قصتهُ طريفةً حيْنَ رثاهُ بقصيدةٍ طويلةٍ وشاركهُ زملاؤهُ في التعزيةِ، وذكرض علاء الدينِ الصفدي أنَّهُ اطَلعَ على خمسيْن صفحةً في حمار الجزَّار، وأراد الشعراء النيلَ من ظروف حياتِهمُ الاجتِماعيَّةِ، فيقولُ الجزَّارُ:
هذا حِمارٌ فِي الحميْرِ حِمارُ | فِي كلِّ خَطْوٍ كَبْوَةٌ وعثارُ |
قنطارُ تبْنٍ في حَشاهُ شعِيْرةٌ | وشعيْرةٌ فِي ظهـرهِ قِنطارُ |
وبراعتهُ في جعله لحماره مرتبةً بيْنَ الحميْرِ كالمراتبِ بيْنَ الناسِ، والسخريةُ في تعثرهِ الدائِم وعدم شبعه وعجزه عن حَمْلِ شيءٍ، وبدو أنَّهُ قال ذلك قبلَ أن ينفقَ فلمّا مات رثاهُ كرثاء السلاطيْن وشاركه الناس في تعزيتِهِ، وأراد برثائِهِ أنَّه أفضلُ من رثاء أمراء عصرهِ، وبدأ ببَراعةِ الاستهلالِ قائلاً:
ما كـلُّ حـيْنٍ تنجحُ الأسفارُ | نفقَ الْحمارُ وبارتِ الأشعارُ |
خَرجي على كتفي وها أنا دائرٌ | بـيْنَ البيوتِ كأنـَّنِي عطَّارُ |
ويعرضُ محاسنَ حمارهِ كرثاءِ الأعيانِ: لَمْ أنسَ حـدَّةَ نفسه وكـأنَّهُ | مِنْ أن تسابـِقُه الرياحُ يغارُ |
وتَخـاله في القَـفْرِ جنًّا طائراً | مـَا كلُّ جنٍّ مثـْلهُ طـيَّار |
ويَختمُ قصيدتهُ الطويلةَ بقولهِ:
لَمْ أدرِ عـيباً فِـيـهِ إلا أنَّـه | مَعَ ذا الذكاءِ يقالُ عنه حِمارُ |
ولَمْ يتخلَّ الشاعرُ عن الخطاب الشعري المعروفِ في عصرهِ، فيَخلطُ بيْنَ العاميَّةِ والفصحى في المفرداتِ والتراكيبِ، وغرابة الموضوع حمارٌ لهُ كل هذا الرثاء والمديح، لكنَّ المقام وظروف الشاعر وأصحابه دفعتهم لِهذا، ونراهمْ يشاركونَه رثاء الحمار فيْرسلُ البوصيْري إليهِ ساخراً بِمعنَى يكفينا وجودكَ:
فلا تأسَ يا أيُّهذا الأديـْبُ | عليهِ فللموتِ ما يُولَدْ |
إذا أنْتَ عشْتَ لنا بعْـدَهُ | كفانا وُجودَكَ ما يُفقدْ |
والسخريةُ أنَّ الجزار يُجيبُهُ قائلاً:
مَنْ ماتَ في عزَّةٍ استراحَ ومَنْ | خلَّفَ مثلَ الأديبِ ما ماتا |
فالسخريةُ كانتْ مناسبةً لَهم لتفريغِ طاقاتٍ كامنةً، وكانتِ الموضوعات البسيطةُ هيَ التِي تثيْرُ اهتِمامهم، ومن الموضوعاتِ التِي كانوا يتخيَّرونَها الشكوى والهجاء ولكن بِخلاف الشعر القديْمِ، فابن دانيال شكتْهُ زوجتهُ للقاضِي فحكمَ عليهِ، فراحَ يشتمُ القاضي ويشرح حالهُ مع زوجهِ، فقالَ:
قلْ لقاضي الفسوقِ والأدبارِ | عضــدِ البُـلهِ عمدةِ الفجَّارِ |
والذي قد غدا سفينةَ جهلٍ | ولـه مِـنْ قُـرونِهِ كالصَّواري |
بكَ أشكو من زوجةٍ صيَّرتنِي | غَـائباً بيْنَ سَـائرِ الْحضَّـارِ |
غبْتُ حتَّى لو أنَّهُمْ صفعونِي | قلتُ باللهِ كفُّوا عن صفْعِ جاري |
وهذه الأبياتُ تُمثِّلُ حالة الشرودِ عندهُ، فلا يشعرُ بالصفعِ ويَحسبهُ لجارهِ، وينتقلُ لتصوير مشهدٍ مختلفٍ في هجاءِ نفسهِ وهنا تقاطعَ مع الحطيئة، فقالَ:
ولكمْ قد رأيْتُ في الماءِ شيْخـاً | وهوَ جَـاثٍ في الجبِّ كالعيَّـارِ |
شيْخُ سوءٍ كالثَّلْجِ ذقْـناً ولكنْ | وجـهُـهُ في سـوادِهِ كالقَـارِ |
أشبـَهُ النَّاسِ بِي وقدْ يُشبِهُ التَّـ | يْـسُ أخـاهُ فِي حَـوْمـةِ الجـزَّارِ |
فاعترانِي رعبٌ وناديْتُ ما كنْـــتُ | إخالُ اللصُـوصَ فِي الأزيارِ |
ثُمَّ أثخنْتُ ذلكَ الزيْرَ ضـربـاً | بِحُسامِي حتَّى هـوَى لانْكِسـارِ |
يذكِّرنا بِهجومِهِ على الزيرِ محارباً صورته برواية دون كيشوت ومحاربة طواحيْن الهواء وقطعان الماشية، كما تقاطعَ مع الحطيئة في هجائهِ لنفسِهِ عندما نظرَ لصورتهِ في الماءِ، ويبالغُ في الصور لتتفرغَ طاقاتهُ الشعريَّةُ ليظهرَ براعتهُ الشعريَّة، وكانت السخرية كشعراء عصرهِ لمواجهةِ أحوال المجتمع وأعوانه. إذاً في شعر هذه الفتْرةِ النصف الثانِي من القرن السابعِ للهجرةِ، تعامل الشعراء بنَمطٍ مخالفٍ للقواعد الشعرية التقليدية، فتعاملوا مع القصيدة البسيطة التِي يدلُّ مطلعها على مضمونِها، والمعجمُ اللفظيُّ فصيْحٌ يَحتوي ألفاظاً عاميةً وأنزلُوا الفصحى منْزلة العاميَّةِ، وكانتْ موضوعاتُهم جديدةً غريبةً كالثياب والسكن والمطية، عبَّروا من خلالِها عن الوضع الاجْتِماعي والسياسي وانتَهى هذا الأسلوبُ بوفاتِهم، وتقاطعوا فيما بينَهم في الطريقةِ وكأنَّهم تَخرجُّوا من مدرسةٍ واحدةٍ، فكانَ خطابُهم الشعريُّ واحداً كأنَّه لرجلٍ واحدٍ، وتوخوا البساطةَ والصور الطريفةَ، والمبالغة المحببة في بعض صورهم، ومن منظورنا الحديث فقد صرفوا اهتِمامهم إلَى الرسالةِ لتصل المتلقِّي في عصرهم ذي الثقافة المتواضعةِ أو الجاهلِ، واختفى هذا التيار بعدهم. أمَّا شعر القرن الثامنِ للهجرةِ فلَمْ يتغيَّرْ حال الشعر والشعراء والذي تكرَّرَ طريقةُ الخطاب، فالشاعر المصري ابن نباتة المعاصر لصفي الدين الحلي وجدَ بلاطاً كبلاط سيف الدولة الحمدانِي للمتنبِّي، وهو بلاط أبي الفداء الأيوبِّي حاكم حَماة وكان بدوره أديباً وشاعراً وكاتباً، فكان ابن نباتة يَمدحهُ ويمدح ابنه الأفضل من بعده ويرثي أقاربه، وكانَ يشعرُ أنَّه في غيْر عصره، فقالَ يشكو:
فكفَى من وضـوحِ حالِي أنِّي | فِي زمانِي هذا من الأدباءِ |
ضاعَ فيهِ لفظي الْجهيْرِ وفضلِي | ضيعة السيفِ في يدٍ شلاَّءِ |
يشكو ضياعَ أدبِهِ بيْنَ معاصريهِ ويرى الزمانَ غيْر زمانهِ أي أن يكونَ في عصر الازدهارِ، ويؤمنُ بِما آمنَ بِهِ أسلافهُ كشاعرٍ محترفٍ فيخاطبُ أبا الفداء:
ولَمَّا بعثْتَ المالَ عـفْواً مهنِّئاً | تزيَّدَ هذا الشعرُ حسناً مُجدَّدا |
وبعد وفاةِ أبِي الفداءِ ينتقلُ ابن نباتة إلَى الاستجداءِ والتكسب بشعره، ولا يَختلفُ استَجداؤهُ عن غيْرهُ، فيقولُ في قصيدةٍ طويلةٍ:
يا صـاحبَ السرِّ وفِي ذكرِهِ | لِلْمسكِ سرٌّ غيْرُ مكتومِ |
عطفاً على ميتٍ من الفقْرِ قدْ | أصبَحَ فِي حالَـةِ مرحُومِ |
وصاحب السر من ألقاب صاحب ديوان الإنشاء وكان عربياً حصراً فاستجداؤهُ للعرب لا للتُّرك، فموضوعاتهُ لا تَختلفُ عن سابقيهِ من حيثُ الاستجداء وشكوى الفقرِ، ولَم يَخرجْ في خطابه الشعري عن الأسلوب التقليدي للقصيدةِ لأنَّهُ ملتزمٌ، وتَختفي من شعره الظرافةُ فيستجدي بِجفاءٍ وإلْحاحٍ ويدخل موضوعه بأسلوبٍ فَجٍّ مباشرٍ وهذا فرقٌ كبيْرٌ بينه وبيْن أسلافهِ، وخطابه موجَّهٌ لفردٍ لا لعامة الناسِ لذا كان الممدوح يَملُّ من الطلبِ دونَ تقديْمِ شيءٍ مُميَّزٍ، ويعرِّضُ بالأثرياء الأشحَّاء الذيْن يدَّعونَ كرههم لنظمهِ وهم في الحقيقة يكرهونَ استجداءهُ، فيقولُ:
قالوا كرهْنا منهُ مدَّ لسانِـهِ | واللهِ ما كرهُوا سوى مدِّ اليدِ |
وفي القرن التاسعِ الهجريِّ نَجدُ الشاعرَ ابن مليكٍ الحمويِّ وهو أقربُ لسابقيِهِ من الشعراء في موضوعاتِهم فيقولُ عن خصومهِ الذيْنَ يَحطونَ من قيمتهِ:
إلَى متَى تَخفضُ الشعراءُ قدري | وتـرفعُ السُّها من كانَ دونِي |
ومَـاذا تبتغي الشـعراءُ منِّي | وقـدْ جاوزْتُ حدَّ الأربعيْـنِ |
وكانَ على اطلاعٍ واسعٍ في الثقافة العربيةِ، فبيته الثانِي لشاعرٍ مخضرمٍ فقط بدَّل (تبتغي) إلَى (تدري)، ويشكو الفقر على أسلوبِ الشعراء الظرفاء قائلاً:
قد كانَ لِي صوفٌ عتيْقٌ طالَما | قدْ كنْتُ ألبسُهُ بغيْـرِ تكلُّفِ |
اليومَ لِي قد قالَ حيْنَ قلبتُـهُ | قلبِي يُحدِّثُنِي بأنَّكَ مُتْـلِـفِي |
هنا يتقاطعُ مع الشعراء الظرفاء، فيشكو فقره بصوفته التِي يلبسها دائماً مضمناً أبياتاً لابنِ الفارضِ ليثبتَ موهبتهُ وزيادة الطرافة في قصيدتهِ، ولا تَختلفُ بقيةُ أشعارهِ عن أسلافِهِ في موضوع الاستجداء، فقال بلغةٍ فصيحةٍ تشهد تراجع العاميَّةَ يستجدي مولَىً شاكياً جوعه وأنَّ الأدب لا ينفعهُ:
مولايَ عزَّ الطلبُ | وبِي أضرَّ السَّغبُ |
ولَم يكنْ لشقوتِي | عـنِّي يُغنِي الأدبُ |
وهنا تناصٌّ (تقاطعٌ) مع الأدباء، ويقولُ مستجدياً على طريقة الجزَّار وعصره في قصيدةٍ طويلةٍ بلغةٍ فصيحةٍ لم تكنْ مستعملةً في عصرهِ، فيقولُ:
إليْكَ جئْتُ قـاصِداً | يا غايتِي ويا قصـدِي |
بِالبِرِّ قدْ أوعـدتِنِي | فَـأوفِ لِي بالوعـدِ |
فَمـا ببـتِي سبدَةٌ | ولـبْـدةٌ ما عنـدي |
كلاَّ ولا مـنْ فارةٍ | بـهِ ولا مِـنْ جَـردِ |
في البيتِ الأخيْرِ يتقاطعُ مع أسلافهِ فالسابقونَ كَان الفأرُ يسرح عندهم وهو ليس عنده فأرٌ، ويَختلفُ مع أقرانهِ في اللغةِ والتصويرِ الفنِّي لكنَّ الموقف نفسه فلا يستجدي ولا يَمدح ولكن وفاءً بالوعدِ ما يطلبه، واختلف الخطابُ الشعريُّ باستخدام أسلوب الشعراء القدماء وعاد للتراث في المثل العربِي (ما عنده سبدة ولا لبدة)، وفي قصة امرأة اشتكت للأميْرِ (أشكو إليكَ قلة الفأر في بيتِي) فملأَ بيتها طعاماً، فهو يستجدي لا يَمدحُ لأنَّهُ كانَ من الهجَّائيْنَ عندما لا يِجدُ من يعطيهِ فيهجو الناسَ بِمثل هذا المعجمِ:
أذمُّ إلَى الزمـانِ أُهيـلَ سوءٍ | يرونَ الغيَّ من سُبُـلِ الرشادِ |
تراهمْ من أشدِّ الناسِ حـرصاً | على الشيءِ الملفَّفِ بالبِجادِ |
يبيْتُ نزيْلُهمْ غرثانَ يطـوي | ومُضطجعاً على شوكِ القَتادِ |
فأكْـرمُهُم وأنـداهمْ بغـاثٌ | جَـمادٌ فِي جَـمادٍ فِي جَمادِ |
فالرسالةُ موجَّهةٌ لأديبٍ مثقفٍ لا للعوامِّ لكون المعجمِ جاهلياً فصيْحاً يبتعدُ عن العاميَّةِ ولا يتناسبُ مع العصرِ، ويستعيدُ من التراثِ قصة الأحنف بن قيسٍ سيد بني تَميمٍ حيْنَ مازحهُ معاوية بسؤالهِ عنِ البجاد الذي تُعيَّرُ بهِ تَميمٌ، فأجابهُ (السخينة) وهو طعامٌ لقريش تأكله في المجاعاتِ وتُعيَّرُ بهِ، فالشاعر رغم كون المقام لا يقتضي ذلك يستعرض ثقافته التراثية، ويُمكنُ عدُّ ابن مليكِ في المنطقة الوسطى بيْنَ ابن نباتة والقرن التاسع للهجرة، باستخدام ألفاظٍ متخيَّرةٍ من الجاهليةِ والإسلام، فاختار رسالةً للمثقفيْنَ بالثقافةِ الإسلاميَّةِ، وكانَ يبْرعُ في البحرِ المجزوءِ ليكسبَ شعره الموسيقى والروح البسيطة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النثر وفن الكتابة
كان النثر في العصر المملوكي على قسميْنِ: مسجوع (مقيد) ومرسل (مطلق)، وقد يُنسبُ التكلفُ والتصنُّعُ إلَى العصر المملوكي، وهذا ظلمٌ فقد ظهر قبل ذلكَ بوقتٍ طويلٍ في كتابات المعري كرسالة الغفران، وبلغت قمة التصنع في مقامات بديع الزمان الهمذانِي وتابعه الحريري في مطلع القرن السادس الهجري، وهذه المقاماتُ أشدُّ تكلفاً مِما نعرفه من النثر في العصر المملوكي.
أسلوب القاضي الفاضل: كان كاتبَ ديوانِ الإنشاء ِ عند صلاح الدين الأيوبِي، وكان أسلوبه في الكتابة هو أسلوب العصر خاصةً الكتابة الديوانية (دواوين الدولة)، ويتسمُ بالتصنُّعِ باستخدام التورية وأنواع البديع الأُخرى، وأثَّر في كتَّاب عصره كثيْراً في طريقته وأسلوبه، وكان له تلامذةٌ أشهرههم:
1- العماد الأصفهانِي أو الكاتب (ت597هـ): بيَّن أسلوبه في رسالةٍ وجهها إلَى القاضِي الفاضل منها: (وأنا موردٌ رسالةً جامعةً، مانعةً ناصعةً، وقدْ وفيتها حقها من التجنيسِ والتطبيقِ والترصيعِ، والمقابلةِ والتوشيْعِ)، كأسلوبِ أستاذهِ، وهو يَهتمُّ بِموضوعِ البديعِ وهو نوعانِ: معنوي يتعلق بِمعنَى الكلامِ كالطباقِ، ولفظي يتعلقُ بِموسيقا الكلامِ كالجناسِ، والبديع لا علاقة له بفصاحةِ الكلامِ، وإنَّما يزيدهُ حسناً إذا وقعَ في موقعهِ، والتطبيق التناقض بالمعنَى، والترصيع أشبه بالطباقِ ولكنه في غيْر نقيضيْنِ مثل (الرحيق والحريق)، والمقابلة أكثر من طباقٍ في الفقرة الواحدةِ، والموازنةُ تساوي الفاصلتيْنِ كقوله تعالَى: (وَنَمارِقُ مصفوفةٌ*وَزَرَابِيُّ مبثُوثةٌ)، والتوشيع الذي كثر في العصر المملوكي هو إيرادُ لفظِ تثنيةٍ يتلوه مفردانِ يدلانِ عليهِ مثل (الأصفرانِ الذهب والفضةِ، والأبيضانِ الملح والسكر)، وكان العمادُ الكاتبُ يسيْرُ على جوادٍ جوار أستاذهِ القاضِي قال لأستاذهِ: (سرْ فلا كبا بكَ الفرسُ) فردَّ عليهِ القاضِي: (دام علا العماد)، والعبارتانِ تُقرأانِ طرداً وعكساً، وهذا يدلُّ على كلفِ الكتَّابِ بالصنعةِ التِي لا تَخدمُ النص الأدبِيَّ.
2- ضياء الدين بن الأثيْر الجزري (ت637هـ): عربِي من جزيرة ابن عمر في الفرات، من أبرز كتَّاب العصر وأدبائهِ، تتلمذ على يد القاضي الفاضل، ولكنه تَمرد عليهِ ورفض أسلوبه وقال فيهِ: (إنه من التكلفِ، والتكلفُ يضرُّ الكتابةَ)، وكان حاد الطباع وسبَّب مشاكل سياسيةٍ في ديوان ابن صلاح الدين في دمشق، وكان يتقنُ عدة لغاتٍ كالفارسيةِ واليونانيةِ والسريانيةِ وله (المثل السائر،في أدب الكاتب والشاعر)، يَهدفُ فيهِ لِهداية الكتّاب إلَى أفضل طريقٍ للكتابة الفنيةِ والأدبيةِ، ويتألف من مقدمةٍ ومقالتيْنِ، وضع في مقدمته آراءً نقديةً خرجتْ عن آراءِ عصرهِ، ومنها:
أولاً- أصل اللغةِ: كان يُقدس العربية ورآها وضعيةً؛ هناك من وضعها جُملةً واحدةً وانْتَهَى، وبالغَ في تعصبهِ للعربيةِ ورأى أنَّ واضع العربيةِ نظر في جميعِ اللغاتِ واختار أفضل الألفاظِ وأجملها وجعلها في العربيةِ فكانتْ زبدة اللغاتِ في جودتِها وفصاحتِها، فلفظة (جمل) مثلاً في العبرية (كوميل) حذف واضع العربيةِ الثقيل المستبشع وقال (جمل) فصار خفيفاً حسناً، وهكذا يقيس بيْن العربية واليونانيةِ وانتقد الفارسية، ورأى أن النحو العربِيَّ ليس ضرورياً في معظم الأحيان: (إذا نظرنا إلى ضرورته وأقسامه المدونة وجدنا أكثَرها غيْر محتاجٍ إليهِ في إفهام المعانِي)، وطالبَ بتخفيف تعقيداتِ النحوِ.
ثانياً- بالنسبةِ للنثْرِ: انتقدَ الأساليب التِي تقيِّدُ الناثر، فالشاعرُ مقيدٌ على عكس الناثرِ بسبب قيود القافية والعروض، وانتقد أسلوب أستاذه والمقامات وقال: (إنَّها من غاية التكلفِ)، ورأى أنَّ هناك في اللغةِ ألفاظاً مَمجوجةً غريبةً فمثلاً (الغصن والعوسج) لهما المعنَى نفسه ومن يَختار الغريب عاجزٌ بالكتابة العربيةِ، وانتقد كتَّاب عصرهِ ونصحهم أن يتزودوا بأدوات الكتابة وحفظ القرآن والحديث الشريف وأخبار العرب ودواوين بعض فحول الشعراء، وتكلم عن تَجربتهِ الشخصيةِ: (وقدِ اكتفيْتُ في هذا بشعر أبِي تَمام حبيب بن أوس، وأبِي عبادة بن الوليد وأبي الطيب المتنبِّي) لبراعتِهم.
ثالثاً-بالنسبةِ للشعرِ: رأى أن نظم الشعر عند الفرس مثلاً أيسر منه عند العرب، لخلو النظم عندهم من القافية والروي والبحر.
رابعاً- عندَ المفاضلةِ بيْنَ الشعراءِ: رأى الشعراء المحدثيْن أكثَر ابتداعاً للمعانِي وألطف مأخذاً وأدق نظراً لأنَّهم رأوا ما لَم يرهُ المتقدمونَ.
خامساً- في موضوع السجعِ (في الناحيةِ الكتابيةِ): انتقدَ السجعَ ورأى التصريعَ في الكلام المنظوم (لأنه في الكلامِ المنظوم كالسجع في الكلام المنثور) ورآهُ مقبولاً على ألاَّ يُكثَر منهُ، وشرط السجعِ أن تكونَ كلُّ عبارةٍ تَحملُ معنَىً جديداً وإلاَّ صار من الإسهاب والتكلُّفِ، والألفاظ المسجوعة يَجبُ (أن تكونَ حلوةً طنانةً، حادةً رنانةً، لاغثةً باردةً)، وأن يكونَ اللفظُ خادماً للمعنَى، وفرَّقَ بيْنَ التكلفِ والصنعةِ.
كتابهُ نوعٌ من الثورةِ على موضوعاتٍ كثيْرةٍ في الكتابةِ، واستدعَى سلسلةً من ردود الأفعال تَمثلتْ في سبعةِ كتبٍ جاءتْ بعده، أشهرها (الفلك الدائر، على المثل السائر) لابنِ أبِي حديدٍ المعتزلِي ألفهُ بإيْحاء من ابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء العباسييْن، وآخر الردود عليهِ في العصر المملوكي لصلاح الدين الصفدي (نصرة الثائر، على المثل السائر) وكانَ رداً عنيفاً ضد ابن الأثيْرِ، ثُمَّ ينتقلُ من المقدمة إلَى مقالتيهِ الأولَى والثانية:
المقالة الأولَى: اختصتْ باللفظِ المفردِ أي تناول اللفظ خارج السياق من حيثُ قبحهُ وحسنهُ، وحاولَ أن يفسر استخدام لفظٍ وترك آخر مع أنَّهما بِمعنَى واحدٍ، وتطرقَ إلَى التنافر اللفظي حيث حروفٌ يَحسنُ اجتِماعها وأخرى يَحسنُ تباعدها، وتطرق إلَى الألفاظِ عندما تُركَّبُ فتناول نظرية الألفاظ الحسنة والألفاظ القبيحة، ودخل في موضوعاتٍ لسانيةٍ وصوتيةٍ، وانتقل إلَى المعاظلة اللفظية وهو أمرٌ ينتجُ عن بناء الألفاظِ وتكرار الحروف على نَحوٍ لَم تعهده العرب مثل قول امرئ القيس (مستشزراتٍ)، وتَحدثَ عن المعاظلة المعنوية الناتجة عن تركيب الجملة كالتقديْم والتأخيْر.
المقالة الثانية: بعنوان (في الصناعة المعنوية) وهي موضوع البلاغة والفصاحة، وتناول اللفظ المركَّب وكتابه مبنِيٌّ على ثنائية اللفظِ والمعنَى، وتناول أكثَر من ثلاثيْنَ نوعاً بيانياً، لينتهيَ الكتاب بِموضوع السرقات الشعرية، ويقارن بيْنَ القديْمِ والحديث ويرى المحدثيْنَ أوسع آفاقاً من القدماء. الشهاب محمود (ت725هـ): أشهر كتَّاب العصر المملوكي وكان مخلصاً لأسلوب القاضي، وألَّف (حسن التوسل، إلَى صناعة الترسل) وما يهمنا منه (النثر الديوانِي) والذي يتعاملُ بهِ ديوان الإنشاء وهو المكاتبات والمراسلات الرسمية من الديوان إلَى الأقاليْم، وكانتْ لها قواعد صارمة لا يَتجاوزها الكاتب وغالباً هي في الشكل لا المضمون، فهناك: 1) التواقيع: جمع توقيع ويَخص الأميْر أو الضابط أو العامل يصدر في السلطان أمراً معيناً. 2)المناشيْر: جمع منشورٍ ويكون للعامة أو يوزع على الولايات. 3)التقاليد: جمع تقليد وهو تكليفٌ بِعملٍ ما كتقليد ولايةٍ أو أمرة الجيش... وصياغة الرسالة (التوقيع أو المنشور أو التقليد) كما يلي: 1) البسملة: في سطرٍ واحدٍ أعلى الكتاب. 2) الحمدلة: أي الحمد لله وهنا يبالغون ويطيلون. 3)وأضافوا في العصر المملوكي الشهدلة: أشهد أنْ لا إلهَ إلاَّ الله. وهذه الأمور تقيد الكاتب وله الإسهاب فيها. 4) عبارة التخلص: أما بعد، وربَما يكون الكاتبُ قد كتب صفحاتٍ قبل بلوغها ثُمَّ يعرض القضية وقد تكون في صفحاتٍ. 5) العرض: موضوع الكتاب الرئيسي وعليهِ خلط رسالتهِ بِما شاءَ من قرآنِ ونَحوهِ يناسب الموضوع ويشيْر إلَى ثقافتهِ. 6) الختام: وهو ختْمٌ لكلامهِ ويلخص فحوى الرسالة ويشيْرُ إلَى أنَّ الكلام انتهى، وفرض أصحاب النقدِ والبلاغةِ شيئاً من هذا على القصيدةِ على الشعر، ورأى أنَّ الكاتبَ قد يطيلُ ما شاءَ في كتبِ التهانِي والبشائر، وعليهِ الاختصار في نوعٍ واحدٍ وهو الأوامر العسكرية لأن الأمر لا يَحتمل التطويل واشترط فيها شرطيْنِ متناقضيْنِ: الإيجاز والألفاظ البليغة، وهذا أمرٌ مخالفٌ للمعتاد لأنَّ الكتَّاب كانوا جهّالاً، ومن ذلكَ كتابٌ صدر عن ديوان الإنشاء لأميْر قطعةٍ عسكريةٍ لمواجهةِ المتمردين (أصدرناها إليهِ نَحثهُ على الركوبِ، بطليعةٍ أعجلَ من السيلِ، وأهولَ من الليلِ، وأيْمن من نواصي الخيلِ، وليكن كالنجمِ في سُراه، وبُعدِ ذراه، إنْ جرى فَكَسْهمٍ، وإنْ خَطَرَ فكَوهْمٍ، وإن طلبَ فكالليلِ الذي هو مدركٌ، وإن طلبَ فكالجنةِ التِي لا يَجدُ ريحها مشركٌ) المفروض الاختصار والقول: تحرك للمواجهة، لكنه نسي هذه القاعدة ليكتبَ على سجيتهِ، ويتبعُ الأسلوبَ المسجوع بِجملٍ كلها تقريباً متوازنةٍ، وما يبْرزُ هنا التناص مع بيت النابغة:
فإنَّك كالليلِ الذي هوَ مدركي | وإنْ خلْتُ أنَّ المنتأى عنكَ واسعُ |
وفي قوله (وأيْمن من نواصي الخيلِ) مع الحديث الشريف (الخيل معقودٌ بنواصيها الخيْر)، وغيْر ذلكَ مما يدلُّ على ما وصلتِ الكتابةُ الديوانيةُ إلَى الجمودِ، والنصُّ موجهٌ لأميْرٍ جاهلٍ وكذا جنوده فنحن كمن يقبض على الماءِ، ولكن ذلكَ ما كانَ مطلوباً آنذاكَ وهو التفنن في كتاباته لإظهار قدراتهِ.
ألفتْ في هذا العصرِ كتبٌ منها (جواهر الكلامِ) لمؤلفٍ مغمورٍ في صياغة الكتبِ، فللسلطانِ ألقابٌ وصيغ خطابٍ لا نتعداها، وكذا للأميْرِ والشيخ والوزير، وهناك كتاب (زبدة كشف المماليك) لخليل الدين الظاهري في دواوين الدولة وأفرد باباً للألقاب التِي يُخاطبُ فيها الكتَّابُ كل وظيفةٍ، مثل (أعز الله تعالَى أنصار المقر الشريف العالِي المولوي السلطانِي الملكي المنصوري) وهو كتاب تَهنئةٍ كتبه محي الدين بن عبد الظاهر من ديوان الإنشاء حيث استغنَى عن البسملة والحمدلة والشهدلة ودخل في نصه مباشرةً، وحافظ على مبدأ الخطاب بالألقاب واستغنَى عن عبارات الاقتضاب، وجوهر الخطاب على ما يقومُ في القصيدة الحماسية (ثنائية الكفر والإيْمان) فيقول: (اعتاضوا عن الصحةِ بالمرضِ، وعن الجوهرِ بالعرضِ، وقدْ أرختِ الغفلة زمامهم، وقاد الشيطانُ خطامهم، وعاد كيدهم في نُحورهم)، والمعجم اللفظي هو معجم القصيدة الحماسية ويخلطه بالمعجم الدينِي، كما استشهد بالشعرِ في قولهِ (مِنء كلِّ مَنْ لولا تسعُّرُ بأسهِ*لاخضرَّ في يُمنَى يديهِ الأسمرُ) في تناصٍ مع بيت بشار (كأنَّ مثار النقعِ فوق رؤوسنا)، كما اقتبسَ من القرآنِ الكريْمِ ونلحظُ عدم توفيقه بذلك، وكثَر السجع عنده (المرض*العرض)، وهو من الأسلوب المقيد كما يظهر في النصِّ، وأورد صوراً بيانيةً مثل (أذن الدهرِ) لإبراز مقدرته، وهذه الرسالة وإن وصلتْ إلَى صاحبها دونَ تعقيدٍ أو مللٍ لكنَّها لا تَخلو من الإطالة التِي لا مسوغ لها.
البلاغة في العصرِ المملوكي
كانتِ البلاغة في العصر المملوكي امتداداً لِما كانَ في العصور السابقةِ، وقدِ ازدهرتْ علوم البلاغة العربية نتيجةً لأمريْنِ: الترجمات عن الإغريق وخاصةً أرسطو، والخوض في موضوع إعجاز القرآنِ الكريْمِ، وقد مرتِ البلاغة العربية في ثلاثِ مراحلَ:
المرحلة الأولَى- ثنائية اللفظ والمعنَى والنِّزاع بينهما: انطلقت من عبارة الجاحظ (المعانِي مطروحةٌ في الطريقِ)، ومنهم من رأى الفضل يعودُ إلَى المعانِي، ومنهم من رأى أنه للفظ وتَخير اللفظ، ومع كتاب (البديع) لابن المعتز ظهر الاهتمام بتنويع المسنات اللفظية والبلاغية.
المرحلة الثانية وهي الذروةُ- مرحلةُ نظرية النظمِ: تَمثلت في الجرجاني بكتابيه (أسرار البلاغة*ودلائل الإعجاز)، وتوصل لنظرية الصياغة وأنَّ السر في إعجاز القرآنِ هو صياغته ليس للفظ وحده ولا للمعنَى وحده بل للصياغة، وتُمثل النظرية روح الأدب والإبداع في البلاغةِ.
المرحلة الأولَى- ما بعد الجرجانِي: حيثُ شهدتِ البلاغة نوعاً من التقلص والتحجر.
ونقف في البلاغة فِي العصر المملوكي عند تيارينِ: البديع وتنظيم البلاغة، وأهل البديع أخذوا مفهوم البديع بِمعنَى التجديد والإبداع ولم يدخلوا في تفاصيل علم البلاغة بل عددوا أنواع البديع، وأشهر الكتب (البديع) لابن المعتز و(البديع) لابن منقذ و(الصناعتيْنِ) لأبِي هلال العسكري، وقدامة بن جعفر الذي نُسب إليهِ كثيءر من الاختراعات في كتابه (نقد الشعر) والكتاب المنسوب إليهِ (نقد النثر)، وفي تنظيمِ البلاغةِ ظهر كاتبانِ في الربعِ الأول من القرن السابعِ كان لهما أثرٌ فيمن جاءَ بعدهما:
الأول: ابن الأثيْر الجزري: في كتابهِ (المثل السائر،في أدب الكاتب والشاعر) تناول البلاغة في مقالتيْنِ:المقالة الأولَى: تطرق إلَى اللفظِ المفردِ، وتطرق إلَى الألفاظِ عندما تُركَّبُ فتناول نظرية الألفاظ الحسنة والألفاظ القبيحة، ودخل في موضوعاتٍ لسانيةٍ وصوتيةٍ، وفي المقالة الثانية: تناول اللفظ المركَّب وتناول أكثَر من ثلاثيْنَ نوعاً بيانياً وبديعياً، لينتهيَ الكتاب بِموضوع السرقات الشعرية.
الثانِي: أبو يعقوب السكاكي (ت626هـ): في كتابهِ (مفتاح العلوم) الذي ارتكز عليهِ التيار الثانِي إلَى القرن العشرين، وفي الجزء الثالث تناول أنواع البلاغة، وكان الكتابُ خطوةً جريئةً في موضوع البلاغة، وكان من الفلاسفة الذين يدرسون الأدبَ وكتابه في خمسة علومٍ (الصرف، والاشتقاق والنحو والبلاغة وختمه بعلم العروض)، وقسم البلاغة قسميْنِ: علم المعانِي وعلم البيان.
علم المعانِي: ويدرسُ طرق الإسنادِ في الجملةِ العربيةِ وما يتعلقُ بهِ، فالمسندُ هو الفعلُ أوِ الخبَرُ، والمسندُ إليهِ الفاعلُ أو نائبهُ أو المبتدأُ،وهذان الركنانِ في تركيبِ الجملةِ العربيةِ يعتَريْهما كثيْرٌ من التحولِ والحذفِ والإضمارِ، وكذلك التقديْم والتأخيْر والإطناب.
علم البيانِ: ويدرسُ الصورة الفنيةَ في اللغة العربيةِ وشملَ المجازَ بأنواعه: المرسل والعقلي، والتشبيه والاستعارة والكناية.
ورأى أنَّ البلاغة تنحصرُ في هذيْنِ العلميْنِ، وأفردَ أخيْراً فصلاً لِمحسنات الكلام ويُقصد بِها علم البديع أي أنَّه لاحقٌ بِهما وهو بالنسبة للعلميْنِ السابقيْنِ كالزينةِ للمرأةِ، وعلمُ البديع يدرسُ أساليب التحسيْن اللفظي والمعنوي للعبارات، وقُسم إلَى قسميْنِ:
1- المحسنات المعنوية: وتتناولُ المعنَى كالطباق والمقابلة والتربوية.
2- المحسنات اللفظية: كل ما يَخدمُ موسيقا العبارة كالجناس والترصيع والتكرار.
هذا التقسيْمُ التزمتْ بهِ كتب الأدبِ، والمشكلة في كتاب السكاكي أنَّه كان فيلسوفاً متكلماً فكان يصعب على المتلقي العادي فهمه، وفي العصر المملوكي أُعيدَ إحياء هذا الكتاب في جزئهِ الثالثِ، وأول من تناولهُ ابن مالك في القرن السابع الهجري صاحب الألفية المشهورة، وجاء جلال الدينِ القزوينِي (ت739هـ) فأخذَ ما في الجزء الثالث من كتاب السكاكي ولخصه في كتاب (التلخيص في علوم البلاغة) وفيهِ تعقيدٌ كبيْرٌ لكثْرة الاختصارات، وهذا التلخيص طمس الكتاب الأصلِي لأن القزوينِي بأسلوبه وأعاد تبويبه وقدَّمَ وأخَّرَ وأضافَ، ثُمَّ جاءَ بَهاء الدين السبكي فكتب (عروس الأفراح، في تلخيص المفتاح)، وهكذا تابع الأدباء بتلخيص المفتاح إلَى العصر العثْمانِي وبلغت واحداً وعشرين تلخيصاً.
وعلى طريقة التأليف في العصر المملوكي وجد القزوينِي نفسهُ في التلخيص بِحاجةٍ لشرحهِ في كتاب (الإيضاح في علوم البلاغة) وأهميةُ هذا التلخيص أنَّه أعادَ تبويب البابيْنِ السابقيْنِ وأضاف عليهما وخطواته:
1- من أسلوب السكاكي الفلسفي.
2-إعادة تبويب الكتاب.
3- جعل علم البلاغة ثلاثة: المعانِي والبيان والبديع. 4)إضافات القزوينِي: لم يأخذ آراء السكاكي على الثقةِ بل حاججه فيها وأخذ برأي الزمخشري وغيْره، فقد أضافَ:
1- السرقات الشعرية: أخذها على الأرجح من ابن الأثيْر وصنفها تصنيفه وأهم ما يتعلقُ بِها وبأنواعِها الكثيْرة أنَّ المبدأ واحدٌ، والأخذُ لا يكونُ إلاَّ بالمعانِي الخاصة وليس العامة، والسرقةُ تكونُ في صورةٍ تَختصُّ بشاعرٍ أو كاتبٍ معيَّنٍ ونلحظُ: أ)إذا حسن الآخذ الصورة فالفضل له أن يسبق صاحب المعنَى الأساسي. ب) إذا ساواهُ يكونُ الفضلُ للأولِ. ج) إذا شوه الصورة يكونُ الفضلُ للأولِ. هذا تقسيْمٌ يَحكمهُ منطق الفلاسفةِ وعلمُ الأنواعِ.
2- ما يَلحقُ بالسرقةِ: ألحقها بِها لأنَّ الأقدميْنَ لَم يعتَرِفوا بِها على أنَّها من السرقةِ وهي خمسة أنواعٍ:
أ- الاقتباس: وهوَ تضميْن شيءٍ من القرآن الكريْم أو الحديث الشريف، وحكم عليهِ النقاد حكميْنِ لا يتعلقُ بالأمور الفنية والأدبية فجعلوه نوعيْنِ:
أ-نوع مقبول: في الموضوعات الجادة كالأمور الدينية والوعظ والإرشاد.
ب- نوع مرفوض: عندما يُدرجُ النص القرآنِي أو الحديثِي في أمورٍ هزليةٍ.
ب= التضميْن: السطو على أعمال الآخرين وألحقه بالسرقات ولم يختلف النقاد حوله في المبدأ الأساسي فهو الأخذ من شعر الآخرين لكنَّهمِ اختلفوا حوله في الكمية، شرط أن يذكر المضمن أن البيت ليس له إلاَّ إذا كانَ مشهوراً، والتضميْنُ نوعٌ من الاجتِرار إذا وُضع في موضوعه الأساسي أي غزلٌ يبقى غزلاً، وهناك تضميْن الحوار وهو تبديل الموضوع وهذا النوع سموه الإيداع ويكون بأخذ البيت في المديحِ وجعله في الهجاء.
ج- العقد: وهو أن ينظمَ الأديبُ كلاماً منثوراً لا اقتباساً ولكن أن تأخذ معنَىً موجوداً منثوراً وتَصوغهُ شعراً.
د- الحل: وهو عكس العقد، وهو أن تأخذ بيتاً من الشعرِ ويُنثرُ معناهُ فنياً، وتشيْرُ في النثرِ الفنِّي إلَى أنَّه مأخوذٌ من نصٍّ شعريٍّ.
هـ- التلميح: أوِ الإشارة وأدخله البلاغيونَ في الكنايةِ، كأن يشيْرَ الشاعرُ في فحوى الكلامِ إلَى حادثةٍ مشهورةٍ أو آيةٍ، وألحقهُ القزوينِي بالسرقات.
وختَم كتابهُ بأمرٍ مهمٍّ شغل النقَّاد بقولهِ: (ينبغي للمتكلمِ أن يتأنَّقَ للمتكلمِ في ثلاثة مواضعَ من كلامهِ: الابتداء والتخلص وحسن الختام) كما يلي:
1- حسن المطلع: وهو حسن الابتداء وبراعة الاستهلال، فالمطلع مفتاح قلب المتلقي إن أجاده الشاعر دفع المتلقي لمتابعة القصيدة لآخرها، واشترطوا دلالة المطلع على مضمون القصيدة فاستبعدوا القصيدة المركبة أي الدخول في الموضوع مباشرةً، وإذا أحسن الشاعر المطلع سمَّوهُ براعة الاستهلال وكان المتنبِّي مشهوراً بذلكَ، مثل قول أبِي تمَّام: (السيف أصدق أنباءً من الكتب ** في حدّه الحدُّ بين الجد واللعب)، ويقابل حسن المطلع سوء المطلع كما فعل ابن مقاتل الضرير مهنئاً الداعي العلوي في طبَرستان يبشره بيوم المهرجان: (لا تقلْ بشرى ولكن بشريانِ*غرَّهُ الداعي ويوم المهرجان) فغضب الداعي منه وأمر بِجلده خمسيْنَ جلدةً، وقال: (إصلاحُ أدبهِ أفضلُ من إثابتهِ) والسبب أنه أخطأ فأساء المطلع.
2- التخلص (حسن الانتقال): يَخص القصيدة المركبة حيثُ يبدأً الشاعرُ بِمقدمةٍ طلليةٍ أو غيْرها لينتقل لغرضٍ آخر ثُمَّ الغرض الأساسي، ويَجبُ أن يكونَ الانتقالُ مناسباً دون أن يشعرَ المتلقي بالانتقال والقطعِ بيْنَ الأغراضِ، ويأتِي أيضاً في النثرِ لأنَّ القطعَ يعدُّ عجزاً لدى الأديبِ ونَجد القطعَ في العصر الجاهلي باسمِ الاقتضاب بعبارة (دعْ ذا) وفي النثرِ (أما بعدُ، وبعدُ)، وفي العصر الأموي والعباسي صار الأديبُ يُخصص وقتاً للانتقال دون إشعار المتلقي بالانقطاعِ، وكانَ بيتُ حسن التخلص يُسمَّى بيت الوصلِ وهو من علاماتِ براعةِ الشاعرِ.
3- حسن الختام أو حسن الانتهاء: حيثُ يشيْرُ الكاتبُ إلى أنَّ الكلامَ في موضوعهِ انتهَى وكذا في النثرِ، وكان بعض الشعراء يَهتمون بهِ ويتقنونه.
الفضلُ في هذا الكتابِ للتبويبِ الذي جعله سهلاً عند المتلقي، ونال شهرةً كبيْرةً وأطفأ كل الكتب التِي خاضت تلخيصَ المفتاحِ.
بعض المؤلفيْنَ لَم يلتزموا هذا التأليفَ لتأثره بأسلوب أهل المشرق والأعاجم، فظهرتْ كتبٌ موازيةٌ مثل (بديع القرآن) لابْنِ أبِي الإصبعِ المصري، ثُمَّ (البرهان في علوم القرآن) لبدر الدين الزركشي وفي نِهاية العصر المملوكي (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي (ت911هـ)، وهذه الكتب لَم تلتزم بتقسيمات السكاكي، بل تناولتِ البديعَ بِمفهومه الواسعِ مرادفاً لعلم البلاغةِ فجعلوا كل أصنافِ البلاغةِ أنواعاً بديعيةً، ولكنَّها جعلتِ المتلقي في وادٍ لا يستطيعُ الخروجَ منهُ فليسَ هناكَ تصنيفات، وأشهر كتب العصر المملوكي (خزانة الأدب) لابن حجة الحموي حيث تناول أنواع البديعِ مع الشواهدِ، ولئِنْ كانتِ الأنواعُ البديعية عند السكاكي والقزوينِي 33 نوعاً فقد بلغت عند الحموي الذروةَ، وقد سبقهُ صفي الدين الحلي بالبديعية وهي قصيدةٌ في مدح النبي الكريْمِ من البحر البسيط بروي الميم المكسورةِ، يتعاقبُ فيها كل بيتٍ بنوعٍ من البديعِ غيْر الذي قبلهُ والبيتُ شاهدٌ عليهِ وكل ذلكَ خرج من عباءة بردةِ البوصيْري، وأبيت البديعية 145 بيتاً، سبعةٌ للجناس وأنواعهِ والبقية للأنواع البديعيةِ المختلفةِ، وبعدهُ جاء ابن جابر الأندلسي- الأعمَى في بديعيتهِ (الحلةُ السيْرا، في مدحِ خيْرِ الورى)، وكذا عز الدين الموصلي وابن حجة الحموي، وهذه البديعيات الأربع السبب في تأليف (خزانة الأدب)، حيث قارن ابن حجة بينها وهي مقارنةٌ للأنواع البديعية التِي لم يتفقْ عليها أصحاب البديعيات، وكان الأساس (بديع القرآن) لابْنِ أبِي الإصبعِ الذي ذكر الأنواع البديعية (130نوعاً) في القرآنِ حصراً ويؤرخُ لأنواع البديعِ، واخترع ابن حجةٍ أنواعاً مشابِهةٌ لأخرى في البديعِ كَالإرصاد، وتَمكيْن القافية والتوشيْح، وكلها تشيْرُ لمعنَىً واحدٍ وهي أنَّ المتلقي يدرك لفظ القافيةِ قبل الانتهاْءِ من البيتِ، بل وُجدَ المشوش وهو احتمال اللفظِ أكثَر من نوعٍ بديعيٍّ، لذا نَجدُ ابن حجة يقول: (وفي بيتِي عشرة أنواعٍ من البديعِ) ولا نَجدُ غيْر ثَمانية ألفاظٍ، وهذا عقَّدَ البديعَ في العصر المملوكي.
وكمثالٍ على (جوهرة البديعِ) في العصر المملوكي نأخذ (التورية)، وهيَ استخدامِ لفظٍ له معنييْنِ يُقصدُ البعيدُ منهما لا القريب والسياقُ يُحدِّدُ ذلكَ، وهذا التعريفُ تكرَّر في بيتيْنِ قال ابن حجة – متوهماً- إنَّهما أول شاهدٍ على التوريةِ هُما في قول المتنبِّي:
التورية في (يَمانِي) يقصد السيفَ المصنوعَ في اليمنِ، والمعنَى الآخر يشيْرُ إلى نزاعات القيسية واليمانية، وهذه هيَ التورية في أبسطِ أشكالِها، ويسميها ابن الأثيْر (المغالطة المعنوية) وبعضهم سمَّاها (الإيْهام)، ومن التوريةِ في القرآنِ الكريْمِ: (والسَّماءِ بنيناها بأيدٍ وإنَّا لمُوسعونَ) كلمة (أيدٍ) جمع اليدِ وهو المعنَى القريب وعلى الترشيْح ذكر (بنيناها)، وتَحتمل القدرة وهو المعنَى البعيد تَنْزيهاً للخالقِ عن المعنَى الأول، وبعد اختلافِهم في الشواهدِ والتعريفِ جعلوا لها أنواعاً:
1- المرشحة: وهي أقواها وهي أن تذكر في البيتِ لفظاً يشيْرُ إلَى المعنَى القريبِ غيْر مقصودٍ ويقصدُ معنَىً آخر كما نَجدُ عند المتنبِّي.
2- المجردة: وهيَ لا تَحوي أي لفظٍ يشيْرُ إلَى أحدِ المعنييْنِ.
3- المبيِّنة: وهي ذكْرُ لفظٍ يشيْرُ إلَى المعنَى البعيدِ.
4- المهيأَة: ويتوقفُ وقوع التورية فيها على لفظٍ قبلهُ أو بعدهُ، أو التِي يكونُ فيها لفظانِ يهيِّئُ كل منهما التورية في الآخر. وهي تقسيماتٌ عقدتِ التوريةَ والمتلقِّي معاً وعقدتِ البلاغةَ.
الاستعارةُ: تشبيهٌ حُذفَ أحدُ طرفيهِ، وهي للمبالغة في التشبيهِ، ودرسها ابن الأثيْر الجزري لكونه رجلَ أدبٍ ووجدها نوعاً واحداً وهي التصريْحية حيثُ حذف المشبهُ كقولهِ تعالَى (ألمَ ترَ أنَّهمْ في كلِّ وادٍ يَهيْمونَ)، وركَّزَ على موضوع المناسبةِ بيْنَ المشبهِ والمشبهِ بهِ ففي الآيةِ المناسبةُ بيْنَ الفنونِ والديانِ في عمقهما وصعوبة الغوصِ إلَى قاعِهما إلاَّ لخبيْرٍ، وأمَّا الاستعارة المكنيةُ حيثُ حذف المشبه بهِ فقد جعلها ابن الأثيْر توسعاً في الكلامِ وهذا يَحملُ عدة معانٍ لأنه رفضها كاستعارةٍ ففي الحديثِ الشريفِ (هذا جبلٌ يُحبنا ونُحبهُ) يراها توسعاً في الكلامِ لأنَّهُ لا مناسبةَ بيْنَ الجبلِ والحبِّ، ولكنَّ النقاد وسعوا فيها كالتورية ورأوا أقسامها من حيث طرفاها أي حذف المشبه والمشبه بهِ (مكنية وتصريْحية)، والتصريْحية نوعانِ: تخييليةٌ لا تُوجدُ في الواقعِ كقولِ الشاعر: (وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارها*ألفيْتَ كلَّ تَميمةٍ لا تنفعُ) وهي نوعانِ: تبعيةٌ في الاسم المشتق وأصليةٌ في الاسمِ الجامد، وتتالتِ التقسيمات فهناك استعارةٌ ترشيْحيةٌ ومجردةٌ ومطلقةٌ، وهذا تقسيْمٌ اقتضاهُ المنطقُ ولا قيمة للبلاغة أو الفن فيهِ، وتدلُّ على خللٍ في فهمِ الأدبِ وثقافتهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السير الشعبية
سيرة سيف بن ذي يزن هي سيرة شعبية خيالية تروي حكاية سيف بن ذي يزن الملك اليمني الذي طرد الأحباش من اليمن.
لا تتردد سيرة سيف بن ذي يزن - منذ صفحاتها الأولى- عن الإشارة إلى أن المهمة الأولى لبطلها هي إحضار كتاب النيل، الذي هو في بلاد الأحباش، لأنه باستيلاء هؤلاء على هذا الكتاب فقد حجزوا النيل عن مصر!. ورغم أن الملك سيف هو من أواخر ملوك حمير التاريخيين في اليمن قبل الإسلام فقد استغل الراوي الشعبي دلالة صراعاته في حروب اليمنيين مع الأحباش، ليجعله رمزاً للقلق المصري في القرن الرابع عشر من رسالة ملك الأحباش إلى سلطان مصر المملوكي قائلًا "إن" نيل مصر الذي هو قوام أمرها وصلاح أحوال سكانها، ومجراه من بلادي، وأنا أسدُها..."! مؤكدا لغة التهديد التي ردت عليها السيرة الشعبية الطويلة بذكر حروب استمرت لبضع عقود بقيادة سيف بن ذي يزن...، ولم يكن سيف نفسه مصرياً بالطبع لكنه عين ابنه "مصر" سلطاناً على بلاد النيل وسماها باسمه على عادة علاقة "الخلافة" بالأقاليم في ذلك العصر المملوكي. أو كما يسميها بعض الباحثين بعولمتنا المبكرة لها. ها هي المشاعر المصرية تعود إلى حدتها في التوتر حول مياه النيل وكأننا في رحاب سيرة "بن ذي يزن". [3]
لم تكن السيرة عند إنشائها بعيدة عن عصر "التصارع الصليبي" بين الغرب والمنطقة؛ في إطار تلك العولمة المبكرة، وها نحن في شبه حروب ننكر عليها الصليبية بالطبع، لكنها ليست بعيدة عن تلك العولمة المبكرة، مع فارق واضح، أن الحروب تلك انتجت صلاح الدين، وجعلت شخصية سيف بن ذي يزن تصول وتجول على شواطئ البحر الأحمر، وتحمل أخبار التوحيد ورؤاه في اليمن وخارجها؛ حيث "مصر" "وادي النيل" "ودامر" أو "تدمر" في الشام ، وهما في السيرة اسمان لولدي ملك واحد هو سيف بن ذي يزن.
والسيرة مليئة بآفاق الإحساس بالحبش الأفارقة، وبأهل مصر المسلمين، ولا أدري كيف نصف ذلك الآن في نزاع ستمتد آثاره إلى مجمل الجماعة "الأفريقية" و"العربية" بالتأكيد، وعلى نحو يختلف أو يتفق مع ما تحفظه الذاكرة الشعبية.
وإذا كان "سلطان المحروسة" المملوكي قديماً قد أقلقته توسعات سيف رعد الإثيوبي في بلاد اليمن زمن السيرة الصليبية، أفلا يقلق سلاطين العرب الحاليين جميعا، امتدادات الإثيوبيين مثلًا، ومنذ مدة تجاه جنوب السودان، ثم تدخلهم العسكري المباشر في الصومال "العربية" وحربهم الضروس مع إريتريا وعدم تطبيقهم لقرارات الأمم المتحدة بشأن الحدود معها، وما بدأ مؤخراً من جاذبية المياه الإثيوبية والأراضي السودانية معاً لاستثمارات البنك الدولي، والصين وتركيا وكل من هب ودب في أراضي "كتاب النيل" الذي كلف الضمير الشعبي سلطانه من أول صفحات السيرة الشعبية ليذهب ويستعيده من الأحباش؟ إنني لا أشارك في صيحات الحرب بالتأكيد، ولكني أشير إلى أهمية دراسة منضبطة لعناصر الموقف داخلياً وخارجياً بالنسبة لوضع المياه في استراتيجية التنمية، والتي يصل البعض إلى إمكان تجاوزها بالتصنيع وإعادة التخطيط دون هذا الضجيج! والرواية الشعبية لسيرة سيف بن ذي يزن، تقول إن هذا السلطان حاصر الموقف بوجوده القوي في مصر والشام واليمن، فهل ثمة درس من هذه الرواية؟ إن أثيوبيا الآن مركز الاتحاد الأفريقي مثلما مصر مقر الجامعة العربية، وأثيوبيا عضو تجمع يضم السودان واليمن، وجماعة كوميسا، فكيف تهرب "بكتاب النيل" في ظل عجز سياسي دبلوماسي بهذا الشكل وعلى ساحة عربية وأفريقية واسعة؟ ألا تتأثر مشاعر المسؤولين في هذه المنطقة لقدرة الدبلوماسية الأفريقية على الحركة بمواقف منسقة بهذا الشكل في كنشاسا وعنتيبي وشرم الشيخ دون مقابل عربي.
انظر أيضاً
المصادر
- ^ "الأدب المملوكي". موسوعة مصر الخالدة. Retrieved 2012-08-10.
- ^ "الأدب في العصر المملوكي - دراسة تفصيلية". منتدى اللغة العربية. Retrieved 2012-08-10.
- ^ "النيل... وملحمة سيف بن ذي يزن". عنبسا. 2012-07-01. Retrieved 2012-08-09.
- ^ "الدوله المملوكيه". ويكيبديا مصري. Retrieved 2012-08-10.